موسى حوامدة
(الأردن)

موسى حوامدة على الحدود الأفغانية، تماماً، تقع مدينة زابل، التي تأسست جامعتها قبل أربعين سنة، في مدينة هذه المنطقة الفقيرة، شبه الصحراوية، والتي غالبية سكانها من القومية البلوشية العريقة، التي تمتد جذورها في باكستان وأفغانستان.

تبعد مدينة زابل عن مدينة زاهدان أكثر من مئتي كيلو متر، وبحسب الخارطة، فالمنطقة كلها تكاد تكون مقتطعة من الأراضي الأفغانية. في الطريق من زاهدان إلى زابل تمر الطريق بمحاذاة الحدود الباكستانية، شرقاً، ورويداً رويداً، تصير بمحاذاة حدود أفغانستان، فالبيوت الطينية القديمة ما زالت موجودة في المنطقة، والكلمات العربية المكتوبة على اليافطات، واللغة التي تكاد تعرفها، والوجوه البسيطة المحببة، والزي الأفغاني التقليدي، والبساطة في كل شيء، والكثير من حالات البؤس.. كلها تعطيك الانطباع بأن هذه المنطقة تختلف كلياً عن باقي المدن الإيرانية.

الدعوة، أساساً، جاءت من جامعة زابل، والعنوان كان 'أسبوع ثقافي عن أدب المقاومة'، وقبل الوصول إلى زابل كان لا بد من السفر إلى إيران.

هذه هي المرة الأولى التي سأذهب فيها إلى إيران. دعيت قبل فترة، إلى مهرجان 'شعراء من العالم'، لكن ظروفاً حالت دون مشاركتي. في المرة التالية، اتصل بي الصديق الشاعر الإيراني والمترجم المعروف، موسى بيدج، في شهر رمضان الفائت. سألني: 'هل ستعتذر هذه المرة عن عدم تلبية دعوتنا، أم ستقبلها؛ فهي من جامعة زابل، وعدة من جامعات إيرانية تدعوك ضيفَ شرفٍ إلى أسبوع عن أدب المقاومة، في إيران وفلسطين، وستكون الشاعر الوحيد، هل ستأتي؟'

الموضوع يستحق المغامرة وتخطي حاجز الخوف من السفر والطائرات، فقبلت الدعوة، ولما حانت ساعة السفر ترددت ـ كعادتي ـ وأرسلت اعتذاراً، لكن الاعتذار لم يقبل، إذ اتصل بيدج، قائلاً: 'هل لديك موقف من إيران؟' قلت: 'لا.' فقال إنّ 'الجماعة (رتبوا) البرنامج، ولا مجال للاعتذار. سننتظرك يوم الجمعة القادم'.

جبرا ابراهيم جبرا

رفضت السفر عبر مطار دبي؛ لأن المسافة طويلة، وأنا أكره الترانزيت، ولا أحب ركوب الطائرات. فكان الاقتراح أن يكون السفر عن طريق سورية.

بين مشاعر الخجل، والارتباك، والرغبة في السفر، وصلت دمشق، وركبت الطائرة الضخمة المتجهة من دمشق إلى طهران، وعرفت، لاحقاً، أن الطائرات الإيرانية، لا تتوقف عن الإقلاع والهبوط، يومياً، بين طهران ودمشق؛ فقد قرأت ـ في يوم عودتي، في المطار ـ عن خمس رحلات للخطوط الإيرانية إلى دمشق.

في طائرة الإيرباص جلس إلى جانبي شابان إيرانيان، وبعد أن تعارفنا عرفت أن الشاب الذي كان يجلس إلى جانبي، مباشرة، اسمه أمير حسين خيرية، والذي إلى جانبه شريكه قاسم، وهما صاحبا شركة برامج كمبيوتر. أمير خريج كلية الفيزياء، من جامعة طهران، وخلال الحديث تطرقنا إلى الأدب، وفاجأني حين قال إنه يحب جبرا إبراهيم جبرا، وقرأ أغلب أعماله الروائية، وذكر لي: 'البحث عن وليد مسعود'، و'السفينة'، و'الغرف الأخرى'، فاكشتفت أنه يعرف جزءاً كبيراً من سيرة جبرا، ومسقط رأسه، بل يعرف أن جبرا كان فناناً وناقداً تشكيلياً. كانت تلك مفاجأة مفرحة، فعلاً، أنستني الخوف من الطائرات، ولم أفطن كيف هبطت الطائرة في مطار طهران.

