حسن عبد الله
(لبنان)

شادي علاء الدينشادي علاء الدين شاعر لبناني شاب، عرفناه في مقالاته وكتاباته في الصحف اللبنانية، قبل أن يطل علينا شاعراً في باكورة له سماها «عنكبة» عن دار الانتشار العربي. «العنكبة» هي الوردة المحروقة على ما أوضح علاء الدين. عن إصداره، ولغته، وقراءاته كان هذا الحوار.

* نبدأ الكلام معك بسؤالك عن هذا العنوان الغريب «عنكبة». لماذا هذا العنوان؟ ولماذا لا يشبه عناوين الشعر؟

الوردة هي الذاكرة وما نعرفه عنها وما نحسه تجاهها وما تثيره فينا من انفعالات أصبح معروفاً ومشروحا ومدروسا، أما ما أريد أن أفهمه هو الوردة في اصطدامها بالعوالم السفلية للغرابة والسر. العنكبة هي الوردة محروقة. العنكبة هي محاولة كتابة السيرة، من هنا فحين نرى الوردة محروقة فإننا سوف نبحث بالتأكيد عن معنى آخر وسنعرف أن الوردة لها أطوار وتستطيع إقامة علاقات مع شبكة دلالية أوسع من فكرة الرهافة والأناقة التي طالما حوصرت بها الوردة وفكرتنا عنها. هو أن تنظر في عين الوردة وهي تحترق وتحاول استئصال نظرتها وكتابتها أيضا، وهكذا تنجو الوردة من بلاغة التكرار، وينجو العنوان من التأريخ.
لا يشبه هذا العنوان عناوين الشعر لأنه ليس وردة معرّفة ترمى في مقبرة جماعية.

* لماذا الشعر باكورتك وليست القصة أو الرواية مثلا. ما الذي يتحدد في الكتابة كي نسميها شعرا برأيك؟

أعتقد أن الأمر برمته يعود إلى حجم السذاجة الذي يتوفر بكثافة في هذه المرحلة ثم قد يتعرض للهرم أو الذوبان في مراحل لاحقة. الرواية ليست بنت السذاجة بل هي بنت التعقل والوعي والقصة، لذا نجد أن الرواية هي بنت هذا الزمن وحليفته وليس الشعر كذلك.
ما يجعل من أي كتابة شعرا هو الجهل، فالشعر هو الكتابة التي لا تعرف، وهذا الفرق الهائل بين رامبو وفوكو. لم يكن رامبو إلا صبيا يموت رعبا من الجيش والسجن، وبقي كذلك، في حين أن فوكو فسر السجن وربما عرفه. من هنا يكون فوكو شاعرا في النزوع الذي دفعه إلى الكتابة وليس في الكتابة نفسها، في حين أن رامبو بقي شاعرا في الحالتين، لأن الخوف والجهل تمثلا في الكتابة بحالتهما الأصلية، وحافظا عليها. كل من يتعاطى الكتابة يتردد بين هاتين الهوايتين، والتصنيف يتحدد فقط بغلبة الانشداد نحو أحدهما ليس إلا. هذا إذا كان التصنيف ممكنا.

السهولة والإبهام

* تتهم قصائدك بأن فيها قدرا كبيرا من الصعوبة ما يجعل فهمها متعسرا، فهل هذا الأمر مقصود؟ ولمن تتوجه في كتابتك وكيف تبني علاقتك بالقارئ؟

لا أعتقد أن الفهم هو الطريقة المناسبة للتعاطي مع الشعر. يمكنني في هذا الصدد أن أطرح أسئلة عديدة تتعلق بمعنى الفهم وحدوده وما الذي يضفيه على عملية التواصل مع العمل الشعري. هل يفتحها أم يقفلها وهل يغنيها أم يفقرها؟

