الطائي الذي ولد في قرية أجداده

حاوره: هاشم الجحدلي

محمد العليلا تذكر الحداثة في بلادنا إلا ويذكر محمد العلي حتى صار رائدا للشعر الحديث في بلادنا وبرغم كل هذا وبرغم كل ما كتب وسيكتب عنه إلا ان سيرة العلي تظل محفوفة بالالتباسات، خاصة أنه ميال للعزلة البيضاء، والعزلة التي تفتح نوافذها على الجميع مشهدا، ووجوها، وكتابات، ولكنها في الآن نفسه تختفي بسياج من الورد من اختراقات الاخرين.. وزاد من كثافة هذا السياج منعة، زهد أبي عادل في الأضواء وعدم رغبته في البوح وعدم اتاحة الفرصة لقلمه كي يغوص عميقا في سيرته ويعيد صياغتها على الورق. من هنا نفتح بوابة البوح على آخر مدى متاح لها.. وننصت للعلي وهو يتدفق نثرا كأنه الشعر وهو يسرد بحرقة تبدو واضحة للعيان على ملامحه وبعمق مفرداته سيرة ومسيرة الحياة من الطفولة حتى الآن.. ونبدأ من قرية العمران وتحديدا العمران الشمالي باقليم الاحساء حيث ولد العلي.. فكيف يتذكرها أو ماذا تبقى منها بذاكرة أبي عادل؟.

أنا لا أحمل ذكرى في اعماقي ذكرى قرية مثل بعض شعرائنا.. حيث يماهي بين الأم والقرية ويحن الى القرية ويتذكر أفراحا وأعيادصغيرة ومعينة مرت به بتلك القرية.. أنا لا اتصور مطلقا هذا النوع من الطرح أو الحنين الى الطفولة أو دهشة الطفولة نحو العمران،
- لماذا؟ سألته فرد عليّ العلي موضحا (العمران كانت قرية تحيط بها مياه المستنقعات.. وكانت بلا ماء ولا كهرباء وبلا مدارس وحتى بلا مذياع يصلك وهما بالعالم.. وكأنها في غابة منعزلة.. مثل هذه القرية لا تخلف ذكرى لأن الطفولة منعدمة فيها).

العلي من نجد

في هذه الأجواء عن قرية العمران ولد الشاعر محمد العلي عام 1932م ابنا أكبر لوالده الشيخ عبدالله بن حسن العلي.. من عائلة ينحدر أصلها كما يروي علي الخاقاني في كتابه شعراء الغرى _من قبيلة آل علي الشهيرة في منطقة هجر والتي تلتحق بالفضل بين ربيعة الطائي).. وتروي بعض المصادر ان آل علي ويسكنون في قرية العمران وجدهم علي بن عبدالعزيز بن عمران الذي سميت القرية باسمه هو أول من نزح اليها من نجد، وكان ذلك سنة 1050هـ كما أن جده الشيخ حسن الحسين الذي كان واجهة العمران قد تحالف في بدء وحدة الدولة السعودية في دعم استقرار الاحساء في مواجهة غزوات البدو على المنطقة.

