عبد الرحيم الخصار

محمد السرغينيلا يحتاج الشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني إلى تقديم، بقدر ما يحتاج منّا إلى الإصغاء، فهو الحكيم والفيلسوف والشاعر والناثر والمجرب الكبير، والخبير أيضا بأسرار الكتابة، كان رائدا للتجريب حين مزج - في مختبره الخاص - الشعر بالسرد والتشكيل والفلسفة وعناصر أخرى، عاش بين فاس وبغداد وباريس، والتقى مبكرا بالحداثة الفرنسية في عقر دارها. عبر هذا الحوار نصغي إلى شيخ الشعراء المغاربة صاحب «بحّار جبل قاف» و«من فعل هذا بجماجمكم» و«وصايا ماموت» وغيرها. ونصغي أيضا إلى تجربته في الحياة والكتابة وهو يقف على أعتاب الواحدة والثمانين بشباب نادر وابتسامة شاسعة.

* أنت واحد من روّاد التجريب في الشعر المغربيّ، كيف تنظر الآن لمنجزك تحت هذه السماء، سماء التجريب؟

} أعتقد أن البحث عن الريّادة والإمارة في الشعر نوع من الدخول إلى ميدان سباق حيث لا متسابقون ولا أرنب سباق ولا نقطة انطلاق ولا محطّة وصول. سباق منذ البدء تنازل عن معناه حتّى لأصبح مرادفاً للهرطقة الإبداعية التي تنطلق من الهامش وإلى الهامش. إلحاح على مساومة ما لا يمكن طرحه للمزايدة. الشعر فعل نمارسه بكلّ حبّ ونحن عبره نقترح أنفسنا على الآخرين من خلال تفاعلنا معهم وانفعالنا بهم. هو فعل اجتماعي لا يجافي حالات الكائن المفرد المتدهورة أو الوضّاءة في تناسق مع حالات الكائن الجمع. هو التفسير البيّن الواضح لعلاقة الكائن الحيّ بالكائنات أيّا كانت هذه الكائنات. هو فعل دائم الاستمرار يمارس لا للّهو بملء الفراغات البيضاء في لعبة الكلمات المتقاطعة. هو ضمان لارتباط الكائن بحياته في حياة الآخرين. هو رافد مدرارٌ يمدّ نهر الحياة الراهنة بما يجعله مصبّاً مدراراً يغطّي حاجة الجزر البعيدة إلى المراهم التي يندمل بها جرح الإنسان المعرّض للخسف الدائم. هو النبع/المصبّ الذي يجعل من النهايات بدايات أخرى دائمة التجدّد ويراهن على استمرار الحياة بأحسن ممّا كانت عليه في السابق. هو فعل يفضح الممارسات التي تستهدف بقاء الإنسان رهن رقّيّة تمارسها عليه هذه الغارة العلمانيّة السائدة، رقّيّة ليست غير صيغة معدّلة لعقليّة التسلّط والضغط على أقدار الضعفاء المتروك إليهم فعل الأشغال الشاقّة التي بها يتألّه القويّ وبها يحافظ على كرسيّه ذي القوائم الآبنوسيّة. هو في النهاية فعل يراهن على الغد. إلى هنا ويبدو الشعر عبر هذا المفهوم فعلاً طوباويّاً قريباً من هواجس الحالمين، بعيداً عن أن يكون فاعلاً في المادّة التي طوّعها الإنسان الأوّل فخضعت له وبسبب خضوعها ذاك أتيحت له مفرداً أو جمعاً فرصة الاستمرار عبر التلاقح والتناسل. الشعر مع ذلك أو مع غيره أكبر من الحلم اللذيذ أو المجهض، من الكابوسيّ في الصحو أو في السُّكر، ولذلك كان عرضة لما لا يحصى من الاتّجاهات والحساسيّات والقراءات المتنوّعة بدءاً من التشكيل الصُّورِيِّ التقليديّ ومروراً بما دأب الناس على اعتقاد أنّه ثورة وتجديد وهو لم يمسّ في الواقع غير الشكل، ممّا جعله ينتهي إلى «هيرمينوطيقيّة» غائمة. من المتنبي إلى شوقي. من «أرثر رامبو» إلى «تريستان تزارا» أو»سان جون بيرس». من الحركات الشعريّة التي أنجبتها اللغات الإنكليزية والإسبانية والإيطاليّة والروسية عبر مخاض خلخل القناعات السابقة، سقطت الألقاب وبقي الشعر. أمّا الذين تستفزّهم هذه الألقاب فحصّتهم من الميراث سرعان ما تبيد فلا يبقى منها غير فقاعات من الزبد الأبيض الذي تقصيه رياح البحر العاتية نحو الضفاف حيث يستشهد على رطوبة رملها. يرث الشاعر فعله الشعريّ ويتسلّمه بتوقيعه على وصل بحيازته التي تعني أن يترك لنا ميراثاً مفتوحاً على المستقبل نتّفق معه أو نختلف في شأنه، وبين هذا الاتّفاق وذاك الاختلاف تكمن الصيرورة الشعريّة الدالّة على أنّنا أمام ميراث يستحقّ أن يكون نسقاً من بين الأنساق الشعريّة المتعايشة عبر مختلف اللغات. لكلّ ما سبق، فأنا لست مسؤولاً عن نسبة الريّادة إليّ دون غيري أو إلى غيري دوني. لم يكن هذا الإسناد من اختياري بقدر ما كان إسقاطاً من إسقاطات الآخرين من أولئك الذين عجزوا عن مواكبة ظاهرة شعريّة ما فغطّوا عجزهم بمثل هذه الدعاوى. إنّني لست معنيّاً إلا بشيء واحد هو استمراري الحثيث في التجريب الواعي، فبه تتأكّد العلاقة الجدليّة المبرمة بيني وبين اختياراتي. إنّني بصفة عامّة أتمنّى صادقاً أن أترك ورائي ميراثاً يستحقّ بالفعل أن يكون ميراثاً. إن تحقّق لي ذلك، فسوف أستطيع أن أزهو بأنّني ملأت قدر ذاتي من الفراغ طيلة المدّة التي قدّر لي أن أعيشها. لقد آليت على نفسي ألا أدخل أسواق مثل هذه المزايدات.

