اسكندر حبش
(لبنان)

انطوان بولاديوميات الحرب و”طريق الشام” كتابان جديدان للشاعر اللبناني أنطوان بولاد (يكتب بالفرنسية) صدرا حديثا عن دار الساقي في بيروت. الأول يستعيد فيه يومياته خلال حرب تموز العام ٢٠٠٦ بينما الثاني يسجل فيه ذكريات ما عن الشارع الذي نشأ فيه. وإن كان ثمة شيء مشترك بين الاثنين فهو هذا الموت الحاضر بين ثنايا الكلمات.
حول الكتابين كما حول قضايا أخرى كان هذا اللقاء.

غالبا ما يطرح السؤال التالي على الكتّاب الفرانكوفونيين، لماذا اخترتم اللغة الفرنسية كوسيلة تعبير، وثانيا أحب أن أسأل قلت مرة في إحدى محاضراتك إنك لبناني تكتب بالفرنسية ولكن لا علاقة لك بالأدب الفرنسي، ماذا كنت تقصد بذلك؟

في الحقيقة إن الكتابة بالفرنسية ليست اختيارا بكل ما للكلمة من معنى، أي لم يكن خيارا شخصيا بالنسبة إليّ بل هو نتيجة إرث ثقافي وعائلي الخ... وجدت نفسي، في وقت معين، مبكر بطبيعة الحال كما جميع الذين يكتبون الشعر، وجدت أن هذا التعبير الشعري الذي كنت أشعر به قد خرج بالفرنسية نتيجة هذا الإرث. لكن هذا الأمر في السبعينيات شكل لي أزمة إذ كان هناك وضع اجتماعي وسياسي، لنقل كان هناك وضع ثقافي عام في بيروت، يدفع من يكتب بالفرنسية لأن يطرح على نفسه أسئلة جذرية:

لماذا أكتب بالفرنسية وما دور الفرنسية في كتابتي؟ عندما تخطيت هذه الأزمة ـ وقد تخطيتها بصعوبة ـ أعتقد أني لحظتها اتخذت القرار لأن أكتب بالفرنسية لأن لم يكن لدي أي إمكانية لأكون شاعرا بغير لغة. الأولوية بالنسبة إلي أن أكون شاعرا وبعدها يمكن أن أصبح شيئا آخر، لكن الأهم الذي اكتشفته في نهاية المطاف أن للبنان لغتين، شئنا أم أبينا، والبرهان أن هناك العديد من الشبان اليوم، في العشرين من عمرهم لا زالوا يكتبون بالفرنسية وعلاقتهم مع لغة المستعمر صارت بعيدة جدا، لكن ما زال هناك نتاج ثقافي بهذه اللغة. لقد تبنيناها كوسيلة تعبير.

أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال أظنه غريبا قليلا لأني لا أذكر هذه الجملة ولكن ربما أردت يومها التعبير على أني بالفعل وعبر هذه اللغة أعبر أولا عن وجودي كلبناني بهذا المكان وبهذا الزمان وعلاقتي مع الشعر الفرنسي أو التراث الأدبي الفرنسي لا تختلف مع أي كاتب بالعربية الذي يطلع على الشعر الفرنسي كأن يقرأ رامبو مثلا أو بروتون أو السوريالية أي نحن على المستوى عينه بهذا الشأن إلا أن شعري وبما أنه بالفرنسية فلديه ارتباط مع الشعر الفرنسي بشكل عام ولكنه لا يعبر عن وضع فرنسي بل يعبر عن وضع لبناني.

فصام

تحدثت عن الوضع الثقافي في بيروت السبعينيات بأي معنى كانت هناك مشكلة بأن تكتب بالفرنسية وما هي هذه الأزمة التي تخطيتها؟ وثانيا تجد أنك تأتي من اللغة الفرنسية ولكن هل تنتمي فعلا إلى تاريخ فرنسي معين. تحدثت الآن عن لغة المستعمر كيف تخطيت هذه اللغة بالشعر؟