قرية.. مجازا

والعمران مجموعة قرى (الحوطة والعمران الشمالية والعمران الجنوبية وغميسي) وشاعرنا العلي ولد في العمران الشمالية التي تعتبر أكبر هذه القرى ولا تبعد كثيرا عن بحيرة الأصفر الشهيرة وتحتل العمران موقعا استثنائيا حيث تقع على الحافة الشرقية- الشمالية للواحة لذلك كانت دائما معرضة لغزو الرمال مما دعا أهلها ان يجعلوا بيوتهم تفتح أبوابها على الداخل، لذلك تبدو للقادم من بعيد وكأن جدرانا من الطين هي التي تقابله، ويبرر المسرحي عبدالعزيز السماعيل ذلك بأن هناك اسبابا اخرى غير غزو الرمال هي غزوات البدو لذلك تتلاصق تماما ولا تترك إلا فسحة صغيرة يمكن اغلاقها بسهولة عن أي مؤشر على قدوم خطر ما.. ويضيف السماعيل موضحا لي البيئة التي وصفها لي شاعرنا العلي بقوله (كانت مصطلح قرية يطلق العمران وسواها من قرى المنطقة مجازا.. فهي بالأصح تجمع لمجموعة من البيوت من عائلة واحدة أو عدة عوائل.. وكان الوصول اليها بسبب مستنقعات المياه وكثافة أشجار النخيل يعتبر عملا صعبا وشائكا، وظلت على هذا الوضع حتى جاء مشروع الري والصرف، وبدأ في تجميع المياه من المستنقعات في قنوات كبيرة وفتح منافذ للري أصغر منها توصل المياه الى مزارع النخيل وسواها.. في ظل هذه الأجواء ولد وترعرع الشاعر العلي ويستعيد محمد الشقاق المهتم بتدوين كتابات وقصائد العلي بقوله "العمران.. هي مجموعة من القرى أكبرها قرية العمران الشمالية وتقع في الطرف الشرقي من الاحساء وهي القرية التي تربى وترعرع فيها الأديب الكبير محمد عبدالله العلي تحيط بها مزارع النخيل من كل الجهات التي ترويها عيون الاحساء الشمالية كعين الجوهرية عبر قنوات الري التي وجه بانشائها الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله والذي عندما تعرضت الجهة الشمالية الشرقية من المنطقة الى زحف الرمال المجاورة مما ادى الى طمر بعض القرى فيها، وجه بتنفيذ مشروع وقف زحف الرمال حيث تم زرع ما يقارب المليون شجرة في ثلاثة صفوف متعاقبة لتثبيت التربة.
ويضيف الشقاق قائلاً "تنسب العمران الى عمران بن فضل بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة و "الفضل بن ربيعة" هو جد قبيلة الفضول المعروفة والتي هي احدى بطون قبيلة طي العربية الشهيرة. و "آل الفضلي" و "آل علي" و "العباد" و "السليم" الموجودون اليوم في العمران وكذلك "آل علي" في القارة كلهم قبيلة واحدة.
واول من نزح الى الاحساء، قادماً من "ملهم" احدى قرى نجد كان جدهم عمران بن فضل.. وكان ذلك في سنة 1050هـ وبعد ان استقر في الطرف الشرقي من الاحساء عرفت المنطقة باسمه فأطلق عليها اسم "العمران" لما كان يتمتع به من رئاسة قبيلته ذات التفوق العشائري في المنطقة. وكانت ولا زالت هذه الأسرة الكريمة ذات مكانة مرموقة وسمعة طيبة في الاحساء وقد أنجبت علماء وأدباء أفاضل.
تعرضت المنطقة الى غزوات البدو الطامعين في خيراتها وخاصة أيام الحصاد، وخاضت معارك عديدة في الدفاع عن مزارعها وخيراتها. فكان من الطبيعي تحالف ابناء المنطقة مع الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله بعد فتحه الاحساء سنة 1331هـ وقاتل ابناء المنطقة مع الملك عبدالعزيز في معاركه ضد بدو العجمان في سبيل تحقيق الأمن والسلام.

وسط الاحراش

وهنا في وسط أحراش النخيل حيث ولد وترعرع ولعب مع أقرانه في حارات العمران تعلم الخط وقرأ القرآن حيث لم يكن آنذاك سوى ثلاثة احدهم والده.. فقيه القرية يجيدون القراءة والكتابة.. ويروي أبو عادل تفاصيل هذه المرحلة قائلاً: "درست القرآن عند الكتاب عدة سنوات الى ان وصلت الى مرحلة الختمة.. وهي مرحلة ختم القرآن.
استدركه متسائلاً- حفظاً.

فيستكمل اجابته:

-لا.. قراءة.. كان الحفظ غير معروف في القرية.. والفكرة غير مطروحة كانت دراستنا للقرآن دراسة أولية تشبه فك الحرف ولأن والدي كان رجلاً متدينا الى ابعد الحدود.
هل كان رجل دين؟
-فيوضح: يمثل رمزاً.. رمز الورع والتقوى.. وحب الخير.. والتدين المطلق.. لذلك كان يريد ان ينذرني للعلم ولعلوم الدين تحديداً.. فقلني الى النجف.. وبعد ان وصلت الى هناك وباعتبار انني اعرف القراءة قبلت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي في مدرسة أهلية.. تابعة لمنتدى النشر الأدبي والعلمي وذلك بعد امتحان شفوي وكتابي.

