أسماء الغول
(الأردن)

فخري صالحواجهتني تحديات كثيرة خلال إجراء هذا الحوار مع الناقد والمترجم فخري صالح، كإمكانية إيجاد وقت نجري فيه اللقاء خلال اليومين اللذين قضيناهما في مدينة جونجو بكوريا الجنوبية، وذلك في وقت يعج بالندوات وإعداد الكلمات التي من المفترض إلقاؤها خلال الجلسات التحضيرية لمهرجان آسيا وأفريقيا الأدبي، المقرر عقده في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتنظمه مؤسسة تحمل العنوان ذاته بدعم من وزارة الثقافة الكورية.
ولم أجد مفراً من إقلاق راحة الناقد فخري صالح، وإجراء الحوار خلال ساعات الفجر الأولي، بينما التحدي الآخر يتعلق بصعوبة مجاراة حيويته وفطنته وحساسيته العالية تجاه شؤون النقد، وتذوقه الأدبي، وقراءاته الموسعة..
بيد أن كل ذلك هان، إضافة إلي الوقت المديد الذي استغرقته الصياغة، بسبب انعدام برنامج الوورد العربي في أنظمة الحواسيب هنا، أمام حوار غير عادي ولا يشبه تلك الحوارات الروتينية التجاذبات، بل نقاش ومقارنات تقودها الأفكار المتواليةإلي عقله، لدرجة أنه لم يجلس كثيراً إلي طاولة النقاش، بل كان يتحرك جيئةً وذهاباً تماشياً مع الدفق الفكري والدقيق للكلمات وطاقاتها.
الناقد فخري صالح ألف وترجم أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وكان قد تخرج من قسم آداب اللغة الانكليزية والفلسفة في الجامعة الأردنية في العام 1998، وذلك بعدما تمرد علي كلية الطب، اللازمة المعروفة في سيرته الذاتية.. حيث وبتخطيط ترك الطب مودعاً المشرحة وجثثها وملاحظاته الطبية، وأخلص لعشقه وموهبته في النقد، إذ كان حتي ذلك الوقت قد نشر أربعة من كتبه الشهيرة حول الرواية والقصة القصيرة في فلسطين وتجربة أبو سلمي الشعرية، وهو لم يكمل آنذاك الرابعة والعشرين بعد.
يتذكر صالح تلك الأحداث بحماس كبير، ولكن أحياناً تشعر أن الذكريات أخذته إلي ألم دفين يتعلق وقتذاك بحزن والديه، اللذين كانا ينتظران في قرية اليامون بجنين عودة ابنهما الدكتور، إلا أنه سرعان ما يطرد ذكرياته قائلاً: لكني كنت أعرف طريقي منذ تلك الأيام، وأني أرغب بقية حياتي بالخوض في بحار النقد والأدب .
فخري صالح، لا أحد يملك إلا أن يكون صديقه، لإنسانيته وطيبته الساميتين، وفي الآن ذاته لا يسعه سوي تقدير آرائه وإبداعاته النقدية، فكما يقول عنه صديقنا المشترك الشاعر الهندي أنفر علي:

This is the creative mind to be a human being as much as it is profeional

هذا هو العقل المبدع.. أن يكون إنسانا بقدر ما هو محترف.

إيذاناً بالنشر، تحدثنا في الشعر، والرواية، والحداثة، والنقد، ولغير العلن تهامسنا عن جدوي تماهي الأدب الفلسطيني بالقضية، وسر محبته لميلان كونديرا، وبضع آراء حول بعض الكتاب والكتب.. وجاء العزف عن نشرها، رغم أن شيطان الصحافة لا ينفك يغويني بالذهاب إلي عكس ذلك، والدخول في خانة الثرثرة وردود الفعل.

