عناية جابر

علاء خالدعلاء خالد شاعر وكاتب مصري، ولد في الإسكندرية (1960)، اتجه في البداية الى دراسة العلوم الطبيعية. بدأ طريقه الأدبي في الثمانينيات بعد دراسة للكيمياء الحيوية في جامعة الإسكندرية. لعلاء عدة مجموعات شعرية، كما يرأس تحرير فصلية «أمكنة» المجلة الثقافية التي تمثّل استثناء، ليس فقط من خلال مقالاتها غير التقليدية، بل لتوثيقها للمكان وإقامتها علاقة وثيقة بين النصّ والصورة. ميدان التحرير الذي أضحى معلماً للثورة المصرية خطف الأضواء من ميادين أخرى قامت في الإسكندرية وسائر المدن المصرية. في يومياتهم الثورية في ميدان التحرير كتب الكثير من الكتّاب. من هنا رغبتنا، سماع شهادة كاتب الأمكنة، عن تجربته في «مكانه»، في الإسكندرية، مشاهداته، ومشاعره في تلك الأيام الفارقة من ثورة مصر.

*ماهي الجملة التي رددّتها أكثر من سواها في التظاهرات التي شاركت فيها في الإسكندرية؟

- فى فيلم وداعا بونابرت ليوسف شاهين، يصرخ أحد أبطال الفيلم عند دخول عساكر الفرنسيين الإسكندرية، واستعداد أهلها للدفاع عنها، يصرخ هذا البطل وهو يهز ذراع أخيه المذهول «قول ياعلي: مصر هتفضل غالية عليا» . ظلت هذه الجملة في ذاكرتي، أرددها كثيرا بدون خيال أو حرارة فى المسيرات التي بدأت فى الإسكندرية ظهر يوم 25 يناير، لم أتفوه بهذه الكلمات، ولكنها كانت حاضرة وراء أي فعل أقوم به. لقد أخذت الترديدات الكثيرة للجملة منحى جديدا أثناء الثورة، كأني كنت أتدرب عليها، لأن يوما سيأتي ويصبح لهذه الجملة معنى داخل حياتي وحياة المصريين. الأغاني والأفلام الوطنية التي كنا نسخر منها كفيلم «رد قلبي» وتلك الجملة الشهيرة «إنت من الأحرار ياعلى»، وكذلك مباريات الكرة لمنتخب الوطني، شكلت مرجعا لفكرة «الوطنية»، والتى لم يكن هناك شيء آخر يشير إليها في عقود أصبحت فيه هذه الكلمة مهانة وسيئة السمعة. في الثورة تم إحياء هذا المرجع القديم.

الثورة تختصر الزمن

* كيف تحوّل «المكان» فجأة من مشهد مألوف الى بؤرة ضوئية استقطبت الملايين؟

- جميعنا أخذنا مواقع جديدة أثناء الثورة، حتى أصواتنا أصبح لها نوتة موسيقية لم تتعلمها من قبل، ولكنها أتقنتها في أيام قليلة. هل الثورة هي السبب؟ ربما. لكن هناك سببا آخر وهو ذلك النزوع العاطفي الموروث، تلك التدريبات والخيالات والصور القديمة التي كنا نتدرب عليها في صمت حول نوع جديد من الحب. كنا نتدرب على عاطفة سمعية، تحولت مع بداية الثورة إلى عاطفة لها جسم يتسع للملايين، وهنا تكمن المعجزة بالنسبة لي، أن هذه الإيماءات والإشارات والأصوات والخيالات اللامرئية تحولت في لحظة إلى جسم مرئي. ربما أحد تعريفات الثورة ينحصر بالنسبة لي في هذا المفهموم، «التبدى». فالتبدى قهر لكل المحذوف من تاريخك وإحياء له، ما لم تعشه وما تمنيت أن تعيشه وتنطق به، ليس كفرد، ولكن كفرد داخل كجماعة لم تكن تعرف حدودها من قبل.
لا أنسى صوت سلوى زوجتب وهي تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام» أو وهي تردد أغنية شادية «يا حبيبتى يا مصر يا مصر»، لقد أخذ صوتها الخجول مكانا جديدا فى تلك النوتة الموسيقية الشعبية، ربما كانت تتعرف على صوتها فى هذا المكان للمرة الأولى. الحب يصنع المعجزات، وها هي المعجزة تتحقق، لقد أخذتنا المعجزة لنتعرف على أنفسنا في هذا الحدث الجوهري، ولنتعرف كذلك على هذا الآخر الذي كان يعيش بالجوار.

