عبد العزيز جدير

عبد اللطيف اللعبي

لم يكتب للشعراء وطن يسكنون إليه في فرح نفس وبهجة روح. هم الملعونون، إلى الأبد. طردوا من كل الجمهوريات والمدن الفاضلة. لم يحتمل أفلاطون وجودهم، وطُلِبَ منهم صمتهم أو... رأسهم، على الدوام. ولا منزلة بين المنزلتين. أمسك، عبد اللطيف اللعبي، بجمرة الشعر ليضيء لحظات من حاضر وطنه، أمته، أمميته... حلم بحداثة يسكن إليها التراث وعصرنة تحترم ما يقترف الفؤاد من أماني وأحلام وحرس على الاختلاف والتعدد. كانت، وما تزال، أحلامه بسعة الأفق. أدى ثمن الحلم، وما تراجع عن مد اليد نحو القمر.. لم تشرف جائزة من بلده نفسها بالاقتراب منه. وحسنا فعلت! لكن، يد القمر امتدت نحوه، تكريما للحلم الذي سكن الفؤاد ونحت الكلام والصور ولهيب العواطف وجنون الأمل... يد حملت اعترافا "غونكور الشعر". هو وسام، على جبين صهره التقدم باتجاه القمر والأحلام، قد يجدد جنون الأمل ولكن فرحته لن تعمر طويلا فأمام الشاعر ألف ميل، ليمسك بالقمر.

- لو سألناك عن دلالات خاصة لاختيار "أنفاس" (Souffles) عدا دلالة مد الحقل الثقافي المغربي بأنفاس جديدة، ثم ما الظروف التي رأت فيها المجلة النور؟

- العنوان نفس من أنفاس، كان مطروحا على الثقافة المغربية، الأدب المغربي أن يعبر عن نفس جديد في الحقل الثقافي. أظن أن العنوان كان معبرا وموفقا في الوقت نفسه. أما الظروف التي نشأت فيها المجلة، فأذكر أنني أنتمي إلى "مجموعة أعمال" من الأصدقاء الذين كانوا في البداية وراء ظهور مجلة "أنفاس" من شعراء وكتاب وتشكيليين.. وأنا أنتمي إلى جيل ما بعد الاستقلال مباشرة، وبالتالي واجهنا في تلك المرحلة تحديات أو مهام بناء أدب مغربي جديد، ثقافة مغربية جديدة، أسئلة ثقافية وفكرية جديدة تكون في مستوى المهام التي كانت تطرحها علينا تلك المرحلة، وهي مرحلة إعادة البناء، وربما مرحلة التأسيس لثقافة مغربية وإبداع مغربي جديدين يومئذ. طبعا هناك مبادرات سابقة على وجود مجلة "أنفاس" التي تأسست سنة (1966)، لست في حاجة إلى الإشارة إليها، لكن "أنفاس" استطاعت أن تبلور الأسئلة، التساؤلات، الحاجيات التي كانت مطروحة بوضوح أكثر في تلك المرحلة، وتواجه هذه التساؤلات بنوع من الاستمرارية، ولو أن المجلة عاشت مدة ست سنوات ثم ووجهت بالمنع.

- العنوان الفرعي الذي حملته "أنفاس" هو "مجلة الثقافة العربية في المغرب"، هذا الجانب الذي له علاقة بما سيسمى الأدب المغربي/المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية، أي أننا أمام التفكير في اللغة العربية وتأسيس الثقافة الوطنية والتفكير فيهما باللغة الفرنسية..