تلصص عبر الأدب

*بدأ الحوار بسؤال فضفاض حول ما إذا كانت هناك خصوصية ثقافية عربية، وموقعها من المشهد الثقافي العالمي، الأمر الذي أثار امتعاضه، لكنه أجاب أمام إشادتي بجمال البدايات الكلاسيكية:

لا أستطيع أن أعطي جوابا شاملاً ومقنعاً في الوقت نفسه لهكذا سؤال، خصوصاً أن الأدب العربي يلقي في هذه المرحلة اهتماماً أكثر بكثير مما كان يلقاه في السابق، فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بات الغرب عامة وأميركا خاصة يتطلعون إلي معرفة العرب والعالم العربي بشتي الأشكال والطرق، ومن بين الكُوي التي حاولوا فتحها في هذه المنطقة الغامضة بالنسبة إليهم الأدب ، الذي قد يوفر وصفاً أكثر دقة وعمقا من كتب التاريخ والسياسة، ولهذا السبب فأنت تجدين أن نسبة الكتب الصادرة عن العرب والإسلام إضافة إلي الترجمة من الأدب العربي وخصوصاً الأعمال الروائية قد زادت بصورة واضحة في الغرب، حتي أن دور نشر كبيرة مثل دار النشر البريطانية بينغوين، ترجمت خلال السنة الأخيرة عملين روائيين لكاتبين سعوديين من الجيل الشاب، حيث ترجمت هذه الدار الشهيرة التي يسعي كبار الكتاب في العالم للنشر فيها رواية الكاتبة السعودية الشابة رجاء الصانع (بنات الرياض)، وعملاً آخر لكاتب سعودي آخر هو يوسف المحيميد.

وهذا يدل علي أن الغرب يريد أن يعرفنا لكي يفسر بطريقته أسباب الاحتكاك العنيف بين الغرب والشرق ويتعرف علي طبيعة التربية الاجتماعية التي تخرج (إرهابيين) محتملين، ورغم أننا لا نوافق علي هذا النوع من التلصص علي المجتمعات من خلال الأدب، إلا أن ذلك يفسر لنا لماذا يترجم الأدب العربي إلي بعض اللغات الغربية بصورة متواترة هذه الأيام.
والمشكلة من وجهة نظري تكمن في إسقاط البعد الإبداعي الخلاق الذي يضيف بشكل حقيقي إلي الأدب في العالم، وذلك لغايات أنثروبولوجية وسوسيولوجية، فيتم تفضيل أعمال أقل قيمة من تلك التي تمثل الأدب العربي تمثيلاً حقيقياً، وتضيف إلي الأعمال الكلاسيكية التي أنتجتها البشرية.
من هنا يمكن أن أقول لك بأن الأدب العربي ليس أقل إبداعاً منه في الوقت الحاضر من لحظات صعود هذا الأدب في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك في ذروة عطائه خلال الربع الثالث من ذلك القرن الآفل.
ورغم الكلام الكثير عن الأزمة التي يمر بها الأدب العربي شعراً ورواية وقصة قصيرة ونقداً أدبياً، إلا أن ما يصدر من مجموعات شعرية وروايات وكتب نقدية وفكرية يشير إلي أن الأدب العربي لم يتوقف طيلة الفترة التي تلحق بها الأزمة المزعومة عن الإنجاز والتطور والمغايرة، ومن ثم فبالإمكان القول إنني متفائل بمستقبل هذا الأدب رغم الانهيارات والشروخ السياسية والاجتماعية العميقة التي أصابت العالم العربي خلال السنوات العشرين الأخيرة علي الأقل.

إغناء النوع الشعري

*من متابعتي لكتاباتك وجدت أنك تعتبر ممثلي وجمهور قصيدة النثر نخبويين، بينما قصيدة التفعيلة لها الجمهور الأعرض، وكأنك تنتصر لشعر التفعيلة المفردة كأساس للبنية الإيقاعية في الشعر العربي؟