الفهم هو طريقة لغلق العمل الشعري ووضعه على الرف، أو في خزانة الرعشات التالفة، وهو مثله مثل الإبهام وسيلة للاستعلاء وليس للتواضع كما يعتقد. الشعراء المفهومون جيدا هم الشعراء الأكثر نرجسية والأكثر ابتعادا عن التواضع، ولنا في نزار قباني مثل على ذلك. والشعراء الذين تتسم أعمالهم بالصعوبة هم متواضعون إلى حد كبير وأضرب مثلا على ذلك شوقي أبي شقرا وعباس بيضون. السهولة هي لعبة تسويق تقوم على تجانس الشاعر مع الجمهور في حدود ثقافته، وهكذا لا يكون الشاعر صانع ثقافة، بل يكتفي بدور الطباخ الذي يطبخ انطلاقا من وصفات معدة مسبقا. الصعوبة تفرضها جدية الشاعر في التعاطي مع العالم ومع عواطفه وقد سبق أن حددت أن ما يجعل أي عمل كتابي شعرا هو الجهل. الشاعر الذي يكتب قصائد صعبة هو من يكتب من الأسئلة أي من الجهل والشك والألم والجحيم والضياع، وهو الشاعر الذي يراود اللغة ويعشقها ويتعبدها ويرجوها أن تسمح له بالإقامة في الأماكن التعبيرية التي لا تطالها سلطتها القاسية، وهذه الأماكن لا يمكن التقاطها إلا باللغة، هذه خريطة المتاهة وعقلها.
عندما تقول لامرأة أحبك، فإنك تعرف أن المشاعر التي تريد التعبير عنها هي أكبر بكثير من المعنى الذي تستطيع هذه الكلمة حمله، وأن هناك خسارة قاسية تحدث مع التعبير عن العاطفة، وهذه الخسارة لا بد منها لأنه من دونها لن يعرف الآخر بأنك تكن له عاطفة، وهكذا تستحيل العلاقة. كل علاقة في اللغة هي عمارة من النقص والخسارات، فالمرأة تفهم ما تعنيه كلمة أحبك، وكذلك اللغة تعرف ما تريده من مفردتها تلك. من الضحية في هذه المعادلة؟ أعتقد أنه الشعر. المحل الضيق الذي يعطى له في عملية الفهم تماثل هذه الحالة التي ذكرتها. أعتقد أن فكرة الصعوبة كما أفهمها وأتمثلها في عملي وفي أعمال من أحب من الشعراء هي محاولة للتقليل من حجم الخسارات.
لذا فإن كتابتي تتوسل وتترجى وتستعطف، انطلاقا من المكان الذي يظن الكثيرون أنها تجلد وتؤلم وحتى تقتل.

* لمن تقرأ ومن هم شعراؤك وملهموك؟

إن أهم حدث أدبي في حياتي هو قراءتي ألف ليلة وليلة وأنا لم أتجاوز العاشرة من العمر. كانت العبارات الجنسية مستغلقة على فهمي، لكنها كانت تثير فيّ حشدا من الدغدغات اللذيذة. كانت عبارات مثل كانت درة لم تثقب، ومطية لغيره لم تركب، تثير في نفسي حس الثقوب وغرامها وهو الأمر الذي لازمني إلى الآن والذي كان المرض الأساسي الذي جرني إلى درب الشعر. بعد ذلك رحت أقرأ كثيرا بلا هوادة، ولقد قرأت الكثير من الكتب السخيفة وأعجبت بها.
رواية «دون كيشوت» كانت عاصفة أدبية، فمنذ أن ضربتني أصبحت من رهائنها، ثم أتاني هنري ميلر بثرثرته المعجزة فأخذني إلى عالم المدارات.
إبراهيم الكوني هو الكاتب العربي الذي أؤمن به بشدة، وأعتقد أنه مخيف وجبار، فحين تعرف أن كاتبا في السادسة والخمسين قد أصدر حتى الآن أكثر من ثلاثة وستين عملا، فإنك لا تعود متصالحا مع أصابعك ومع كتابتك. التعاطي مع عمل إبراهيم الكوني هو دخول في عالم مغو يحتاج إلى ما هو أكثر من القراءة، يحتاج إلى عمل مشترك من الأعصاب والأحاسيس حتى يمكن التقاط شحنته المكهربة.
أحب من الشعراء الشنفرى ورامبو ورينه شار وشارل بودلير وإميل سيوران وفاسكو بوبا وبورخيس ووالت ويتمان وريتسوس وهنري ميشو وعباس بيضون ومحمود درويش وبسام الحجار وسعدي يوسف، وأحب من الشعراء الشباب ناظم السيد وفادي طفيلي.
أحاول الآن قراءة لاكان وموريس بلانشو وأعمال رواد مدرسة فرانكفورت ولا أعلم إن كنت سأنجح أم لا.