- هذه من المفارقات التي التصقت بانطلاقة "أنفاس"، أقول مفارقة بالرغم من أنه لم يكن الوعي بخصوصية هذا الطرح آنذاك. مثقفون مغاربة يكتبون باللغة الفرنسية ويدافعون باستماتة عن اللغة العربية، واستعادة الثقافة واللغة العربية في المغرب لموقعهما. وهذه مسألة طبيعية جدا: أي أن هاجسنا كان هو كيف نبني ثقافة مغربية تجمع، تبلور، تقوم بتركيب... لكن كيف يمكن تركيب كل مكونات الثقافة المغربية في تلك المرحلة المبكرة. وربما كنا، يومئذ، من أوائل من انتبه وتحدث عن تعدد الثقافة المغربية وتنوعها: الثقافة العربية الإسلامية، الأمازيغية، واليهودية، وثقافة البحر الأبيض المتوسطية، والعمق الإفريقي لهذه الثقافة. فقد كنا نمتلك، مبكرا، رؤيا عميقة ومتكاملة لتنوع الثقافة المغربية والحقل الثقافي المغربي، ومن ثم وعي بشكل بناء الثقافة المغربية الذي يمر بالضرورة بتركيب كل هذه المكونات.

- السي عبد اللطيف، لو لم يكن الفكر الاشتراكي الموسوم بالعلمي لما كان هذا التفكير المتقدم في بداية استقلال المغرب والموسوم بالتنوع الثقافي المغربي، والقائم على وجوب تركيب كل مكونات الثقافة الوطنية المغربية لبنائها من جديد وفق أولويات أخرى يحكمها التعدد الإثني المغربي، خاصة أنك من مواليد (1942)، وتم تأسيس مجلة "أنفاس" سنة (1966).. ومعنى ذلك أنك وفريق المجلة كنتم شبابا..

- نعم، طبعا كل ذلك يعود إلى خصوصية المرحلة. فقد كان هناك أمل كبير في إخراج المغرب من التخلف، بناء الدولة العصرية، تأسيس الحداثة.. وهذا الجيل كان جيلا مثقفا، فالمدرسة المغربية، والجامعة المغربية في تلك المرحلة تختلف عنها اليوم، وثقافة مثقفي تلك المرحلة كانت واسعة جدا. فقد كان هناك عندنا جميعا فضول فكري وثقافي شاسع جدا. وكنا نمتلك نوعا من اليقين أن المغرب في ظل عقود معدودة سيلتحق بركب الدول المتقدمة. أحلام الشباب في تلك المرحلة كانت كبيرة، ولم نكن نعرف هذا التقوقع الذي سقطنا فيه، فيما بعد، السائد الآن والمرتكز على الخصوصية والتأكيد عليها إلخ.. كان وعينا قائما على استحالة بناء ثقافة جديدة في المغرب إذا لم نستوعب الثقافة الكونية. وهذه الفكرة تقهقرت، خلال العقود التي تلت تلك الفترة.

- السي عبد اللطيف، نحن نسترجع ملامح مرحلة نيرة سابقة من تاريخ المغرب لذلك أسألك عن التصور الأولي لإنشاء المجلة ثم تنفيذ هذا التصور من زاوية قضايا كالتعدد اللغوي، التعدد الثقافي..