-ويكتب يحيى الراضي عن هذه المرحلة قائلاً: "كان التحول الأول في حياة محمد العلي- الهجري- هو الخروج من احضان نخيل القرية الى القباب الذهبية عندما هاجر الى العراق لطلب العلم في سن مبكرة حدود سنة 1946هـ بحسب رغبة والده لما يجده الناس في هذا السبيل من تعزيز الإيمان الديني والوجاهة الاجتماعية وقد انتسب أول اقامته في النجف الى مدرسة ابتدائية تابعة لمنتدى النشر وهو معهد أكاديمي ديني أسسه الشيخ الاصلاحي محمد رضا المظفر.

وفي هذه المدرسة والمدارس التابعة لمنتدى النشر استكمل العلي دراسة الابتدائية وبعد ذلك المتوسطة والثانوية.. عندما استكملها بالدراسة الليلية والعمل مدرساً في الفترة الصباحية كانت الاجواء برغم كل التقدم التقني بالنجف حيث الكهرباء.. والماء والمباني الفارهة.. إلا ان روح العلي كانت تتوق الى حرية اكبر مما هو متاح فكل ما كان حوله كان يشده للماضي بشكل تام لذلك كانت مجموعة الأدب اليقظ منفذا له للخروج من هذا الطوق ويصف الشاعر مصطفى جمال الدين احد اعضاء هذه المجموعة.. ذلك بقوله (وكنت قد التقيت فيها -يعني حلقة الشيخ زين الدين والشيخ الخاقاني-، بشباب كانت لهم نفس الاهتمامات والتطلع الادبي اذكر منهم السيد محمد بحر العلوم، والشيخ صالح الظالمي والشيخ ضياء الدين الخاقاني وتمكنت الصلة بيننا الى حد بعيد فهم يقرب من التوحد وصداقة أقوى من الاخوة وحب لا يزال في جدته حتى اليوم.
وكان لابد لنا –وقد توسعت الحلقة- ان نميز انفسنا عنها، وانظم الينا من خارجها السيد حسين بحر العلوم من النجف والسيد محمد حسين فضل الله من لبنان والشيخ محمد الهجري (العلي) من الاحساء والشيخ جميل حيدر من سوق الشيوخ.

غرور الشباب

وما أدري اذا كان غرور الشباب أم الاعتداد بثقافتنا التي اخذت تتسع في جدتها هو الذي دفع جميل حيدر ان يطلق على هذه الشلة الجديدة اسم (أسرة الأدب اليقظ). على أي حال كنا نمتاز عن الأجيال الأدبية التي عاصرناها في النجف، اننا كنا كثيري القراءة والمتابعة لكل ما هو جديد فإذا كان زاد الناشئة التي نتعايش معها دواوين السيد محمد سعيد الحبوني والسيد حيدر الحلي والشبيبي واليعقوبي من الجديد، ودواوين المتنبي والبحتري والشريف الرضي ومهيار الديلمي من القديم فقد اضفنا الى ذلك كل ما تيسر لنا من دواوين الشعراء العرب المحدثين بما فيها موجة الشعر الحديث بل ان بعضنا اخذ يكتب تجاربه بطريقة (التفعيلة) التي لا يعدها اكثر نقاد النجف شعرا واذا كان النقد المسيطر على هذه الأجيال التي عايشناها هو نقد الجاحظ وقدامه بن جعفر وضياء الدين بن الأثير فقد اضفنا الى ذلك نقد احمد الشايب وسيد قطب ومارون عبود وميخائيل نعيمة ورئيف وكثيرا من الدراسات المترجمة في موسيقى الشعر واصواب اللغة عن الفرنسي (جويار) والامريكي (سابير) والروسي (كوندارتوف) والانجليزي (اليوت).

