أنور بدر
(سوريا)

ميسون القاسمي من نعومة أظافري
تلوثت طفولتي
بدم الحزن الخفي
ومذابح قبائلي

ميسون صقر القاسمي شاعرة إماراتية، ولدت عام 1956 لحاكم الشارقة، لكنه ما لبث ان غادر وأسرته إلي مصر، ولم تتجاوز الأميرة سنوات طفولتها بعد، فعاشت في مصر ودرست الاقتصاد والعلوم السياسية، لكنها غادرت ذلك أيضاً باتجاه الثقافة والشعر، حيث تحولت تجارب الطفولة وقصص الجدة إلي مخزون في اللاوعي يغذي العملية الإبداعية.
وحين تحول القلق لديها إلي تمرد، لم تستوعب القصيدة أميرتها، فذهبت إلي الرواية والرسم، وأخيراً إلي الإخراج السينمائي، وهي في كل ذلك كانت تعكس قلقاً وجودياً عميق التكوين، وتعكس رغبة حقيقية بالتمرد علي شرطها الخارجي، وواقعها المتعين ، باتجاه إنسانية في لحظة نقاء.
عملت ميسون القاسمي في المجمع الثقافي ـ أبو ظبي، رئيسة لقسم الثقافة، ثم لقسم الفنون، كما أنشأت قسم النشر ومهرجان الطفولة، كذلك عملت بوزارة الإعلام والثقافة في دولة الإمارات كمدير للإدارة الثقافية.
ومؤخراً حلّت الشاعرة الإماراتية ضيفة ومشاركة في مهرجان الشعر العربي الرابع في الرقة، كما شاركت بأمسية شعرية في بيت القصيد بدمشق، حيث التقتها القدس العربي علي هامش هذه المشاركات، وكان الحوار التالي:

* كيف بدأت علاقتك بالشعر؟

منذ البداية كانت علاقتي بالشعر ملازمة لعلاقتي بالحياة، إذ نشأت في بيئة تعبق بالشعر، فجدي كان شاعراً، ووالدي كان شاعراً كذلك، وأقصد هنا كلمة شاعر بالمعني التقليدي والرصين للكلمة، مع أن والدي جرّب أن يكتب القصيدة الحرة، وربما يكون من أوائل الشعراء في منطقة الخليج الذين خاضوا هذه التجربة في قصيدتي كاترين و فتاة الجبل الأشم عن ثورة ظفار والجبل الأخضر.
والدي شخص متمرد بطبعه، كان الحاكم وأحد أقطاب جماعة شعرية تبحث عن التطور والتقدم، لكنه خرج من وطنه لأسباب سياسية، فهو شاعر متمرد، وقومي ثوري في فترته، مما ساعدني علي فهم قيمة العقل في تلك الفترة، أي أنني نشأت في بيئة متحررة قليلاً بالقياس إلي المجتمع الخليجي. بل أستطيع القول أنني ابنة بيئة شعرية ولست ابنة مجتمع تقليدي، حتي أنني لم أر نفسي منفصلة عن ذلك التمرد الذي عشته في كنف والدي، حتي أنه كان ضحية تمردي، فأول ما تمردت عليه قصيدته هو.

* كيف تعامل صقر القاسمي مع تمرد ابنته؟

في البداية شكل الموضوع حالة إرباك له، حتي أنه اتهمني ـ كأب وليس كشاعر ـ بالجرأة الشديدة، إذ لم يتوقع أن أتمرد عليه أو علي قصيدته، لكنه تركني أكتب، بل أجرب قتل الأب بالمعني الإبداعي، وقد ناقشت الأمر معه، فأنا سرت علي منوال سيرته، نهلت معارفي من مكتبته، وذهبت إلي حريتي التي زرعها في داخلي، تشربت مفاهيم التحرر والتغيير والوحدة وفكرة المنطق في كنفه، وحين تمردت عليه، تمردت بمنطقي الخاص، منطق الاختلاف. وكانت أرضي محروثة من قبل، خاصة وأني انتقلت من الشارقة إلي القاهرة، وهو انتقال إلي مجتمع أوسع وتجارب أرحب في الحياة والشعر والثقافة عموماً فقد اخترت أن أكون صادقة مع نفسي، مع جيلي، مع ثقافتي، مع قلقي فكانت قصيدة النثر.

