حاوره: فيرونيك أبو غزاله
(لبنان)

عقل العويطلكلّ كلمةٍ يكتبُها الشاعر والناقد والصحافيّ اللبنانيّ عقل العويط صدى خاص لا يمكن إلا أن يخترق القارئ فيشركه في فعل الكتابة بدل أن يبقيه غريباً عنها، وينقله معه الى عالمٍ خلقه هذا الشاعر لنفسه من خلال رؤيته الشعرية والأدبية الوجودية المختلفة عن كلّ ما يمكن أن يُكتب بأقلام أخرى. من دواوين الشعر التي تنبض بالعاطفة والأفكار المُبتكرة الى المقالات التي خلقت هوية خاصة للملحق الثقافيّ في صحيفة "النهار" اللبنانية، وصولاً الى المحاضرات الجامعية التي تهيئ الأجيال الشابة لتكون على قدر المهمَّة الأدبية التي تنتظرهم... كلّها مساحات إبتدعها العويط ليجعلها أشبه بفضاءات للتأمل في قضايا الإنسان من ذاته ومشاعره الى الكون وخالقه.
وفي حواره مع موقع "إيلاف" يتحدّت الشاعر عقل العويط عن الثورات التي تشهدها العديد من الدول العربية وموقع الأدب والشعر في هذه اللحظات الثوروية، ليكون للبنان حصّة أيضاً من الحوار. وكما في نصوصه الشعرية، فقد عبّر العويط في الحديث التالي عن كلّ أفكاره دون أن يضع أي قيودٍ عليها، ليظهر مرة جديدة أنّ لا حدود لتمرّده.

* هل ترى أنّ الثورات العربية في مصر، تونس، ليبيا، وصولاً الى سوريا، أعادت تعريف المثقّف العربيّ ودوره في إحداث التغييرات السياسة والإجتماعية والثقافية؟

- أهمّ ما تفعله الثورات العربية الجارية، وتلك المحتملة التي تعتمل في الباطن، في أكثر من بلد، أنها تضع الإنسان العربي على طريق المواطنة. أي انها تنقله من مجرد كونه "شيئاً"، الى أن يكون مشروع مُواطن. أستطيع أن أذهب الى أبعد فأقول إن ستين عاماً من الأنظمة الديكتاتورية العربية، جعلتنا "جماهير"، أي قطعاناً. فهي أفقدتنا فكرة الإنسان فينا. مسختنا. شوّهتنا. دمّرتنا من الداخل. حتى صار الواحد منا عضواً في قطيع. حصل ذلك بالسكوت حيناً. بالتماهي حيناً آخر. بالتهميش. بالاستقالة. بالتعايش. بالتغاضي. بالترويض. بالخوف. بالهرب الى الأمام. بالتعامي. بالقبول. وبالاندماج. ثم أحرق الشهيد البوعزيزي التونسي نفسه، فأحدث ذلك الاستشهاد تحوّلاً تاريخياً جوهرياً في الحياة العربية برمتها. لكأن جداراً انكسر. جداراً في داخل الإنسان العربي. كان ذلك حدثاً يشبه الحلم الذي "ينتقل" من عالم النوم الى عالم الواقع، فيصير جزءاً من الصباح، من النهار، من الحياة نفسها.
لقد أعادت هذه الثورات العربية تعريف الإنسان ذاته. "الجماهير" أصبحت "شعوباً"، والإنسان الذي كان عضواً في بنية الجماهير، أصبح شخصاً قائماً بذاته. أصبح فرداً. وأكاد أقول إنه في طريقه الى أن يصبح مواطناً. لم يعد هذا الإنسان عضواً في قطيع، أو شيئاً، أو صفراً. أصبح معرَّفاً. إنه هو بذاته. فلننظر من خلال ما يجري، ابتداءً بسوريا، الى "إيديولوجيا الجماهير" كيف تخسر فلسفتها ومنطقها وجماهيرها، لصالح مفهوم الشعب. المثقف العربي في هذا المعنى، لم يعد جزءاً من هذه الجماهير. إنه يولد من جديد، مواطناً، أو في طريقه الصعبة الى تجسيد هذه المواطنة.