ويضيف جمال الدين متذكرا أيام الأدب اليقظ قائلا: كانت أعمارنا متقاربة وان كنت اعتقد اني اكبرهم سنا، ولكننا كنا نتقارب في شيء آخر لعله الأهم هو (ضيق ما في اليد) فقد كان مرتبي الذي يصلني من أهلي في القرية لا يتجاوز (الدينارين) هو للطعام وهو للكسوة وهو للكتاب ولم يكن الاخرون اسعد حالا مني. وهكذا يمكن لنا ان نرس بانوراما واضحة لحياة العلي او الهجري كما يسميه أهل النجف نسبة الى هجر (الاحساء).. ونستعد الى دخول مرحلة اخرى من حياة لا تقل اثارة وطرحا للتساؤلات

محمد العلي :
بـ7 دنانير.. قاومت الجوع.. واكملت دراستي الجامعية

ويستمر الحوار.. او التداعي مع الرائد والشاعر الكبير محمد بن عبدالله العلي.. واذا كنا في الحلقة السابقة توقفنا عند مرحلة اسرة الادب اليقظ واعضائها وافكارها.. فإننا نرسم صورة للعلي وهو يدلف إلى العراق من بوابة النجف عام 1946م ويستمر بها حتى 1964م.. مرحلة من العمر تقترب من العشرين عاماً درس ودرّس بها وكتب الشعر وتزوج وتعلق بامرأة صورتها لازالت في ذاكرته..
لم يزر العلي الاحساء خلالها الا مرة واحدة.. جاء فيها الى زيارة المشاعر المقدسة واداء فريضة الحج.. وفي طريق العودة الى النجف مر بأهله في العمران.

تجربة مفصلية

تجربة عميقة ومفصلية في حياة ابي عادل، ألقت بظلالها على شعره وباقي تجاربه فحزنه كربلائي ووقع اغانيه لها طعم الوجع في بلاد الرافدين.. وحصاد حياته الاولى مكتظ بالاحداث والحراك والتحولات.. وفي اعماق روحه حب صادق للعدالة.. والحق.
واستكمالاً لوصف ملامح هذه المرحلة نلتقط هنا ما كتبه علي الخاقاني في كتابه “شعراء الغري” حيث كتب في سياق تعريفه بالعلي “الهجري” وبعد اخذه بعض المقدمات اندرج في سلك طلاب الدين الذين يأخذون من منهل النجف مختلف العلوم, واستمر يتعثر في تلك الاشواك التي خلفتها الدراسة المضطربة حتى استطاع ان يقطع اكثر الشوط، وهو اليوم في الطليعة من الشباب الذين يوازونه في السن، عكف على قراءة النتاج الجديد فتأثر بكثير من الآراء والصور الحديثة، وتطلع الى معرفة الحياة ولكن وضعت على رأسه العمة البيضاء عن طريق التقاليد الهجرية والنجفية، راح يتأفف مما هو فيه من اضطراب في سير الدراسة والفوضوية وارتباك النظم التي لا تميز بين العالم والجاهل. لمست في قلبه وعياً ويقظة، واختبرت في ذهنه ارهافاً يتحسس الحالة الراهنة التي تقيد بها امثاله دون جدوى او فائدة مرجوة.

الادب اليقظ والروحانية

الى هنا ينتهي كلام الخاقاني.. ونستكمل باقي التفاصيل من العلي نفسه حيث يقول “بعد ان انشأنا اسرة الادب اليقظ.. وبعد ان وصلنا الى مرحلة مع الجو المحيط.. فكأنها إشعار بالتمرد.. وبالرغم من ان اطلاعنا الادبي كان اكثره تراثيا لكن كانت تصلنا الصحف والمجلات المصرية واللبنانية في ذلك الوقت.. وكان التيار آنذاك ما يسمى بالتيار الرومانسي وكان اكثرنا يميل الى هذا التيار”. ويصف العلي هذه المرحلة في حواره مع النص الجديد “بعد قطع مسافة طويلة ادركت ضيق الطريق الذي اسير فيه. فأخذت او اصل التعليم العام عن طريق الدراسة الليلية. وقد اعتبرت الحوزة العلمية هذه الخطوة مني “تمردا جاهلياً” غير اني واصلت بعناد، وقد عانيت كثيراً من هذا العناد، فوالدي قطع عني الامداد المالي، كذلك الحوزة، فعانيت من ضروب الفقر والحاجة ما عانيت.. حتى اني، وانا اواصل دراستي الليلية اضطررت الى التدريس نهاراً في مدرسة ابتدائية اهلية بسبعة دنانير في الشهر. تصور: سبعين ريالاً في الشهر. اجل وفي هذه الظروف التي نعجز الآن عن استعادة ملامحها كاملة، لأننا لا نستطيع ان نقبض عليها كما نريد، لكننا نتملى ملامحها واضحة للعيان على محيّا العلي وفي وجدانه.

