حاوره: يقظان التقي

حمزة عبودحمزة عبود شاعر مميز وله تجربة طويلة بدأت في السبعينات ويعرف جميع الشعراء، موضوعياً الى حد كبير اشتغل منذ سنتين على أنطولوجية شعرية أسماها "ديوان الشعر اللبناني المعاصر" في مخاترات أعدها وقدم لها فجراً مشروعاً تقدمة المؤلفة الموسيقية والمغنية الأوبرالية هبة القواس بمشاركة اللجنة الوطنية اللبنانية للأونيسكو.

ظاهرة أدبية تجسدت في كتاب عن "دار الفارابي"، في أوسع أنطولوجية عن مناخ السبعينات وقبله وبعده، وأبرز حركة شعرية في العالم العربي. أنطولوجية بعيدة عن الانتقائية وكشكول العلاقات العامة، يحضر فيها الجميع، وتكشف تجارب إنسانية عميقة، والعلامات البارزة للتجريبية ولتطور الحركة الشعرية في لبنان واتجاهات الشعر اللبناني المعاصر، والخروج عن المدارس الشعرية.

هنا حوار:

* كيف جاءت فكرة الكتاب وماذا عن الحيثيات والظروف؟

ـ الكتاب يأتي ضمن مشروع قدمته المؤلفة الموسيقية والمغنية الأوبرالية هبة القواس للجنة الوطنية للأونيسكو ويأتي الكتاب ضمن مشروع بعنوان ثمانية فنون في لبنان من بينها الشعر والمسرح والغناء والموسيقى والتشكيل.. وتم الاتفاق بيني وبين اللجنة الوطنية للأونيسكو المتمثلة بالأمينة العامة سلوى السنيورة بعاصيري بأن أحقق وأنجز ديوان الشعر اللبناني المعاصر بطبعة إلكترونية على الإنترنت. هذه الطبعة الإلكترونية كانت بعدد كبير من الصفحات، أكبر بكثير من الأنطولوجيا في الكتاب إلا أن عدداً من الأصدقاء واللجنة الوطنية نفسها أرتأت أن تحول هذا المشروع الى كتاب تعتبره لاحقة بقيمة الكتاب عبر ذاته ومداراته واعتباراته عند الكتّاب والشعراء ومن يتعاطى الشأن الثقافي. وللكتاب قيمته الكبرى، بعد ذلك جرى الاتفاق بين اللجنة الوطنية و"دار الفارابي" على تفاصيل وإنجاز هذا المشروع.

* كم استغرق الإعداد لهذا المشروع؟

ـ إعداد الطبعة الإلكترونية يحتوي تقريباً على عشرة أضعاف هذا الحجم للكتاب واستغرق الأعداد نحو سنة ونصف السنة. كان يبدو لي الاختيار بداية عملية سهلة، باعتبار وأدعي ذلك أني قرأت هذا الشعر وأعايشه منذ فترة طويلة، إلا أن الاختيار لم يكن أمراً بسيطاً، وثمة شروط للاختيار، ولم يكن من السهل إنجاز العمل بأقل من هذا الوقت؟

الانتقاء

* وماذا عن طريقة الانتقاء والمقاييس؟

ـ أشرت الى صعوبة الاختيار، حاولت أن أقدم النماذج الأكثر تعبيراً عن تجارب الشعراء، وكذلك حاولت أن أقدم النماذج التي عرف بها هؤلاء الشعراء. الى ذلك، قدمت نصوصاً أعتقد (من وجهة نظري) أنها تبيّن الملامح الفنية التي ربما لم يكتشفها القارئ العادي أو عدد من النقاد وأكثر صعوبة إعترضتني بالمختارات عملية إثبات نصوص لا أحبها لعدد من الشعراء، وقد اخترتها فقط لأنها تعبّر عن الشاعر وتجربته.

* جزء من عملية النقد؟

ـ إعتمدت فيها جزءاً من النقد من دون أن يخلّ ذلك بتقديم التجربة والكشف عن أبعادها، وكما ذكرت اضطررت الى اختيار نصوص لا أحبها لأني أعرف أنها تعبّر عن الشاعر وشخصيته الفنية.

* هل الجميع حاضر في الأنطولوجيا؟

ـ لا أحد يستطيع أن يحيط بمرحلة تشتمل على حركات واتجاهات شعرية من مطلع الستينات: مجلة "الحوار"، "الآداب"، "مجلة شعر"، "المواقف"، الى منابر صحافية كجريدة "النهار" وملحق "النهار" و"السفير". لا أحد يستطيع الإحاطة بتجربة في حجم هذا الاتساع. كان لا بد من اختيار أكبر عدد من الشعراء، واختيار الشعراء الذين يعبرون عن هذه المرحلة منذ بداية الستينات حتى يومنا هذا.