* هل كان الشعر العربيّ بمستوى اللحظة التاريخية التي قلبت الأنظمة في العديد من الدول العربية؟

- الأدب شيء آخر. ليس مطلوباً من الشعر أن يواكب اللحظة التاريخية، أن يكون في مستواها، أو دونها. هو ليس حدثاً تاريخياً، إنه شعر فحسب. يستطيع الشعر أن يكتب الحدث التاريخي، أو أن لا يكتبه. لكن ذلك ليس شرطاً لشعريته، ولا معياراً قيمياً. إنه متحرر من هذه المعادلة، لأنه ملك ذاته، وقيمته في ذاته. يجب ألاّ يعامَل الشعر انطلاقاً من معيارية الحدث التاريخي. هذا يشكل إجحافاً هائلاً في حقّه، كعمل خلاّق، وكإنتاج روحي ولغوي. فلنترك الشعر يواكب ذاته. وإذا شاء أن يواكب حدثاً، فليواكبه آخذاً في الاعتبار معياراً واحداً: أن يكون هو الحدث، لا أن يكون صدىً له، أو مرآة.

* متّى يحين في رأيك الوقت لكتابة أدب الثورات العربية؟ وهل ترى أنّ من اقتنص اللحظة من شعراء وكتّاب أصدروا كتباً ودواوين، قد قاموا بتبدية الحدث السياسيّ على الحدث الوجدانيّ؟

- مرةً ثانية، يهمّني أن أوضح أن المسألة الأدبية مختلفة تماماً، أو متمايزة، عن المسألة السياسية، وإن يكن من الممكن أن يحدث تقاطعٌ موضوعي بينهما. الأدب ليس محض حدث عام أو محض حدث وجداني. إنه فعل يتحقق في اللغة. يجب أن نسأل عن اللغة التي يحين وقتها أو لا يحين. بدون هذه المعادلة الدقيقة، معادلة الكتابة من داخل اللغة، باطلٌ كلّ كلام، في رأيي، عن الأدب وعلاقته بالحدث، أكان حدثاً يجري داخل المجتمع أم داخل الذات. عندما يحين وقت الكتابة، تكون الاولوية للكتابة ذاتها باعتبارها عملاً خلاّقاً وإبداعياً.
ركوب الموجات السياسية والاجتماعية، من شأنه أن يجعل الأدب الخلاّق، في خطر. لماذا؟ لأن غواية الحدث كبيرة، ومطبّاته كثيرة. التحدي الحقيقي للأدب هو كيف يستطيع أن يدخل في الموضوع، أن يكون منغمساً فيه، وموصوماً به، بشرط أن يظل "أقوى" من غوايات الحدث، حرّاً منه، فلا يكون "تابعاً" له أو ملحقاً به. التحدي الحقيقي للأدب، أن يخلق لنفسه كينونة ثانية، باللغة، في اللغة، هي الكينونة الأدبية.
من الممكن أن يتولى المقال الأدبي دوراً كبيراً في هذه المسألة، فينوب عن الأدب، قصدية أو روايةً أو نصاً. أي أنه يستطيع أن يواكب الحدث، وأن يكون جزءاً منه. ويستطيع أن يحتل مساحة كبيرة في هذه العملية. العلاقة بين المقال الأدبي والحدث السياسي هي علاقة طبيعية، ثقافية بالمعنى العام، لكنها لا تتطلب اجتهاداً "أدبياً" فائقاً. أما الأدب، الشعر أولاً، والرواية ثانياً، فمسألة أخرى. هي مسألة مختلفة تماماً. الشعر، هنا، قدْر الرواية، وربما أكثر منها، تجربتُه بالغة التعقيد، عميقة، كثيفة، جوّانية، التعاطي معها يكون من داخل الكتابة لا بالقياس إلى ما يجري في الخارج، أي في المجتمع والذات على حدّ سواء.

