اسكندر حبش
(لبنان)

محمد جاسم مظلوم“بازي النسوان” وحطب ابراهيم أو الجيل البدوي كتابان جديدان للشاعر العراقي محمد مظلوم، يصدران حديثا عن دار التكوين في دمشق، الأول مجموعة شعرية هي السابعة للشاعر، بينما الثاني دراسة عن جيل الثمانينيات الشعري في العراق. حول الكتابين هذا اللقاء.

يصدر لك كتابان في فترة متقاربة عن “دار التكوين” (دمشق)، واحد نثري (دراسة عن جيل الثمانينيات العراقي) والثاني ديوان شعر. ما الدافع وراء هذا التنويع؟

لا تنس أن لي ثلاثة كتب سابقة في الدراسات، وعلى الرغم من أنني تقصدت لبعض الوقت وبصورة قسرية ألا أسيل الحبر إلا في فضاء القصيدة، وأن أمسك سيله عن أرض النثر، إلا إنني وجدت نفسي، كحال العشرات من المثقفين العراقيين بعد الاحتلال الأميركي في قلب العاصفة وتحت وطأة هزات غير طبيعية، فكان لا بدَّ من استنفار الحبر كلِّه لخلق التوازن، ومن هنا أنست إلى حلِّ في ما يشبه خصوبة النهر على الضفتين، ولعلّي هنا أرسم طريق التأرجح والإغواء بين عالمين وجسدين، جسد الخرافة متمثلة بالشعر وجسد الحكاية متمثلة بالنثر.

خلال السنوات الأخيرة صرتُ أنفق أغلب وقتي في القراءة والكتابة، ولذلك كانَ من المهمَّ التنقُّلِ بينَ متع الأجناس الكتابية درءاً للملل، وفي زمن تصبحُ فيه الكتابة نفسها جزءاً من تاريخ الملل، يبرز الشعر كونه كتابة مضادة وعالماً آخر لا يدانيهما الملل، لتغدو القصيدة فنّ الأمل في زمن العواصف والهزات والحروب.
وعموماً أنا في هذا التأرجح بين لذَّتين أو الجمع بين ضفتين، لا أمثل استثناء أو نموذجاً طارئاً، هناك شعراء خائضون من قبلي في هذا الغمار منذ المعري وابن المعتز وصولاً إلى نازك وأدونيس وسواهما.

عندما عزمت على نشر كتابي ما قبل الأخير (حطب إبراهيم أو الجيل البدوي ـ شعر الثمانينات وأجيال الدولة العراقية) فإنني في الواقع كنت أنقِّح وأبوُّب ما سبق أن كتبته من فصول خلال خمس عشرة سنة، كانت فصول الكتاب خلالها تكتب بنوع من هاجس الشهادة الأدبية تارة، وبنكهة النقد الثقافيّ تارة، وبنزعة التحليل الاجتماعي تارة أخرى. وهكذا تشكل الكتاب في سياق ثمانية فصول تغطي مرحلة دقيقة من تاريخ الثقافة العراقية لم يتح لها أن تظهر ثم جاءت الأحداث السياسية العاصفة التالية لتزيدها انطماراً.

سمة عراقية

* كأنَّ في الأمر سمة عراقية، إذ عند كل جيل ينبري شاعر للكتابة عن شعراء جيله. كيف تفسر هذه الرغبة، على الأقل عندك أنت؟

هذه الانتباهة منك تحمل جانباً من الإجابة على سؤالك، وإذا قلت لك إن كتابي (حطب إبراهيم) جاء في سياق طبيعي لترسيخ تلك السمة “العراقية” فلن أضيفَ شيئاً جديداً، لكنَّ المهمّ أن أذكر بما كتبته في مقدمة الكتاب، من أنَّ الرغبة والقرار للكتابة عن إشكالية الأجيال وصراعاتها في العراق، تمتدّ إلى أبعد من كتب الستينيين عن جيلهم (كتب عبد القادر الجنابي وسامي مهدي وفاضل العزاوي وفوزي كريم، وكذلك كتاب شاكر لعيبي عن جيل السبعينات.) لقد ساعدتني هذه الكتب فقط في إيجاد السياق التاريخي الطبيعي لكتابي، وإلا فإن تحليلي للمسألة ووجهة نظري في إعادة تجييل الثقافة العراقية خلال قرن كامل، تفترق جذرياً عن هذه الكتب القائم أغلبها على تقسيمات العقود في التجييل والمتَّسقة بتأكيدها على الخلفيات والتقسيمات السياسية دون أن تخوض كثيراً في الجذور الثقافية والطبقات الاجتماعية المحرِّكة لهذه الإشكالية.