سأروي لك في البداية حدثا وبعدها نفكر فيه. مثلا كانت هناك مظاهرة، شاركت فيها مثلي مثل الكثير من الشباب، وأحد الشعارات المطروحة ـ ربما وقتها منعت نفسي من ترداده لكن وجودي كان يؤيده ـ وهو تعريب البكالوريا أو لا لمادة البكالوريا باللغة الفرنسية.. أصبحت لحظتها أنفي نفسي بهذه التظاهرة، أي في السبعينيات كانت هناك مطالبة بتطوير المجتمع اللبناني وكانت اللغة الفرنسية حاجزا أمام دخول بعض الفئات الاجتماعية إلى العلم والثقافة. من هنا الدور في المطالبة بالتعريب أو إلى ما شابه ولكني أعتقد أن الطرح كان خاطئا، هذا ما أراه اليوم، إذ أظن أن المطلوب هو تطوير اللغة الفرنسية كي تكون مادة تصل إلى الجميع لا إلغاء هذه اللغة. ولكني افهم أنه من ناحية العدالة الأكبر ومن ناحية رفع الحواجز أمام الثقافة للجميع كانت هذه المطالبة في السبعينيات. هذا وجه من وجوه الأزمة التي كنت أحياها. لنقل إن هذه اللغة الفرنسية لا تزال في لبنان لغة »الميسورين« أو الذين عندهم بعض الامتيازات والذين لا أنتمي طبقيا لهم. كان التحدي تحويل هذه الأداة التي أحملها إلى مطالبة إنسانية أكبر إذ أن العدالة لا تنتمي لا إلى لغة ولا إلى أي مجتمع. العدالة والحرية والشعر والإنسانية هي مطالب عالمية لا تخص مجتمعا بعينه. لو قفزنا مثلا في الزمن ونظرنا إلى آخر كتاباتي التي هي عن الحرب في العام ٢٠٠٦ لوجدنا هذا المثل كيف تحول هذه اللغة التي تكتبها بالفرنسية إلى أداة لا لخدمة المجتمع بل للتعبير عن الواقع الذي نعيشه يوميا عن هذا البلد الذي لا علاقة له لا بباريس ولا بفرنسا ككل.

طيب، تقول إنك لا تنتمي طبقيا إلى هذه اللغة وهذا صحيح، إذ كنت أنت ومجموعة من الشبان تنتمون إلى اليسار وكنتم في طليعة المظاهرات العروبية والتعريبية. هل كنت تشعر “بفصام” ما بهذا المعنى؟

هذا صحيح، لا بد أني دخلت بهذه المشاعر التي تمثل “فصاما” ما. إذ أن سنين الحرب جذرت هذه الأزمة لدرجة أني اخترت العيش في باريس أي ذهبت في الاتجاه المعاكس، أي أصلت دخولي باللغة وبالشعر خارج الوطن الذي كان يعيش حربا، وهناك كتبت قصائد عن الحرب. لكن بعد عودتي إلى لبنان في الثمانينيات، صار انتمائي لمحيطي، صار انتماء صافيا، أي لم أعد أشعر بهذا الفصام مطلقا بعد أن ذهبت بعيدا عند الآخر عدت إلى الذات.

هل نستطيع بهذا المعنى أن نقول إنك لبناني وعربي لكنه يكتب بلغة غير عربية؟ على سبيل تبسيط القضية.

يمكننا أن نقول ذلك وأحب أن أعود لأؤكد أننا شعراء لبنانيون نكتب بالفرنسية، كما تقول. ربما هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، لكننا لبنانيون وحين يتحدثون عن الشعر اللبناني عليهم أن يضعونا ضمن هذه الصورة، أي علينا أن نشارك في الندوات والملتقيات والأمسيات التي تقام عن الشعر اللبناني. إننا مثل الشعراء اللبنانيين الذين يكتبون بالعربية. بالتأكيد لكل واحد خصوصيته لكن عليهم أن لا يرمونا خارج هذه الهوية.

لغتان

لكن هناك سؤالا يطرح دائما، بأن الأدب الفرنكوفوني اللبناني لم يستطع أن “يلعب” باللغة الفرنسية، بمعنى لو أخذنا كتّاب المغرب العربي وكتّاب إفريقيا السوداء، لوجدنا أن لغتهم الأدبية استطاعت أن تطرح أسئلة كبيرة على اللغة الفرنسية كما استطاعوا إدخال كلمات غير موجودة أصلا أصبحت الآن شائعة. غالبا ما يقال إن الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية احترم كثيرا هذه اللغة الفرنسية. هل أنت مع هذه الفكرة؟

أعتقد أن أجواء بعض الشعر اللبناني الجيد المكتوب بالفرنسية قد أغنت اللغة الفرنسية وهي ليست امتدادا صرفا ومحضا للغة الفرنسية. إذا كنت تتحدث عن إيميه سيزار أو عن المغرب، ربما كان ذلك صحيحا، ربما كنا لا ننتمي إلى هذه الفئة...