لا أعتقد أن الإبداع في الشعر له علاقة لصيقة بالشكل، والشاعر الحقيقي الكبير القادر علي تغيير الأشكال وإغناء النوع الشعري بعامة هو الحكم الفيصل، فيما إذا كان العمل الشعري المكتوب بالعمود أو التفعيلة أو النثر هو عمل كبير بالفعل أم لا.
وإذا ألقينا نظرة سريعة علي تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية وحتي هذه اللحظة فسنجد أن عدداً محدوداً من الشعراء في كل عصر استطاعوا أن ينقلوا القصيدة العربية إلي محطات جديدة ويفتحوا أمامها آفاقاً رحبة وسيعة، لكي يتخلصوا مما أسميه الوهن الشكلي أو الإرهاق الجمالي، ويغنوا هذه القصيدة، لا بالإيقاعات فقط، وإنما بالموضوعات والتجارب الوجودية العميقة.
هذا ما فعله شاعر كبير مثل بدر شاكر السياب، وشاعر تجريبي موهبته مثل أدونيس، كتب شعر تفعيلة وقصيدة نثر، وما فعله أيضاً محمد الماغوط الذي استطاع من خلال قصيدته النثرية أن يزوج الحوشية من الغضب والتمرد والخروج علي المجتمع وما هو سائد ومستقر في السياقات السياسية والاجتماعية والأدبية الفكرية.. والماغوط لم يكتب في حياته سطراً شعرياً فيه إيقاع موسيقي واضح.
كما أن شاعراً كبيراً مثل محمود درويش يغني فيما كتبه منذ الستينات وحتي هذه اللحظة الشعر العربي عبر الإيقاع، مستخدماً الأشكال والأنماط الشعرية المتداولة في تاريخ الشعر العربي، ومن خلال ثقافته الشعرية الموسوعية علي صعيد الأدبين العربي والعالمي، ما يجعل القصيدة العربية، وهي قصيدة تفعيلة في حال محمود درويش، ترقي إلي ذري جديدة، وتضيف إلي الشعر الإيقاعي رصيداً شديد الأهمية؛ يجعل قصيدة التفعيلة أكثر غنيً من الأشكال الأخري في القصيدة العربية المعاصرة.
وهكذا ترين معي بأن المشكلة ليست في الشكل أو في طريقة الكتابة أو في التقيد بإيقاعات موسيقية محددة، أو بالتخلص من هذه الإيقاعات وكتابة نثر غير مقيد يستفيد من المنجز الشعري العالمي، أو يعود إلي النثر الصوفي العربي بتخليق نموذج جديد للكتابة الشعرية العربية، المهم ليس النظرية والتصور القَبْلي الذي نضعه للكتابة الشعرية، وإنما المهم هو الممارسة والكتابة الشعرية نفسها.. فكلما أضاف شاعر قصيدة جديدة إلي الأعمال الشعرية الكبري فإن النوع الشعري يغتني، يغتني بغض النظر عن كون هذه القصيدة ذات إيقاع موسيقي تفعيلي أو غير تفعيلي أو أنها تكون قد تخففت من الإيقاع كله، مكتفية بعالمها الداخلي وقدرتها علي التكثيف واعتصار اللحظة الشعورية التي انطلقت منها.

الشاعر المجدد وخاتمة الأشكال

*إذن كيف تصف الآن قصيدة النثر بعد كثرة مؤديها؟ ألم تصبح هي بذاتها تراثا ًثقيلاً كما وصفها ذات مرة صبحي حديدي؟ أم أنها ببساطة استطاعت أن تكون بديلا عن الأشكال الشعرية؟

لا أظن أن قصيدة النثر قد أصبحت مقبولة ضمن شرائح واسعة من القراء العرب حتي تكون قد شكلت خياراً ينبغي تجاوزه، لتستطيع القصيدة العربية في الشكل الراهن أن تفتح لها دروباً جمالية جديدة، بل إن هذه القصيدة بحاجة إلي مراجعة تاريخها القصير نسبياً، وأن تعيد النظر فيما حققته علي صعيد الجماليات والتقنيات والأشكال وحتي علي صعيد التجارب الوجودية والتي عبرت عنها، أو حاولت اعتصار لحظاتها العميقة.
كما أن هذه القصيدة بحاجة إلي نوع من الوصف النظري، وقراءة ما أضافته هذه القصيدة للكتابة الشعرية العربية علي مدار تاريخها، ويمكن أن تتحقق هذه المراجعة التي أشرنا إليها عبر الشعراء أنفسهم ومن خلال النقد كذلك، فشعراء قصيدة النثر بحاجة إلي وقفة مع تجاربهم وتجارب مجايليهم وأسلافهم ممن كتبوا قصيدة النثر أو الأشكال التي تقترب منها، بدءاً من جبران خليل جبران وحتي جيل الألفية الثالثة، الذي اكتفي من المعرفة الشعرية بشكل وحيد أوحد، هو قصيدة النثر، مدعياً بأنها خاتمة الأشكال وكل ما عداها هباء ومجرد ضجيج يحدث في الفراغ.
لا أنكر أن قصيدة النثر حققت حتي علي يد الشعراء الشباب الجدد اختراقات جمالية ليس من السهل القفز عنها، لكن أود أن أذكرهم أن شعراء كبارا في قصيدة التفعيلة لا يزالون يحققون تطويرات حقيقية في الكتابة الشعرية العربية، وأن شاعراً مثل محمود درويش يستفيد في شعره مما حققته قصيدة النثر، لكنه يطوع منجزات قصيدة النثر لقصيدته الحافلة بالإيقاعات، فيقوم بكبح هذه الطاقات الإيقاعية الهائلة في قصيدته ويجعل النبرة الشعرية خافتة في مجموعاته الجديدة، لكي يقترب من عوالم قصيدة النثر والصيغة اليومية فيها والبعد الدنيوي، وهو ما نعثر عليه في قصيدة النثر التي يكتبها طيف واسع من الشعراء العرب هذه الأيام.
ولعل ذلك يعود بنا إلي السؤال الأساسي المتعلق باللحظات المفصلية التي يتغير فيها الشعر ويتطور ويرقي إلي مستويات جديدة، ويغادر منعطفات تبدو فيها الأنواع الشعرية أو نوع محدد منها وكأنها في مواجهة حائط مسدود، لكن الشاعر المجدد الخلاق يستطيع أن يحول الجدار إلي أفق وأن يحقن الشعر في زمنه بترياق الجديد والمتحول، لا الراكد الآسن الذي يجعل من الأشكال الأدبية تكرارات واستعادات واجتراراً لما سبق من كتابة.