حساسيات

* شعرك حافل بالفلسفة، علاقة الصداقة هذه، هل هي شرعيّة؟ ألا ترى أنّها تحمّل النصّ الشعريّ أحياناً أكثر ممّا يتحمّل؟ أم أنّ الأمر مرتبط لديك بتلبيّة نداء داخلي؟

} لنبدأ أوّلاً بتعداد الحساسيّات التي انتهى إليها أمر الشعر العربيّ عند انخراطه العضويّ في مثاقفة جمعت في الأمس ولا تزال إلى الآن جامعة بين غالب ومغلوب، حتّى لأصبحت اليوم شرعةً ومنهاجاً. صحيح أنّه لا ضير في استمرار أخذ المغلوب عن غالب الأمس، لكن شريطة ألا يكون يداً عليا ليدٍ سفلى. شريطة ألا يكون هذا الأخذ مجرّد محاكاة من شأنها أن تمحو آثار الخصوصيّة وتستبدلها بقانون التبنّي ذاك الذي يؤول أمره إلى التدجين حدّ ذوبانٍ يطمس آثار المغايرة. هناك حساسيّات متعدّدة تخصّ ممارسة الإبداع الشعريّ يجب أن تبقى لكلّ منها مميزاتها الخاصّة بها على أن تتعايش بشكل ذكيّ في ما بينها تعايشاً يفضي بها انسجام لا يرفض المغايرة ولا يقبل الذوبان.
هناك حساسيّة الشعراء الذين يتوقون إلى إنتاج شعر يتجاوز الدلالة الحرفيّة للأشياء بتعويم هذه الدلالة في «سورياليّة» متكلَّفَة تصبح في الآن عينه هدفاً وغايةً، تحت داعي اختراق الحجب وفتح المجال الواسع أمام مجازات وكنايات واستعارات نكهة الشكل فيها طاغية على المضمون.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين تسلّقوا «البارناس» حيث صمّموا لهم على قمّته محراباً لا هو بالإغريقيّ الصحيح ولا هو بالذاتيّ الصريح. موجات من الغضب الصارخ بلهجة مبحوحة تتحدّث بلسان الحال عن واقع مقتبس تتسلّق ذراه بزلاّجات رياضيّي التزحلق على الجليد في مناخ رمليّ.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين تمكّنوا من الاحتجاج على فطريّة «الوعي الشقيّ»، فكان أن انحدروا بالوجدان في أعتى ضراوته الذاتيّة إلى مجالات الملكوت الكونيّ، ولم يكن قصدهم بذلك سوى الاحتجاج عمّا نالهم من إهمال متعمّد قُصِدَ به تهميشهم وطمس معالم اجتهاداتهم المتوالية.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين ألبسوا الدارج الحديث جزالة الصناعة القديمة، فكان أن وزّعوا قناعاتهم بين الأخذ والردّ، وبين الأخذ والردّ غامت الملامح إلى حدّ أن صعب التمييز فيها بين الوجه والقناع. لم يفصح مثل هذا المزج الكيميّائيّ إلا عن توليد لون ممتزج بألوان شهباء.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين وقفوا عند حدود «المابين» ولم يشحنوا بطّاريّاتهم بما يلزمها من الطاقة التي ستساعدها على الاستمرار في الحبو، فلا هم تابعوا المسير حافين ولا هم تسوّلوا من المارّة ما به يعيدون القدرة لأقدامهم الكسيحة على المشي ولو بالصيغة الافتراضيّة.