أدونيس: الربيع.. كذبة
أدونيس: المثقف هو الذي يعذب المثقف وهو الذي يجبره على الصمت.
أدونيس الذي يقيم، يكتب، ويعمل، في العاصمة الفرنسية باريس منذ عقود، يعيش في الآن نفسه داخل تفاصيل الحدث العربي، وخصوصاً داخل مجريات الوقائع التي يشهدها بلده الأم سورية. عزز أدونيس خصوماته، مع بداية الأحداث في سورية، بسبب مواقفه السياسية. اتهمه كثيرون بالوقوف إلى جانب نظام يقمع شعبه، وبمناهضة ثورة تطمح إلى الحرية والعدالة، وغمز البعض باتهامات طائفية طاولت أصوله ومنابته. توقف المهاجمون عند شبهة السياسي في ما يقوله أدونيس، من دون أن يعيروا اهتماماً إلى المبرر الثقافي الحقيقي لما عبّر ويعبّر عنه.. يستهجن الشاعر والناقد، ألا ينطلق الحراك الشعبي من مظانه الحقيقية: المصنع، والجامعة، والمؤسسة. يستغرب أن يمارس الثائر ضد الظلم، أساليب الظالم نفسه. وفي نهاية المطاف، يشعر بأن ما توجسه قد حصل، لذلك لا يتوانى عن التصريح بأن ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" هو كذبة كبرى.
هذا الحوار مع أدونيس، الذي أجراه الزميل حسونة المصباحي في باريس، يشبه "الفضفضة" يبوح بها صاحب "أغاني مهيار الدمشقي"، في ما يعتمل داخل المشهد السياسي والمشهد الثقافي، على امتداد الوطن العربي، في ظل حالة الفوران السائدة..
***
أمطار غزيرة على باريس. أمطار لا تتوقّف إلاّ لكي تعود للتهاطل بغزارة أكثر من ذي قبل. لكأنها أمطار طوفان نوح. غير أن هذا لا يمكن أن يمنع عاشقا مثلي لـ”مدينة النّور” من أن يسير فيها راجلا لساعات طويلة، متوقّفاً من حين لآخر لشرب قدح في مقهى صغير أو للبحث عن كتب احتاجها في المكتبات القديمة التي تكثر بالخصوص في “الحيّ اللاتيني” أو لتأمّل تمثال واحد من عظماء فرنسا خصوصاً من الشعراء، والكتاب، والفلاسفة. ويزداد عشقي لباريس عندما ألتقي بصديق من أصدقاء غربتي القديمة لأعاين ما فعله الزمن بكلينا، ولأخوض معه في حديث شائق عن فكرة تأتي عفو الخاطر أو عن كتاب قرأناه أو نعيد قراءته أو عن حبّ ترك في قلب كلّ واحد منّا جراحاً وندوباً قد لا تندمل أبداً.
وتزداد باريس زهواً وبهجة حين يأتيني صوت أدونيس الذي يقيم فيها منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي ليرحّب بقدومي، وليدعوني لتناول الغداء في مطعمه المحبوب، مطعم “الأكروبول” الواقع في شارع صغير يتفرّع عن بولفار “سان ميشال”. مطر... مطر... والشّرق بعيد...غير أن أدونيس، ساحر الكلمات، يفعل كلّ ما في وسعه لاستحضاره بأقصى السّرعة بوجهه المشرق، والمعتم على حدّ السّواء، إذ لا النّور سرمديّاً، ولا الظلام كذلك. وكلاهما يحرّضان الشّاعر على الغناء: “يا ليَ من مجرم يعيش بريئا كالمطر. وذنبي هذه الآونة، أنني أنافس الضّوء. انغلقي، إذا، أيّتها السّماء. ولك هذا العهد: لن تريني على بابك أبدا. وأنت أيّتها الكواكب، لن أطلب أن تكوني سلّما لخطواتي. ما أكثر الكواكب في أحشائي”.
مطر... مطر... مطر... ودمشق البعيدة جغرافيّا، والقريبة بما نسمع عنها من أخبار لا تكاد تنقطع، غارقة في دماء مجازر البرابرة الجدد، ومجانين الجهاد، وكتائب الحقد والتّخوين. والشّاعر يأتي بابتسامة مشرقة يداري بها رماد الشّيخوخة، والحزن على وطن يضيع منه من دون أن يقدر على صدّ العدوان الوحشيّ عنه: “هل حنجرتك هي عشيقتك؟ هل عشيقتك هي حنجرتك؟ لا تجب. غنّ. الزّمن يتدحرج صخرة صخرة من بين يدي ربّه، وأطفاله جبال من البكاء. ألمح فوق رأسك نجمة تنطفئ. أستشفّ أشرعة تتمزّق في بحيرات أحلامك.غنّ”.