لم يتركني أمير إلا بعد أن تأكد من أن هناك من هو في استقبالي. وبالفعل كان الصديق موسى بيدج، والشاعر الشاب محمد حسن ناظمي، منسق الأسبوع الثقافي؛ في انتظاري رغم أن الطائرة وصلت مبكراً، وقبل موعدها، ولم يعلن عن وصولها إلا بعد نصف ساعة.

سمعت نداء لي، عبر الميكرفون. قدم لي ناظمي بوكيه ورد، وقد لاحظت أن الإيرانيين مهووسون بالورود، وكان كثير ممن جاؤوا لاستقبال أصدقائهم وذويهم، في المطار، حملوا بوكيهات الورد، فتذكرت عيد النيروز، الشهير، الذي ما زالوا يحتفلون به.

الحجاب الاسلامي

الانطباع الأول أن الإيرانيين ليسوا متزمتين، وأن الإسلام، في إيران، ليس كمثله في بعض الدول العربية، التي تطبقه بشكل حرفي ومتعسف، وتمنع الاختلاط، وعمل المرأة، وقيادة السيارات. في إيران ينظر الناس إلى الدين الإسلامي بطريقة مغايرة عن نظرتنا، ونظرة مجتمعاتنا، إليه. فالمرأة الإيرانية تضع الماكياج، وتلبس ملابس عادية ـ وإن كانت تستر جزءاً من رأسها بغطاء ـ وتؤكد الكثير من المحلات ضرورة التقيد (مراعات بالفارسية) بالحجاب الإسلامي، وقد لاحظت أن الأجنبيات يطبقن القانون، ورأيت العشرات من الآسيويات والصينيات والأوروبيات يرتدين غطاء الرأس. ثمة مَن يلبسن الزي الإسلامي، ويغطين رؤوسهن، بالكامل، ولكن كثيرات، جداً، منهن، يظهرن شعورهن، بل جزءاً كبيراً منها، وبشكل جميل، جداً، وقد صففن شعورهن، ووضعن المكياج، بشكل واضح.

المطار الجديد يقع جنوب العاصمة، وهو بعيد، نسبياً، عنها، إذ استغرقت الطريق وقتاً طويلاً، حتى وصلناها، متأخرين، ليلاً. بدأت أملّي عيني من الشوارع والساحات والأسماء والميادين، حتى وصلنا فندق الثورة (هوتيل انقلاب بارسي)، وهو أحد الفنادق التي استولت عليها الثورة بعد هروب الشاه وجماعاته من إيران، عام 1979، وتديره مؤسسة شعبية، حيث يعود ريعه إلى جمعية ترعى شؤون المعوزين والفقراء.

