حاوره: ميرزا الخويلدي
وعبيد السهيمي

أحمد الملارغم رشاقة اللغة، ودقة المفردة التي يعبّر بها الشاعر السعودي أحمد الملا، صاحب المجموعات الشعرية المتميزة «ظل يتقصف»، «خفيف ومائل كنسيان» و«سهم يهمس باسمي»، وهي المجموعات التي توّجته شاعرا متميزا في قصيدة النثر، وفي النخبة الحداثية السعودية، فإن الشاعر الذي اشتغل مبكرا في النشاط الثقافي إعلاميا وإداريا يطل على مشهد ثقافي مضطرب بالتفاعلات، وبمخاضات التجديد، كان دخوله النادي الأدبي مناسبة للعمل على تحديث الأنشطة واجتذاب فئات وعناصر الفعل الثقافي الشاب، وكذلك إدارته لمسابقة الأفلام السعودية في دورتها الأولى نقلة نوعية في عمل الأندية الأدبية واحتضانها للمواهب والتجارب السينمائية. وُلد أحمد الملا في حي الكوت بالهفوف في الأحساء عام 1961، وكتب في البداية شعرا تقليديا إلا أنه سرعان ما وجد نفسه في أجواء قصيدة النثر.
درس في جامعة الملك سعود في الرياض وتخصص في علم الاجتماع، وتخرج عام 1983، حيث عمل في جامعة الملك فيصل في وظيفة إدارية، قبل أن يستقيل منها عام 1994، كما عمل في الإعلام في الصفحات الثقافية في الثمانينات، ورئيسا لتحرير إحدى الصحف الرياضية منتصف التسعينات.
الحوار التالي الذي أجرته «الشرق الاوسط» مع أحمد الملا يتناول تجربة قصيدة النثر، وعموم المشهد الثقافي السعودي.

* كيف ترى مستقبل قصيدة النثر؟

- لم يسبق أن طرأ على البال مثل هذا التساؤل. وفي تصوري أن مخيلة الشاعر منشغلة بالحال، وابتكار عوالم النص والقبض على تجلياته، أكثر من الانشغال بتقصي المسألة التأريخية أو المقاصد والأسباب.
ينشغل الشاعر بالماهية ويترك التعليل للتنظير النقدي اللاحق للنص. والشعر كامن في الحياة ولست ممن يرتاب في شرعية الشكل الشعري (أو سلالة شجرته العائلية)، وعلى نفس القدر لست ممن يخشى المنتهى (حيث لا محطة نهائية للشعر). قد يتوقف الشاعر، لكن الشعر أبقى من كتابة الشعر، وغموض الشكل/النص المفتوح مقارنة بالشكل/النص المغلق، أكثر دهشة وإبهارا ومن ثم حياة.
قصيدة النثر اختيار ذائقة جمالية، وفي نفس المزاج اختبار لمناطق غير مأهولة من قبل، لذة الاكتشاف ونشوة تشكل الحجر تحت طرقات الإزميل دونما تعيين سابق سوى تلك اللحظة الموضوعية للشعر (تلك اللحظة هي امتزاج بين: قدرة على الأدوات، ذوق، معرفة، حس، رغبة وانفعال). لسنا في حال تقديس، بل على العكس، القصيدة تنزيل المقدس في مختبر العيش والنَفَس، وإعادة الاعتبار الحي إليه، لا الفهم التبشيري المنفصل عن المتلقي ولا التبليغ بالمراد المباشر والمحدد، قصيدة النثر لا تدعي ما سبقها، نعم تتفهم ما سبق لكنها تتصل بالراهن وتتنبه له دونما تعالٍ أو تقريع للقارئ.

* هل ما زال شعراء قصيدة النثر في السعودية يبحثون عن أب روحي؟

- على الأرجح أن تمرد الشعر الحر (التفعيلة) على الشكل السابق عنه، وفي سعيه الراسخ لتأسيس ذائقة جديدة، وخلال انزياحه وتحوله عن سطوة القصيدة التقليدية، انجذب إلى مغناطيسها وهادن واستقر ـ مع تفهم الضرورة التاريخية ـ في قفزة واحدة نحو منطقة توفيقية على مستوى الشكل، لكننا نرى أن القفزة الأهم كمنت في الشعر، أي في ما عدا الشكل التفعيلي، حيث تَجلّت في مضامين الشعر دونما أنماطه التقليدية ـ أغراض الشعر ـ سابحة في فضاء مفتوح، هنا أتت قصيدة النثر ـ في حالة خفة من الإرث ـ موازية في فضاء التناول نفسه مع تقليلها من سطوة الشكل وتحررت من سطوة المغاير، أي أن تخلص الشعر من الشكل التقليدي (العمودي) في لحظة التفعيلة، أتاح بالضرورة وهيأ بشكل إرادي لحرية الشكل. من هنا ينحدر إلحاح المرجعية في ذاكرة لم تتحرر من ضرورات التناسل والسياق، في حين يمكن وبهدوء إعادة نسب قصيدة النثر إلى ما قبلها غير المتراكم، وبالتالي من غير ثقل الإرث وما ينتجه من تسلط.
من هنا تخففت قصيدة النثر من شعور اليتم وانفتحت على صلات ليست ملزمة بالأرحام، لتجد الشعر في تجارب إنسانية كونية، كما أنها وجدته في تشكلات الفنون المتعددة وانغرست في طبقات الحياة وبالأخص السفليّ والمهمَّش منها.