"الأكروبول”، مطعم يوناني، يحيل بروائح أطباقه المختلفة إلى الشرق البعيد. الشرق المفقود. يقول لي أدونيس: “أحبّ هذا المطعم لأنني أجد فيه ما أشتهيه من أطباق لذيذة تذكرني بمطاعم بيروت في الزمن الذهبي، زمن مجلّة “شعر”، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وبقيّة الشّلة.. زمن الأحلام الجميلة، والتّوق إلى المستقبل... كنّا عندما ننتهي من إنجاز عدد جديد من المجلة نقيم حفلاً في مطعم يقدّم لنا ألذّ ما نشتهيه من أكل وشراب.. ويكون الشعر ضيف الشّرف”... يطلق أدونيس ضحكة طفوليّة رنّانة، ويضيف قائلاً: “لا أحبّ أن أكون حزينا هذا اليوم على الرغم من المطر، والبرد... أريد أن أعيش ساعة واحدة من الفرح والسّعادة بصحبتك.. على نخبك يا صديقي التونسي!”.
باريس لا تتغيّر
دفء الشرق البعيد المفقود يغمر جسدي. أنا أيضا لا أريد أن أكون حزيناً بصحبة صاحب “أغاني مهيار الدمشقي”: “يأخذ من عينيه لألأة، من آخر الأيّام والرياحْ شرارة، يأخذ من يديه من جزر الأمطار جبلّة ويخلق الصّباح”. أتجنّب طرح الأسئلة تاركاً للشّاعر حرّيته المطلقة في الكلام، فيقول لي بعد أن وُضع أمامنا ما لذّ من الطّعام والشّراب: “لعلّك تعتقد أن باريس التي غبت عنها عشر سنوات قد تغيّرت، ولعلّها تغيّرت ظاهريّاً، حيث تدفّقت عليها أفواج كثيرة من المهاجرين الجدد المنتمين لمختلف الأجناس، والثّقافات، والأديان، وفيها كثر الصّينيّون بالخصوص. غير أن باريس تظلّ باريس.. فلا هي حمراء، ولا زرقاء، ولا سوداء، ولا صفراء، ولا رأسماليّة، ولا شيوعيّة، ولا غير ذلك... باريس هي باريس... وصحيح أن الثقافة الفرنسيّة انحسرت بشكل واضح، ولم تعد هناك أسماء كبيرة لا في الفلسفة، ولا في الشّعر، ولا في الرواية مثلما كان الحال في الماضي.. مع ذلك تظلّ باريس ملاذا رائعا للفنانين، والشعراء، والكتّاب الهاربين من جحيم أوطانهم، ومن الظّلم، والقمع. وأنا ما كنت أرغب في الهجرة غير أنها فرضت عليّ فرضا بعد أن تحوّلت بيروت التي احتضنت أحلامي، وأحلام العديد من المثقفين الذين كانوا يطمحون للتّغيير الفعليّ، والحقيقيّ في الحياة العربيّة. إلى ساحة للحروب، والمعارك الطائفيّة وغيرها...”.