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين شَعْرَنُوا اللحظة المعيشة المتجليّة في ممارسة الحياة اليوميّة بطقوسيّة احتفاليّة، ولمّا تمثّلوها بالنيابة عمّا سمّوه نثراً شعريّاً أخلّوا أوّلاً باختيار الصور الدالّة وثانياً بعجزهم عن إلقاء القبض على ما فيها من مفارقات وما فيها من نبضات مضيئة.
وهناك حساسيّة الشعراء الذين جعلوا الحداثة تطلّ على ما بعد الحداثة من زوايا نافذة ظنّوا أنّها كالمجهر قادرة على تقريب البعيد ولو كان في حجم ذرّة. ومن سوء الحظّ أن هذه النافذة يتسلّقها الذوق على مدارج مرمريّة لا تسلس قيّادها إلا لكبار الأبطال من متسلّقي جبال «الألب».
وهناك حساسيّة الشعراء الذين نصّبوا أنفسهم ـ بصفة غير شرعيّة - مسؤولين عن التبشير بقيم ما بعد الحداثة في عالم لا يصنع الحداثة وما بعدها، وذلك حين انحازوا إلى معيار العلمنة «الأنترنيتيّة» الذي يسهل الاتّصال بالبعيد الأبعد، وهم مجرّد «إيروتيكيّين» يستفزّهم عالم الصورة.
توالدت هذه الحساسيّات عبر سرعة قيّاسيّة وفي زمن تواتر فيه اللاّحق بالسابق حتّى تزاحمت فترات مخاض اللاّحق بالسابق في حركة مسترسلة مع اللواحق التاليات انسجاماً مع السرعة التي يدور عليها الآن محور هذه الحضارة الرقميّة. وهنا يطيب لي أن أشير إلى أن القصيدة أيّاً كانت لا يثقل كاهلها شيء غير الثرثرة التي هي تبذير يتجلّى إمّا في صورة تقعّر لغويّ أو في هذيان يمطّط الصورة الواحدة جرياً وراء الإبهار أو في تعسف مجاراة البدع المستحدثة في الشعر المعاصر أو في لوك استعمالات موسميّة سرعان ما يذبل بريقها أو في تجريد مفتعل أو في توظيف المتخيّل توظيفاً فجّاً لا تبرّره سلاسة النصّ الشعريّ. وهذا ما يجعلني أقول لا للفلسفة إذا كانت بمعنى الجدل والمماحكة ونعم إن كانت بمعنى التساؤل وفضح المقاربات النيّئة. لا للفلسفة إذا كانت بمعنى الإحالات الغامضة السجاليّة ونعم لها إن كانت بمعنى توليد نابع من رحم النصّ الشعريّ. بهذه المناسبة، ألحّ على التذكير بأنّ الشعوب المتخلّفة (ونحن منها) هي الأولى بوضع الأسئلة الحرجة ما دامت متوفّرة على المادّة الخام التي هي منبع التساؤل. معاناة التخلّف ومراوغات القويّ المسؤول عن هذا التخلّف، كيف يتمّ التخلّص منهما؟ أمّا الشعوب المتقدّمة فهي في غنىً عن وضع تساؤل مثل هذا ما دامت كَلِفَةً بوضع إستراتيجيّة لإبقاء ما كان على ما كان ممّا يخدم مصلحتها التوسّعية، وهذا عمل من يضع أجوبة عديدة مختلفة عن سؤال واحد يهدف إلى ترسيخ قاعدة إبقاء ما كان على ما كان. أؤكّد بهذه المناسبة مرّة أخرى أنّ ظاهرة ما يسمّى بـ«القصيدة الحكواتيّة» Le poème chansonnier يسود اليوم الحقل الشعريّ الشاب في العالم العربيّ. وهو عمل لا تمكن إدانته لأنّه يحقّق طفرة رائعة ينجزها هذا الجيل الشعريّ الشاب. سيكون من الأروع طرح أسئلة التغيير من خلالها، لا أسئلة القرف التي تجعل من الهروب حلاًّ ناجعاً. وبين الفجيعة والإحساس بها يبدو هذا الرفض وليد ملًلٍ لا وليد معاناة. على أنّ أظهر ما في هذه القصيدة لحدّ الآن أنّها ترفض الظاهر المزري، لكنّها لا تهتمّ لا بإجلاء غموضه ولا بإلقاء القبض عليه في حالة تلبّس واضح ولا بتبرير لرفضها له. تجلّى أظهر ما يقوم به هذا الجيل من حيث الشكل في إثقال القصيدة بسورياليّة شفّافة تذكّر بـ«بروطون» وكثيفة تذكّر بـ«تريستان تزارا»، (زار «تزارا» مدينة مراكش وكتب نصّاً شعريّاً عنها) وباستغلال جماليّة الهذيان الذي قليله جميل وكثيره مقرف، وباصطناع «كاريكاتوريّة» قليلها سخرية من المفارقة بين الواقع والمتخيّل، وكثيرها إغراق الصورة الشعريّة في تفاصيل تصبح معها سرداً روائيّاً سطحيّاً، وبالإكثار من محاكاة (في نفس القصيدة الواحدة) أساليب الشعراء العالميّين المحدثين، حتّى ليصل الأمر بها إلى الإفراط في الإلحاح وقد كان الأولى بها أن تكتفي بالتلميح إليها بحثاً عن تجربة بكر.
هناك في شعري أسئلة تسمّى تجوّزاً فلسفيّة، لكنها مصاغة بشكل شعريّ لا عبر جدل فلسفيّ. أسئلتي عشتها. شعرت بأنّ في طرحها اقتناص عدّة مفارقات سبَّبَها هذا العيش «الكراكيزيّ» الذي نمارسه أو يُمارَسُ علينا. والخلاصة أنّ هذه الأسئلة المحرجة تتجمّع كلّها في رفض الراهن والتطلّع من خلال هذا الرفض إلى غد واعد بكلّ جميل. هذه الأسئلة المحرجة ليس القادر على إيصالها إلى الآذان غير الشعر، لأنّ الفلسفة تطرح أسئلتها بشكل هادئ متمدّن وداخل «فوروم» على لسان فلاسفة ذوي صيت أكاديميّ تبشيريّ، بينما يطرح الشعر أسئلته ويواكبها مرّةً خلفها وأخرى أمامها ولا يغادرها إلا حين يشعر أنّها خلخلت جموديّة الموروث. الشعر فيلسوف مشّائيّ لا على طريقة المشّائين القدماء، وهذا ما يمكّن قارئ الشعر المتمرّس من التفرقة بين أسئلة الشعر وأسئلة الفلسفة. أسئلة الشعر تركب متن المجاز من المنفتح إلى المنغلق، وأسئلة الفلسفة تركب صهوة الحقيقة من الجدل إلى المماحكة، أي من التهافت إلى تهافت التهافت.
روافد

