في أغسطس 2007، وجهت إلى كيارستمي دعوة لحضور "مهرجان أفلام من الجنوب" في النرويج. في الفترة نفسها، صدرت له ترجمة باللغة النرويجية لمجموعة من أشعاره، كما أقيم معرض له خاص بالصور الفوتوغرافية.
في متحف ستينيرسن بأوسلو، وبين جدران مكسوة بصوره الفوتوغرافية، المأخوذة بالأسود والأبيض، دار هذا الحوار بيننا.
رجل حليم، صبور، دقيق، وقليل الكلام. في الستين من عمره. نظارته الشمسية ملتصقة بعينيه، توحي بأنها كانت معه منذ زمن طويل. وما الذي يتحدث عنه في هذه اللحظة؟
أن يكون وحيداً. أن يعمل في عزلة، دون أي تدخّل من أحد. يقول كيارستمي:
- كاميرا الفيديو قد حرّرت الفنان السينمائي. الآن، نحن لم نعد واقعين في شَرَك الميزانيات الضخمة والطاقم الكبير من الفنيين حين نكون على وشك تحقيق فيلم ما. ينبغي على الفنان أن يكون، في الأغلب، وحيداً مع أدواته: الكاميرا والممثلين، أو الأشياء.
* في فيلم "خمسة"، ثمة مشهد مميّز: قطعة من الخشب مرمية على الشاطئ. الأمواج تأتي لتدفعها برفق إلى أعلى وإلى أسفل على الرمل لبضع دقائق، إلى أن تنكسر فتبقى القطعة الصغيرة على الشاطئ بينما الكبيرة تنجرف مع المياه وتطفو هناك.
ثمة مشاهد مماثلة في العديد من صور كيارستمي الفوتوغرافية. موضوعات من الطبيعة والتي تلمّح إلى ما يريد أن يقوله عنا نحن البشر. الشجرة التي تقف وحدها، منفصلة عن مجموعة من الأشجار التي تنتصب معاً مثل جنود.
- بالنسبة لي، الطبيعة تمثّل هروباً من الحياة اليومية، الحياة السياسية، المجتمع وحياة المدينة.
* سألته إن كانت المخاوف تنتابه كلما أقدم على تحقيق فيلم. وما الشيء الذي يخيفه؟
- العمل الجماعي هو الذي يشكّل خطورة. من الجيد أن تكون ضمن جماعة من الناس، لكن في الوقت نفسه هذا يشكّل خطورة. ليس من الصالح والمفيد أن تمتلك الجماعة الفكرة نفسها، وطريقة التفكير نفسها.
عندما تكون ضمن مجموعة، بوسع القائد أن ينقلك بعيداً، أن ينفيك. لهذا السبب الفردانية هي هامة جداً، خصوصاً للفنان. إذا كنت أحقق الفيلم وأنا محاط بمئة شخص، فإن العمل سوف لن ينفّذ بشكل جيد وسلس. كل شخص يجب أن يُدفع له أجره، وعندئذ لن تكون هذه فكرتي التي نعمل عليها، بل فكرة المنتج. الرسام يقدر أن يقول: هذا عملي. كذلك المصور الفوتوغرافي. لكن إذا اشتغل المخرج على فيلم ذي ميزانية ضخمة، فسوف لن يقدر أن يزعم بأن هذا فيلمه.
* في أعمالك أنت تمزج تقنيات الفيلم الدرامي والوثائقي، وتعمل كثيراً مع ممثلين هواة. هل بهذه الطريقة أنت تأسر الواقع على نحو أفضل؟
- ما هو الواقع؟ أظن أن أصول ومنابت أي فيلم درامي لابد وأن يكون شيئاً واقعياً. الفيلم الوثائقي لا يوجد. في اللحظة التي يقوم فيها المخرج بحركة بسيطة واحدة بالكاميرا، أو يربط معاً قصاصات مختلفة، فإنه يقوم بعملية انتقاء، سواء أكان يحمل صفة "الدرامي" أو "الوثائقي".
* كيارستمي نفسه مهتم بتذكير الجمهور بأنهم يشاهدون فيلماً أكثر من جعلهم يظنون أن ما يحدث على الشاشة هو شيء حقيقي.
- صانع الفيلم ينبغي أن يكون واعياً بشأن مسؤولياته. أنا دائماً أرغب في تذكير الجمهور أنهم يشاهدون فيلماً. إنه أمر خطر جداً جعل الجمهور يستغرقون عاطفياً أكثر مما ينبغي ومما يحتاجونه من مشاركة. في ظلمة صالة السينما، الناس يكونون أكثر براءة. الظلمة تجعلهم يشعرون بأن كل شيء هو أكثر قرباً وأكثر قوة. لهذا السبب لا ينبغي حتى أن نجعلهم عاطفيين بإفراط: الناس بحاجة لأن يفكروا عندما يشاهدون فيلماً لا أن يُسلب منهم رشدهم.
* كيف تحرز هذا الشيء؟
- أنا أصنع نصف فيلم. والفيلم لا يكتمل إلا عند التقائه بكل متفرج.
* الصلة بين الصور واللهب في إيران هي مركّبة ومؤلمة. مع اندلاع الثورة الإسلامية في نهاية السبعينيات، كانت النيران المشتعلة في صالات السينما تعطي معنى رمزياً. ابتدأ هذا مع إحراق سينما ريكس في مدينة عبدان في العشرين من أغسطس 1978، حيث مات في الحادث حوالي 430 شخصاً. في العام التالي، دمرت الحرائق 180 صالة سينما في المدن الإيرانية.
- الثورة أثّرت في حياتنا على كل المستويات وفي كل المجالات. عندما أحرقت صالة السينما بعبدان، لم أكن أفكر في الأفلام. كنت مهتماً أكثر بمصير أمّة بأكملها فيما تحترق. لم أكن أكترث بصالات السينما في ذلك اليوم، بل بالشعب وما يحدث لهم.
* قوانين الرقابة، بعد الثورة، صارت أكثر صرامة. ثمة خطوط حمراء لا يُسمح بتجاوزها.
- في طهران، لم يعد ممكناً عرض المجموعة الكاملة من أعمالي – من أفلام وصور وأشعار – مثلما يحدث هنا. يؤسفني جداً أن لا يتمكن الجمهور الإيراني من مشاهدة أفلامي علناً.
* هل تشعر بالقوة عندما تحقق فيلماً؟
- لم تسأل عن هذا؟ أشعر بسعادة بالغة حين أقوم بأسر اللحظة بالكاميرا.. لكن ذلك لا يمنحني أي إحساس بالقوة. إنه أشبه بالتنفس. عندما تتنفس، لا تتوقع شيئاً خاصاً واستثنائياً.. فقط تحتاج أن تتنفس. أعتقد أن الفنان يحتاج أن يخلق شيئاً، تماماً مثلما يحتاج أن يستنشق الهواء.
المصدر: موقع Subtitles to Cinema، أغسطس 2007.