التاريخ.. كابوس
يصمت أدونيس للحظات قصيرة، ثمّ يواصل الحديث بنبرة تشوبها مرارة يحاول جاهداً إخفاءها: “أوطاننا العربيّة تطرد أبناءها الصّالحين، والصّادقين، والأوفياء لها محتفظة بمن هم راغبون في تخريبها، وتدميرها، وحرق أحلام شعبها، وزرع الفتن، والأحقاد بين أبنائها... وقد حقّق العرب تقدّماً هائلاً في مجالات عديدة في النّصف الأوّل من القرن العشرين.. فقد حرّروا بلدانهم من الاستعمار، وشرعوا في تحقيق مشروع النّهضة الذي برز في نهايات القرن التّاسع عشر، والدّاعي إلى بناء الدولة الوطنيّة الحديثة، وتحقيق التقّدّم، والحريّة، والعدالة الاجتماعيّة... غير أن هذا المشروع العظيم واجه مصاعب كثيرة، ولم يكتب له النّجاح لأسباب يطول شرحها، وها هو ينهار الآن أمام أعيننا في هذه الفترة التي يسمّونها كذبا بـ”ربيع الثّورات العربيّة”... وهل هي ثورات فعلاً؟!... أنا أعتقد أن ما حدث كان انتفاضات شعبيّة مشروعة ضدّ الفساد، والظلّم والقمع، وانعدام الحرّيات.. غير أن القوى الرجعيّة، والأصوليّة استغلّت هذه الانتفاضات لصالحها... وها هي تسعى لجرّ الزّمن إلى الوراء، أي إلى ماضٍ بعيد تحبس فيه الشّعوب، وفيه تكبّل الطّاقات، بحيث لن يكون هناك وجود لا للحاضر، ولا للمستقبل... وما يعيشه العرب راهنا هو في الحقيقة كذبة كبرى اسمها الربيع العربي... لكأنّه كتب عليهم أن يعيشوا تاريخهم كوهم، وليس كحقيقة، وككابوس، وليس كحلم جميل”.
يصمت أدونيس مرّة أخرى، ثمّ يضيف: “في فترات عصيبة، وحزينة كهذه، يبدو أنه لم يعد لنا نحن الذين نحبّ أوطاننا حقّا، ولا نرجو لها غير التقدّم، والحريّة، غير أن نسعى جاهدين للبقاء، وللحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه... وأنا شخصيّاً، وعلى الرغم من السّنّ، والتّعب، أجد في القراءة، وفي مواصلة الكتابة ما يواسيني، وعنّي يخفّف وطأة ما نعيشه مرّة أخرى من أحداث مرعبة، ومأساويّة”.
يتأمّل أدونيس طويلا في ملامحي محاولاً استكشاف ما في أعماقي. لا يزعجني ذلك. فأنا أعلم السبب. فمنذ عامين، وكثيرون من العرب، ومن غير العرب يبدون غضبهم، واستياءهم من موقفه بشأن الأحداث الدّامية في بلاده. وعلى الرغم من أنه كتب وصرّح مراراً وتكراراً لتوضيح أفكاره حول هذا الموضوع، فإنّ أعداءه، والمتربصين به ظلّوا يلاحقونه، ويطاردونه، ويحفرون لكي يزداد الجرح عمقاً، وتعفّناً، وإيلاماً.
العنف يفسد الثورات
تستحضر ذاكرتي أبياتاً شعريّة كتبها أدونيس في الستينات من القرن الماضي، وفيها يقول: “يمدّ راحتيه للوطن الميّت للشوارع الخرساء، وحينما يلتصق الموت بناظريه، يلبس جلد الأرض والأشياء ينام في يديه”. وكأنّ أدونيس حدس ما دار بخاطري، لذا بادر بالقول: “لعلّك لاحظت أنّ التهجّمات عليّ تكاد تكون يوميّة. وقبل أيّام قليلة ردّت زوجتي السيّدة خالدة سعيد على أحدهم لم يترك تهمة شنيعة إلاّ وألصقها بي. وأصارحك القول أنني لم أكن أبتغي أن تفعل زوجتي ذلك، ولكن يبدو أن ما فعلته كان صائبا إذ أنني تلقيّت من العديد من الأصدقاء، وحتى من غير الأصدقاء ما أكّد لي ذلك... والحقيقة أنني كنت قد عبّرت بوضوح عن موقفي منذ بداية الأحداث، وكنت أتمنّى أن يتحاشى المتظاهرون العنف، لأنّ التّاريخ يثبت بالأدلّة القاطعة أنه، أي العنف، يفسد ثورات الشعوب، ويحوّلها إلى عمليّات انتقام، وتخريب، ونهب، وسَحْل... وسورية كما أنت تعلم بلد متعددّ ثقافيّا ودينيّا مثل العراق، وإذا ما استفحل العنف، فإنّ النتائج تكون كارثيّة على الجميع، على الحكّام، وعلى الثّائرين. ولكن حدث ما كنت أتوقّعه شخصيّا خصوصا بعد أن عاينت أن التظاهرات تخرج من المساجد، وليس من المعامل، ومن المؤسسّات الحكوميّة، ومن الجامعات، ومن المنظّمات المدنيّة. كما لاحظت أن جلّ قادة التظاهرات أصوليّون متطرّفون، وجهاديّون... وأنا أعجب من مثقفين، ومن سياسيّين يعتقدون أن الديمقراطيّة في سورية يمكن أن تتحققّ على يد من يمارسون العنف، ويرتكبون مجازر فظيعة، ويدعون إلى الفتنة جهارا، ويقومون بأعمال مشينة، ووحشيّة، ويمارسون ما يسمّونه بـ”جهاد المناكحة”، ويطالبون بتطبيق الشريعة. ثمّ كيف يمكن أن تكون هناك ثورة ديمقراطيّة كما يدّعي هؤلاء السّادة، وكثيرون من الذين يقاتلون ضمن ما يسمّى بـ”الجيش الحرّ” مرتزقة ينتمون إلى بلدان عربيّة وإسلاميّة؟
وعلى أيّة حال أنا متعوّد على التهجّمات منذ بداية مسيرتي الفكريّة، والشعريّة.. والذين هاجموني انهزموا في النهاية وما بقي لهم لا ذكر، ولا أثر.. وسيكون للذين يهاجمونني اليوم المصير نفسه، فالتّاريخ لا يرحم أعداء الحقيقة، والمزيّفين لها”.