قصر غولستان

في اليوم التالي، اصطحبني الصديق بيدج إلى حدائق وقصر غولستان، تجولنا في ردهات القصر، وفي غرفه، وباحاته. ثمة أجنحة خصصت، بالكامل، لعرض لوحات ورسوم لملوك العصر القاجاري، الذين نقلوا العاصمة إلى طهران. كل ما تركه القاجاريون من تحف، وهدايا وحلي، ومجوهرات، وسيوف، وأسلحة، وبنادق، وأدوات، وأزياء، وملابس، تم ترتيبه وتوضيبه وعرضه، بطرق جميلة وتنسيق باهر، حتى الملابس التي كان يرتديها الشعب الإيراني في محافظات إيران، ومناطقها كافة، تم عرضها. ناصر الدين قاجار، وهو الذي بنى القصر والحدائق، يحتل تمثاله، وهو بزيه الشاهنشاهي، البهو العلوي من القصر، وهي القاعة ذاتها، التي كان يدير منها شؤون مملكته، مع رئيس وزرائه الذي تم اغتياله في حمام شعبي، بإيعاز من الملك نفسه. البهو الملوكي رهيب، فسيح ومصصم بطريقة هندسية تعطي عظمة للمكان، وللعرش، ويشعر الداخل إليه بالرهبة والعظمة، وما زالت جدرانه موشاة بالفضة والزجاج، وأرضه مفروشة بالسجاد العجمي الشهير. يمتد بناء القصر على شكل مربع، وفي وسطه حديقة فسيحة، وعامرة بالمياه، والأزهار، والأشجار، وفي إحدى الزوايا ترتفع 'شمس العمارة'، وهي البناية الأولى، التي بنيت من طوابق عدة، في إيران، ووضع الحديد فيها، لأول مرة في تاريخ فن العمارة، في البلد.
يتعب الزائر للقصر، وهو يتفرج على الغرف الموجودة ومقتنياتها، وقد حاول منظمو المتحف أن يعرضوا كل شيء في زمن القاجاريين، سواء ما تبقى من هدايا وصلتهم من ملوك الصين، وروسيا، وأوروبا، أو حتى المقاهي الشعبية، وطرق الزواج، وملابس العرسان، وأدوات الطهو، والزينة، والصيد، والزراعة، وبعض الحرف التقليدية.

(حوزه هُنري)

بعد هذه الزيارة التي لا تنسى، والتي التقطنا فيها بعض الصور، وشاهدت عشرات الأوروبيين يزورون هذا القصر والحدائق، تجولنا، قليلاً، في البازار، وهو السوق القريبة. وكان لنا موعد لزيارة مركز الفكر والفن الإسلامي (حوزه هُنري، بالفارسية)، الذي يشرف على رعاية العديد من الفنون مثل: السينما، والمسرح، والفن التشكيلي، إضافة إلى الأدب عامة، ويصدر العديد من الدوريات، من بينها: مجلة شعر، ومجلة شيراز، وهي مجلة تصدر بالعربية، وتقدم الأدب الإيراني الحديث إلى القارئ العربي، ويترأس تحريرها الشاعر موسى بيدج نفسه، وهناك مجلات متنوعة، يصدرها المركز، إضافة إلى دار نشر وطنية.

استقبلنا الروائي أمير حسين فردي، المسؤول عن القسم الأدبي، في المركز، وهو محرر الصفحات الثقافية في صحيفة كيهان، منذ سنوات طويلة، وخلال الغداء الذي قدم في مكاتب المركز، دار حوار حول الثقافة الفلسطينية، وقد وجدت اهتماماً بالأدب الفلسطيني. طرح الروائي فردي سؤالاً حول آلية دعم أدب المقاومة الفلسطيني، وآلية خدمة الثقافة الفلسطينية، ولكن ـ على ما يبدو ـ فالسياسة تؤخذ بعين الاعتبار، وهناك أفكار ما زالت نية. أهم ما في الأمر أن الإيرانيين يعتبرون أنفسهم معنيين بالقضية الفلسطينة، من كل الجوانب، خاصة ما يتعلق بالجانب الثقافي، لكنهم لم يبلوروا، بعد، رؤيا معينة. وقد وضعتُهم في صورة ما أعرف، عن الوضع الثقافي الفلسطيني، الصعب، سواء في الداخل أو في الشتات. وبالطبع لم نتطرق إلى السياسة، ولم أحبذ النقاش فيها، وكان المسؤول الإيراني غير ميال لخوض غمار السياسة. لاحظت، كذلك، أن الإيرانيين يحترمون خصوصية الإنسان، ولا يسألون أسئلة شخصية، أو خاصة.

شامرانات

بعد الغداء اقترح الصديق بيدج أن نذهب إلى شمال طهران. هناك سلسلة جبال كأنها كثبان منيعة، اسمها جبال البروز، ورأيت أن الجبال، شمالاً، تقف كأنها حاجز منيع، أو سد طويل يمتد بلا توقف. قال بيدج: 'ثمة مناظر وجلسات سوف تعجبك'.