* لكنك كتبت القصيدة العامية المصرية؟

هذه التجربة اعتبرها نوعاً من المناكفة للوضع العام في القاهرة، وللهجة أحببتها وتشربت مفرداتها، خاصة وأن جيلاً من شعراء النثر في مصر كانوا يتواكبون معها، ولكنني إذ أكتب شعراً بالعامية المصرية فهذا لا يعني أنني مع العامية ضد الفصحي، هي مساحة للتجربة، وأنا أجرب في حقول الإبداع، وأكتب الشعر في كل حالاته، ومنها القصيدة العامية.
رغم مرور عقود علي قصيدة النثر ما زال بعض النقد الأكاديمي لا يعترف بها؟
سواء أرادوا أم لم يريدوا أخذت قصيدة النثر شكلا واضحا ومؤثرا، وهي موجود علي ساحة الإبداع الشعري، تأخذ تجلياتها في أشكال وتجارب وأسماء واضحة. وإن لم تكن كالقصيدة العمودية، لكونها ليست منبرية أو خطابية مما يضعها علي مسافة مع ذائقة المتلقي الذي اعتاد علي الإيقاع، وما زال غير مستوعب لتطور الشعرية العربية، وهذا ليس خطأ قصيدة النثر، فالمجتمع لم يتطور بعد مع الأسف، وفكرة التمرد ما تزال مرعبة في ثقافتنا وفي حياتنا، سواء في المنزل أو في الأسرة وصولاً إلي المجتمع والدولة.
الأجيال والعقول الثابتة والمستقرة والساكنة في مكانها تنظر برعب لأشكال الشعر وتنوعاته، وتخاف من أي تغيير أو تطور يصيب الأشكال الكلاسيكية للقصيدة وللثقافة، لذلك نجد هؤلاء غير مهتمين بقصيدة النثر، بل وقفوا في وجهها محاولين عدم منحها صك عبور إلي صيغتهم الكلاسيكية المقدسة.
لكن قصيدة النثر بقيت موجودة ومؤثرة ولا يستطيع أحد خنقها، المسألة أنّ الشعر بمجمله أصبح نوعاً من الترف تتذوقه الخاصة فقط، مع أنني أكتب قصيدة بسيطة جداً وقريبة من الناس العاديين، لكن لنعترف أنّ النقد الأكاديمي، وأنّ وسائل الإعلام والتربية والتعليم كلها كانت ضد قصيدة النثر. وأعتقد أنّ المجتمع قد انفصل الآن عن الكتاب والشعر مع نسبة الأمية المرتفعة في بلادنا.
نحن الآن في عصر الصورة الرقمية، لكننا لم نتطوّر في مجتمعاتنا العربية بالتساوق مع هذا التطور، وما زالت البني التقليدية للمجتمع تعيق الحداثة في الشعر والفكر وحتي في الحياة.

بدا تأثير الأب في شخصيتك، وفي تجربتك الشعرية واضحا، أين كانت الأم؟

في لحظة غريبة جداً، وهي لحظة انتظار موت والدتي، هذه اللحظة التي امتدت لسبعة أشهر كانت ترقد خلالها علي سرير المرض في المشفي، وطوال الوقت وأنا معها، كنت أكتب باستمرار، حيث سيطرت عليَّ لأوّل مرة الحالة السردية، حضرتني الكتابة السردية وكأنني من خلالها كنت أستعيد ذاكرتي وعوالم الطفولة، أستعيدها من خلال مشهد الوالدة في الكتابة السردية.
وكنت أيضاً أعتبر هذا العمل تخليصاً وعلاجاً نفسياً لي، تخليصاً من كل الموروث الذي أحمله علي ظهري، ليس بالنسبة للعائلة فقط، ولكن بالنسبة لمجتمع فيه كثير من الأشياء التي تصلح للصورة السينمائية. خلصت ذاكرتي من كل هذه الأشياء بكتابتها علي الورق، وفي هذه الكتابة السردية التي نشرتها لاحقاً /2003/ كرواية باسم شمسة كان يوجد شيء كبير من السيرة الذاتية. سيرة تتعشق خيوط الرواية، روايتي عن العالم الذي عشته، وهو شكل روائي ودرامي خاص، ففي لحظة ما مثلاً تجد البيت الذي تسكنه الأسرة الحاكمة، ويسكنه المساجين، إنه التناقض بين الأسرة والشعب، وهناك المرأة الحرة والمرأة العبدة، كل هذه التناقضات جعلتني أميل لبناء سردي بعيداً عن الشعر، الذي حافظت عليه كروح منبثة في تلافيف اللغة وثناياها.
وفي هذه الرواية جرأة من خلال التركيز علي مجتمع الشواذ، مجتمع العبيد في منطقة الخليج بتلك الفترة، البيع والشراء والتعامل مع العبيد، وهذه مسألة مختلفة عن قضية العبيد في المجتمع الغربي وأمريكا تحديداً، فهناك علاقة اجتماعية تنشأ بين المالك والعبد، وقد تحدثت في الرواية عن العبد الحر داخلياً مقابل القيم الاجتماعية البالية التي تقيده، وعن خيارات المرأة العبدة.