* كيف تنظر الى المثقّف اللبنانيّ في هذا الزمن، وهل هو يعيش على الهامش وفي ظلال السلطة السياسية بدل أن ينخرط في لحظة الثورة التاريخية؟

- ربما يكون من المستحسن عدم التعميم. إذ ليس هناك صورة لمثقف لبناني واحد، مندرج تحت إشكالية متبلورة. المأساة اللبنانية أن لبنان بلد مشرذم، مقطّع الأوصال، وأن القوى السياسية فيه هي قوى طائفية ومذهبية وعائلية، وليست مكوّنات ثقافية. الثقافة تقيم على الهامش في لبنان، ولم تتمكن من أن تخلق تياراً جامحاً في المجتمع، عابراً للقطعان والطوائف والميليشيات. نجح المثقف اللبناني، نسبياً، في أن يخترق الى حد ما، هذه المشهدية، على المستوى الفردي، لكنه لم يستطع أن "يكون". بمعنى أنه لم يستطع أن يكوّن حالة، تتمظهر في مكوّنات المشهد، وتساهم في التأثير الفعلي فيه.
من المؤلم أن تكون هذه حالتنا. لكن لا بدّ من الاعتراف بذلك. فلنأخذ مثلاً، المحاولات التي جرت في لبنان لتكوين حالة مدنية، علمانية، مضادة للحالة الطائفية والمذهبية، وللمصادرة السياسية. لقد باءت تلك المحاولات بالفشل الى حدّ كبير، لأن القوى الثقافية لم تستطع أن تصنع لنفسها حيّزاً متمايزاً، أو أن تتملص من سلطات الأمر الواقع. مَن خرج على هذه المشهدية، كان حالات منعزلة، جزئية. أقول ذلك باعتراف وبألم شديد. لكن ذلك لم يمنع عدداً كبيراً من المثقفين اللبنانيين من أن ينخرطوا في اللحظة الثورية العربية، وفي احتضانها، والكتابة عنها، وتأييدها، والدفاع عنها، كما هي الحال مثلاً في الكتابات المعمقة التي يحتضنها أكثر من منبر ثقافي، وخصوصاً "ملحق النهار"، منذ بدء الثورة التونسية في اوائل العام الجاري حتى لحظة كتابة هذه الأجوبة.

* هل يقول الشاعر في لبنان اليوم ما لا يحقّ لغيره قوله، على حدّ تعبيرك، أم أنّه ضيّع بوصلة الخلاص؟

- خلاص الشاعر أو عدم خلاصه، هو دائماً مسألة فردية. بل أكاد أقول إنه ليس من خلاص شعريّ البتة. الشاعر كائن جحيمي، ومن الصعب أن يتخلص من كونه كذلك. يمكنني أن أشهد، شخصياً، أني أقول ما أريد أن أقوله. وأكتب ما أريد كتابته. لغيري أن يحكم وأن يبدي رأيه في هذه المسألة.

* 8 سنوات مرّت على كتابتك "رسالة الى الله"، فإذا أردت كتابة رسالة جديدة اليوم هل تكون لهجتك أكثر ليناً أو قسوة؟

- دائماً أسأل نفسي هذا السؤال. وقد أجيب بالآتي: لم أتدجّن، ولم أتروّض. من ينتظر مني أن أرتدي ثياب الحمل فسينتظر طويلاً، وربما سييأس قبل أن يتحقق مرامه. لم يروّضني الدهر لكي أكون أكثر ليناً، أو أقلّ حدّةً ومضاءً. لم تجعلني الحياة أقلّ فظاظةً في التعبير عما أؤمن به. كلما تقدمت تجربتي، وخبرتي، في الكتابة وفي الحياة على السواء، ازددتُ إمعاناً في شحذ السكّين، حتى لكأنني أكتب ما أعتقد أنه حقيقة، بنبرة البركان، لا بنبرة الاستكانة.
لم يتغيّر شيء عندي، على هذا المستوى، لكي أغيّر طريقتي في الكتابة "المتوحشة". هذا بالنسبة الى مقاربة الكتابة في الصحافة الأدبية. أما كتابة الأدب نفسه، فتلك مسألة أخرى، تتطلب اجتهاداً كتابياً ونقدياً من نوع آخر.