مرحلة السطوح

وقبل الدخول الى مرحلة جديدة ومحطة مختلفة يجب ان نقفل ملف الدراسة قبل الجامعية وهذا لن يتم دون المرور بمرحلة تمحضه في الدراسة الدينية حيث يقول ابوعادل واصفاً تفاصيلها بعد ان اكملت دراستي الدينية الاولية تمخضت للدراسة الدينية العميقة.. حتى وصلت إلى مرحلة السطوح وانقطعت بعد ذلك متفرغا للدراسة الجامعية بجامعة بغداد قسم اللغة العربية فرع النجف؟
أبا عادل دعني أسألك عن مرحلة السطوح إلى ماذا كانت تخولك؟
فرد قائلا: مرحلة السطوح كانت تخولني لحضور الدروس الحرة.. أو المحاضرات الحرة التي لا تستند الى كتاب بل تستند الى فكرة يمكن ارجاعها الى مجموعة كتب اصولية او تقليدية.. السطوح بمعنى انك تخلصت من كتاب محدد.. واصبح ذهنك اكثر حرية.. اكثر انطلاقا.. القفص الكتابي.. أو المرجع الوحيد.. هنا انتهى.. وكأنك خرجت من أسر جدران البيت ووقفت على السطوح.. الى هنا ينتهي حديث العلي عن دراسته بالنجف ليدلف الى الدراسة الجامعية الاكاديمية ولكن قبل ان نفتح هذا الملف لابد ان نقف على شرارة الشعر الاولى.. متى.. وكيف.. وأين انطلقت.

ارض البلديات

أبا عادل تكلمنا كثيرا ولم نتطرق الى الشعر وبواكيره وشرارته الاولى.. أين وكيف وهل كانت النجف بيئة شعرية كما نتلمس من اصداء شعراء أسرة الادب اليقظ وسواها من الجمعيات والأسر الادبية والشعراء الذين خرجوا من مدرسة النجف؟
سألته هذا السؤال الطويل فأجابني مستعيدا تاريخا طويلا مع القصيدة.. وقال: في النجف كان تقاطعي مع القصيدة تلقيا وكتابة.. وبالطبع كان أكثر الدارسين مهووسين بالشعر حتى الذي ليست لديه قابلية شعرية كان يود ان يكون شاعرا.. النجف تسمى بيئة شعرية.. ولكنني اعتقد انها ليست بيئة شعرية.. ولكن بسبب حضور القصيدة بها حفزت الكثيرين الى اقتحام عالم الشعر وقد وصفت هذه الحالة:

صوري لي الندى

يزخر بالاسماع سالت بشاعر صياد
يتغنى بالشعب حتى ترى ما بين الفاظه قبور الاعادي
ويثنى بالدين فالارض لا تلقى بمحرابها سوى السجاد
وينادى بكل ما يبعث التصفيق والحب من جموع الجراد
ثم ماذا لا شيء قد نسي السامر واستوحش النداء المنادي. وعن علاقته بالشعر الحديث وكيف تلقاه شعراء أسرة الادب اليقظ يقول الاستاذ العلي: “مر الشعر الحديث بنا في الاسرة ولكن قابلناه أول ما قابلناه بالنفور.. ولكن بعد ذلك جميعنا ان استطعنا ان نتغلب على أذواقنا وننخرط أو نتذوق في قراءة الشعر الحديث وكان في ذلك الاسمان اللامعان السياب ونازك الملائكة”.

هنا تنتهي اجابة العلي ولكن لإلقاء مساحة الضوء بقدر أكثر على هذه المرحلة فلنلتقط اجابة له نشرتها مجلة النص الجديد على سؤال للشاعر علي الدميني حيث يقول ابو عادل: وفترة السياب ونازك الملائكة وهي بلا شك الفترة الفاصلة في تاريخنا الشعري عشتها ودعوني أعود بالذاكرة الى تلك الفترة واتذكر مجلة “الكتاب” العراقيين وهي مجلة لم تستمر أكثر من ثلاثة أو أربعة اعداد، لان الجانب السياسي في العراق كان سريع الجريان وكان الصراع بين اليساريين وبين الفكر القومي أو بين اليساريين والفكر الليبرالي كان سريعا وحادا مما أدى الى عدم استمرارية المجلة.
وفي العدد الأول من المجلة نشرت قصيدة للسياب وقصيدة لي ويا للمفارقة.