افترض، أعتقد أن الديوان، مختارات تستعيد المناخ الشعري الذي ساد هذه الفترة وتعبر كذلك عن التنوع، وعن الحوارات النصية والنقدية التي رافقت النصوص من هذه المرحلة. أعتقد ذلك.

* المهم أن الكتاب أتى من خارج كشكول العلاقات العامة؟

ـ هناك أسماء لا أعرف عددها من 5 الى 6 شعراء لأسباب مختلفة لم أتمكن من الحصول على مؤلفاتهم أو سيرهم الذاتية أو واحد أو اثنين سقط الإسم معهما سهواً من ذاكرتي، عبدالله الأخطل على سبيل المثال.
ولكن أريد أن أشير أن الأنطولوجية تعد واحدة من أكبر الأنطولوجيات. أنطولوجيا الشعر اللبناني من أكبر الأنطولوجيات الشعرية وليست صغيرة،
والكل حاضر فيها ما خلا ما ذكرت من أسماء.

* من لم يأخذ حقه كالشعراء الباقين من شعراء جيلكم؟

ـ وديع سعادة، محمد العبدالله، جاد الحاج وحسن العبدالله ومن الجيل اللاحق، غسان علم الدين وشبيب الأمين وناظم السيد وغسان جواد.

* مقترحك الأول كان أنطولوجيا على ثلاثة أجزاء؟

ـ أنا اقترحت أن تكون في ثلاثة أجزاء، لكن اللجنة ارتأت أن الجزء الواحد حمله أسهل ويحفظ أكثر.

المقدمة

* كتبت مقدمة، لكنك لم تكتب خاتمة أو استنتاجاً، لماذا؟

ـ المقدمة التي كتبتها تبيّن حدود المرحلة الزمنية لـ"المختارات" والمعايير التي ارتكزت إليها في اختيار النصوص، والإشارة الى تفاعل الحركة الشعرية اللبنانية بالحركات التجديدية في العالم العربي.. لم أكتب مقدمة لأطلق حكماً نقدياً (ليست هي وظيفة المقدمة في إعداد الأنطولوجيات الشعرية) ولكنني قدمت مختارات تمكن القارئ من أن يكون رأياً أو يطلق حكماً.
كتبت مقدمة لأعرف بالعمل. أما الاستنتاج فلا أجد له وظيفة هنا (أو في أي أنطولوجيا شعرية). فالاستنتاج يعني قراءاتي الخاصة للشعر اللبناني، وهذه القراءة متضمنة على نحو ما في المختارات نفسها، وليس من حقي أن أمليها في استنتاج صريح على القارئ. هذا الاستنتاج يمكن أن أقدمه في دراسة أو بحث أو حوار خارج المختارات.

* يهمني هذا الاستنتاج لكن وعلنا أسألك أولاً بعد القراءة التامة للشعر اللبناني كيف تلاقيه، وماذا عن خصوصيته؟

ـ برأيي الحركة الشعرية اللبنانية بين الأكثر غنى وتجدداً في الحركات الشعرية العالمية، ليس فقط في العالم العربي ولكن في العالم، وأقدر أن أقول أن هناك عدة أسباب جعلت هذه الحركة على هذا القدر من الغنى والتنوع.
أولاً لا تزال الحركة الشعرية اللبنانية بين الأكثر غنى وتحديداً في الحركات الشعرية العالمية.

ثانياً: بدأت الاتجاهات أو الحركات الشعرية التي ارتبطت بالمدارس الفنية حيناً والتعبيرات الأيديولوجية حيناً آخر بالانحسار حتى أنها لم تعد قائمة إلا في نماذج قليلة وبتنا نقرأ النص الشعري باعتباره نصاً مستقلاً ويقوم بمكوناته وعلاقاته الخاصة من دون أن يكون خاضعاً بالضرورة لمفاهيم وقواعد سابقة، ثم هناك الانفتاح على الشعر الانكلو ـ ساكسوني، وترجمة عدد كبير من الشعراء الأميركيين والانكليز، بالاضافة الى الثقافة الفرنسية لعدد كبير من الشعراء التي كانت أكثر تأثيراً في الثقافة اللبنانية قبل الستينات حتى مطلع السبعينات ولا تزال. يضاف الى ذلك ترجمة الشعر الأوروبي، حركة الترجمة التي ازدهرت في لبنان في الستينات لا تجاريها في تجربة في الترجمة غير ترجمة الفكر اليوناني والآداب الشرقية في العصر العباسي، وازدهار وتطور الحركة الشعرية في العراق: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة وسعدي يوسف...