* في روايتك أكثر من شكل أو مستوي للنضال السياسي، لكنها تبدو نضالات سلبية؟

كنت أتحدث في الرواية عن ثلاثة أشكال من النضال السياسي، شكل النضال خارج الوطن، وهو شكل من التضاد مع المكان، فالأفضل النضال من داخل الوطن وليس من خارجه، والشكل الثاني هو الماركسي الذي ينتمي لجيل الستينات، مسألة استيراد أيديولوجيات من مجتمعات أخري، دون أن نتخلص من موروثاتنا السابقة، مما انعكس تناقضاً في سلوكيات الهادف ، والشكل الثالث هم الذين ذهبوا يناضلون في أفغانستان، وكل هذه الأشكال اعتبرتها فاشلة فكرياً وسياسياً، واعتقد أنّ كل شخصيات الرواية مشوهة، ولا يستطيع المشوه بناء عالم صحيح.

* بدت شخصية الجدة واقعية تماماً في روايتك وحقيقية؟

جدتي شغلت حيزاً مهماً في تربيتي، وكنت أستمع منها لحكايا وقصص كثيرة مما كتبته في سياق هذه السيرة الغنية، وأعتقد أنّ الجدة هي البطل الحقيقي لروايتي، البطل الذي يسرد تاريخ عائلة القاسمي في الشارقة خاصة وأنّ هذه الرواية اعتمدت علي الذكريات وفيها كثير من الشعر، لكن روايتي الجديدة تنطلق من الخيال، وتعتمد الخلق، لذلك هي شيء مختلف، وقد كتبت جزءاً منها ثم توقفت من الرعب..

* تبدو القاسمي وكأنها تضيق ذرعاً بكل الأشكال الإبداعية، حتي أنها اتجهت للرسم ثم الإخراج السينمائي؟

لديّ إحساس بأنّ الحياة تمتلك العديد من الخطوط، وتمتلك صيغاً متباينة للجمال، مما يدفعني للبحث الدؤوب عن أشكال متباينة للتعبير عن الذات، وتثبيتها في لحظة وجدانية، لكنني كلما انتهيت من صيغة أجدها تتطور في أشكال أخري، فالشكل الإبداعي الواحد لا يُعطيك نفسه بالكامل. أنا أري الكلمات ملونة بأطياف قزحية فأتحرك خلفها، أبغي اقتناصها وتثبيتها في لحظة فنية باللّغة، بالرسم، بالسينما.
عندما لجأت إلي الرسم حاولت أن أرصد من خلاله مساحات التصحّر في أعماق الإنسان، رسمت الجسد العاري وتحولاته الأثيرية، التقطت البعد الدرامي أو الحواري ما بين الأبيض والأسود في علاقة الجسد بالمكان، قبل أن أنتقل إلي استخدام اللون.
في عام /2005/ أخرجت فيلمي الأول خيط وراء خيط والذي جاء محاولة إضافية لالتقاط الحلم في داخلي، فالإبداع حالة واحدة، تتعدد أدواتها التعبيرية وتتكامل في أكثر من شكل.

* ألا يساهم هذا في تشظي المبدع؟

لا أقول أنّ التعدد جيد والأحادية سيئة، أو العكس، لكل حالة ميزات وعيوب، فالتركيز علي شكل واحد يجعلك أكثر ثباتاً وقوة وتخصصاً، التشظي يُعطيك القدرة علي رؤية فكرتك متحولة في عدة أشكال أو صيغ، كل منها يُضيف تجربة خاصة ومختلفة.
بالنسبة لي أحاول ألا أتشـتت بين فكرتين، عندما اشتغلت علي فيلمي السينمائي توقفت عن الرسم، إذ هناك فترات من الانقطاع والتأمل بين تجربة إبداعية وأخري، المهم هو التركيز في فكرة محددة، والتقاط اللحظة الإبداعية المناسبة لها شكلاً.
بالنسبة لي، ورغم كل المحاولات التي انخرطت فيها، يبقي الشعر هو الأساس، وربما أتعامل مع كل الأنماط الإبداعية الأخري من خلال الشعر، ومن خلال رؤيتي الشعرية.

من مؤلفاتها:

  • هكذا أسمي الأشياء الصادر عام 1982
  • الريهقان الصادر عام 1992
  • البيت أصدرته عام 1992
  • جريان في مادة الجسد الذي صدر عام 1992
  • مكان آخر الصادر عام 1994
  • تشكيل الأذي
  • رجل مجنون لا يحبني
  • كما أصدرت ديواناً شعرياً باللهجة العامية المصرية بعنوان عامل نفسه ماشي
  • كتبت الرواية فصدرت لها أول رواية عام 2003 وهي بعنوان ريحانة .
  • أرملة قاطع طريق شعر 2007

القدس العربي
يونيو 2008