فرح الموت

قصيدتي كانت في رثاء شخص القصيدة هي (فرح الموت) كتبها الشاعر في رثاء عمه السيد محمد باقر الشخص (1315 / 1381هـ) وهي من المراثي العمودية الفاقعة اللون وكان مطلعها
أكذا يقذف البراكين نبع
أكذا جهث القاع بعيني/ أكذا يرهف الصوارم درع؟
أكذا تجبن الحياة وللموت/ ويكبو الفجر الندي المشع؟
على ساعدي ينهال وقع؟
كل نت ايماءة الربيع با بعادي
اني نظرت ينداح فرع
فلماذا اصبحت نبع سهام
لفؤادي وكان لي منك ضلع؟
.. صحيح ان قصيدتي تعبر بلغة حديثه، ولكن جوها العام تراثي صرف وفاقع، أما قصيدة السياب فكانت “رؤيا فوكاي” وحينما قرأت قصيدة السياب وفيها يقول:

ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء

بأفجع الرثاء:

(هياي.. كونغاي.. كونغاي)
فيفزع الصغار في الدروب
وتخفق القلوب
وتغلق الدور ببكين وشنغهاي
من رجع: كونغاي، كونغاي!)

قمت أضحك واتساءل: (ويش جاي يقول.. ويش جاي يلخبط السياب.. كنت اعتبر ان قصيدتي هي المجلة كلها، لم يقل لي أحد ان هذا شعر حديث، وان مرحلة جديدة قد بدأت حيث لم يكن هناك جدل في المنتديات الأدبية حول هذا الشعر.. أنا الذي اكتشفت السياب لوحدي، واكتشفت المرحلة لوحدي بعد ان عدت الى المملكة).

في منتدى خوجة

ولتوضيح اكتشاف العلي للشعر الحديث قبل اكتشافه للسياب لابد ان نستعيد شهادته التي قالها في منتدى عبدالمقصود خوجة حيث يكشف لنا عن دهشة الاكتشاف الأولى بقوله (الشيء الذي شدني الى الشعر الحر الواقع ليس صدفة، وانما كان بائع كتب كان يجلس على الرصيف في شارع الرشيد، ولم يكن بالامكان في ذلك الزمان ان نشتري كتبا، انما نلتقطها من على الأرصفة، كانت قيمة الكتاب 20 فلسا، اشتريت ديوانا لشاعر سوداني اسمه صلاح ابراهيم، كان الديوان يضم شعرا حرا، منه هذه القصيدة التي اقرأ لكم بعضها، هذا الشاعر ذهب الى لندن، ويبدو أن عمره كان عشرين عاما وهناك تعرف على شعراء ومنها انبثقت قصيدته هذه، يبدو ان اسمها ماري فهو يحولها، ويحول اسمها الى ماريا، وفي هذا ما فيه من اعطاء شحنة هائلة للاسم يقول لها:

(يا ماريا
ليت لي ازميل فدياس
وروحا عبريقيا
وامامي تل مرمر
لنحتت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك
تمثالا مكبر
وجعلت الشعر كالشلال
بعضنا يلزم الكف
وبعضنا يتبعثر
وعلى الأجفان ليل يتعثر
وعلى الأهداب لغز لا يفسر
وعلى الخدين نور يتكسر
وعلى الأسنان سكر).

وهنا وباكتشاف العلي لجماليات الشعر الحديث من شاعر سوداني بعيد عن معترك الثورة الشعرية التي يقودها السياب والملائكة في العراق ووصل صداها الى كل الوطن العربي نتوقف.. لنبدأ مرحلة جديدة

 