* إلى متى تبقى الحداثة السعودية دون أب وتربة حاضنة؟

- لسنا في حاجة إلى آباء، حاجتنا الماسة إلى أم جامعة هي الحرية، بحنانها ورأفتها حتى مع عقوق بعض أبنائها.

* هل أصبحت قصيدة النثر متاعا مباحا؟

- إنها مباحة، بالمعنى الإنساني، أي أن الكتابة في المتناول، ولا معيار لها إلا «الشعرية» وحدها. من هنا استعدنا الوعي بالشعر على معدنه، حيث مع قصيدة النثر اكتشفنا مكمن الشعر، في كل نص بما فيه التقليدي (العمودي) أو التفعيلة، وحتى في ما سواه من فنون أخرى أو أشكال تعبيرية مختلفة كالمعمار، التشكيل، الموسيقى، والتعابير المادية للحياة.
نستعيد معنى الشعر في مكمنه وليس في الشكل الجاهز مسبقا عنه، كأن قصيدة النثر ـ باختلاف ـ تنبه على أن الأصل في الإباحة، لنكتب بعيدا عن النظم ولنعبر عن أنفسنا، أما الشعر كقيمة فهي منزلة بين ذلك.

* هل يزعج شعراء النثر ـ وأنت واحد منهم ـ أنكم محرومون من المسابقات الشعرية التي تروّج لها بعض الفضائيات العربية؟

- بالقياس إلى مسألة الحرمان، فليست المسابقات وحدها ما يبرز هنا، بل كما في أي فن مختلف ومُحدَث، نجد حرمان تمثيله في التعليم والميديا، وبالتالي تحوله وإنتاجه طبيعيا في التفكير الاجتماعي والحياة اليومية.
لكن الحرمان لا يزعجني الآن على الإطلاق، ففي أحد أوجهه، عزلة التأمل والبحث، والانتباه إلى الداخل دونما سلطة خارجية، تجذبه نحوها وتنقيه ليكون مقبولا للسائد والمطمئن. بالتأكيد قصيدة النثر تشكلت في الظل، وعلى الأرجح استفادت من عزلتها أكثر مما استفادته قصيدة التفعيلة من ضوء وتركيز حملها حمولات ليست شعرية بالضرورة.

* أين تتقاطع مع قاسم حداد؟

- لا أعرف إجابة واضحة ودقيقة، محبة قاسم راسخة في الفؤاد، ذاك الإنسان المحب للحياة، والمانح لها، المتطابق مع وعيه المعرفي وابن اللحظة المعاصرة. هكذا هو قاسم الإنسان.
هل أتقاطع معه شعريا؟ بالضرورة، فشعره يعبر عن حقيقة قاسم الناعمة والعميقة، دونما ادعاء ولا خشية من المغامرة. منه تعلمنا الذهاب في الجموع دونما ضرورة الانسجام، وتجاوز الرضا عن المنجز، والسعي بتواضع نحو التجديد بانتقاء صادق. وفي إشارة سريعة إلى ذئاب اليأس التي حاصرتنا يوما، لم نجد سوى سخرية قاسم الفاتكة معبرا.

* هناك من يرى أن شعراء قصيدة النثر يعيشون عالما من خيال بعيدا عن الهم العام.

- الهم العام حالة رجراجة، تتقاذفها الميديا ذات اليمين وذات الشمال. العام مسيطَرٌ عليه من قوى مهيمنة ترفعه وتدنيه، حسب حاجة اللحظة السياسية.
قصيدة النثر في غالبها نحت نحو الأعمق والبسيط والملمس الهش في الحياة، الأرسخ والأكثر بقاء، بلا بيرق أو «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
ما الهم الحقيقي للحياة؟ أليس هو إشكالية العيش بتفاصيلها، وقلق الإنسان المعاصر، والعزلة والغياب والموت، ستجد هذا كله في صميم قصيدة النثر. على الشعر أن يرمي بنا في أتون الحالة، أما القضية التي تستدعي الشعر فهي تابعة، لنا في انتباه محمود درويش لذلك مثل.

* كيف تفسر هذا التسابق في الأعمال الروائية؟

- يتسابق كتاب وكاتبات على التعبير من خلال الرواية، بدفق غير مسبوق. أراه من ناحية ضرورة لمواجهة إشكاليات متعددة، بدءا بالتَّماس مع حرية التعبير في السعودية في لحظة تجليها الأولى، مرورا بالكشف عن مفارقات الحالة الاجتماعية وتحولاتها في زمن قصير، إضافة إلى ما يصحب ذلك من تناول التابوهات والعزف على تناقضاتها.
من هنا نحتاج قليلا من الوقت ليهدأ غبار هذا الزحف، لنتبين تخوم الرواية الطالعة ببنيان متماسك، أما سرابها فسيختفي تدريجيا.