* هل تعتقد أنك صاحب مشروع شعري؟

لست على الأرجح صاحب مشاريع، لكنني صاحب رغبات. ما أنا متأكد منه هو أن لدي رغبات شعرية.

ما تصنعه الصور

* كيف تحضر المرأة في كتابتك؟

كتابة المرأة هي قتل للكتابة وللمرأة، فعندما تكتبها تقتلها وكم تحتاج كل قصيدة من نساء ميتات لتكتمل، لذلك أعتقد أن الشعر هو المجال الذي يتحرك فيه السؤال عن المرأة وليس كتابتها. ألم يعلن فرويد أن الأنوثة قارة سوداء، وأنه يجب أن ننتظر الشعراء ليقدموا لنا شيئا في هذا المجال. الشعراء لا يقدمون المرأة أو يعرفونها فهم يقدمونها في دخان الشعر الكثيف فتبدو بلا ملامح على الإطلاق، أو هم يقدمون نساءهم اللواتي لا نعرفهن، واللواتي من غير الممكن الالتقاء بهن إلا في القصيدة.
لقد قلت في إحدى قصائدي العرق الصلب امرأة. أنا أخاف من المرأة فهي تجر عرق الحب الذي يجب أن يكون حارقا على الدوام إلى الصلابة، وهذه الصلابة تتحول إلى فتور مع فكرة العائلة وملحقاتها. المرأة مؤسسة جدية ولا مزاح معها. إنها فاعلة الآن في التشابه وليس في الاختلاف. أحب المرأة كما أحب الموت، ولكن الكتابة هي فعل تأجيل للموت ونجاة منه. من هنا كان حضور المرأة في كتابتي مقتصرا على الظلال. الظلال في الشعر هي السلطة كل السلطة.

* نلحظ في مقالاتك ومتابعاتك اشتغالك على الصورة أكثر الفنون البصرية حداثة، وهذا الأمر موجود في كتابك. هل ينحو الشعر نحو السينما مثلا أكثر من الكلمة والخيال؟

هل كانت أحداث 11أيلول وقعت لو لم تلتقطها الصورة؟ هل كنا قادرين على تلمس كل هذا الهول لو لم تلتقط الكاميرا الحدث فور وقوعه؟ أصبح الحدث حدثا لأن الكاميرا التقطته وليس العكس.
هؤلاء الاستشهاديون، الذين تكون لحظتهم الأخيرة هي اللحظة التي تقبل فيها الكاميرا بتزويج أجسادهم المتناثرة مع بلاغة الحفظ التي تمثلها، هل كانوا قادرين على صناعة مثل هذه البلاغة بواسطة أي موت آخر؟ الكاميرا تقوم الآن بالمهمة التي كانت معطاة للغيب، لكن جدليتها قائمة في حضورها الدائم، فكيف تكون غيبا وغيابا وهي التي لا تكف عن الحضور بإلحاح مضن وقاس؟

حضور الصورة هو حضور بنفسها وليس بالموضوع الذي تمثله. من هنا فإن ما يحضر فعلا ومن يحضر فعلا فيها ليس الشخص أو الموضوع بل ما تقوله الصورة عنه، وما تشاء أن تحفظه وهكذا لا شأن للحياة الفعلية والواقعية في صناعة توجهات الصورة. من هنا تكون الصورة بنتا للموت وقرينة له.
العمل الشعري يسعى إلى مقاومة إرهاب الصورة بواسطة التركيز على أهمية الموضوع الصانع للصورة. فحين ترسم صورة شعرية عن امرأة تحبها فأنت تحاول القول إن هذه المرأة هي الصورة كل الصورة، وإنها حاضرة بنفسها، وإن حضورها متصل بالحياة وليس بالموت. الصورة الشعرية لا تشبه الصورة في السينما ولا الصور الفوتوغرافية، إنها فعل مقاومة للموت الذي تبثه الصور وإعادة السلطة على الخيال بجعله ما نرغب فيه نحن، وما نأمله ونشتهيه، وليس ما تصنعه الصور، فالصور لا تصور خيالنا بل تدفنه وتقتله.