أتحدث عن الخوف الذي يزرعه المتطرفون في قلوب الناس في تونس، وفي مصر، وفي ليبيا، وفي سورية، وفي غيرها من البلدان العربيّة، وعن الجرائم، والأفعال الشّنيعة التي يرتكبونها باسم الدين، فيردّ عليّ أدونيس قائلاً: “أوّلاً أنا ألوم من يسمّون أنفسهم بالمثقفين، أي أنا ألوم نفسي أساساً. فنحن جميعا لا بدّ أن نكون مستعدّين لدفع ثمن الحريّة. فالحريّة لا يمكن أن تكون هبة من السلفييّن، أو من غيرهم. وأعتقد أن المثقفين الحقيقييّن مقصّرون في الصّراع، وفي التّعبير عن وجودهم، وعن أفكارهم. وما أنا أخشاه شخصيّا هو أن يسارع البعض منهم بـ”التّكيّف” مع الحّكام الجدد الذين يحكمون تحت الغطاء الديني. وإن تمّ هذا فستكون الكارثة مرعبة، وستغرق المجتمعات العربيّة في الظّلام من جديد. ما هو مرغوب، ومطلوب من المثقفين في هذه المرحلة العصيبة هو القيام بعمليّات هدم كبيرة حتى نخرج من الوضع المأساوي الذي نعيشه. ونحن نخطئ كثيراً حين ننظر إلى النظام بوصفه سياسة فقط. علينا بالأحرى أن ننظر إلى النّظام بوصفه ثقافة، وتربية، وعائلة، وقيماً.. لذلك فإن العمل الثقافي المطلوب لا بدّ أن يكون شاملاً، وجذريّاً. وعلى المثقّفين العرب الحقيقييّن أن يكونوا مستعدّين للموت إن لزم الأمر، دفاعاً عن أفكارهم، وعن القيم الإنسانيّة. ولم لا؟... كلّ الذين قاموا بثورات من أجل الحريّة ضحّوا، ومنهم من مات، أو اعتقل، أو نفي.. أحفاد قتلة بشار بن برد، والسهروردي، وابن المقفّع، والحلاّج، وأولئك الذين كفّروا المعري، وأحرقوا كتب ابن رشد برزوا من جديد. وها هم يهددّون وجودنا، ويفعلون كلّ ما في وسعهم لإفساد انتفاضات الحرية، والكرامة.. وعلينا أن نتصدّى لهم قبل فوات الأوان”.
ظواهر غريبة
يطلق أدونيس زفرة حرّى، ثم يواصل الحديث بمرارة:
“المحزن، والمؤلم هو أن واقعنا الثقافي يشهد ظواهر غريبة، وشاذّة، ومنافية لأبسط المبادئ الإنسانيّة. وتتمثّل هذه الظّواهر في أن المثقّف هو الذي يعذّب المثقّف، وهو الذي يكون السبب في اعتقاله، وفي منع نصّه من الصّدور، وفي إجباره على الصّمت، بل قد يتآمر المثقف على صديقه لحرمانه من لقمة العيش!!! لذا ليس بإمكاننا أن نقول بأن هناك سلطة سياسيّة من جهة، ومثقفين من جهة أخرى، مثلما هو الأمر في الحالات العاديّة، وإنما هناك مثقّفون يواجهون آخرين، وبينهم تدور معارك طاحنة، وصراعات مخيفة، وحروباً لا تنتهي”.