* إنطلاقاً من الكتاب الذي أصدرته أخيراً تحت عنوان "وثيقة ولادة"، هل ترى أنّ لبنان اليوم بحاجة لمن يكتب وثيقة ولادته الثانية بالكلمات لتخرج اليقظة الوطنية من رحم اللغة؟

- "وثيقة ولادة"، هو كتاب إذ يندرج، بنيوياً وتقنياً، في الشعرية السردية، فإنه في معنى ما، يعطيني أن أصفه بأنه ولادتي بنفسي، كتابةً. أنا أمّي التي ولدتني. أنا لغتي. هذا المقطع الذي اقتطعه من الكتاب يمكن أن يعطي صورة مقرّبة عن محتواه: "أريد أن أُولد يا أمّي، لكي أصحّح شهادة ميلادي. وها أنا أُولد لتوّي لأني أُولد توّاً. ليس عندي حياةٌ سابقة ولا أعمارٌ سابقة. صرخةٌ كهذه الصرخة تكفي لأُظهِر أن البرهان هو البرهان وأن البرهان لا يكذب. أنا في العبارة فحسب. هذا الذي أوثّقه ليس معجماً. سجِّلوا أني كائنٌ شعريّ، وأني أُولد الآن تحت هذا اليأس الذي يسمّونه طفولة. لستُ روائياً. لستُ أؤرّخ لأن التأريخ خرافة روائية. الوقائع ليست وقائع. الخرافة ليست خرافة. وما يُروى ليس جديراً بأن يُدرَج في رواية. فلكي يروي الراوي، لا بدّ من وقائع تُروى. لكنْ ليس من راوٍ ها هنا، وإن يكن ثمة ما يوهم بالوقائع. لقد وُلدتُ لتوّي، وليس من عمرٍ لي لأن عمري لن يُحسَب بوقت إنما بغريزة الشعر. أنظر من منطقة العدم. أكتب من منطقة العدم. حواسّي هي العدم نفسه. صحيحٌ أني أصرخ، وأن صرختي اتخذت هيئة جسد، وأن الجسد اختار أن يندرج في كلمات، لكن ذلك ليس صراخاً، إنما محض وثيقة. وهي وثيقة ولادة ليس إلاّ. لكنْ، أيكون ما أصرخُهُ وأعثر عليه محض صرخةٍ في معجم الأحوال والأوصاف، أم يكون جرحاً عدمياً مفتوحاً من أجل أن تفتح العبارة مسكنها لتوسيع العدم بالكلمات؟ لستُ أدري.
شهادة ميلادي أشهدها الآن، راجياً أن تُدوَّن في سجلاّت الأحوال الشخصية للأدب. للموافقة على صحتها، وترّهاتها، أقول هي نسخة طبق الأصل عن صرخةٍ صَرَخْتُها في الثامنة من صباح السادس من آذار 1952".
هذا بالنسبة الى وثيقة ولادتي، أما ولادة لبنان بالكلمات، فمسألة دائمة، أي أنها ولادة مستمرة، أو مشاريع ولادة مستمرة، ولا يمكن أن تتوقف. هو بلد في حالة ولادة. هو بلد غير منجز. ولا يجوز تجميده و"بروزته" داخل صورة متكلسة. لهذا السبب أقول إن ولادة لبنان يجب أن تكون أولاً، ولادته هو بنفسه. بشعبه. بقدر ما يجب أن تكون ولادة بالكلمات. هذه وتلك، ولادتان كلٌّ منهما أصعب من الأخرى. لكني مؤمن بأنهما جديرتان بالاختبار والمغامرة والتحدي.

* ما هي الحدود لتمرّدك على الحقيقة التاريخية في حياتك اليومية بعدما ابتكرت سيرتك بالكلام وخلقت نفسك مجدداً في كتابك "وثيقة ولادة"؟

- لا انفصام بين حياتي اليومية وحياتي الأدبية. فمثلما أصنع سيرتي بالكلمات، وأخلق نفسي مجدداً فيها، أصنع حقيقة مضادة في حياتي اليومية. لا حدود لصناعتي لحياتي. لذا لا حدود لتمردي على حقيقة حياتي. هذه مسألة لا يُنظَر اليها بالعين المجردة، فهي مرئية بالذهن أكثر منها في الوقائع. أنا مستقيل تقريباً من حقيقتي التاريخية، خارج عليها، إلاّ في الحدود الدنيا لما يتطلبه الانوجاد في سوسيولوجيا الحياة اليومية والثقافية. هناك خيط ضروري يربطني بالحقيقة التاريخية. كالخيط الذي يجعل المرء يعبر فوق هاوية.

ايلاف
2011 الجمعة 2 ديسمبر