وفي العودة إلى صميم سؤالك أعتقد أنّ الأمر أعمق من كونه رغبة في مجاراة سياق ما أو ترسيخ نزوع معين، فقضية الأجيال بشكل عام، قضية طبيعية في التاريخ البشري والحضارة الإنسانية، لكنها في مجتمع وثقافة ذات خصائص محلية معينة كما هي الحال في العراق، تأخذ منحى آخر، ذلك أن طبيعة الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية هنا، ونمط التفاعل ما بين النخب والجماعات في هذا البلد اتسم، خلال ما يقارب القرن، بسيادة مراحل من العنف، وتنازع الهيمنة واللجوء إلى التمرّد لمعالجة الاختلاف، ولهذا فقد كانت قضية الأجيال نوعاً من التعبير المضمر والبديل لتعدد الجماعات الأهلية، في مواجهة دولة قمعية، وهو تعبير سيجد شكلاً أكثر عبثاً وخطورة في نظام “الملل والطوائف” الذي صار سمة ما بعد الديكتاتورية. أضفْ إلى ذلك أن النقد كان “أدبياً” بلاغياً محافظاً، ولم يكن ليجرؤ على مناقشة جوهر تلك الخصائص وتحليلها، لاحظ أيضاً أن جميع الكتب التي ذكرتها، باستثناء كتاب سامي مهدي صدرت في المنفى.

* تستعيد في “بازي النسوان”، مجموعتك الأخيرة، فكرة لم نعد نعرفها في الأدب العربي المعاصر، بالأحرى لم يعد أحد يرغب في التطرق إليها مجدداً. ما الذي دفعك إلى الحديث عن ذلك؟

ربما أتفق معك في أن صورة المشهد الشعري اليوم، لا تحفل بالأفكار كثيراً أو قليلاً، إنها ترتكز إلى العبارة الإنشائية الهائمة، والبلاغة “الحائرة” وانثيال، متواصل أو متقطع، بلا ضفاف، لكن على قدر ما يخصني من الأمر فإن ثمة حافزين أساسيين ظلا يلازمانني عند كتابة الشعر منذ ثلاثة عقود، الأول يتعلق باجتناب الموجات العابرة في الشعر، وتجنُّب الاقتداء بها، والتالي التغاير، بشروط الفنِّ، مع نموذج راسخ أو موروث، وبهذا المعنى عادة ما أذكر بأنّ صور امرئ القيس في مغامراته النسائية لا تضاهيها في أعماقها وبلاغتها وعري أهوائها كثير من العبارات في شعر الإيروسية العربي الحديث وهو مجهز بكامل معداته التجميلية، تماماً كرحلات أبي تمام وصحرائه واختباط الطيور بالغيوم الواطئة، التي تتفاعل في التجربة الشعورية لتغدو أعمق حداثة من عشرات القصائد عن مترو الأنفاق، وناطحات السحاب، ورحلات الطيران فوق الغيوم، المدنية غير الحضارة كما تعرف يا عزيزي، وليس المكان ولا الزمان بشافعين في تحديث طبيعة الرؤية والتجربة الشعورية الباطنية للشاعر المحدث، لقد خلق شعراء العزلة في الشعر العربي القديم، ما يعجز عنه مرضى الكآبة المدنية في عصرنا، ذلك أن الشاعر ينبغي أن يرتقي بمكانه وزمانه الشخصيين، إلى زمان ومكان يصلانه بالخلود أو بوهمه غير المطروق!