- هذه مهمة غير سهلة (ضاحكا) فقد اضطررنا أن ننتظر قرابة الأربعين سنة لنرى إنجاز اللبنات الأولى الخاصة بما يجب إنجازه لفائدة البلد. أنا أتحدث طبعا عن الانجاز الذي تحقق لفائدة اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تدريس اللغة الأمازيغية في بعض المدارس.. هذه خطوة أولى تسير في الاتجاه الايجابي. ولكن في تلك المرحلة، لم يكن الاقتصار فقط على المجال الشعري لأن "أنفاس" كانت مجلة شعرية وأدبية في البداية، ثم انتبهنا بسرعة إلى أن الثقافة تشتمل على فروع أخرى، على فنون عدة، على ضفاف مختلفة.. في العدد الأول، حضر ضمن طاقم المجلة عدد مهم من الفنانين التشكيليين وهو أمر له دلالة خاصة. كان معنا عدد من الفنانين المنتمين لمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء ومنهم محمد شبعة، محمد المليحي، فريد بلكاهية.. ثم التحق بنا فنانون آخرون. في العدد الثاني، كان أول ملف ذلك العدد خاصا بالسينما المغربية، وكانت في طور النشأة. ولكن بالرغم من ذلك طرحنا، في ذلك الوقت المبكر، عدة قضايا تهم السينما المغربية والتي ما تزال تناقش حتى الآن. العدد السابع والثامن كانا مخصصين للفنون التشكيلية وللأدب والفنون الشعبية. وهو ملف يمكن أن يعود إليه الطالب والباحث والمهتم ويكتشف الآن مدى عمق التفكير المنصب، في تلك الفترة، على الفنون التشكيلية، وكيف أن هذه الفنون التشكيلية يمكن أن تهتم بالفنون الشعبية وتدمجها في صلب عملها وتفكيرها، ابتداء من التقنيات إلى مستويات التعبير الاستتيقي. ثم انتقلت المجلة، شيئا فشيئا، إلى ربط التفكير بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وهذا أمر منطقي بالنسبة إلينا، يومها، لأن الثقافة لا يجب أن تطرح القضايا الاستتيقية فقط، ولا يمكنها أن تفيد وتلعب دورا ما لأن هناك محيطا، ولا يمكن لثقافة أن تتبلور وتتطور إذا لم يكن هناك تطور على المستوى الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي للبلد.. لم يكن لدينا وعي واضح بكل هذا أو تفكير معمق به، ولكن كان هناك حدس حاد أن نمو الثقافة وتطورها رهين بتطور البناء الديمقراطي للبلد.

- يبدو السي عبد اللطيف أن التصور بدأ يتبلور شيئا فشيئا في الذهن ويتم الوعي به ويتجسد في أعداد المجلة تباعا. وأن المجلة أخذت في التوسع مع كل عدد جديد، كما يشعر بذلك المتتبع للمجلة آنذاك أو المتصفح لأعدادها الآن..

- النزعة كانت يومها مغربية، مغاربية، عربية، إفريقية، ولكن أممية. ذلك أن بعض الأصدقاء، وهم قادة بعض حركات التحرر الإفريقية مثل الأنغولي (ماريو دي أندراد) الذي ساهم بشكل كبير جدا في التأطير الإيديولوجي للمجلة. وكان هناك شعراء ألمان، فرنسيون.. ساهموا أيضا في المجلة. وساهم فيها أيضا كتاب من أمريكا اللاتينية. وكانت للمجلة علاقات مع كوبا، كوبا تلك المرحلة التي شكلت فيها الثورة الكوبية ملحمة آنذاك. هذا البعد الكوني أو الأممي كان مطروحا في ذلك الوقت المبكر، وكان طبيعيا في تلك المرحلة لأننا لم نكن ننظر إلى المغرب كجزيرة معزولة، بل المغرب في إطار محيط جغرافي، سياسي، تاريخي أوسع وأرحب بكثير.

- هل لم يطرأ ببالك، نشر كل أعداد مجلة "أنفاس" في كتاب ليظل مرجعا شاهدا على اهتمامات مثقفين مغاربة في مرحلة الستينيات، ويشكل قطعة من تاريخ الأدب المغربي، وليتمكن الباحث والدارس من الرجوع إليها...

- يا أخي، لقد حاولت مرارا، منذ خمس وعشرين سنة، أن تُنجز هذه الفكرة التي تثيرها الآن لكن لم تكن في المغرب، للأسف، أية استجابة لاعتبارات مختلفة منها: جبن بعض الناشرين (وأقول ذلك بصراحة) أحيانا، أو عدم وعيهم بالذاكرة الثقافية المغربية، أحيانا أخرى. الذاكرة الثقافية، هذه معضلة، ومشكلة عويصة لازلنا نعاني منها في المغرب حيث لا يوجد اهتمام بالذاكرة الثقافية، بذاكرة الشعب المغربي. في فرنسا أيضا، حاولت واصطدمت بصعوبات مادية ومعنوية حيث لا أتوفر على الإمكانيات المادية لإنجاز ذلك. بقيت الأمور كذلك، حتى التقيت، صدفة، بأستاذ جامعي أمريكي فاقترح علي فكرة وضع مواد المجلة على الإنترنت. إمكانيات هذا الأستاذ كانت محدودة، وتطلب منا إنجاز الفكرة كثيرا من الوقت، لكننا الآن بالإمكان أن أعلن للمهتمين بالموضوع أن هناك موقعا على الإنترنت يحتضن مادة المجلة وهو الذي سأشير إليه ليتمكن الراغب في الاطلاع عليه: (www.seattle.edu/souffles)

- السي عبد اللطيف، توقفت مجلة "أنفاس" بغير إرادتك، لو تسترجع لنا ظروف توقفها..