* احك لنا مشاهداتك، ساحة التحرير، الناس؟

- لأول مرة تمتلئ شوارع الإسكندرية بتلك المسيرات الحاشدة وبأصوات هتافاتها. كأني أرى الشوارع لأول مرة. تلك الشوارع التي كنا نسير فيها فى صمت، نحاول أن نختصرها لنصل لهدفنا من أقصر طريق، وبأقل تعب وإرهاق نفسي، وبأقل التفات لمن حولنا. أصبحت هذه الشوارع ساحة مفتوحة لتلاصق الأجسام، وكلنا في ماراثون بدون خط للنهاية. أصبح التلفت مصفى من التوجس، إشارة سمحة بعين ودودة تبغي التعرف وفتح باب الحوار. لقد اختصر زمن اللقاء. الثورة تختصر الزمن، كما أن الحب يختصر الزمن، لا لشيء إلا لكي لا نطيل أمد السأم. أصبح الجميع يعرف بعضه بعضا. حتى ولو كان وهما ما حدث، فالوهم صنع ثورة، وعلى هذا الوهم اتكأنا لفترة من الزمن حتى نرى هذا الوهم وقد تجسد في تغيير النظام.

* من هم رفاقك في تلك المسيرات، أقربهم والذين تعرفهم شخصياً؟

- سلوى، نهى، بلال، أمينة، رضوى، إيهاب، خالد، شيماء، أميرة، عبد العزيز، وغيرهم، كانوا رفقاء الرحلة اليومية فى التظاهرات، نتوه أحيانا عن بعضنا، ولكن سريعا ما نجد نقطة أو مركزا يجمعنا. كنا الجماعة الصغيرة داخل حيز الجماعة الكبيرة. لا يفصل بيننا شيء، ولا حدود متخيلة، نذوب في الجماعة الكبيرة ثم نرجع لمركزنا، لا خوف من الذوبان، أو إدانة للعودة. يتوقف أحدنا فجأة، ليبحث عن الآخرين، عن تلك الجماعة الصغيرة الشاردة وسط الجماعة الكبيرة.

* ثمة جملة أسباب بالطبع أنهضت شباب مصر وناسها الى ثورتهم، ما هي برأيك؟

- الإحساس بالمهانة وليس باليأس كان من أحد الأسباب وراء هذه الثورة، كذلك النزعة العاطفية المختزنة لدى الشعب هي التي صنعت تلك الشبكة الحميمة من التواصل السريع والآني أثناء المسيرات والوقفات. لقد أنقذتنا عاطفيتنا، والتى ربما كانت تنتمي لعصور وأجيال سابقة أفنت حياتها فى البكاء أمام الأفلام المصرية. خلقت هذه الشبكة العاطفية مسارات سريعة للتفاهم واللقاء في ما بيننا حتى تحولت المسيرة لجسد واحد. أكثر من عصر كان يعيش بداخلنا.

فرح على حد السكين

* هل ساورك الخوف في التظاهرات؟ ما هو شعورك في تلك الأثناء؟

- الخوف كان جزءا أصيلا من الثورة، من أجل أن نتجاوزه. لقد وضعت الثورة أخطاءنا ومشاكلنا أمام أعيننا. فى المساء، أثناء ساعات حظر التجول، وقبل أن نأوي إلى الفراش، بعد مشاهدة التلفزيون بجميع قنواته؛ كانت أقسى اللحظات. يشلنا الخوف، تسألني سلوى «هل سينتهى هذا على خير؟»، «تفتكر الدنيا هتتغير بجد؟». كنت أطمئنها، كنت أشعر بتفاؤل لا أعرف سببه، أو بمعنى آخر كنت أشعر بلامبالاة تأتيني في اللحظات الصعبة. لقد استغرقني إيقاع ما يحدث لدرجة تلاشت عندها فكرة الخوف، واستبدلت به الترقب المشوب بإيقاع خافت. كنا محصورين بين الخوف والأمل.
فى التظاهرات أيضا بجانب الخوف من الرصاص والغازات المسيلة للدموع، كنا نخشى شيئا مجهولا. كنا نراقب كل إيماءة وكل صوت من حولنا، وليس من داخل جسم المسيرة، كأننا غير مصدقين بأننا أصحاب هذه المعجزة. كنا فريسة لفكرة «المؤامرة»، ولكنها هذه المرة لم تكن مؤامرة خارجية، بل داخلية، لنواجه الجزء المهزوم فينا. هذا الجزء كان أيضا يقظا ليسلب منا فرحتنا بأنفسنا، وينمي خوفنا بأننا مسيرون باتجاه حتفنا. الخوف من المجهول هو أقسى لحظات الخوف، فالثورة تعجل بحضور المستقبل الذي كان مجهولا من قبل. أزمنة تتالت في أيام الثورة. كنا نشد المستقبل، ومن ورائه المجهول، من قرنيه. كنا خائفين لأننا أزحنا غطاء المستقبل. كتبت لصديقة في ألمانيا كانت تسألني عن الثورة «كان هناك فرح، ولكنه فرح يقف على حد سكين، كلما تعمقت فيه، كلما أحسست بفداحة نزف لا تراه لجرح لا تراه، ولكنه يحتوينا، كأننا نقف على حافة شرفة عالية، نفرح بالطيران كما نفرح بالموت» الكفتان متساويتان.