* التشكيل حاضر في نصوصك الشعريّة، بل إنّك شبيه أحياناً بالكيميائيّ الذي يمزج المحاليل والألوان والموادّ الدقيقة لإنتاج عمل مركّب، ما السر في ذلك؟

} السرّ في ذلك راجع إلى أنّني من الذين يعتبرون الإبداع الشعريّ نهراً روافده متعدّدة متنوّعة. وسيلته الأساسيّة هي اللغة، لكنّه يستمدّ العون من التشكيل أيّاً كان رسماً أو نحتاً أو معماراً، ومن التجانس l’harmonie غناءً وعزفاً، ومن التعبير الجسديّ رقصاً وتشريحاً، ومن التشخيص مسرحيّاً أو سينيمائيّاً، ومن الحكي قصّةً ورواية. كلّ هذه الفنون روافد للشعر والشعر نهرها الطامي. إننا لا نستنكف أن نقتبس في القصيدة أسلوب le flashbac السينمائيّ حين نريد الحصول على شدّ انتباه المتلقّي إذا كان من لوازم القصيدة تسبيق حدث متأخر لأنّه ذروة ما تسعى إليه هذه القصيدة. وفي ما يتعلّق بحضور التشكيل رسماً ونحتاً في شعري فذاك تطبيق لنظريّة النهر وروافده. وهنا ينبغي أن أشير إلى أنّ أهمّ صداقاتي كانت هي ما جعلني في الفترة الباريسيّة دائم التردّد على أروقة «سان جيرمان» المهتمّة بعرض المستجدّ من إنتاج التجريديّين الشباب ومن بينهم كان صديقي المرحوم «الجيلالي الغرباوي»، ولمّا استقررت في المغرب كنت على صلة وثيقة بأكثر تجريديّيه أمثال المليحي وميلود وبنّاني وشبعة والمرحوم المكّي مغارة والقاسمي (بل حتّى الانطباعيّين كمحمّد السرغيني، والفطريّين كالإدريسيّ والحمريّ) وجميع الذين أتوا بعد هؤلاء الروّاد.
كان عليّ لكي أضع نظريّة النهر وروافده موضع التطبيق أن أحاول تطبيق نظرية انفلات الظاهر من ظاهريّته والجنوح نحو تحولها إلى باطنيّة مسعاها تحديس الحس، أي إلى اختراق هذا الحسّ حتّى يصبح حدساً يتغيّى اقتناص ما وراء المنظور، وهذا ما ينحو نحوه التجريد. وهذا ما جعلني في دراسة لي تستهدف طرق قراءة تقنيّة للّوحة التجريديّة عند التجريديّين المغاربة الذين ذكرتهم أعلاه. كانت هذه الدراسة تستهدف أولاً البحث عن مكامن عناصر ثمانية في اللوحة التجريديّة وهي اللون والضوء والظلّ والمحيط والخطّ والفاصل والحركة والإيقاع، وهذه قراءة تحليليّة تتلوها قراءة شعريّة تستهدف البحث عن ارتباط هذه العناصر بعضها بالبعض الآخر. تلت هذه القراءة قراءة وجدانيّة تستهدف الكشف عن التأثير والتأثّر المتبادلين بين اللوحة التجريديّة والمتأمّل فيها. كانت هذه الدراسة بالفرنسيّة بعنوان: Esotérisme et peinture abstraite au Maroc. كان هدف هذه الدراسة - بصفة مجملة - محاولة التفريق بين الباطن ésotérique والظاهر exotérique عن طريق التذكير بأن الظاهر لا يكون ظاهراً إلا إذا كان له باطن يكتشفه الحدس المرهف. كانت هذه القراءة الوجدانيّة هي المسؤولة عن اكتشاف ما في اللوحة التجريديّة من الشعريّة والإغراء والإرهاص، هي ما يدلّ على أنّ باب هذه اللوحة ليس مسدوداً بل مفتوح على عوالم يمكن أن تذهب بمشاهدها إلى ما هو أبعد ممّا أراده الرسّام لها.
الشعر المغربي