أزمة سير خانقة وشديدة، في الطريق. قطعنا شارع ولي العصر، وقد يكون أطول شوارع طهران، وكان مرأى الدراجات النارية غريباً؛ فهي، من الكثرة، بحيث تعتقد أن الناس كافة، هناك، يستخدمون الدراجات، رغم ان سعر لتر البنزين يعادل عُشر الدولار، أما سعر الكاز فهو يساوي 186 روبية، من أصل 1000، والتي تعادل دولاراً أمريكياً واحداً، لكن يبدو أن الشبان، عموماً، يفضلون الدراجات، لأنها تساعد في تخطي أزمة المرور، ولأن المدينة منبسطة، تماماً، وليست فيها مرتفعات.

وصلنا شمال المدينة، وبدأت السيارة تصعد ببطء، حتى شاهدت جبالاً عالية، يتعلق بينها التلفريك، ورأيت شاباً معلقاً في الهواء، كأنه يقوم بإصلاح الحبال أو ربطها.

بدأ ملمس الهواء يتغير، المنطقة أبرد كثيراً من المدينة نفسها، وهنا شلالات المياه، والمصايف، والجلسات الشرقية القديمة، وهناك تجد الحرية، والماء، والخضراء، والوجوه الحسنة، وترى العديد من الشبان يصطحبون زوجاتهم، أو خطيباتهم، وربما صديقاتهم، أو صباياهم، وقد يضع الشاب يده في يد خطيبته وصديقته من دون رقباء، أما الجلسات الشرقية في المقاهي أو المصايف، فهي تتطلب أن تخلع نعليك، وتجلس، باسترخاء، فوق مقاعد مرتفعة وفسيحة، مغطاة بالسجاد، وبامكانك أن تطلب (شيشة)، وهي كلمة فارسية، في الأصل، أو ما شئت من الشراب والأطعمة، باستثناء أدوات التسلية، مثل: ورق الشدة، أو طاولة الزهر، أو الشطرنج، أو ما شابه؛ فهي ممنوعة، حسبما فهمت، حيث دخلنا مقهى في مدينة أصفهان، يعجّ بالدخان، فقط، ولا يسمح فيه بممارسة أي نوع من أنواع اللهو، فلا توجد فيه طاولات لمثل أدوات التسلية التي ذكرتُ، بل هناك مقاعد عريضة وطويلة للجلوس فيها، وقد كتب أن مدة الجلسة عشرون دقيقة، لكل طلب.

جو مصايف طهران لا يحتاج إلى أي وسائل للتسلية؛ فالجلسة، بحد ذاتها، تصيبك بالانتعاش، وتحس بمتعة ما، وقد علمت أن الشاعر العراقي، محمد مهدي الجواهري، كان يتردد إلى مصايف (شمرانات)، حين أقام في إيران، وتغنى بها، قائلا:

نزلنا ففرَّقنا هموماً تجمَّعتْ أبى صفوُ (شمراناتَ) أن تتجمَّعا
أحتىّ لدى الجنَّاتِ أهفو إليكمُ ويسمعني داعي الصبابة أنْ دعا
رعى الله أُم الحُسن (دَرْبندَ) إنَّنا وجدنا بها روضاً من الصفو مُمرِعا

هنا تشعر أنك انفصلت عن الهموم كلها، وتصبح لديك رغبة قوية في الهدوء، والتأمل، والنظر إلى الجبال المعلقة، وترخي سمعك لصوت المياه المنسابة من الينابيع التي تتدفق بمياه باردة جداً، لأنها تجيء من ذوبان الثلوج، وتسري في باطن الجبال المرتفعة شمالاً.

وعلى جانبي الطريق ثمة محلات تعرض الزهور المتنوعة، وبعض الصناعات الغذائية واليدوية التقليدية، وبعض اللوحات والرسوم، ولأنك لم تأخذ احتياطك من الملابس، تشعر أن الجو بدأ يميل للبرودة أكثر، وبعد جلسة استرخاء هانئة وهادئة، وشاعرية لا ينقصها الا الإلهام، نضطر للعودة إلى السيارة.