- الظروف معروفة، تم اعتقالي في (1972) وقد اعتقل أرشيف المجلة أيضا، وهذه مسألة سأطرحها قريبا، في المغرب، على السلطات وعلى الرأي العام. فالشرطة لما دخلت منزلي لاعتقالي حجزت أرشيف المجلة، وهو يضم مراسلات مهمة جدا مع عدد من المثقفين المتميزين على الصعيد المغاربي والعالمي. وهذه من الأشياء التي يجب أن نهتم بها الآن، فمادام هناك تطور في الاعتراف بالتجاوزات التي قامت بها الدولة، وهي تعتذر عليها الآن لعدد من ضحايا التعسف الذي مورس عدة عقود.. في الاتجاه نفسه، أي المحافظة على الذاكرة الوطنية، يجب أن تطرح الجمعيات مع المعنيين بالأمر من وزارة الداخلية، وإدارة الأمن الوطني ضرورة إعادة الأرشيفات التي تم حجزها آنذاك، بشكل تعسفي ليس إلى أصحابها ولكن للرأي العام، للبلد. من الآن، فمن هواجسنا كيف نكتب التاريخ المعاصر للمغرب..

- لو تساءلنا ماذا يبقى، الآن، من "أنفاس"؟ هل بعض البذور التي زرعتها..

- اهتمامك الآن، أنت كصحافي بمجلة "أنفاس" يعني أن هذه البذور لم تمت، لم تمت في الأرض بل أعطت ثمارا. أنا شخصيا أرى أنه في تلك الفترة، كانت السلطة تقوم بعملية غسل الذاكرة، لأن تجربة "أنفاس" كانت محاصرة لفترة طويلة بصمت رهيب. ورغم ذلك، ألتقي أحيانا بشباب طلبة أو مهتمين مطلعين على هذه التجربة، أو على الأقل على جزء منها مما يجعلني أحتفظ بجنون من الأمل، تعرفني به.. ثم ما الذي سنحتفظ به عن هذه المرحلة، مرحلة الستينيات حتى الآن؟ سنحتفظ بالبؤر المضيئة، كتجربة "أنفاس" فالناس، قاوموا، فكروا، حاولوا إعطاء نفس جديد للثقافة المغربية، حاولوا أن يتحدثوا عن بلدهم وعن ثقافة بلدهم وشعبهم بطريقة لا علاقة لها بالطريقة الفلكلورية بل بطريقة رفيعة تتمتع بنوع من الإبداع، وبنوع من الندية للثقافة والإبداع العالميين. وهذا ما قد يحتفظ به تاريخ البلد للعقود القادمة هو هذه المقاومة، هو مسيرة الإبداع هذه التي حاولت جعل هموم المغاربة هموما بشرية..

- لو أمكن العودة للمرحلة السابقة وتصدر "أنفاس"، هل تعود.. تعود لخوض التجربة؟

- [ضاحكا]، أنت تعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه. على أي حال، المهام التي طرحتها وأنجزت البعض منها هي مهام المرحلة. أنا أقول دائما إن على الشباب، على الأجيال الحالية أن تتحمل مسؤوليتها بكل جرأة وشجاعة، وبحس يسكنه هاجس المغامرة. لا يجب أن نبقى حبيسي القدرية والمآسي فقط بل يجب، رغم المشاكل التي نعرفها، أن نزرع في هذا الواقع بذور جديدة من الأمل والنهضة.

طنجة، عبد العزيز جدير
Azioued1@maktoob.com

خاص كيكا