* ينظر إلى الشعر المغربيّ على أنّه في معظمه شعر ذهنيّ يشتغل على تركيبات لغويّة غامضة ومعقّدة وتذهب أحياناً مذهباً بعيداً عن مشاعر الحياة الإنسانيّة، هل هذا صحيح؟

} إنّ هذه الأحكام ليست صحيحةً رغم تحوّلها إلى مطلقات (عند المشارقة الذين يؤكّدون بها هيمنتهم على الإبداع الشعريّ) غير قابلة للنقاش مع أنّها مستخلصة عبر أبويّة paternalisme فجّة تحضن صغارها، وتوحي في الوقت نفسه بأنّها نتيجة مسح شامل لمساحة رحيبة وما هي كذلك. ليس من المنطقيّ تعميم هذا الإطلاق على حصيلة شعريّة كان من وراء إنجازها شعراء تعدّدت مشاربهم واختلفت اتّجهاتهم. وهنا تنبغي الإشارة إلى أنّ الشعر المغربيّ هذا ليس ذهنيّاً ولا ذُهانيّاً ما دام صادراً عن شعراء يتمتّعون باستوائهم الفكريّ والنفسيّ وهم ينتجونه على أساس أنّه يستجيب لاستفزازهم ويحثّهم على العيش به وله مع أنفسهم ومع الآخرين. وبالنسبة إليّ، فأنا لا أرى موجباً لفصل الفكر عن الشعر إلا إذا غالى الفكر في الجدل بشكل ينطمس به ما في الشعر من الحلم. (أتذكّر بهذه المناسبة «نيتشه» فيلسوفاً شاعراً) إنّ الذهنيّ خارج الشعر يغري باستحضار المفكَّر فيه سابقاً، أمّا الذُّهانيّ فيغري باستغلال الضعف النفسيّ في صفة هذيان محموم.
لا ينكر أحد جدوى جماليّة هذا الاستحضار وذاك الاستغلال في بناء النصّ الشعريّ الغربيّ وخاصّة منه «السورياليّ الدادائيّ»، ولكن لا ينبغي أن نتّخذهما قاعدة لا تنخرم رغم كثرة شواذّها. إنّ إطلاق هذا الحكم التعميميّ عمّا يكتب من الشعر في المغرب على كثرة حساسيّاته، لما يعتبر من قبيل الأحكام المتسرّعة التي ترتكز على فحص غير دقيق وغير معمّق. إنّ الشعر المغربيّ المعاصر كان لسان حال الحياة اليوميّة في سعادتها وفرحها، وكان في حالات فرديّة صورة لاستلاب ضخّم عَبْرَهُ ثلّة من الشعراء أنفسهم منساقين إلى التعبير عن هواجسهم المكبوتة في أسلوب تجريديّ بين الغليان والفتور. حالات فرديّة محبطة وواقعــة في إدمان قراءة شرهة سطحيّة للشعر العالميّ وخاصّــة منه الفرنسيّ المعاصر. قراءة تلحّ على استنساخ ملامح هذا الشعر وترغب عبر هذا إدمان الاستجابة إلى مضاميــنه في البحث عن الخلاص من واقع مأزوم. قراءة حالمة على ســرير الغير ولحساب نائم آخر مصاب بأرق مزمن. وهكذا فاللــغة الغامضة بتركيبات معقّدة وبتعمّق في الابتعاد عن المعيش اليوميّ وباصطناع «ميتافيزيقا» طوباويّة، لا توجد إلا خــارج المعايير ولا تعشّش إلا في ذهن متلقٍّ أعجب بها وعجز عن إدراك كنهها. إن تخيّل ابتعاد الشعر المغربيّ عن مشــاعر الحياة الإنسانيّة حكم لا يصدر إلا عن ذهــن تصميمه نهائيّ وغير مدروس وغير قابل للمناقــشة، وإلا فالــشرط الإنسانيّ المعبّر عنه بشكل صريح واضحٌ في مختــلف حســاسيّات الشعر المغربيّ المعاصر، وسواء منه الفــردانيّ أو الجمعانيّ.