محمد العلي
ابومكادي نحاس قادني الى منتدى خالد الفيصل

تمتد مسيرة وسيرة استاذنا محمد العلي طويلاً وعميقاً. ويبدو الوقوف على كل محطاتها انجازاً لا يمكن تحقيقه في كتابة واحدة او مشروع سريع، لذلك سنعبر بالأكثر الحاحاً والأشد وضوحاً، وهنا نبدأ من المرحلة التعليمية تلقيا وممارسة وهذه المرحلة التي ابتدأت من نيله لشهادة الثانوية وحتى التحاقه بكلية الفقه بالنجف التي أسسها الشيخ محمد رضا المظفر في عام 1958م، حيث قبلت الطلبة في الدورة الأولى وكان عددهم 45 طالباً بعد أن تقدم إليها 200 طالب من طلبة العلوم الاسلامية. تخرجت الدفعة الأولى التي بلغ عددها 35 طالباً بدرجة البكالوريوس في اللغة والعلوم الاسلامية عام 1962م وفي العام ذاته تم الاعتراف بمستوى الكلية ومعادلتها بالكليات الشبيهة بها في جامعة بغداد مثل كلية الشريعة وكلية التربية وكلية الاداب وكان من بين الخريجين شاعرنا الكبير محمد العلي وصديقه الشاعر مصطفى جمال الدين.. وآخرون. تخرجت الدفعة الأولى وتخرج العلي، واختلفت السبل بالأصدقاء.. فمنهم من أكمل دراسته، ومنهم من عاد إلى دياره وآخرون قرروا الدخول إلى سلك التعليم، ومنهم استاذنا أبو عادل وبسبب ظروف الحياة وأنه رب أسرة ويعيل أبناء وليس له مصدر للدخل، لذلك عين مدرساً في ثانوية النجف فور تخرجه، واستمر في هذا العمل لمدة سنتين عمق خلالها من علاقته مع المشهد الشعري العراقي وشارك في الامسيات ونشر في المجلات وزار بغداد كثيراً بسبب العلاقات التي تولدت مع زملاء الدراسة في الكلية. ولكنه برغم من كل الأجواء إلا أن الحنين عاوده للعودة إلى الديار وخاصة أن والده قرر بعد أن اختط طريقاً غير المرسوم له منع بقية إخوته من استكمال دراستهم مثلما خطط له وبالفعل وفي غضون أشهر وفي بدايات عام 1964م وبعد أن تهيأت الظروف عاد ابو عادل إلى المملكة، وفور وصوله وبعد زيارة لأسرته في العمران التي غاب عنها طويلاً.. فتغيرت وجوه وجدت معالم. وتشكلت ظروف جديدة.. بدأ يرسم ملامح خطوته القادمة فالعمران والاحساء عموماً لم تكن برغم كل هذا التغيير النسبي مناسبة له، لذلك توجه إلى وزارة المعارف بالرياض وقدم شهاداته، ورغبته في الانتساب لسلك التعليم وبالفعل صدر القرار مباشرة في تعيينه مدرساً للغة العربية في ثانوية الدمام، هذه الوظيفة وهذا المكان الذي سيغير شيئاً كبيراً في مسار حياته في السنوات القادمة.

