اسكندر حبش

شوقي بزيعثلاثة كتب صدرت أخيرا للشاعر اللبناني شوقي بزيع هي «صراخ الأشجار» و«لا شيء من كل هذا» (دار الآداب) كما مختارات من شعره بعنوان «كل مجدي أني حاولت» (عن الدار العربية للعلوم في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر)، حول ذلك، كان هذا الحوار.

* بعد صدور أعمالك الكاملة، قلت لي إنها جزء من مرحلة، وستبدأ مرحلة جديدة. ومن بعدها أصدرت كتابين كما أصدرت مختارات شعرية. كيف تنظر إلى هذه المرحلة الكتابية الجديدة؟

أولا لنحدد إنها «الأعمال الشعرية»، فأنت كما تعرف استبدلت صيغة الأعمال الكاملة بصيغة الأعمال الشعرية حتى لا نقول الأعمال غير الكاملة كما استخدمت التعبير الروائية غادة السمان. إذ مجرد أن نتحدث عن الكمال فهذا معناه أننا نتحدث عما هو ليس من طبيعة الفن أو الكتابة. الكتابة هي بنت النقصان، وأي حديث عن الكمال هو حديث عن موت ما، سواء تعلق الأمر بالشعر أو بالحياة نفسها. وبخاصة أنه ينتابنا شعور بالأسى حين نجد أن هذه الأعمال لا تشغل في مكتباتنا سوى حيز صغير جدا، هي جزء من رف في مكتبة كبيرة. وعندما تنظر إلى الحياة التي اجتزتها ترى أنك جازفت بحياة ثمينة جدا ولا تعطى سوى مرة واحدة مقابل بضع مئات من الأوراق ولذلك تشعر بأسى كبير وأنت ترى نفسك محصورا في ضريح ورقي هزيل ضمن مكتبة كبيرة. وتشعر فجأة أنك انضممت إلى ما يمكن أن تسميه قائمة الشعراء الموتى أو جمعية الشعراء الموتى وفق الفيلم الشهير. ربما، يولد هذا إحساسا بالانقطاع عن الكتابة أو بالجفاف، طبعا أن تعود إلى الشعر بعدها، ليس معناه أن ذلك يأتي بناء على قرار مسبق أو قرار متعمد بأن تتجاوز تلك اللحظة المأساوية. يأتي هذا الأمر تلقائيا والكثير من الشعراء الذين أصدروا أعمالهم الشعرية عاودوا الكتابة من جديد وليس بالضرورة أن تكون الكتابة التي تتبع الأعمال الشعرية كتابة تأسيسية، لا يتغير شيء سوى أن ما يصدر هو العمل الأول بعد الأعمال الشعرية. طبعا من الأفضل أن يكون في كل كتاب تجاوز للكتاب الذي سبق أو انعطافة ما أو نكهة خاصة. إذ تحقق هذا الأمر فيكون جيدا لكن على الأقل يجب على الشعر أن لا يعود إلى الوراء في ما يكتبه أو أن لا يكرر نفسه بشكل آلي.

الكتابة والموت

* قبل أن نتحدث عن التأسيس والقطيعة بمعنى من المعاني، يثير جوابك سؤالين على الأقل: تقول إن الكتابة هي بنت النقصان وكأنك في المختارات التي صدرت لك «كل مجدي أني حاولت» تحاول أن تثبت هذا النقصان، أي كأنك تعتبر بمعنى من المعاني، أن ثمة شيئا لم يتحقق بعد في الكتابة عندك، أي أن محاولة الكتابة هي الأهم. ما رأيك؟