المعيار المحدد للشعرية

*يراودني هنا السؤال القديم الجديد: أين تكمن شعرية قصيدة النثر؟ وما الذي يجعلها قصيدة وليست قطعة نثرية فنية؟ هل هو الخلق الحر المضغوط كقطعة بلور ومضطرب بإيحاءات غير نهائية كما وصفتها برنار، أم أنه يعتمد علي نظم الكلام ذاته وتوهجه مع الشعرية الداخلية للموقف والتفاصيل؟

هذا السؤال بحد ذاته يستبطن رفضاً جذرياً لقصيدة النثر، حتي أن بعض المعترضين الخجولين علي قصيدة النثر ينطلقون في رفضهم من كون التسمية (قصيدة النثر) تتضمن في داخلها تناقضاً صارخاً، حيث تجمع بين شكلين مختلفين اختلافا جذريا وهما الشعر والنثر، لكن هذا الاعتراض يصدر عن فهم تقليدي عتيق للشعر وكيفية تشكله والمعايير التي نحكمها لكي نفرق بينه وبين أنواع الكتابة الأخري وأشكالها، ففي الشعرين الأوروبي والأميركي باتت قصيدة النثر منذ ما يزيد عن مئة وخمسين عاماً جزءاً أساسياً لا يتجزأ من طرائق الممارسة الشعرية، ولم يعد أحدٌ يتحدث عن لا شعرية قصيدة النثر، بل إن الكتابة الإيقاعية هي الأقل في الكتابة الشعرية في أميركا وأوروبا.
لكن تحكّم العادة والعقلية السلفية في النقد والكتابة والتعليم تجعل كثيرين يرفضون قصيدة النثر العربية، رغم أن لها ميراثاً حديثاً يعتد به، بدءاً مما كتبه جبران خليل جبران وأدونيس وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط وأنسي الحاج والسوري أورخان مُيسر وصولاً الي جيل أمجد ناصر ونوري الجراح وسيف الرحبي وزكريا محمد.
وحتي نغادر مربع الحديث عن مشروعية قصيدة النثر العربية علينا أن نقر بأن المعايير الشعرية اختلفت وأصبح الحجر الأساسي في بحث الشعرية هو ما يسمي في النقد النية أو القصد، وهذا المعيار موجود حتي في النقد العربي القديم، ومن يقرأ ما كتبه عبد القاهر الجرجاني سيري أن الشعر لا يقوم علي الإيقاع، حتي في القصيدة العربية القديمة، وإنما يقوم علي الاستعارة وأشكال المجاز المختلفة، كما أن نقاداً عرباً قدماء أسقطوا الشعرية عن النظم الذي يحتفظ بالإيقاع ويفتقد الشعر.
ورغم أن عبد القاهر الجرجاني وغيره من النقاد قد تحدثوا عن الإيقاع وعن عمود الشعر وعن الوزن، إلا أنهم لم يجعلوه شرطاً واجباً من الشروط الشعرية العربية وكأنهم يفتحون أفق الكتابة الشعرية العربية دون أن يقصدوا علي المستقبل. أما في زمننا المعاصر فإن الشعر قد يكون مبثوثاً في أشكال وأنواع من التعبير غير الشعرية، وقد يكون موجودا في الرواية والفيلم واللوحة التشكيلية، لكن ما يسمي بالقصيدة، وهو مشتق من القصد، يتعلق بالحالة الشعرية المبنية في ذلك الشكل من أشكال الكتابة، التي تهدف في بنائها إلي إحداث تأثير من نوع خاص علي المتلقي عبر تصعيد الحالة وتوليد طاقة محتشدة بالكثافة والإيجاز، ما يجعلها تختلف من حيث الموقف والتعبير عن طرائق النثر، إضافة إلي الطبيعة الاستعارية للكتابة الشعرية، ما يجعلنا قادرين علي إسقاط معيار الوزن ووهم الإيقاع من تعريفنا للشعر، إلا إذا كان المقصود بالإيقاع هو تواتر شيء محدد، لا الوزن بعينه والتفعيلة بعينها.
وأريد في النهاية أن أسأل سؤالاً، لماذا نتفاعل مع قصائد كتبها شعراء أجانب وترجمنا قصائدهم نثراً، ونقتنع بأن نصوص رامبو وبودلير ووالت ويتمان وسان جون بيرس وبابلو نيرودا وتي. إس. اليوت هي شعر وليست نثراً؟ أظن هذا يعود إلي أننا نعرف أن الوزن ليس هو المعيار المحدد للشعرية.

