أحمد مصطفى
(مصر)

إبراهيم أصلانعلمته مهنة "التلغراف" الاقتصاد في اللغة، وتحديد المعنى بأقل قدر من الكلمات. إنه الكاتب القاص والروائي إبراهيم أصلان. واحد من جيل الستينيات، وكان ظهوره في الحياة الثقافية مثيراً وعاصفاً. كان قد نشر قصة قصيرة بعنوان "العازف" فراح زملاؤه الأدباء والنقاد يبحثون عنه. إنتاجه قليل ولكنه متميز ومؤثر، له آراء وتأملات ذكية، وله أحزانه وذكرياته.
في هذا الحوار نستكشف جوانب وزوايا في أدب إبراهيم أصلان من خلال كلماته الموجزة والدالة.

*سألنا إبراهيم أصلان عما يفعله بعد صدور "خلوة الغلبان" تلك السيرة الذاتية المثيرة للجدل؟

أجاب: عدت إلى القراءة بعد انقطاع، فعندما أكتب عملاً إبداعياً لا أقرأ شيئاً ولا أقطع التواصل الإبداعي. وأنا الآن أعيد قراءة المقريزي والجبرتي كما أقرأ مقدمة ابن خلدون وأشرع في كتابة عمل جديد.

* ماذا عن السيرة؟

- هي ليست سيرة بالمعنى التقليدي للسيرة الذاتية، لكنها مشاهد ولقاءات وشخصيات منتقاة من الذاكراة ظللت محتفظاً بها زمناً طويلاً وخرجت على هذا النحو من التتابع أو التتالي للمشاهد المختزلة والصور الراسخة في الأعماق.
لقد تعلمت من صديقي الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي أن أضع مسافة بيني وبين الواقع كي أراه وأحيط به، وهذه المسافة تحميني من الانكسار وهذا تعلمته في حياتي وما فعلته طوال هذه الرحلة.
هذه الشخصيات في الخلوة هي شخصيات التقيتها في مناطق الكيت كات حيث أقطن وتحدثت إليها وعاشرت بعضها بحكم الجيرة وأحببتهم وكتبت عنهم.
إن قراءتي لكتب التاريخ والأدب تضعني في أجواء مثيرة أتهيأ بعدها للإبداع، كذلك تفعل الموسيقى فعل السحر في تهيئة جو الكتابة، فلا أُقدم على عمل أدبي إلا وأنا مهيأ ومحتشد تماماً.

*إلى أي مدى تحققت نبوءات وتحليلات النقاد فقد وصفوا أبطالك بالعجز والهامشية والابتعاد عن المشاركة؟

- صحيح لقد ذهب بعض النقاد هذا المذهب في التحليل والرؤية، لكنني كنت أحس بغير ذلك، أنا أكتب كي أساعد الآخرين على فهم أنفسهم وقدرتهم على الحلم، فأنت لا تستطيع أن تقوم بتغيير واقع لم تشارك في وضع شروطه ولا يجب أن نحلم بدلاً من الآخرين، نحن نحاول إنارة الطريق بين القارئ وذاته، وهذا ما أفهمه عن العملية الإبداعية.

هواية لا حرفة

بين البدايات في هيئة الاتصالات كعامل تلغراف وحتى حصوله على جائزة الدولة التقديرية كتب أصلان روايتي " عصافير النيل" و"وردية ليل" وقبلهما روايته " مالك الحزين" ومجموعات قصص " يوسف والرداء" و"بحيرة المساء" وآخرها "خلوة الغلبان" و"حكايات فضل الله عثمان".