* ما هو المشهد، الحادثة، الأمر الذي أثرّ بك أكثر من سواه في خضّم مشاركاتك؟

- أتذكر إيماءات سريعة، «نهى» وهي تقول لى وسط هذا الزحام الكثيف، وأثناء لحظات الهدأة من الهتاف، «قدامنا حاجات كتيرة هنكتبها». كانت تكلمني عن المستقبل الذي نعد له من الآن. كنا في هذه الثورة نشحن بطاريات المستقبل. نعود إلى البيت واثقين أن كلا منا قد اختزن الآف الإيماءات في اللاوعي، ويوما ما ستطفو على السطح وتتحول إلى كتابة. لم ينس أي منا نفسه ومهنته أثناء السير في الثورة، بدون أية أنانية، فالثورة كالأم الكبيرة التي تنكر نفسها. الثورة بمعنى ما أمومية. كنا نراهن على اللاوعي الجمعي، كأن هناك ذاتا أخرى للجموع تسير بمحاذاتها. الثورة إحياء للاوعي الجمعي، لصور الأمومة، للمكبوت، للإخفاق، للقهر، والطفولة. ولكنها للمرة الأولى التي نحتضن فيها هذا اللاوعي الجمعي، نسير بمحاذاته أو تحته أو فوقه؛ كأطفال كبار. أعادنا هذا اللاوعي الجمعي لحرية الطفولة الخرقاء، للتضحية بدون حساب، للتماهي مع الموت، لاستدعاء صور الشهادة.
الشهادة، التضحية، الطفولة، كلها تقف في كفة وفي الكفة الأخرى تقف الأمومة شاهدة. لا تُبعث هذه المعاني إلا في وجود معنى أكبر يجذبها من مكامنها. من هنا أصدق بأمومية الثورة. كنا نسير بصحبة الأم الكبيرة. صورة مصر دائما كانت هي الأم الحانية التي استعدناها في الثورة، والتي غناها الشيخ إمام «مصر يامه يابهية يام طرحة وجلابية الزمن شاب وانتى شابة وهو رايح وانتى جاية، جاية فوق الصعب ماشية، فات عليكى ليل ومية واحتمالك هو هو، وابتسامتك هي هي، يا صبية».
الأم/ الصبية، هذا الحب المحرم، الحراق، ولكنه هنا يظهر في شكله الجمعي، بدون أية مشاعر ذنب، كأننا في لحظة شفاء جماعي من عقدة الأمومة المصرية، وخلاص منها. لن نكتب بعد الآن عن طفولتنا إلا في لحظة الخسارة، ولن نكتب عن أمومة مصر، لأننا خرجنا عن طوق الذنب والطفولة، بدون يتم أو ما شابه. لم تعد مصرهي تلك الأم الطيبة، لم تعد صفة الأمومة والصبر «يام الصابرين» قناعا للعجز. لقد استعادت مصر روحا تتجاوز فكرة الأمومة العاجزة أو الصابرة، روحا بدون نسب، إلا بعلاقة الحب المتكافئة، لأنها لم تعد أما، أو أصبحت أما حديثة بشكل ما.

* ماهي اللحظة الفاصلة التي حدست، أن الثورة انتصرت؟

- اللحظة التي أحسست فيها بانتصار الثورة هي يوم 28 يناير المسمى بجمعة الغضب، لأول مرة أعرف معنى كلمة «شعب» وأراه يسير داخل وحول فكرة واحدة وهدف واحد. هي لحظة التحول الحقيقى وكل ما سيأتي بعد ذلك هو امتداد حتمي لإرادة هذه الجموع.

* ما هو المشهد أخيراً، الذي أثرّ فيك أكثر من سواه؟

- هناك نوع من المشاهد الفريدة التى أثرت في، مشهد أحد الرجال المسنين، كان يقف في شرفة بيته في الطابق الرابع، بينما المسيرة تسير من تحت بيته، أخذ يرفرف بيديه من شدة الفرح كالأطفال.

السفير
5 ابريل 2011