ثالثاً: غياب الرقابة عن النشر وأقله انحسار الرقابة قياساً على الرقابة في العالم العربي، وأيضاً ازدهار الفنون الأخرى التي تركت تأثيرها على الفنون الكتابية، الى النص الشعري أو الرواية، أو المقالة. لأن في هذه المرحلة نفسها كان في لبنان ازدهار الحركة التشكيلية والمسرح، والمسرح الغنائي الرحباني، صار هناك تقاطع بين فنون متعددة تركت تأثيرها وأبعادها في النص.

رابعاً: ان الاتجاهات التجريدية في قصيدة النثر هي أقل بكثير مما تزعمه المقالات "الاعلانية" في الصفحات الثقافية، وأن عدداً من التجارب التي ظهرت في مطلع السبعينات وتحظى بمكانة مرموقة في الاعلام والمنتديات الثقافية، يبدو، على الرغم من قيمته التجريبية، أقرب الى "الكتابة الشعرية" أو "الشعر النثري" منه الى قصيدة النثر.

* هل يمكن الكلام عن خصوصية ما؟

ـ لا أستطيع أن أحدد الملامح بصورة نهائية أستطيع أن أقول ان ملاحظة ايجابية حول شعر الشباب. حيث لم تعد القصيدة عند هؤلاء الشبان مشروعاً، يعني خفوت الأصداء الايديولوجية داخل القصيدة، والاستغراق بعلاقات جزئية، واستيحاء اللحظة الراهنة بتأثيراتها أكثر مما هو يقود الى تمجيد قيم ومفاهيم وأفكار.

* إذاً كيف تطور هذا الشعر؟ وماذا عن علاقة الرواد بجيل السبعينات، وهل هناك تواصل أم انقطاع؟

ـ الملاحظة الثانية هي أن القصيدة النثرية عرفت تطوراً نوعياً يمكن ملاحظته لدى عدد من الشعراء الذين جاؤوا بعد مرحلة الرواد: أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، محمد المحاغوط... إلا أن ثمة اتجاهات تجديدية في قصيدة النثر هي أقل مما تزعم لكن المقالات "الاعلانية" في "الصفحات الثقافية" كما ذكرت سابقاً وقد فوجئت على الرغم من ذلك من قيمة التجارب الشعرية النثرية. بمعنى أنه ليس من السهل القول ان قصيدة النثر تطورت كثيراً بعد مرحلة الرواد دون أن يقلل ذلك من أهمية الشعر النثري الذي تجده في مجموعات شعرية وعلى الصفحات الثقافية.
قصيدة النثر تعود الى 5 أو 6 شعراء كبار، منهم أسماء رنانة لم يكتبوا قصيدة النثر، دون أن يقلل ذلك من موقعهم في الحركة الشعرية.

* ثمة أسئلة نقدية، أجابت عليها النصوص أكثر مما أجابت عليها الحوارات النقدية نفسها.

ـ أعتقد أن مسألة الحداثة ومسألة مصادر شعرية النص تبلورت أكثر، أخذت شكلاً أكثر تكاملاً بالنصوص في السبعينات.

عند الرواد، بدا واضحاً تأثير المفاهيم النقدية الكلاسيكية من جهة أو المفاهيم الحديثة التي ارتبطت بالجمالية اللبنانية، أعتقد أن هذا جعل القصيدة نموذجاً، القصيدة في السبعينات لم تعد مغلقة، لم يعد ثمة حدود، لم يعد هناك مفاهيم بالسبعينات، صار النص الشعري قيمة بذاته خارج أطر الاتجاهات والمدارس الفنية. صار للنص شخصية ولم يعد من السهل أن تحكم على هذا النص من خلال انتمائه الى اتجاه أو حركة فنية. سقطت الاتجاهات الفنية بسقوط الحركات والجماعات والاتجاهات في شعر الثمانينات. بعد جيلين، سعيد عقل، وأمين نخلة والياس أبو شبكة، وحتى جيل أدونيس وخليل حاوي كان النص له حدود ثمة حدود للنص وممكن تصنيفه. ذكرت عدد من الشعراء الذين كان عندهم قدرة على استيعاب المدارس والاتجاهات والقدرة على استيعاب الأجيال التي جاءت بعدهم وهذه هي أهميتهم سواء شعراء مجلة "آداب" و"مجلة شعر"، هؤلاء فتحوا أفاقاً جديدة إلا أن النقد ظل يصنفهم ضمن هذه الاتجاهات ذات الملامح الراسخة.