* يسمّيك محبّوك: شيخ الشعراء المغاربة، هل يروقك هذا اللقب؟

} إذا كانوا يقصدون أقدميّتي في الشعر فلا مانع يمنعهم من هذه التسمية، (أنا من مواليد 1930) وإن كانوا يريدون أنّني نسخة من ميراث قديم فإنّني أثير انتباههم إلى أنّني أكثر حيويّةً واندفاعاً نحو التجديد في انسجام مع إيماني العميق بأنّ مستقبل العالم في المستقبل الذي يجب أن يخضع لحتميّة تطوّر يتغيّى مزيداً من الكشف والاكتشاف والسبيل إليهما هو التجريب، لهذا فدائي ودوائي في هذا التجريب الناعم المستخلص من مجريات اللحظة الراهنة والمشرف على التغيير الحتميّ الجذريّ.

* كنت من الشعراء القلائل الذين نزلوا باكراً من بروجهم، فمعروف عنك أنّك دعّمت الكثير من الشعراء الشباب، فقد كنت تشرف لسنوات طويلة على محترف الشعر بجامعة فاس، هل ترى أنّ تلك التجربة أثمرت؟ وهل استطاع المحترف أن يغني المشهد الشعريّ المغربيّ بأسماء جديدة؟

} ليس للشاعر حسب ما أرى أن يتوارى في برجه العاجيّ، فليس هناك برج عاجيٌّ لمن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق إلا أن يكون من الوجدانيّين الحالمين الذين يعتقدون مع «فيكــتور هيغو» أنّ الله خلق العالم شعراً. لذا فمهمّة الشاعر بالمفهوم المعاصر هي أن يعيش بالناس وللناس. إنّ إشــرافي على محترف الشعر في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بفاس كان هدفه الوحيد هو تحقيق نموّ «ديموغرافيّ» (نكاية في علم الإحصاء السكّانيّ) لدولة الشعر بتسريب علنيٍّ لتجربة شاعر معمّر إلى شعراء شباب من الجنسين، وبما أنّ هذا العمل بدا مقلقاً لمن يهمّهم إبقاء ما كان على ما كان، فقد أجهضوا هذه الحركة فلم تعش المدى الذي يســمح لها بتقــديم نتائج في مستوى تطلّعها، ومع ذلــك، فهناك من بين أعضائها ممّن لمعوا ونشروا أوّل ديوان لهم وهــناك من دأبــوا على نشر قصائدهم في الملاحق الأدبيّة لمختــلف الجرائد المغربيّة. أسماء جديدة تنتــمي إلى الحساســيّة الشعريّة المعاصرة. (لا يموت من يموت ويترك الدنيا مزدهرة بما أراده لها).