* حول هذه الرحلة سألنا أصلان كيف يراها؟ وكيف يتذكرها؟

- أعترف أنني كنت طوال رحلتي كاتباً هاوياً ولم أحترف الكتابة قط، ولم أنقطع عن القراءة أبداً، ومنذ أن سألت زميلاً لي كان يعمل معي في التلغراف، كيف أكون كاتباً؟ قال لي عليك بالقراءة كما فعل الكتاب قبلك، وقد عملت بالنصيحة وقرأت أكثر مما كتبت.
في أول الرحلة كنت أعمل في القبو في شركة – ماركوتي- للتلغراف وبعد تمصيرها وتأميمها انتقلت إلى الدور الرابع وتعرفت إلى أحد المثقفين الماركسيين وهكذا وجدت نفسي في مكتبته الزاخرة غارقاً في الأفكار والمعارف والرؤى ومن خلال مناقشتي معه تبلورت ملامح شخصيتي الأدبية والفكرية. وظلت كتاباتي تنشر في المجلات والصفحات الأدبية مثل جريدة "المساء" ومجلة "المجلة" للراحل الكبير يحيى حقي، وعرفت المثقفين والمفكرين والأدباء. وهكذا استمرت الرحلة.
كان الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور أول من قدم كتابي الأول "بحيرة المساء" العام 1971 عندما تولى مسؤولية النشر في هيئة الكتاب، كما فاجأني الناقد الراحل د. غالي شكري بعقد ندوة أدبية في أتيليه القاهرة عن قصة قصيرة نشرتها لي جريدة المساء بعنوان " العازف" من دون أن يعرفني الناقد. لقد كانت الحياة الأدبية في هذه الفترة محترمة إلى حد كبير في التعامل مع الأدب والأدباء وكانت الأسماء التي تشتغل بالنقد لها وزنها وتأثيرها الأدبي والثقافي.

* ماذا عن اتهام النقاد بالحياد والإطلالة على شخصياتك من بعيد، فهل هذا ما يقصده بالمسافة الموضوعة بين الكاتب والواقع؟

-ليست هناك كتابة محايدة وأعتقد أن هذا الكلام يندرج تحت باب الشائعات أو سوء الفهم لأن مجرد اللجوء للكتابة كلحظة يعني أنني لست محايداً، فأنا مؤمن تماماً بأن الناس ليسوا في حاجة لمن يفكر نيابة عنهم ولا بحاجة لمن يتخيل لهم، لأن جميع المؤسسات الحاكمة على مدى تاريخها تقوم بهذا الدور ولو أنا فعلت ذلك فسأتحول إلى جزء من هذه المؤسسات المهيمنة التي استطاعت عبر قرون تسييد صياغات لغوية للناس ليفكروا ويتخيلوا من خلالها. فالكاتب أو الأديب ليسا أوصياء على القارئ.. فأنا لا أقرأ "همنجواي" أو "ماركيز" أو "فوكنر" لأعرف مواقفهم، فلنفترض أن لي موقفاً غاضباً من شيء ما وأريد أن يغضب المتلقي مثلي هنا لابد من رد الغضب لعناصره الأولى ومن ثم يمكن للقارئ أن يكون أكثر غضباً.

الرؤية البصرية

* هناك علاقة بين الفنون التعبيرية والكتابة، فأين يقف الكاتب إبراهيم أصلان من هذه العلاقة؟

- إنها علاقة بالغة الأهمية وعلينا أن نتذكر أن الظاهرة الإبداعية واحدة في جوهرها الإنساني وتتم عبر وسائط مختلفة منها: اللوحة، الموسيقى، الكلمة، ولكل وسيط إمكاناته التعبيرية المختلفة، قبل ذلك هناك ضرورة ملحّة للتعرف على مختلف الفنون فهي الوسيلة الوحيدة والممكنة لإثراء الوسيط.. أنا مثلاً أعتمد على الرؤية البصرية فذاكرتي في الأساس هي ذاكرة بصرية. واللغة ليست الوسيط الأمثل لتقديم ما هو مرئي والكاتب يجب أن يقدم تفاصيله داخل جدارية بما يدور فيها من جدل وصراع، وكما نرى ذلك بصورة مرئية غير اللغة فإنه يمثل مشكلة حقيقية خصوصاً كل الأسئلة والمشاكل المتعلقة بأي فن من الفنون نجد لها حلولاً في الوسائط الأخرى. وأرى أنه من الأهمية التعرف على الإمكانات التعبيرية الموجودة في جميع الفنون.. فأنا مولع تماماً بالتعرف على المشكلات التعبيرية عند السينمائيين والنحاتين والتشكيليين.