* بهذا المعنى، أين تفترق مع “الموروث” وكيف تجنبت الخوض في “الموجة”؟

الكتاب ليس مجرد قصيدة إيروسية طويلة تندرج في سياق الغزل أو الحبِّ القائم على التشبُّب والتضرع، إنها قصيدةٌ مركبة تقوم على فنِّ الإغواء، وهي فكرة نادرة الورود في تاريخ شعر الغزل العربي، ناهيك عن المعاصر، أعني أنها تقوم على تبني تاريخ الاحتفاء بالذكور الهاربين من صيد إلى آخر، والخاسرين أبداً في تلك الرحلة، في وقت ظلَّ فيه معظم الغزل العربي وحتى اليوم يقوم على إظهار محاسن الآخر، ونادراً ما اهتم بتوثين الجسد الذكوريّ بوصفه كياناً يمتلك القدرة على إغواء الأنثى، والقصيدة هنا لا تهتم باستعارة الشكل العابر للأنشودة الغزلية وتراكماتها وإن استفادت من صفات محددة منها، وإنما تقوم كذلك على أطروحة مضادة تتصل بإحدى أهم المشكلات الاجتماعية لفلسفة ما بعد الحداثة، وأعني مسألة “المساواة” وجدل النسوية والأنثوية وغيرهما من المشكلات التي قلصت من خطاب الذكورة ومشكلاته، فجدل المساواة في الثقافة الغربية قاد إلى تبني “المثلية” كنوع اجتماعي ثالث، وحسم قضية التنافس الثنائي لصالح “جنس ثالث” بينما لا يزال الجدل في ثقافتنا يجسد صراعاً إلغائياً، فتحت لافتة تبديد الهيمنة الاجتماعية يجري تشييد هيمنة ثقافية مضادة، بمعنى أن “المرأة المثقفة” مثلاً حين تريد مقاومة الهيمنة الذكورية في المجتمع فإنها تطمح إلى سيادة ثقافية مميزة قائمة على خصوصية النوع وامتيازه ونعومته. وإزاء هذا ليس ثمة عناية مفهومية ثقافية كافية لفحص الهوية الثقافية الكامنة في تلك المسافة في “الجندر” بوصفه نوعاً ثقافياً وليس اجتماعياً فحسب، ما أردته في “بحثي الجمالي” في (بازي النسوان ـ تضور زير نساء في حرب أهلية) هو محاولة لتجنب معضلة الجنس الثالث أو “الهيمنة” بالعودة للأصول البدائية، للأساطير التي خلقت مسافات وحدوداً شعورية وأرضية مشتعلة وحيوية، جعلت منها “ملحمة مستمرة” تلاحظ مثلاً أن المرأة حاضرة في الملحمة كنوع من الغواية والشراكة المريبة، منذ أسطورة الخلق البالية مروراً بملحمة كلكامش، وملحمة هوميروس. هذا ما أردته من (بازي النسوان) في عصر “المساواة” أو “الإلغاء”.

وفي خضم هذه المحاولة ظننت أنَّ الكتاب سيلاقي استهجاناً نسوياً ثقافياً لأنَّ “المرأة” قد ترى فيه نموذجاً استعلائياً يقدم الرجل بنوع من النيتشوية الذكورية، أو التسلية الشهريارية لكن العنوان الفرعي للكتاب “تضور زير نساء في حرب أهلية” ذهب ضحية حرب أخرى بعدما امتنع الخطاط الذي يعمل لدى دار النشر من خطه، فاقترح الناشر إن ينتقل العنوان الفرعي من غلاف الكتاب إلى داخله، لأن بعض العناوين تمنع الكتب من العرض على واجهات المكتبات، ربما كنت واهماً حين ظننت لوهلة أنَّ الحروب الأهليَّة القادمة، ستقوم بفعل النزاع حول “فلسفة الجندر” أي بين الذكر والأنثى كما هي في المنازل عادة! لكنني وجدت أنَّ حروباً قديمة لا تزال بانتظارنا في ما بيننا نحن الرجال، قبل اشتعال حرب “الهويات الجندرية!”.