* بعد سنوات عديدة من إلإقامة على أرض الكتابة، كيف تنظر الآن لحاضر الشعر المغربيّ وهل أنت مطمئنّ على مستقبله؟

} بدءاً من سنة 1912 وهو زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب، كان الشعراء المغاربة يعدّون على أصابع اليدين العشرة. كانوا بالطبع عموديّين، بل إن بعضهم غالى في عموديّته حتى تاخم العصر الجاهليّ. وما اجتمع المغاربة على مقاومة الأجنبيّ ـ سيّاسيّاً ثمّ ثوريّاً- حتى تغيّرت الأمور وكثر عدد الشعراء الوجدانيّين وكانوا واقعين تحت تأثير ما استجدّ في مصر من ميل إلى وجدانيّة حيناً غَزِلَةٌ ومغرقة في الذاتيّة وآخر وجدانــيّة وطنــيّة محـــليّة وقوميّة. وبعد ذلك كثر العدد أضعافاً مضـــاعفة منفتحاً على آفاق الشعر العالميّ حتّى أصبح صدىً منفعلاً لكل التيّارات التي يعيشها اليوم هذا الشعر العالمي. وشيئاً فشيئاً أخذت الخصوصيّة تظهر على ملامحه في صورة تكاد أن تكون موحّدة رغم تعايش وجوه اختلافها المتعدّد تحت ظلال وئام لم يخل ـ بين الحين والآخر - من مناوشات تنشب بين أنواع الحساسيّات المتعايشـــة المتجايلة. تمخّضت هذه المناوشات عن نشوء فئــويّة شعريّة، كلّ فئة منها تحاول أن تنظّر لاتجاهها. استــلزم هذا التنظير إيجاد نقد شعريّ هو الآخر فئويّ يتّكــئ على تنظير مستفاد ممّا عرفته تيّارات النقــد الشعــريّ المعاصر في فرنسا خاصّة.
(كادت الخصوصيّة أن تضيع في هذا الركام من التنظير) غزت الفئويّة النقد كما غزت الشعر وأصبحت طريقاً سالكاً نحو عمليّة ترويج لأسماء وتهميش لأسماء أخرى. فئويّة مزدوجة أدّت إلى سرعة تقدّم النظريّة وبطء مسار الشعر. ومع ذلك، فهذه الفئويّة إن عملت على اتّساع رقعة دائرة الشعر وساهمت في انتشاره وتكاثر عدد الشعراء بشكل لم يسبق له نظير، فإنّها أساءت إليه من حيث إنّها كانت وراء خلق بدعة جديدة هي النجوميّة. نجوميّة تارةً تحتمي بالانتماء انتماءً صوريّاً إلى اليسار السيّاسيّ الصوريّ كذلك، وتارة أخرى بالانتماء إلى المؤسّسات ذات التوجّه الثقافيّ في الظاهر والسيّاسيّ في الباطن، ولم يكن هذا الانتماء إلا احتماءً ورغبة في رواج الأسماء المستظلّة بهذا الانتماء. ومن المؤسف أنّ الجري وراء الشهرة في مناخ ثقافيّ ضبابيّ، لا ينتج منه ربح ماديّ، كما لا ينتهي إلى تسويق النظريّة الشعريّة إلى ما وراء المحيط الجغرافيّ الضيّق. (في إمكان المغاربة أن يكتبوا شعراً كونيّاً لو استطاعوا تصنيع industrialiser البيئة الشعريّة مادّيّاً وروحيّاً وتلقيحها بمعرفيّة توجّهها كونيّ) ومهما يكن الأمر، فالشعر المغربيّ المعاصر مزدهر من حيث الكمّ والكيف. (مدن المغرب الكبرى والمتوسّطة بل وحتّى الصغرى تتوفّر على شعراء واعدين متابعتي لقراءتهم تنعش رئتيّ بأنفاس التفاؤل العاطر لما تدلّ عليه من رغبة هؤلاء الشعراء في التجاوز لا عن تشـبّث بالبــدع المستوردة ولكن عن إيمان بأن هذا التجاوز منـــحىً شخصــيّ واقتناع بأنّه ضرورة حتميّة: إذا غادرت هذا العــالم إلى العالم الآخر فسوف أغادره وأنا جدّ مرتاح بسبب نماء دولة الشعر في المغرب هذا النماء المدهش).

(الدار البيضاء)
السفير- 8 ابريل 2011


إقرأ أيضاً:-