تقوم الفكرة على مبدأ الكتابة نفسه لأننا نعرف فيما نكتب أن الكتابة لن تحمينا من الموت وأنها لن ترد عنا تلك الرياح السوداء العاتية التي تعصف بنا وخاصة في المقلب الآخر من العمر. لكن يبدو أننا نفعل بالكتابة ما فعلته شهرزاد بشهريار، أي أنها تراوغ ذلك الاستحقاق بالموت الذي ينتظرها في ما بعد. ولكن شهرزاد استطاعت أن تنجو بجلدها من سيف شهريار وهذا هو جمال الكلمة وسرّها الأهم ولكن أعتقد بالنسبة إلينا، نحن، ليس ثمة من نجاة، وحتى شهرزاد في أي حال، لقد نجت من سيف شهريار لكنها لم تنج من سيف الموت الذي أتى في ما بعد. المسألة مسألة مراوغة وأعتقد بأنه علينا شرف المحاولة لأننا إذا انطلقنا من فكرة أننا كائنات زائلة وأن الموت هو ختام لكل شيء فهذا يؤدي إلى التعطيل الكامل، إلى نفي الحياة، إلى نفي الفعل الإنساني، لأن هناك إحساسا باللاجدوى أو العدمية المطلقة مع علمنا بأن الموت قادم، نحن نحاول أن نسد هذه الفجوة القائمة بين موت ما قبل الولادة وموت ما بعد الحياة بهذا التلهي الجميل بالكلمات، بإشاحة الوجه عما ينتظرنا وفيما نحن نفعل ذلك نكتشف أننا نقدم أعمالا ممتعة فيها شيء من الخلق، من التجاوز وفي الحالين يكون الحل مقبولا. أما في ما يتعلق بالمختارات الشعرية، فبصرف النظر عن الاسم، ترددت قبل أن أصدر مختارات شعرية وأوضحت ذلك في مقدمة المختارات باعتبار أن الشعر بحد ذاته هو مختارات. حتى القصيدة عندما تصدر في ديوان أول هي مختارات بحد ذاتها، لأن ما ننشره على الورق ليس سوى جزء يسير من المسودات التي نحتفظ بها أو التي نمزقها قبل النشر، وبأن هناك جزءا أساسيا من اللغة يتم إعدامه بقرار منا ونحن غير متيقنين بأن ما حذفناه هو الأقل قيمة أحيانا قد تكون المسودات أجمل من الأشياء المنشورة وعندما نقبل في النشر فنحن اخترنا مما كتبناه هذا الصيغة أو هذا الشكل...

هناك تواطؤ ما...

* طبيعي، من هنا يقال إن الشعر هو لغة في اللغة، هو اللغة المصفاة من هذه اللغة الأشمل والأوسع التي بدأنا بها الكتابة. وعندما نصدر بعد ذلك أو نقتطع من نتاجنا الشعري بعض هذا النتاج أيضا نعرضه إلى تصفية أخرى، إلى مختارات أخرى ونحن أيضا غير متيقنين بأن ما اخترناه هو أفضل مما تركناه. عندما نختار كأننا نقول للناس هذا أفضل ما لدينا. من الذي يثبت ذلك؟ وما الذي يمنع من أن القصائد التي أهملناها هي الأفضل؟ ولذلك أحترم رأي بعض الشعراء الذين لا يصدرون مختارات، وإن كنت لا أنفي عن نفسي صفة الانحياز إلى بعض القصائد التي تكون مرتبطة بشيء عاطفي لديّ ويمسني تماما في الداخل من حيث التجربة والتكوين الأول للكتابة والشيء الآخر، القصائد التي أشعر بأنها تشكل محطات أو مفاصل في حياتي الشعرية.
سأعود إلى سؤالي الذي أجلته حول القطيعة، اعتبرت أن الكتابة بعد الأعمال الشعرية، ليس من الضرورة أن تعتبر قطيعة، لكنني أجد أن هناك قطيعة كبيرة، على الأقل من حيث الموضوع، لقد اخترت موضوعا أعتقد أنه لم يتم التطرق إليه بعد في الشعر العربي والذي حاولت أن تتحدث فيه عن الأشجار، لا بالمعنى الطبيعي أو النباتي إذا جاز التعبير بل وكما أقرأ ذلك محاولة لاستنطاق الشجر واستنطاق الحياة والكينونة والذات عبر رموز الشجر. هل لا تعتبر أن في ذلك نقلة ما؟

