رواية ثالثة مسرحها عدوان تموز 2006

علوية صبح

بلال جاويش «حكايا» كثيرة في رواية واحدة، وكتابة تعيد الاعتبار إلى الخطوط والتجاعيد التي تركها الزمن العابر. في «اسمه الغرام» (دار الآداب)، تواصل الأديبة اللبنانية تطريز خامة السرد بمعاناتها الحميمة المتداخلة مع ملامح شخصياتها، مُشركةً القارئ في اللعبة، تاركة لنا أن نتلصّص على مصائر بطلاتها ورغباتهن الدفينة.

حسين بن حمزة

في روايتها الجديدة «اسمه الغرام» (دار الآداب)، تلعب علوية صبح اللعبة نفسها مع القارئ. أبطالها ليسوا منقطعي الصلة بها. إنهم يتحدثون معها ويزورونها وتراهم في مناماتها... بل يناقشونها في مصائرهم ومنعطفات حيواتهم. هذا ما فعلته في روايتها الأولى «مريم الحكايا» وحضرت فيها باسمها الحقيقي، ثم في «دنيا» باعتبارها المؤلفة... وها هي تعود باسمها مجدداً. نهلا... بطلة الرواية توقظها من النوم وتقول لها في الصفحة الأولى: «قومي يا عمّي اكتبي وخلّصي. شو بدك ياني موت قبل ما تكتبي، حتى تكتبي على ذوقك وتغيري بالقصة متل ما بدك». وفي نهاية الرواية، تطلب منها ألا تغيّر مصيرها مثلما فعلت في رواية «دنيا»، وتقول لها: «اكتبي يا علوية اكتبي. اكتبي الغرام. وصدقيني إنك حين تروين عن رغبتي فسوف تحكين ما هو حقيقي لا ما هو ورائي».

علوية صبح

بعد ذلك، سنعرف أنّ نهلا أصيبت بالزهايمر واختفت، وأنها كانت تتراءى للمؤلفة بين الحلم واليقظة. زمن الرواية هو حرب تموز 2006، وثمة خوف من احتمال أن تكون نهلا ذهبت إلى قريتها الجنوبية وقضت هناك تحت القصف. الحديث مع الشخصيات يجعل الكتابة متداخلة مع الواقع الفعلي. ليس مهماً إن كان ذلك حقيقة أم مجرد إيهام. المؤلفة تُشرك القارئ في التأليف أو تتيح له التلصص على الكتابة. الصلة بين المؤلفة وأبطالها تخلق حيوية إضافية للسرد. لقد أثمرت هذه التقنية في روايتيها السابقتين، ويبدو أنها لا تزال مغرية وقابلة للاستثمار، أو لعلها باتت أسلوباً أو مناخاً أو فناً روائياً شخصياً. بهذا المعنى، يخطر للقارئ أن علوية صبح تكتب رواية واحدة في روايات عديدة. لا نتحدث هنا عن تماثل سطحي وبسيط في أعمالها، بل نقصد العمق والخلفية والمزاج الذي تعيش فيه الشخصيات والسرد.

تنبش في هويات نسائها وتتسلل إلى التصدعات والشقوق والندوب

الحكاية الرئيسة هي حكاية نهلا التي تحب هاني. هي تزوجت غيره وأنجبت، وهو تزوج غيرها وأنجب. الغرام القديم يعود ليجمعهما فيعيشان لذة جسديهما في المنقلب الثاني من العمر. الجسد الخمسيني هو البطل غير المعلن للرواية. معظم الشخصيات في العقد الخامس. الرواية تعود إلى سنوات النشأة والدراسة والعمل والعائلة والزواج، لكن نقطة الانطلاق أو اللحظة التي تراهن عليها صبح تتمثل في ما يمكن أن نسميه «غرام المخضرمين»، حيث الشهوات والغوايات والرغبات ليست فائرة بل غائرة، ناضجة لا فجة. تقول نهلا لصديقتها المقرَّبة سعاد: «حين نكبر يا سعاد يكبر حبنا ويصير ناضجاً وحلواً ويصير مذاقه طيباً كالعسل، ولا يعود فجاً، وكأن الروح تسترد مكانها في الحب والجنس، تأخذ محلها الذي حرمها منه فوران الحواس أيام الشباب وأزاحها جانباً (...) كأن الشهوة تُبطئ سيرها، لا لأنها اضمحلَّت أو ضعفت أو ذبلت، بل لأنها صارت أكثر استواءً ونضجاً».

الرواية هي مديح طويل لأجساد بات شبابها خلفها إلى الأبد. إنها مديح للخطوط والتجاعيد التي يصنعها العمر. مديح للحم الزائد والمترهل، غير البضّ وغير النضِر الذي يكتسبه الجسد وهو يكتهل ويتعرَّف إلى نفسه ودواخله أكثر. لكن الرواية، في الوقت نفسه، تركِّز على اكتشاف الجسد خارج الإطار والروتين الذي يصنعه الزواج والتقاليد. نهلا تعيش جسدها الحقيقي مع هاني، لا مع زوجها سليم. سعاد، الأستاذة الجامعية المتزوجة بأستاذ مثلها، تستسلم للصمت بعد تجربة جنسية مرتجلة مع صاحب محل لبيع الثياب المستعملة. عزيزة، المطلقة ثم الأرملة، تعيشه مع فادي الذي يصغرها بكثير ثم في زواج متعة مع الدكتور الذي عالج والدتها، قبل أن تستسلم لعلاقات عابرة. منى تعتاش من جسدها كي تصرف على أولادها. نادين تستمتع بمثليتها مع ميرنا. إنها حكايات نساء وحكايات أجساد تمر بمعمودية «الخيانة» لكي تكتشف أنوثتها الفعلية. لا تكترث الرواية لإباحة الخيانة أو حظرها بالطبع. إنها تتجاوز المفهوم الشائع والسطحي للفكرة، فضلاً عن أن اكتشاف الجسد في أَسِرَّة غريبة يبدو سلوكاً طبيعياً ومبرَّراً لنساءٍ يعانين الأمرَّين ويتلقين معاملة مهينة من أزواجهن.

تنبش علوية صبح في هويات نسائها وتتسلل إلى التصدعات والشقوق والندوب التي يخلِّفها جهل الآخر (الزوج غالباً) وعجزه عن التواصل الحميم والصادق مع رغباتهن. الرواية كلها تشتغل على هذا الجانب وتركِّز عليه. نساء ونساء ونساء ... لكنهن في رواية لا في نضالٍ مطلبيٍّ نسوي. لا تفلسفُ صبح ما تكتبه. تتركه في حيِّز الحكي والسرد. روائية «اسمه الغرام» تتحقق في «نسائيتها» الطالعة من الحياة اليومية الحقيقية، والممرَّغة في وحول التجربة وفظاظة الواقع. كأن المؤلفة تنحاز إلى القارئ العادي والجمهور العريض، أو تحاول ردم الهوّة بين هؤلاء وبين القارئ المتطلِّب. لكن من حق هذا الأخير أن يتساءل عن قلة التفلسف الداخلي والروائي للشخصيات في ظل استسلام الرواية الكامل لفكرة الغرام المتأخر. ثمة حوارات ومونولوغات عن الموضوع، لكنّ أغلبها من شائع الكلام عن الجسد والرغبة في ذاك العمر، فضلاً عن أن تمجيد غرام البطلين، نهلا وهاني، قد يبدو فضفاضاً على حكايتهما العادية.

عدد الثلاثاء ٤ آب ٢٠٠٩