يعد أحمد العلي شاعراً متجدداً في قاموسه وفي ابتكار الأسئلة، لا ليجيب عليها لكن ليجترح الحقيقة وما بعدها، تحدوه زرقة الماء لينسى الصحراء القاحلة، يقرأ أسلافه الجاهليين ليكتب بلغة العصر الجديدة، حميم ويتعلق بأطياف الأهل من البعد، يتنفس على طاولة في نيويورك قهوة الأصدقاء الدافئة ثم يتعرى كليا أمام الحياة، ويبحث عن الجمال الذي يكمن في كل شيء حولنا.
أصدر ديوانه الأول «نهام الخليج الأخضر» عن «أدبي الشرقية» عام 2010م، ثم أصدر ديوانه الثاني «يجلس عارياً أمام سكايب» عن دار طوى للنشر والتوزيع عام 2013م.
«الحياة» التقته فكان هذا الحوار حول تجربته الشعرية ومواضيع أخرى.
«يُصغي إلى العالم، بسمّاعاتٍ صغيرةٍ لا تؤذي الأذن». لمن يصغي أحمد العلي في هذا الكون؟
لو كنا نختار إلى ماذا نصغي لكنا أحراراً حقاً.. هناك من يحاول أن يغنّي في العالم، وهناك صراخ، وهناك صمت.. كل شيء يختلط لتسمع الصوت الحقيقي، اللون الأول، صوت الحياة ولا صوت غيره.
«غوغل/ أيها الوغد/ كيف تجرؤ على القول للعالم/ إنك تعرف كرسي أمي الوثير أكثر مني؟ في يقظة حانية كهذه: لمن يشتاق الشاعر العلي؟
أقيم حالياً ولسنوات مقبلة في مدينة نيويورك – مانهاتن، قدمت منذ خمسة أشهر، وهي أطول فترة في حياتي لم أر فيها أهلي. أدرك شيئاً فشيئاً أن العائلة أهم من كل شيء، أو هي كل شيء حقاً.. وأمي باسمة تربطني بها أوتار طويلة ومشدودة لا أستطيع حتى في نومي عدم سماعها.. أشتاق إلى محادثاتنا الطويلة أنا وأمي؛ كانت أدفأ على قلبي من كل شيء.. بيتنا كله من حديقته إلى باب الشارع وأهلي يجولون في الداخل، أشياء لا ثمن لها سوى الزمن.. الزمن الراكض في ليل أبدي، وعلينا أن نرى وجوهنا فيه.
«أبحث عن الشعر/ بوضع السم للكلمات الهاربة دوماً/ تحت الثلاجة، عند الفراش/ وفي سلة القمامة». هذه جهات استوطنها الوجع الإنساني، هل ثمة جهات أخرى؟
البحث عن الشعر هو بحث عن الجمال، عن السعادة، هدف الإنسان الأسمى.. كنت أقابل في هذا النص بين معجمٍ طبيعي رومانسي ومتخيّل يطغى استخدامه في الشعر الآن، ما يجعله مملّاً ومنفصلاً عمّا حوله، عن استخدام مفردات الحياة اليومية الواقعية التي نعيشها ونتنفس من خلالها.. على مكتبة الشعر أن تنمو بأساليب ومعاجم مختلفة، وتكاد تناقض ما قبلها، وهي صدقاً ليست سوى عودة لتعريف الشاعر، أن يشعر بما حوله، لا أكثر من هذا، ولا أصعب منه. تبدو ساحة الشعر في السعودية منقسمة بين شعراء لا تحوي حقيبة اهتماماتهم سوى المرأة والحُب والغزل المكرر، وبين شاعرات بأصوات جريئة وحديثة ومتقدمة.
هذه حالة مرحة ورائعة بالنسبة لي. ينسحبُ هذا على اهتمامات المثقفين في السعودية وزعماء الطوائف الدينية على حد سواء، هناك ما أسميه الهموم المُنتجة، التي تمس حياتنا حقاً وتجعل من المهتم فيها مبدعاً وفاعلاً ومؤثراً.. بعكس المواضيع القديمة أحياناً، والمتشابهة والمكررة أحياناً أخرى، واهتمامات ليست منتجة على الإطلاق، هي ضياعٌ للوقت وتوهُّم لا أكثر.