* يرى بعض النقاد أن كتاباتك تنتمي لجنس الحداثة وذلك من خلال رصدهم للتفاصيل التي لا تنتهي في أعمالك الأدبية؟

- في الواقع أنا لم أقصد ذلك، فأنا لا أسير على هدي من المصطلحات وأرى أنه لا يجب أن نكون أوفياء للمصطلحات أكثر من وفائنا للحياة التي نعيشها، وهذا الانتماء لا يشغلني من قريب أو بعيد.. فأنا مشكلتي الأساسية مع إبراهيم أصلان ذاته، فأنا أعمل وأجتهد كي أتحقق وكي أشعر بالرضا في المقام الأول.

* هناك اتجاه في حكايات "فضل الله عثمان" نحو التجريد فهل هي خطوة للابتعاد عن الواقعية؟

- أنا عاشق للقصة القصيرة ولديّ إيمان عميق بأن هذا الإطار فيه إمكانات كبيرة لتقديم أشياء كبيرة ومؤثرة ولا أرى أن القصة القصيرة في انحسار أو أن الغلبة للرواية كما يدعي بعضهم لكنها شكل مهم جداً من أشكال الكتابة ويحتاج لمهارات خاصة جداً.
أما مسألة التصنيف – واقعي أو غير واقعي- فهي لا تشغلني لأن الحقيقة الفنية لا تحتاج إلى برهان، فمهمتي أن أجعل القارئ يفكر بنفسه ويتخيل بنفسه لأنه شريك في عملية الكتابة.

* أنت تنتمي لجيل الستينيات.. فهل هناك تواصل بينك وبين الأجيال اللاحقة؟

- في تقديري أن مسألة الأجيال ما هي إلا تقسيم نقدي وأنا لست بناقد، لكنني أرى أنها موجات ولكل موجة مبدعوها الحقيقيون كما تتفاوت فيها المستويات وهذه القضية لا تشغلني كثيراً لأن الجيل هو جيل أدبي وغالباً لا ينفصل هذا الجيل عن الحالة السياسية والاجتماعية، وأتصور أن كل كتابة جيدة هي إضافة للرصيد الأدبي، وعلينا أن ندرك أن هناك قواماً للرواية، وقد أشار الشاعر "ت. إس. إيليوت" إلى أن كل نص جديد مهم يحمي هذا القوام ويعيد تكوينه عبر إقامة علاقات مع عناصر داخل ذلك القوام كله، والمهم أن تعمل الإضافات الجديدة على الارتقاء بمعيار هذا القوام.

القيمة الأدبية

* كيف ترى القيمة الأدبية للعمل الفني وللأديب على حد سواء؟

- مثلاً القيمة الأساسية للأديب نجيب محفوظ تكمن في أنه وضع المعيار الأساسي لهذا القوام وهو موجود في وجداننا، ومن هنا تأتي قيمة أي كاتب أو قيمة أي كتابة جيدة في أنها تؤدي دوراً في عملية التطوير الإبداعي لأنها ترتقي بالمعيار العام.. فنحن نكتب شئنا أم أبينا في ظل تقاليد أدبية عظمى.
وبطبيعة الحال توجد موجات من الموهوبين وإن كانوا للأسف موجودين في مناخ وظروف سيئة. فنحن عندما بدأنا الكتابة كان لدينا وعي بقيمة العمل الثقافي. لكن الأمر اختلف تماماً الآن.
وسيطرت حالة غريبة على الكتّاب وهي السرعة المذهلة في نشر أعمالهم من دون أن تنضج، فأصبح هناك كم هائل من العناوين، نسبة كبيرة منها لا يصح أن تتحول إلى كتابات منشورة!! وهذا لم يحدث مع أبناء جيلي فنحن لم نطبع كتاباً إلا بعدما نشرنا لسنوات عديدة في مجلات وجرائد.. لكن اليوم ولأسباب غامضة أصبحنا نرى أعمالاً رديئة تلقى اهتماماً وتُحدث صدى في الأوساط الأدبية، ويأتي ذلك في ظل غياب الحركة النقدية التي تدرك المعايير الحقيقية للقوام الأدبي المتعارف عليه.

أوان
الاثنين, 29 ديسمبر 2008