* كيف تفسر هذا النشاط الدؤوب في الفترة الأخيرة لشيوخ الحداثة، محمد العلي على سبيل المثال؟ هل هي الحاجة إلى استدعاء الرموز؟

- إن مسألة تكريم الرواد، عائدة إلى التقدير والامتنان على ما قدموه من ترسيخ وتعبيد لطرق كانت موحشة قبلهم، وللرواد فضل أن أصبحت مأهولة بالعابرين.
لا يحتاج الرمز الثقافي إلى من يستدعيه، بل الساحة الثقافية هي صاحبة الحاجة، نحن في صحراء شاسعة وعلينا الاستدلال بجبالها حتى لا يصيبنا التيه والشتات. والأستاذ محمد العلي، وُلد شيخا، وها هو قارب الثمانين شابا، بحيويته في الكتابة والإبداع والمشاركة الثقافية، والغبار الذي تلمحه، ليس إلا غبارا تثيره أسئلة العلي التي لا تهادن ولا تسكن، ومشهدنا الثقافي يمتلك قامات عديدة تجاور العلي وتواصل فعلها وتأثيرها.

* كيف تقرأ المشهد الثقافي السعودي الآن؟

- المشهد الثقافي في السعودية الآن يراوح بين حالتين: الأولى الإنتاج الفردي، وهو في حركة مستمرة وفعالية تتطور في مختلف المجالات الثقافية (الشعر، القصة، الرواية، النقد، المسرح، التشكيل، الموسيقى، الأفلام، إلخ). لكنه يحتاج إلى الحالة الثانية وهي الدور المؤسساتي ليتمكن من إثراء وترسيخ الفعل الثقافي في الوجدان الاجتماعي، فليس من المعقول أن تبقى مؤسساتنا الثقافية بلا بنية تحتية حتى اللحظة، وليس من المفهوم أننا ما زلنا لم نحسم بعد مسألة عرض الموسيقى وعرض السينما ونتركها كرة تتقاذفها الأقدام. على المؤسسة الثقافية أن تؤدي دورها المفترض منها، بما يراكم ويحول الفعل الثقافي إلى تقاليد وأعراف، ولن يتم ذلك حتى يعاد النظر في القيمة المعطاة للثقافة في تكوين الإنسان.

* تقوم الدنيا ولا تقعد لمشاركة امرأة في أمسية شعرية من وراء ستار.. ما هذه الحساسية المفرطة تجاه المرأة؟ وكيف تقرأ ذلك؟

- المؤسسة ما زالت تراوح في هذه المسألة، وتستمع إلى قلة اعتادت أن تنبري من فوق المنابر بصوتها، ولم تتنبه إلى الأغلبية الصامتة، ولا إلى المستقبل. من يرد صناعة حضارة فعليه أن لا يكون مجرد رد فعل بل عليه أن يضع قوانينه ويرعى تطبيقها بشفافية لا ازدواج فيها، فكيف لنا أن نستوعب أن المرأة السعودية تشارك من فوق المنبر في افتتاح مؤتمر ترعاه الحكومة، وفي نفس الوقت تجابه شاعرة سعودية بالأذى عندما تفعل الشيء نفسه في مؤسسة ثقافية؟

* أين يستوطن الخلل في العلاقات الداخلية بين الأطياف الثقافية؟

- الخلل كامن في عمق البنية الثقافية، حيث إننا لم نرسخ الشأن الثقافي على أساس أنه ضرورة تنموية اجتماعية، بل تم التعامل مع الثقافة على أنها حالة استهلاكية تكميلية يمكن العيش دونها، ولنطّلع على الفقر في خطط التنمية الثقافية في وزارة التخطيط لنكتشف ذلك. أما الأطياف الثقافية فهي نتاج اجتهادات فردية حتى الآن، كما أنها ليست في حالة ساكنة حتى يمكن الحكم عليها بصرامة وقطعية، لا تمتلك الأطياف الثقافية تخوما واضحة وصريحة بل إنها رجراجة ومتداخلة ومتحولة.

***

السيرة الذاتية

أحمد الملا
من مواليد الأحساء عام 1961.
المدير الإداري وعضو مجلس إدارة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية من 11- 2- 2006. شارك في العديد من المهرجانات الثقافية: اليمن، جرش (الأردن)، المربد (العراق)، القاهرة، الكويت، البحرين، الإمارات العربية المتحدة، سورية، لوديف (فرنسا). كما أحيا العديد من الأمسيات محليا: في الدمام والأحساء والرياض والقطيف وجازان وتبوك والجوف.

الشرق الأوسط
24 ابريل 2009