استقر ابو عادل أخيراً معلماً في الشرقية، ولكن لم تكن اقامته بالاحساء حيث ولد بالدمام، حاضرة المنطقة آنذاك، واكثر مدنها حراكاً وحركة، وبدأ من عام 1965م مهامه معلماً للغة العربية، ولكنه لم يكن معلماً عادياً، كالذين تقذف بهم المعاهد آنذاك، كان ملتزماً بالاحلام والطموح والرغبة في استكناه الاشياء نحو الاجمل، والاكثر بهاءً، لذلك مد جسراً بينه وبين تلاميذه واستطاع ان يقترب منهم، ومن المصادفات ان يكون معه في نفس المدرسة وقادماً معه في نفس السنة الدراسية شاب اردني للتو قد تخرج من جامعة عين شمس بالقاهرة وهو حاصل على بكالوريوس اللغة الانجليزية وآدابها هو سالم النحاس والد الفنانة المبدعة «مكادي نحاس» الذي سيغدو وبعد سنوات روائياً شهيراً، الاستاذ نحاس اتفقت رؤاه والعلي منذ اللقاء الاول واستمرت العلاقة بعد ذلك الى الآن، وبالرغم من انه لم يدرس معه الا الفصل الاول في مدرسة الدمام حيث انتقل بعد ذلك الى ثانوية الدمام التجارية وبعد ذلك للرياض للعمل في رعاية الشباب حين كان رئيسها آنذاك الامير خالد الفيصل.. إلا ان اسم العلي ترسخ في ذاكرة النحاس، ولذلك عندما انتقل الى الرياض وشرع في المشاركة في ندوة خالد الفيصل الثقافية كان الاسم الاول الذي خطر على باله للمشاركة في هذا المنتدى من خارج الدائرة المعروفة آنذاك كان اسم استاذنا العلي ويذكر ابوعادل تفاصيل هذه المشاركة بقوله “كان الاستاذ سالم نحاس زميلاً لي في ثانوية الدمام وانتقل بعد ذلك الى عدة وظائف حتى استقر به المقام في الرياض موظفاً في رعاية الشباب، وكان الامير خالد الفيصل رئيساً لها، ولاهتمامات الامير الثقافية ولوجود عدد من المتنورين في محيط عمله، انشأ منتدى الاربعاء وهو منتدى ثقافي تطرح فيه اوراق العمل ويتم الحوار حولها بعد ذلك، ولوجود الاستاذ النحاس في هذا المحيط اقترح اسمي للمشاركة مبادرة منه، وكان موضوعها عن الشعر السعودي المعاصر وأظن تاريخ هذه المشاركة كان 1969م، ولانني كنت للتو عائداً للمملكة ومعرفتي بالاسماء المبدعة وبحركة الشعر في المملكة لم تكن مكتملة، فقد اجبرني ذلك على الحصول على اكبر قدر من المراجع والمصادر والدواوين واستجلاء الموقف الشعري في بلادنا، وكانت حسنة جميلة لهذه المشاركة ان عرفتني بما يحدث شعرياً عندنا.. كما انها عرفتني على عدة اسماء معرفة مباشرة اذكر منها عبدالله نور وفواز عبيد اخذتنا محطة سالم نحاس الى مرحلة جديدة في حياة العلي، فتح فيها افقه على مدار الوطن الاوسع حيث كانت المشاركة هي البداية لكثير من المشاركات الفكرية المثيرة وعدد قليل من الامسيات، ولكن لاستكمال سيرته ومسيرته لا بد لنا ان نعود الى الدمام واسأله.

استاذ محمد ها أنت الآن في الدمام.. كيف كان الواقع المعاش حولك وكيف تكيفت مع بيئتك بعد سنوات طويلة من الاغتراب؟

فيرد قائلاً:
اصدقك القول لم يكن هينا ولم يكن التكيف سهلاً، خاصة وان الوجوه التي شاركتني بهجة اكتشاف الحياة وحرقة الوعي بالشعر كانت بعيدة عني، واذكر ان اصدقاء اسرة الادب اليقظ على عادتهم في كتابة الاخوانيات ارسلوا لي قصيدة مشتركة كتب كل واحد منهم بيتا او بيتين فيها يذكرونني بايام الدراسة وذكريات الشعر ويسألون عن حالي وهل حياتي الجديدة انستني حياتي معهم فرددت عليهم بقصيدة لازالت ترن في اسماعي اقول فيها:

“أهنا تربتي؟ اهذي التي انسلت رهافاً من غمدها اجدادي
أهنا، حيث ادمنت نكبة الانسان من كأس حاضري وتلادي
سوف أحيا؟ أعيش؟ دون انتظار لفراق، او شهقة لمعاد؟
يا حياة اركضي فقد ذبل النور وشل العناد صوت الحادي

متعة السفر

هكذا كانت مفارقة الواقع الجديد والمستمر ولكن ابوعادل الذي جرب مكائد الغربة وفتنتها لم يستكن ووجد في السفر منفذاً للروح والقلب، ولهذا كانت رحلاته وقوداً للروح كي تتجدد ويصف ذلك بقوله “ما أن انتهت السنة الدراسية الاولى لي في الدمام حتى عزمت مع العائلة على السفر الى سوريا، صحيح انها كانت رحلة استجمام خاصة لم ازحمها بلقاء الاصدقاء الا انها كانت لي تحولاً جديداً في حياتي.
ويصف ابوعادل هذا التحول نصاً في امسية تكريمه بقوله “سوف اتذكر الآن حيث كنت اقضي اجازة الصيف في سوريا برفقة عائلتي.. ووجدت في احدى المكتبات ديوان السياب “شنانيل ابنة الجلبي” وكنت استأجر بيتا في منطقة الخضراء في منطقة رهيبة وامامنا يجري بردي.. وبدأت اقرأ الديوان فوجدت عالماً آخر “انا وين وهو وين” اكتشفت عندها خطأي الكامل.. واكتشفت ان علي ان اجدد نفسي او اموت.

عكاظ
الأربعاء 18-06-2008