الهدم والبناء في تاريخ الرواية العربية

*نلاحظ الآن عودة العديد من كتاب الرواية العرب عن هدم المعمار الروائي الكلاسيكي أو ما يسمي مبدأ التصوير الواقعي في الرواية المغربية والمشرقية والكف عن تفكيكه في مونولوجات من الهذيان اللغوي والتشظي السردي، طغت علي عدد من الروايات بعد منتصف السبعينات، لنجدهم الآن يركنون إلي إكمال الماضي السردي والعودة إلي مقومات الرواية الكلاسيكية، أو كما يقول عبد الله العروي أن يعود سؤال الروائي إلي جوهره: ماذا أحكي؟ وليس كيف أحكي!

ثمة تشديد في الرواية العربية منذ حوالي عشرين عاماً علي استعادة بعض العناصر الأساسية التي كانت من قبل من المحددات التي تجعل من الرواية رواية، أقصد عنصر الحكاية وضرورة تقليب الشخصيات علي وجوهها العديدة، بحيث تكون هناك زوايا نظر مختلفة في الكتابة الروائية.
ما أقصده هو أن زمان التجريب في الرواية العربية قد أخلي الفضاء لاستعادة العناصر الحميمية في السرد، ومن ضمن ذلك عنصر الحكاية وعنصر التاريخ الذي بدا في مرحلة من المراحل سبة ونقيصة في الكتابة الروائية.
وقد واجهنا في المرحلة السابقة في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي تطرفاً في رؤية الروائيين العرب أو بعضهم علي الأقل للكتابة الروائية، فهم عابوا علي من قبلهم وعلي مجايليهم أيضا أن يهتموا بالحكاية في كتابتهم الروائية أو جعل التاريخ بمعناه الواسع المفتوح بعضاً من عناصر الكتابة السردية، لكن عددا كبيرا من الروائيين العرب خلال السنوات الأخيرة، عاد لينظر في أهمية هذين العنصرين وأشكال استخدامهما في الكتابة.
ومن يقرأ أعمال إلياس خوري الأخيرة (باب الشمس) و(يالو) وحتي ما سبق هذين العملين، أو يقرأ ما كتبه اللبناني رشيد الضعيف (ليرننغ انغلش) و(تصطفل ميريل ستريب)، أو ما كتبه اللبناني ربيع جابر في (بيروت مدينة العالم) و(تقرير ميليس) أو العراقي علي بدر في (بابا سارتر) و(الوليمة العارية)، وغيرهم من الروائيين العرب الجدد، سيري أن الحكاية والتاريخ يشكلان قلب الكتابة الروائية ويصنعان العمود الفقري لها، ما نقل الكتابة الروائية العربية إلي آفاق جديدة وجعلها تعيد النظر في مسلمات بدت في يوم من الأيام راسخة يصعب التحول عنها وبديهية لا يمكن عرضها علي الفحص العقلي، وأظن أن ذلك هو الذي جعل الرواية العربية قابلة للقراءة والانتشار وحتي الترجمة إلي اللغات الأخري.
كأنك تقول إن مرحلة التجريب في الرواية العربية لم تترك ما يستحق الذكر ..!..
لا، لم أقصد مما سبق القول بأن مرحلة التجريب في الرواية العربية لم تؤسس لما هي عليه الرواية العربية الآن، بل إن تلك المرحلة بأعمال ادوارد الخراط وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وحيدر حيدر وتيسير سبول ويوسف حبشي الأشقر وفؤاد التكرلي وجبرا ابراهيم جبرا واميل حبيبي قد جعلت النوع الروائي أكثر رسوخاً وغني بالتقنيات وطرق بناء الشخصيات والوصف وبناء الزمان وزوايا النظر والاستفادة من فنون مختلفة كالفن التشكيلي والسينما والمسرح، وحتي علم الفيزياء الحديث.
ولولا هذه المرحلة التي جعلت الكتابة الروائية العربية فناً له شخصيته وحرفيته البالغة لما أمكن للروائيين الجدد أن يكتبوا بالطريقة التي يكتبون بها الآن.
وسوف نذكر لعدد من الروائيين العرب في مرحلة الستينات والسبعينات تخليصهم الكتابة الروائية من الترهل والمبالغة والسذاجة والبناء غير المنطقي للشخصيات والأحداث والتعارضات التي تقصم ظهر الرواية التي كانت تحتشد بها الكتابة الروائية العربية قبل هذا الجيل المكافح العنيد من الروائيين العرب، الذين آلوا علي أنفسهم أن يجعلوا من الرواية العربية كتابة تضاهي الأعمال الروائية الكبري في العالم.