عندما كنت أنفي مسألة التجاوز فلأني كنت أستند إلى تجارب شعراء سابقين، أي عندما قرأت بعض أعمالهم لم أشعر بأنها كانت تتجاوز أعمالهم الشعرية وبعد ذلك صدرت في جزء ثالث مثلا، بمعنى أن الأعمال مستمرة. إذا النقلة هي نفسها التي تحدث بين مجموعة سابقة ومجموعة لاحقة في الأعمال الشعرية، إذاً ليست مسألة حادة إلى هذه الدرجة. ولكن بالنسبة إلى تجربتي، في الواقع لم تأت الأمور متقصدة، تجربة الأشجار كانت تلح عليّ من فترة طويلة، وهي مبنية على علاقة شغف وتماس دائم وتداخل مع هذه الكائنات التي كنت أرى فيها وجها من وجوه البشر، يعني ولأسباب متعددة، دائما أرى إلى الشجرة بوصفها إنسانا أو على الأقل بوصفها كائنا حيا شبيها بالإنسان أو مختلفا عنه لكن من الممكن أن تخاطب الإنسان وتدخل على خط حواسه وحياته من أكثر من مكان. في الأشجار شيء فردوسي يذكرنا دائما بالجنّة الأولى، شيء له علاقة بالخطيئة الأصلية، بجوهر التكوين نفسه، ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يوعد الإنسان بجنة أخرى مماثلة، يتداخل فيها الشجر مع النساء مع الإغواء مع المرأة، الخمرة المحرمة لها أيضا ما يعادلها رمزيا على مستوى صدر المرأة وجسدها. غالبا ما تخطر لي الأشجار على شكل نساء أكثر مما تخطر على شكل رجال. قد يكون الأمر معكوسا بالنسبة إلى المرأة لأن للأشجار بعض الدلالات الإيروتيكية الذكورية، وهذا يحدث في الطبيعة وتستعين بعض الأفلام كثيرا بهذه المسألة لكي تظهر كيف أن الإيروسية موجودة في الشجر نفسه مثلما هي موجودة في الحيوانات في الريف. كل هذه الأمور اختلطت في ذاتي، لم يكن هناك شيء مصمم، كان هناك نوع من التماس العميق، حالة نشوة وسكر بهذه الكائنات الرائعة التي تهب دائما من جهة الطفولة والتي تلفح العمر بشكل متواصل، التي تعدني أيضا بأحلام منتظرة في الشيخوخة. المفارقة أنني أشعر بأن الشجر هو المهد واللحد كما كان سريري مصنوعا من خشب السنديان وترعرعت على إيقاعه، أشعر دائما برغبة العودة إلى سرير خشبي، ليس بالضرورة السرير الذي ولدت فيه ولكن أحلم بأن أدفن وسط حديقة، وسط غابة من الأشجار وبأن أعود إلى التماهي مع نسق الجذور، مع تلك الحالة الشجرية التي نكون ملتصقين بها بعد الموت حيث تختلط بقايا الإنسان أو رفاته بالجذور. وأريد أن أقول شيئا هنا بأن المجموعة تأسست من خلال حلم كان هو الدافع المباشر للكتابة. في ذات يوم وكنت قاطنا في مبنى، في الطابق التاسع، أي في مكان ليس فيه أي شجرة، وفجأة سمعت طرقا على الباب، وشعرت بأني بين النائم والمستيقظ، وعندما فتحت الباب، وجدت أمامي عددا هائلا من الوجوه التي أعرف بعضها، وبينها وجه أمي ووجه أبي وجدي وجدتي ولا أعرف البعض الآخر، ومعهم عدد من الأشجار ومن الماعز وحيوانات القرية التي عشت في كنفها، في الطفولة، فعندما سألتهم ما الذي تفعلونه هنا، قالوا جئنا لكي نعيدك إلى مسقط رأسك. فقلت لهم ولكنني استقلت منذ زمن بعيد وذهبت بكم إلى القصيدة فقالوا كل شعر العالم لا يعنينا، تعنينا عودتك أنت. والأطرف من كل ذلك إن إحدى الأشجار قالت لي إلى متى سأحتل أنا المكان الشاغر الذي يجب أن تشغله أنت في قريتك، كأنني أعيش نيابة عنك كأنني أحتل ذلك المكان الذي يجب أن تعود إليه. لا أعرف كيف تكوّن هذا الحلم وشكل أساسا للكتابة الموجودة أصلا...