بزاة نساء

* كأنَّ الكتاب هو أيضا سيرة، إذا جاز التعبير. هل هي سيرة مشتهاة متخيلة؟

تعتمد هذه القصيدة على التجاسد مع سير كثيرين ممن يمكن أن نسميهم بُزاة نساء، وبهم غريزة “إيروس” صيادون مهرة بأقواسهم الخفية ونشابهم الرشيق، وأجنحتهم التي سرعان ما تحلق بهم بعيداً نحو جهة أخرى، بهذا المعنى تبدو السيرة متخيلة، لكنها في الجانب الآخر الجانب الذي يسرد وقائع ما، خلاصات لتجربة شخصية، وهي وإن تقنعت بأهواء أوفيد وقلق كازانوفا ونرجسية عمر بن أبي ربيعة، إلا أنها مغموسة بماء الآبار الشخصية، وهنا سأقول لك شيئاً أنا معتقد إلى حدٍّ كبير بفلسفة الحلول وتناسخ الأرواح، فأنا استشعر بأن في أعماقي، ليس مجرد مستودع لرغبات وأهواء شخصية فحسب، وإنما بئر عميقة لتلك القادمة من عصور شتى أو الموروثة والمتشكلة من “وقائع” معينة ففي الثكنة وعلى جبهة القتال، في سنوات الحرب ضد إيران، كان الجنود بين الثامنة عشرة والثلاثين، يتحدِّثون عن جيوش من الرغبات يقتلها وحشُ الحرمان، لهذا في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب وخروجي من كوابيسها كنت أتذكر مع كلِّ امرأة أحلام هؤلاء الذين ذهبوا وفي نفوسهم أشياء من “النسوان” وأرى صورهم على شكل رغبات متوالدة، فصرت أستعين بالعشاق المشهورين في تاريخ أوربا وروما وفارس وجزيرة العرب لأخلق مزيجا من أهوائهم ليرضي مزاج أصدقاء المهدور في حروب بعيدة عن سرير الأنثى، هل لأنَّ الجنس ذكريات مبدَّدة في جسدين؟ أم لعل شيفرة الأبدية تكمن في تلك المسافة الغامضة بين الحياة والموت؟

* ثمة تضمينات وإحالات على شعراء. كيف تفهم هذه “اللعبة” الشعرية؟

في الواقع هناك ستة أبيات ضمنتها لثلاثة شعراء، وهي تندرج في سياق ما ذكرته من تعزيز النسق الموروث من التجاسد وتداخل التجارب وحلول الرغبات، تماماً مثل تلك الأسماء المتعدِّدة في القصيدة. إنها تجارب غابرة، ولكنها لم تكن عابرة البتة، كثير من الشعراء يعيشون مثل هذه التجارب في مرحلة ما من حياتهم لكن الأقل منهم يجرؤون على تدوينها، ثمة أهواء وأهوال وتكوينات غامضة للشهوات تدفن داخل النفس البشرية وتسكن في عالم المكبوت، كسيرة غير مدوَّنة، أو تغدو حياة سرية خارج الكتابة! إذاً متى تصبح الكتابة اعترافاً لا تخفياً؟

* تقول (ص 106)، “ضميني إليك واستبيحي وعورة أيامي/ كما لو أنك ترقصين على تلك الأرض المهجورة”. متى يتحول الشاعر إلى هذه الأرض المهجورة؟

دائماً كان الشاعر في أرضه المهجورة، هي ليست جهة ليتحوَّل إليها، أو عنها لكنه يبقى دائماً حالماً بسكانٍ لا يغادرونه سريعاً وأيَّام تصله بتخوم الخلود، الشاعر أكثر طمعاً بهذا الخلود من بقية الأولياء والمصلحين والأباطرة لأنه أكثر عبثاً منهم، لكن على طريقة طفولة ولعب لا تطفُّل وتخريب، أرض الشاعر دائماً مهجورة لكنها مسكونة بالوعد دائماً، قلت بعد هذا المقطع مباشرة: (في كل ما حرثتُ من أدغال لم أجدْ كنوزي).

السفير
19 فبراير 2008