كلام في الحداثة

*يقول المفكر كريستوفر بتلر ما بعد الحداثيين هدامون نقديون جيدون لكنهم فظيعون في دور البناة . وبذلك يكون أساس الحداثة موقفاً هدمياً تشكيكياً بكل أشكال التمثيل القديمة للفن والحياة والتفكير، بدءاً بفن الهندسة المعمارية وليس انتهاء بفن الكتابة والتعبير التركيبي في الفن المعاصر، فكيف تراها أنت؟

المعني الأساسي والمركزي لما بعد الحداثة هو تجاور المتناقضات، فأنت تجدين في اللحظة المعاصرة عمارة ضخمة فيها مركز تجاري كبير، تجاور منطقة شعبية وفقيرة، كما تجدين ما يسمي بالثقافة الرفيعة التي تستهلكها النخبة تذاع في الراديو أو التلفزيون بعد أغنية من الأغاني الدارجة .
ومن هنا يمكن القول بأن ما بعد الحداثة قد ألغت المسافات بين أنماط مختلفة من التعبير وغيرت المراتبية التي كنا نقيس من خلالها عظمة الفنون أو رفعتها، حتي أن الجامعات في العالم الغربي منه بصورة خاصة قد استحدثت برامج وكليات لدراسة الثقافة الشعبية والآداب والفنون التي يطلق عليها البوب، كالبوب آرت والبوب كالتشر.
أما في العالم العربي، فإننا علي صعيد التطور السياسي والاجتماعي، لم ندخل بعد عصر الحداثة، إلا فيما يتعلق بالشرطة وأدوات القمع والتعذيب، لكن ذلك لا يعني أن الفنون لم تتأثر بما بعد الحداثة، ولم تستوح بعض الأفكار من فلسفة ما بعد الحداثة، ولم تخضع العالم للرؤي التي شكلت فكر ما بعد الحداثة، فالمنطقة الوحيدة التي يمكن أن نقول إن العرب قد طوروا أنفسهم فيها للحاق بالحداثة وما بعد الحداثة هي منطقة الآداب والفنون، التي نجد فيها ملامح حداثية وما بعد حداثية.
المشكلة فيما بعد الحداثة هي أنها تنفي بعامة مفهوم الحقيقة، ويمكن أن نمثل علي ذلك بالحرب الأميركية الأخيرة علي العراق، حيث ان قائد الطائرة الأميركي في تلك الحرب كان يوجه صواريخه إلي بغداد وباقي المناطق العراقية من خلال إحداثيات علي شاشة حاسوبه، وهو علي بعد آلاف الكيلومترات في الجو، فهو بذلك لم ير نقطة دم واحدة تسيل، ولهذا بدت الحرب بالنسبة له مجرد لعبة يمارسها.
وقد كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريار مقالة قبل غزو العراق في جريدة لوموند الفرنسية، عنونها بـ(حرب الخليج لن تقع)، ثم عاد وكتب مقالة أخري في الجريدة ذاتها بعد احتلال العراق من قبل أميركا وعنونها بـ (حرب الخليج لم تقع). ولا شك أن هذا الفيلسوف ما بعد الحداثي لم يكن غبياً، وإنما انطلق في تحليله من نقطة مركزية، هي غياب الحقيقة في المجتمعات الحديثة واستبدال كل فكر بنسبية أخلاقية تعامل الأشياء بوصفها مجرد ألعاب لغة وألعاب فيديو، بحيث يتساوي كل شيء ولا يقيم الناس وزنا للعدالة الاجتماعية أو العدالة بمفهومها المطلق، وهذا خطر جسيم يحول الحياة البشرية إلي غابة، ويحل محل العدالة الاجتماعية داروينية أخلاقية ومالثوسية اجتماعية واقتصادية، وهذا مؤسف ومؤلم رغم الأفكار الملهمة التي جاء بها فلاسفة ما بعد الحداثة.