لو أخذنا سيزار وسينغور وحركة “الزنوجة” وغير ذلك، لوجدنا أنهم قاموا بأشياء كثيرة بينما نحن لم نستطع القيام بأي حركة مماثلة. ويمكن ذلك عائد لتاريخ لبنان أي كان تحت الانتداب وليس تحت الانتداب هل تجد أن ذلك أثر بطريقة ما؟ بمعنى أن ثمة لغة كانت تكتب ضد المستعمر بينما لم نكن نحن مستعمرين بهذه الطريقة، بهذا الشكل السيئ الذي عرفته الجزائر مثلا؟

ما تشير إليه صحيح أي أن هؤلاء الشعراء تعرضوا لاختبارات جعلت شعرهم يتصل أكثر بالنضال ضد لغة المستعمر. بالمقابل لم نتوصل إلى أن نكتب الـ arabitude مقابل الـ negritude ولكن ربما فعلنا ذلك بين السطور أي أن الأمر يتطلب قراءة لهذا الإنتاج الذي يصدر حاليا، ربما قراءة أخرى تظهر كم أن هناك انتماء محليا بين السطور. وبدون أن يكون ذلك محركا واعيا لما أكتبه، أستطيع أن أدعي وأطالب أن يقرأ شعري من هذه الزاوية كي نطلع بهذا الاستنتاج الذي تتحدث عنه. طبعا ليس عبر الزنوجة الذي أشرت إليها، ولكن عبر الأجواء، حتى أن شخصا مثل جورج شحادة، الذي كتب أجواء لطيفة إلا أنها ليست أجواء الجحيم الفرنسي بل إنها نداوة متوسطية...

لأستعمل تعبيرك الـ arabitude وهي واضحة في كتبك الثلاثة الأخيرة من يقرأ هذه الكتب لا بد أن يجد هذا الاختلاف عن كتبك الأولى أي تجذروا أولا في مكان وفي موقع جغرافي، كيف جاءت هذه الكتب، لِمَ هذا الانحياز العربي إذا جاز التعبير؟

أتصور أنها نتيجة الانتهاء من العيش لعشر سنوات في باريس والانتقال إلى المكان الآخر، أي أن وجودي هنا أنتج هذه النصوص التي أجدها حركة طبيعية، ربما لو ذهبت إلى أميركا اللاتينية لربما كنت اتصلت بواقع معين مع اللغة الفرنسية أي أن هذه اللغة التي احملها معي لربما كانت تفاعلت مع واقع جديد ولكان الأمر طبيعيا. صحيح أن أجواء هذه الكتب مختلفة. واسمح لي أن أتحدث عن الكتابين الأخيرين، “يوميات الحرب” و”طريق الشام”، إذ لو أنهما صدرا في الوقت عينه، إلا أن أجواءهما مختلفة أيضا، أي ليس بينهما أي شيء مشترك إلا أنهما يتحدثان عن الموت بشكل أساسي. في “طريق الشام” هناك التقاء هاجس الموت بحياتي الشخصية منذ طفولتي كيف خسرت أبي وكم أثر ذلك على نشأتي وصولا إلى هذا الشارع الذي عشت فيه وكم يجسد هذه المدينة بما انه عرف أعنف المعارك اعنف النفي لوجود المدينة بما أنه كان خط التماس الذي يفصل بين البيروتين اللتين عاشتا الموت الجماعي. هذا الالتقاء بين الموت الفردي في تاريخ إنسان معين وبين الموت الجماعي انتقل إلى الكتاب الثاني يوميات الحرب. تعرف أننا في حرب تموز عشنا عنفا هائلا لكنها أوضح من الحرب الأهلية، أي دخلنا في هذا الرفض القاطع لهذا القتل الممنهج.

السفير
26 اغسطس 2008