تتوحد ونصوصك كتوأم سيامي في عالم افتراضي لا يحسن للمرء أن يختبئ فيه، ها أنت في ديوانك «يجلس عارياً أمام سكايب» متخففاً من ثقل الكلام تعبر كالسهم نحو طرائد تستحث رؤاك، لم اخترت هذا العنوان الصارخ؟
عملت عاماً ونصف العام في مشروع بناء مصانع منطقة رأس الزور، أو رأس الخير حالياً، في شمال شرق المملكة، لستة أيام في الأسبوع. كنت هناك على بعد ثلاث ساعات من أهلي؛ ساعتين على الطريق العام، وساعة نقطع فيها الصحراء حتى نصل إلى الخليج نظيفاً ومدهشاً وناهداً وأزرق أزرق كأنه جوهرة. هناك، لا وسيلة اتصال بالعالم سوى الإنترنت، كنا كالنحل نندس في غرفنا مستهلكين كل ما نستطيعه من برامج ومواقع لنهرب من الوحشة، لكي لا نصدق أننا في صحراء عميقة بجانب بحر قد يحبنا كثيراً لدرجة أن يأخذنا في حضنه. كانت عزلة من ذهب، أنقى أيام حياتي وأكثفها تعمقاً في الشعر واللغة والعالم.. كتبت ديواني هذا وأنا أطّلع على ديوان الشعر الجاهلي! «يجلسُ عارياً أمام سكايب» صورة مناقضة تماماً للوقوف على الأطلال؛ كنت أتساءل: إن كنت أحتاج إلى فهم الشعر الجاهلي علي أن أقرأ شروحاته، فعلى الشاعر الجاهلي أن يقرأ شروحات أيضاً ليفهم ما أكتب، وإلا يغيب الزمن من المعادلة، وبالتالي لا قيمة لما أكتب. كان ولا يزال سؤال المجهول الجمالي هو ما يحرضني على الاكتشاف، عندما قال الشاعر الثبيتي «كانت لديّ شجاعة في كتابة التضاريس لم أملكها بعده»؛ كان يقصد شجاعة التجريب والاكتناه.. المجهول الشعري بالنسبة لي هو كيف نتناول ما بين أيدينا ونظهر جماله، إذ الجمال يكمن في كل شيء؛ كيف أستطيع الكتابة عن الجوال أو قهوة ستاربوكس.. كيف أحقن النص بمفردات مثل ماركة سواروفسكي أو ساعات رولكس ويظل لها وقعها الجمالي والجديد في النص.. يجيء العُري هنا بمعنى المواجهة، وسكايب بمعنى الحياة الجديدة.
ترى الحياة مثل نسخة تجريبية لفيلم عبثي أو كوميدي على طريقة الكوميديا السوداء، كما قالت الناقدة ميساء الخواجا في قراءتها لديوانك، هل ثمة ضبابية ما تحجب عن الشاعر العلي الفرح؟ متى تستبدل ورقة الملاحظة الصفراء بموعد للسينما ولو في الحلم في بلادك؟
العبث هو أنني لم أختر حتى اسمي في هذه الحياة. ولدت في وطنٍ بطيء الحركة، بطيء جداً نحو التقدم والتحضر المنشود منه.. في وطن عربي يعاني من مشاكل اجتماعية وثقافية وسياسية لا يُمكن أن تُحل على المدى المنظور.. ما الذي جنيته لأستحق هذا؟ لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. لا عُذر لأحد في هذه المرحلة من التاريخ لأن يتأخر. وبلاد لا تعتني بالسينما بوصفها أكثر أداة فعالة لمعرفة الذات والتبادل الثقافي والجمالي، ليس لها مرايا لترى وتُصلح نفسها وتنمو.. عمياء بالضرورة.
«حياتي هذه كُلّها دحرجة/ في طريقٍ وعِرٍ/ مليء بالفُرسان المُدّعين». مضجرة الحياة بلا أنداد وتصيبك في مقتل، إلى أين تأخذك الدروب؟
لا حياة بلا أنداد.. الند صنيع الزمن واختلاف الرؤى والتطلعات.. هم أصدقاء التنافس الشريف، الدافئ والمفعم بالجمال واكتشافه والجري وراءه وخلقه.. المشكلة ليست فيهم، بل في مدعي الحياة، مدعيها بمعناها الجمالي، والقبح يفري رأسه بين أيديهم. يبدو لي أن سؤال «ما هو الشاعر»؟ يبدو أكثر إلحاحاً للإجابة عليه من «ما هو الشعر»؟.. إذ يبدو أن الشعراء يغارون من بعضهم كمجموعة نساء يحبون رجلاً واحداً، وهو يحب امرأةً لا تحبه.