أذكّر أدونيس بما أشار له الشاعر الفرنسي رينيه شار في مقدمته للأعمال الكاملة لرامبو في “البلياد”، حيث قال “الشعر معصوم”، فيسرح بذهنه بعيدا لبعض الوقت، ثم يقول: “أنا لا أتذكّر بالضّبط السياق الذي وردت فيه هذه المقولة، وإنما أعتقد أن ما يقصده رينيه شار هو أن الكلمة الأخيرة لا يمكن أن تكون إلاّ شعريّة أو لا تكون، إذ أن الكلمة الحاسمة في معرفة الوجود، وفي الكشف عنه، وفي الإعلان عنه لا يمكن أن تنبثق إلاّ من الشعر. وإذا ما كان هذا هو المقصود من خلال قولة رينيه شار، فإن الشعر العربي أبعد ما يكون عن العصمة. ذلك أن الدين أخذها منه. قبل الإسلام، كان الشعر يتمتّع بمثل هذه العصمة. لكنه فقدها بعد ذلك. لذا لا بدّ من العودة إلى توكيد ما كنت قد قلته قبل حين، وهو أن الكلمة الأخيرة ينبغي أن تكون للشعر قبل أي شيء آخر”.
أسأل أدونيس:ما الذي يشدّ اهتمامك الآن أكثر من أيّ شيء آخر؟ فيجيب: “الصداقة والحب. إن أعظم شيء في ما أعتقد هو الصداقة، ذلك أن الحبّ نفسه لا يمكن أن يستمرّ من دون صداقة. وأروع شيء في نظري في مثل هذه المرحلة من عمري هو أن يكون الإنسان قادراً على أن يقيم علاقة صداقة مع امرأة، ومعها يتحدث من دون تورية، أو تخفّ عن أيّ شيء. والعكس بالعكس. كما أن أروع عمل فنّيّ يتراءى لي في الأفق هو ذاك الذي يصف مثل هذه العلاقة القائمة على الصداقة، وعلى الحبّ في آن واحد”.
قاتلت وصمدت
أسأله مرة أخرى: أنت الآن تجاوزت سنّ الثمانين... أيّ أحداث مهمّة عشتها في عمرك المديد؟ يفكّر أدونيس طويلاً، ثم يجيب: “هناك أحداث حاسمة كثيرة في حياتي. غير أني أوجز كلّ هذا في أني خلقت لطرح الأسئلة، ورفض الأجوبة الجاهزة، وإعادة التشكيك في المسلّمات، وفي ما هو قائم. وهذه ظاهرة مهمّة حاولت أن أعطيها بعْداً عمليّاً من خلال منابر فيها يتمكّن الكاتب من أن يثبت وجوده، ويكتشف طريقه. وقد كلّفني عملي هذا ثمناً باهظاً: عداوات، وخصومات. كما انه أوجد لي أصدقاء أعتزّ بهم، وبي يعتزّون. باختصار أقول بإني أمضيت الشّطر الأكبر من حياتي وأنا على السّاحة أقاتل! وهذا ليس أمراً سهلاً. وأنا في ما بيني وبين نفسي أتساءل أحياناً: كيف قدرت أن أصمد كلّ هذا الوقت؟! ولعلّ الثقة التي أمتلكها بخصوص ما أقوم به، وأيضاً حبّ كلّ الناس المجهولين هما اللّذان منحاني قوّة المجابهة، والمواجهة الدائمة. أهمّ انتماء بالنسبة لي هو الانتماء للّغة العربيّة. وشعبي هم أصدقائي المدسوسون في جميع أطراف العالم العربي. وهذه هي قوّتي الأساسيّة. لذا يمكنني أن أقول بأنّه على الرغم من الحروب الكثيرة التي خضتها، وعلى الرغم من الأحقاد، فإني أشعر في هذه اللّحظة بالذّات وأنا أتحدث إليك، أنني أقوى ممّا كنت في الماضي”.