سؤال وماذا عن الولع بالتكنيك والتقنيات، وكأن معايير الجمال الفني فيما بعد الحداثة غير مؤنسنة؟
في ميدان الفن التشكيلي والمسرح والسينما اهتمت فنون ما بعد الحداثة بالمواد أو العناصر التي تتشكل منها هذه الفنون، وأنا أوافقك بأن هذه الأشكال ما بعد الحداثية قد حاولت إبهار الناس والاهتمام بالشكل علي حساب التجربة الإنسانية العميقة التي ينبغي أن تحضنها الفنون، والأمر نفسه يصدق في عالم الرواية والشعر وحقول التعبير الأخري، وما ينبغي أن نحاربه فيما بعد الحداثة هو اهتمامها المفرط بالتقنيات والأشكال بدلا من محاولة استعادة الأعماق الحقيقية للفنون والتعبير عن مشاكل الإنسان المعاصر بلغة فنية رفيعة خلاقة.

النظريات لا تحمل جنسية

*سؤال هل نستطيع القول إنه علي امتداد تاريخ الأدب العربي تميزنا بنظرية نقدية راسخة الأسس في الحركة النقدية العالمية؟

لا أظن أن للنظرية وطناً، لأن النظرية تتخلق من تأمل الآداب العالمية، خصوصا أن أرسطو أول عالم جمال في التاريخ قد أعيد النظر إليه وأعيد إنتاجه لدي الفلاسفة وعلماء اللغة والبلاغة العربية، ثم انتشر من خلال الترجمات العربية إلي اللاتينية.
وهذا يشير إلي أن النظرية بلا وطن وتستطيع أن تعيد تخليق نفسها في آداب أخري، ولهذا أظن أن البحث عن نظرية نقدية عربية أمر لا طائل من ورائه ويعد مضيعة للوقت، خصوصاً أننا نستورد كل شيء بما في ذلك النظريات والأفكار الشارحة لها، كما أننا لا ننتج في العلوم الإنسانية الحافة بنظريات الأدب أي علم من علوم اللغة أو اللسان أو الإنسان والأنثروبولوجي أو علمي الاجتماع والنفس..الخ، فكيف يمكن لنا أن ننتج نظرية خاصة بنا ونحن نفتقر إلي الدراسات التي تجعل مثل هذه النظرية ممكنة؟
إن العلوم الإنسانية في العالم تتطور رأساً برأس مع النظرية، وإذا كان علينا أن نبحث عن نظرية خاصة بنا فإن علينا أن ننتج في تلك العلوم الإنسانية أولاً.
كما أنني أري في الكلام حول نظرية نقدية عربية قدراً عالياً من الشوفينية والعصبية القبلية التي تفصل بسيف بتار بين العرب وغيرهم من الشعوب البشرية.
أري أنه من الأفضل أن نصرف الوقت علي القراءة التطبيقية لآدابنا حتي يتكون لدينا رصيد كبير يمكن من خلاله أن نشتق رؤي عربية لا رؤية واحدة لآدابنا، ما يجعل من الممكن استخلاص ما يمكن تسميته نظرية في يوم من الأيام، مثل نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم التي تصلح للآداب الأخري كما تصلح للأدب العربي، خصوصا أن البنيوية رؤية أكثر اتساعاً وشمولاً من رؤية الجرجاني في النظم، لكنها قريبة من الرؤية المفصلية للجرجاني.