تتعدد في إحالات الخطاب ما بين الـ(هو/ أنا/ أنت) وغابت (نحن) التي يدرك الشاعر معناها! هل غابت نحن مع نهاية العرض وسبقتك إليها عبارة the end؟
لا أرى الـ(نحن) سوى أنها وهم.. لا وجود إبداعي لهذه الـ(نحن)، الإبداع فردي، فرادة آل باتشينو وستيف جوبز وعمر خيرت. الحقيقة في عشق اللعب ودمعة التعب والفرح، في تفاصيل لقمة العيش وضحك الأبناء على نكتة ضحكت عليها في طفولتك. لا في صورة أو مجموعة أو غيب يُسمّى (نحن). عاقبتُ نفسي بقسوة لإيماني القديم بهذه الـ(نحن)؛ أما الآن فالخلاصُ فردي لا بمعنى الواحد والأنا وإنما بمعنى الحميم والقريب، كالأسرة والكتابة والحب، وكُلّما خلّصت ذاتك خَلُص من حولك إلى ذواتهم، وعبّرَ بعضكم عن بعض بتعبيره عن نفسه.
أخو شيطانٍ مارقٍ/. جدك: بماذا وشمك؟
حارب جدي حتى في وصية وفاته ليجعل صورة العائلة مكتملة، يلهو الفرح على وجوهنا بعيون لامعة. ورثتُ عنه هذا التقديس للبيت وللأم.. كان مؤمناً حقيقياً، عنيداً في توجهه إلى القيم الإنسانية.. لو كان يصح أن نقسم فكر المذهب الشيعي إلى يمين ويسار، سيقف هو في اليسار لا شك، دينياً وسياسياً.. ربما أخذت عنه هذه الصفة ومددتها إلى أقصاها وكسرت السياج. أدين له بكل شيء، حتى بقدرتي على النوم فور أن أضع على الوسادة رأسي.
«العربيزي» لغة وسيطة لتجسير الهوة
أوضح الشاعر أحمد العلي بخصوص كتابته لبعض النصوص بالعربية جنبا إلى جنب مع المكتوب بما يعرف بـ»العربيزي» وما الذي أراد قوله من خلال ذلك، إن «مشكلتنا لم تعد «في كيفية إيصال اللغة أو شكلها، بل مشكلتنا الثقافية فيها نفسها.. إن لم تواكب تطور العالم وتتحضر فستموت.
كيف أقول هذا؟ جرت عادة الشعراء على اللعب في شكل كتابة الكلمة على الصفحة، بأن تُكتب كلمة (درج) مثلاً على شكل درج حقاً.. أو بوضع لوحات تشكيلية بجانب النصوص.. هكذا كان يحاول الشعراء محاورة اللغة عبر شكلها، لكن الآن لا شكل لها، مع خطوط الكومبيوتر والطابعات، ومع عجزها هي عن مواكبة حياة من يتحدثون بها؛ ابتكر العرب لغة العربيزي بوصفها شكلاً يعينهم على استخدام أدوات التواصل الحديثة (رسائل الجوال مثلاً) للتواصل عندما لم تكن الأجهزة الحديثة داعمة للغة العربية».
وقال إن العربيزي «لغة وسيطة جسّرَت الهوّة التي صنعتها اللغة الإنجليزية لاستخدام التكنولوجيا الحديثة، ومنها استطعنا الالتفات لاستخدام «بلاك بيري» و«فيسبوك».
نحنُ ندين جمالياً – لا ثقافياً فقط – للعربيزي.. هناك أجواء لا تستطيع اللغة العربية خلقها في سياقها؛ دعوة فتاة إلى موعد رومانسي، الخروج لـــشراء تــذكرة سينما، التشــجيع فــي مــدرّجات اللعب، هذه أجــواء حياتــية غريبــة على اللــغة الــشعرية العربية وخارجة على مألوفهــا، ويستعين الشبان والشابات في إنجازها بالعربيزي في شكل كبير؛ لم أغمض عيني عن حقيقة ما يحدث في الحياة من حولي لأبجّل اللغة العربية تبجيلاً أعمى وإن كنت أنتمي إليها».
الثلاثاء ٣ سبتمبر ٢٠١٣