* يقودنا ذلك إلى السؤال التالي: هل ولد هذا الكتاب من الإحساس بفقدان ما. أي فقدت طفولة تعود إليها من خلال الشجر؟ ثانيا، تحدث عن الوجه الإيروسي وعن وجه المرأة، كم كان حاضرا أيضا الوجه الديني: شجرة الخير وشجرة الشر؟

بدون شك، في ما بعد، حينما بدأت بالكتابة وبالمناسبة استغرق الكتاب مني أربع سنوات، ويبدو ذلك من خلال تأريخ القصائد المنشورة كنت أتمثل الشجرة من جميع زواياها سواء بتكوينها التفصيلي من حيث الجذوع والأوراق والثمار أو ما سوى ذلك، وأصغي إلى أصوات تلك الشجرة وتمظهراتها المختلفة. أحيانا إلى ما تمثله على مستوى الأساطير والرموز. بدأ الأمر مع الزيتون الذي له دلالات في القرآن والتوراة، حيث له رمزية مهمة جدا، لكن بوجه عام، مع الخروب مثلا اختلقت أسطورة كاملة عن هلالين يقتتلان في السماء من أجل نجمة، يتحول أحدهما إلى بدر والآخر يسقط إلى ثمرة في شجرة الخرنوب... الحقيقة هناك تنوع لكن دائما كان هناك محاولة خلق أسطورة متخيلة ليس بالمعنى التقليدي للأسطورة ولكن الإصغاء إلى أعمق ما في هذه الأشجار من دلالات، إلى ما تخاطبني من خلالها وكان لدي إحساس دائم بأنه قد يكون أصل الإنسان شجرة وليس قردا كما ادعى داروين ذات يوم. قد يكون الشجر أصل البشر، قد يكون مآلهم هو الشجر، لكن لا شك أن هناك شيئا ما. عندما أنظر في زهرة الدفلى مثلا، هي لم ترد في الديوان، لكنها وردت في قصيدة سابقة في ديوان «وردة الندم»، أشعر بأنها تتغذى من بُعدي الحياة والموت كأنها في المكان الوسط، بين ثغور النساء ودم الشهداء، أي بين طقسي الحياة والموت تماما.

* هل كان هناك، مثلا، أي دور للشعر الصيني، بمعنى أنه لو عدنا إلى الشعر الصيني القديم، لوجدنا أن هناك حيزا للشجر والطبيعة؟

الياباني أيضا

* بالتأكيد، مع الهايكو

أعتقد بأنه يكون نوع من التخاطر أو التوازي في العلاقة، على الأقل قرأت الشعر الصينــي واليابــاني مترجمـا، ولم تكن الفكرة مستلهمة من تجارب أخرى لأنها كانت نتيجة إلحاح داخلي وهذا يبدو في القصائد، لكن هذا لا يلغي أبدا أن هناك إفادة من تجارب عالمية منها تجربة هاري مارتينسون في «باقة برية»، في حديثه ليس عن الأشجار فقط، وإنما عن كائنات الطبيعة الصغرى، عن بعض الأعشاب، عن بعض القواقع، عن بعض الأصداف، لقد عاش حالة عجيبة. بوجه عام كانت التجربة نتيجة إلحاح داخلي وسأقول لك أيضا عن علاقة النساء بالشجر. أكيد، وكما أن نصف شعري هو شعر عاطفي وحب، هناك نوع من علاقة شغف داخلي نشأت بيني وبين الأشجار لاعتقادي بأن هذه الأشجار تقدم حالات أنثوية بارزة أحيانا ومستترة أحيانا أخرى ولذلك بدأت إشارات المجموعة في كتب سابقة، عندي مثلا قصيدة «ثلاثية الأشجار» في مجموعة «قمصان يوسف» وفي «سراب المثنى» هناك قصيدة «رياح متخيلة لانكسارات نون النسوة» حيث استشهد بقول لميوش يقول فيه «الرياح العالية تعوي بأسماء النساء الميتات منذ زمن طويل» ولكن لتعوي بأسماء النساء على هذه الرياح أن تمر على رؤوس الأشجار وبخاصة الأشجار الطويلة ثم تحميها لتصبح ظهور نساء ينتحبن على عشاق غائبين مثلا، وهنا تجدر الإشارة إلى أنني مفتون أشد الافتتان بخط الأشجار الذي يبدأ من غرب حمص وينتهي شرقها بطول أربعين كلم تقريبا. كل الأشجار هناك منحنية بما يشبه فعلا النساء الباكيات أو النادبات. وإذا أخذنا بالاعتبار أن ديك الجن قتل ورد في بساتين ميماس كنت دائما أعتبر أو أرى في تلك الأشجـار طقسا فجائعيا تندب من خلاله هذه الأشجار على ورد القتيلة أو على ما آل إليه ديك الجن في ما بعد.

السفير
8 يونيو 2008