نُثار مشهد ثقافي

* سؤال كيف تري المشهد الثقافي الفلسطيني في الوقت الحالي؟

المشهد الثقافي الفلسطيني بدأ بالتراجع منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت العام 1928، إذ كانت بيروت قبل ذلك العاصمة العملية للثقافة الفلسطينية، وباحتلال إسرائيل لبيروت وإجبارها الفلسطينيين علي التشتت بين العواصم العربية، لم يعد بإمكان الفلسطينيين إيجاد مكان آخر تدار منه الحركة الثقافية الفلسطينية.
وقد كان ممكناً بالنسبة إلي هذه الحركة أن تستعيد عافيتها بعد أوسلو لتصبح رام الله عاصمة الثقافة الفلسطينية، لكن الحرب الإسرائيلية المستمرة علي الفلسطينيين لم تتركهم يلتقطون أنفاسهم، ولذلك لم تتطور الحركة الثقافية الفلسطينية بعد عام 1994 بصورة تجعلها تستعيد أيام صعودها في الستينات والسبعينات، والمشكلة الأكثر تعقيداً تتمثل في التشتت الفلسطيني ووجود مجتمعات فلسطينية لا مجتمع واحد، بحيث يمكن أن نتكلم عن أدباء فلسطينيين لا حركة أدبية فلسطينية.
كما أن الخلافات السياسية الفلسطينية انتقلت للأسف إلي الجسم الثقافي الفلسطيني، وأحدثت شروخاً عميقة في هذه الثقافة، والمأساة الرهيبة هي أن الفلسطينيين الآن لا يمتلكون مؤسسات ثقافية ولا مراكز دراسات ولا دوريات ذات أهمية، بحيث يصعب أن نجمع ونسجل نُثار الأدب الفلسطيني الموزع في أرجاء الأرض كافة.

ينبوع لا ينضب

* سؤال وكما بدأ الجزء الأول باعتراض علي عمومية السؤال، انتهي الجزء الأخير باعتراضه علي خصوصيته، حين سألته: هل تشعر بالرضا عن مشروعك النقدي والأدبي؟ وهو الذي لم يعتد الحديث عن نفسه، ولم يتوقف يوماً في استراحة محارب ليمتدح ذاته، ونهر عطائه لا يكف عن الجريان، فجاءت إجاباته مقتضبة وخجلي.

لقد عملت طوال حياتي لكي أطور مشروعي الكتابي والنقدي، فدخلت طالباً في كلية الطب ثم تركتها بعد أربع سنوات، لأني أعددت نفسي لأكون كاتباً لا طبيباً، ووضعت نصب عيني أن مشروعي النقدي لا يحتمل رفيقاً آخر كالطب.
وبالرغم من أنني أصدرت ما يزيد عن العشرين كتاباً في النقد والترجمة وتحرير الكتب، فأنا لا اعتقد بأمانة أنني حققت شيئاً مهماً في حياتي، لأن علي في السنوات القادمة أن أبذل مجهوداً خارقاً لكي أكمل مشروعي النقدي وأكتب الكتب التي رغبت في كتابتها ولم أجد الوقت الكافي لاستكمالها أو تحقيقها علي الورق، وأتمني أن يمتد بي العمر عشرين سنة أخري لأفعل ذلك.

* سؤال ماذا عن الوطن؟

لقد خرجت من فلسطين إلي الأردن لاستكمال دراستي الجامعية منذ سبعة وعشرين عاماً، والاحتلال الإسرائيلي يمنعني بكل صلافة من العودة إلي بلدي الذي أفتقده بشدة، وأتمني أن أعود إليه يوماً مع أولادي وزوجتي الذين لا يعرفون فلسطين إلا علي الخارطة، ومما أحكيه لهم عنها.

القدس العربي
7-11-2007


إقرأ أيضاً:-