تجريبية

* هل اكتشفت تجريبية بالشعر اللبناني أو كتابة بالوحي او النظرية أو الافكار تحت ضغط الحالة.

ـ أستطيع ان اقول إن التجارب الشعرية اللبنانية شديدة التنوع وأن معظم هذه التجارزب انجزت لغتها وحساسيتها ورؤيتها الى العالم حتى اننا لم نعد نخضع القصيدة لمعايير كانت ثابتة في نظر الكثير من النقاد والشعراء، وحين اشرت الى ان الشعراء الشبان لم تعد القصيدة لديهم مشروعاً حاولت أن اظهر هذا القدر من التجريب في الشعر اللبناني، بالاضافة الى ذلك لم يعد الشعر مصدر الشعر، فلسفة القصيدة ومكوناتها تعود الى مصادر نثرية ربما والى مصادر تتعلق بفنون ازدهرت وصارت جزءاً من الحياة الثقافية اللبنانية مثل السينما والمسرح اضافة الى حرارة الكلام المتداول، وبداهته.
لكن هذه الأمور تبين ان الشعر اللبناني هو من أكثر التجارب الشعرية تجريبية. درجة التجريب عالية مما جعل البعض يعتبر ذلك "تخريباً" للقصيدة او فقدان اللغة لتوازنها كما هي في اذهان الشعراء.

الغرب

* ماذا عن الاتجاهات الغربية التي اكتشفتها في الشعر اللبناني؟

ـ لا تزال فرنسية أكثر، ثمة تأثير غير ظاهر للثقافة الانكلوساكسونية مثال وليد سعادة، جاد الحاج. لكن قراءة الشعر الأوروبي باللغة الفرنسية على الأرجح بالفرنسية أكثر منه بالانكليزية باستثناء السنوات الأخيرة. الشعر الفرنسي شكل إحدى المرجعيات. وقد غالى النقاد أو البعض منهم في اظهار الحركة الشعرية الحديثة امتداداً لتطور الحركة الشعرية في العالم. اعتقد ان هناك خصوصية وملامح وابعاداً لبنانية وتراثية وعربية في النص الحديث، ويبدو ان النقد قرأ الحركة الشعرية اللبنانية بشيء "من التعنت" و"العصبية".

* هل ترى ان في شعر الثمانينات والتسعينات ملامح خروج عن تلك المدارس بحيث يصير كل شاعر هو مدرسة نفسه؟

ـ طبعاً، لم يعد من السهل تصنيف الشعراء ضمن اتجاهات ومبادئ فنية، هذا العصر انتهى ليس فقط في الشعر، بل على كل الأصعدة حتى اللوحة التشكيلية صار فيها تقاطعات لا حصر لها، وبكل الفنون لم يعد هناك اتجاهات.
القصيدة، والاثر الفني تتجدد ملامحه من خلال العلاقات الداخلية ومكوناته الخاصة وليس بالاستناد الى اثر او نص او أثر آخر، والا فان الشعر سيتحول الى مهارة من المهارات التي نعرفها اليدوية أو الذهنية، ولا تهب له قيمة سوى في براعة التقليد والمحاكاة، وبالتالي يفقد تأثيره على اكثر من صعيد ويفقد جديته.

* من هي الأسماء التي شكلت منعطفات؟

ـ ادونيس، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، ومن الاسماء التي تشكل فضاء شعرياً خاصاً، وينبغي التوقف عندها لدى قراءة "جيل الرواد": خليل حاوي على الرغم من أن اصداء تجربته تكاد تنحصر في مساحات محدودة في التجارب الشعرية اللاحقة.

* انت شاعر وجزء من صراع شعري دار في العقود الأخيرة؟

ـ في الديوان بامكانك ان تلاحظ ان ما اخترته من مجموعات عدد من الاصدقاء هو ضعف ما اخترته من شعري. وكذلك بامكانك ان تتبين مدى الحرص على أن تكون هذه المختارات والمقدمات التي تعرف بهم معبرة عن تجاربهم (وسيرهم) الشعرية.
باختصار حاولت أن التزم المعايير التي اشرت اليها في المقدمة. لم أتعلم منافسة أحد في الشعر أو الكتابة، كما في أمور كثيرة، وتبدو لي المنافسة في مجال الشعر والكتابة نوعاً من العبث!

المستقبل
الاثنين 10 آذار 2008