يصمت أدونيس بضع لحظات، ثم يواصل الحديث:
“ما هو مهمّ بالنسبة لي هو أني ما زلت على الرغم من كلّ شيء مهووساً بالشّعر. وأعتقد أن هيامي بالشعر هو الوحيد الذي يشفع لي بين وقت وآخر. لكن حين أقيس نفسي بالشعر في العالم، وليس بموروثي، فإنني أجد نفسي دون ما أطمح له، ذلك أنني لم أستطع أن أفصح كما ينبغي للشاعر أن يفصح. أينما توجّهت، لا تجد أمامك غير الحواجز، والعقبات، والقيود، والظلام بجميع أنواعه. في نفسي آلاف السّجون، وآلاف المعتقلات تعتقل جسدي، وروحي، ومخيّلتي، وحريتي، وكياني، ووجودي... أنا عبارة عن سجن ينفتح على سجن... سجون.... سجون إلى ما لا نهاية... فكيف يمكن للشاعر أن يرى الأفق، والعالم وهو داخل السجون؟! لذلك كانت معظم أعمالي متّجهة إلى ضرورة الخروج من هذه السّجون، وليس لتأسيس عالم آخر. ولم يتح لبقيّة الشعراء العرب الحقيقيّين أن يبنوا عالما جديدا، إذ أن مثل هذا الأمر يتطلّب هدم العالم القديم. وبطبيعة الحال، كان هذا أمراً صعباً للغاية”.
يزداد حماس أدونيس للحديث في القضايا الحارقة التي تشغله، ويقول وقد لمع في وجهه شيء من بريق الشباب البعيد: “المشكلة هي أن الذين يعرفون جيّداً اللّغة العربيّة أصبحوا نادرين ندرة الماء في الصّحاري المقفرة.. استمع إلى الإذاعات، أحضر الندوات، لكي تتأكّد من صحّة ما أقول.. اللّغة العربيّة مرتبطة بالعلم والوجود. والذي يرغب في أن يتقنها عليه أن يتعلّمها وهو يتعلّم الوجود. ذلك أن الإحاطة بها هي الإحاطة بنفسك، وبالوجود بكامله. وهذا ما هو مستحيل بطبيعة الحال. ولو قلت هذا لأولئك الذين لا يدركون المفهوم الحقيقي للّغة من أساتذة، وشعراء، وكتّاب، ومفكّرين لاعترضوا عليك، ولحاربوك بشدّة، وغلظة. إنّ الإحساس بلا نهاية الوجود هو الذي يهب العالم معنى، ويمنح الحياة تألّقاً. أمّا في العالم العربي فالإنسان يشعر بأنه يعيش داخل كهف لا حياة فيه، ولا نور، ولا أمل. بل اجترار، ورتابة، ويأس. لهذا السبب نرى أن لغتنا اليوم لا تعبّر عن شيء، ولا توحي سوى بالفراغ، والضّحالة. وإذا ما نحن أردنا التّعمّق في هذا الموضوع، فإننا نجد أنفسنا أمام مستويين: المستوى الأوّل هو الحياة العمليّة. أمّا المستوى الثاني فهو النّظرة المبدئيّة. وأنا أعتقد أن العرب مهدّدون بالانقراض، ولغتهم كذلك. إذ أن اللّغة لا يمكن أن تعيش من دون نوع من الكشف، والمعرفة، أي من دون نظرة مبدئيّة للوجود، والعالم. العرب يزدادون عدداً على مستوى الكمّ، أمّا على مستوى الكيف، أي على مستوى الخلق، والمساهمة في الحضارة الإنسانيّة بجميع فروعها، فإنهم غائبون تماماً! نظرتي متشائمة من دون شك.. غير أن ما أراه، وما أعيشه يؤكّد لي حقيقة نظرتي هذه. إذ كيف يمكن أن يستمرّ العالم العربي في الحياة إذا ما انعدمت فيه قيمة الإنسان، وقيمة الحرية؟! حتى اللّغة أصبحت نوعاً من الفائض الكلامي، فاقدة آخر رصيد لها في الحياة!”.
بعد الغداء، أتمشّى مع أدونيس في بولفار سان ميشال تحت المطر. أودّعه عند الجسر باتجاه “شاتليه” ثمّ أتيه في باريس مردّداً: “أفتح وأمشي في الطريق لا أفرحُ لا أخافُ أسمع أصواتاً ـ صوتاً يقول لي: تفارق نفسك وتمضي سفينة نفسك في نفسك بيتاً كالسّحاب ولا دعامة”.
الاتحاد -الخميس 20 يونيو 2013