جامعة الطوسي

في اليوم التالي بدأ النشاط الفعلي. صحوت مبكراً، وكان محمد حسين ناظمي في انتظاري. انطلقنا بسيارته الإيرانية الصنع (غالبية السيارات من تصنيع محلي، وهناك نوعان من السيارات الإيرانية الخالصة، وثمة ماركات عالمية تصنع في إيران. وبالطبع توجد سيارات مستوردة، لكنّ أسعارها أعلى بمعدل ثلاثة، أو أربعة أضعاف، من معدل سعر السيارات محلية الصنع.)

الصباح، في طهران، له إيقاع سريع: حركة نشطة، جداً، حيوية تراها في حركة السيارات والباصات السريعة، وفي طريقة مشي الصبايا والشبان، والطلاب والذاهبين إلى أعمالهم ومكاتبهم، ورغم أزمات المرور، وصلنا إلى المنطقة التي يقطنها بيدج، وانطلقنا، ثلاثتنا، إلى مدينة كرج.

وصلنا عند الساعة العاشرة صباحاً، وكان النشاط في جامعة الإمام الطوسي. بعد كلمات الترحيب، ومشاركة بعض طلبة الجامعة، وبعض الشعراء الإيرانيين المعروفين، صعدت، وموسى بيدج، إلى المنصة، وكان الحضور كثيفاً، والقاعة تكتظ بالطلبة والمدرسين. قدم بيدج فكرة عن الشعر الفلسطيني، وقرأت بعض القصائد بالعربية، فيما هو يقرأ الترجمة التي أعدها بنفسه.

أبرز سؤال تلقيته هو: ما هو الدافع الأساسي لتوجهك إلى الشعر؟
رويت كيف قامت القوات الإسرائيلية بهدم بلدتنا، مراراً، وكيف شاهدت حرب الـ67، وكيف دفعني شعوري بالهزيمة إلى البحث عن وسيلة للتعبير والتمسك بالهوية، وإعاداة بناء القرية المهدمة بالكلمات، وكيف أنّ قراءتي المبكرة، في المدرسة، لألف ليلة وليلة، ساعدتني في تقمص دور البطل، والانتصار على العدو، وكانت محفزاً جدياً للخيال. وقرأت بعض القصائد بالعربية، وقرأ ترجمتها بيدج وساعده ناظمي في قراءة البعض بالفارسية.

بعد القراءة والحوار، طلب إلي التوقيع على شهادات تقدم للشعراء المشاركين، وللضيوف في هذا النشاط، والقيام بتسليمها، برفقة مسؤولين في الجامعة، ومن ضمنهم سيدة ألقت كلمة ترحيبية، ثم دعتنا إلى الغداء في مطعم قريب، وبدا أنها عميدة، أو مسؤولة النشاط في الجامعة. جلست معنا إلى طاولة الغداء، وإنْ ظلت نظراتها الخجولة والمحترمة تتلافى النظر إلى أي من الجالسين، مباشرة، وتركز على زميلة لها جلستْ إلى جانبها، وكانتا تتحدثان معاً.

خلال الغداء تعرفنا إلى كاتب إيراني ساخر، اسمه عباس، وهو أستاذ في الجامعة، فقدَ زوجته وابنتيه في حادث سير، وكان فقد أمه وأباه في الحرب العراقية الإيرانية، لأنهما كانا قريبين من الحدود، ورغم ذلك فهو متفائل، جداً؛ يحب المرح والسخرية، ويعرف بعض الكلمات العربية، حتى إنه زار لبنان، فراح يردد، ساخراً: 'أنا هيفا أنا'، وهو من أصول كردية مثل صديقنا بيدج.

واقترح عباس أن نذهب إلى مصايف خارج مدينة (كرج). وبالفعل سرنا شمالا، عبر طريق ملتو إلى منطقة مصايف جميلة تشبه منطقة 'شامرانات'، لكنها أقل علواً، وقيل لي أن سفر ثلاث ساعات، فقط، بالسيارة، يوصلك إلى بحر قزوين. ولو كان لدينا وقت لصمّمتُ على الوصول إلى قزوين، لكنْ كان لدينا سفر، في اليوم التالي، بالطائرة، عند الساعة السادسة فجراً، ومن مطار طهران القديم. فكان لا بد من النوم مبكراً.

النوم جافاني، تلك الليلة، وخرجت أتمشى في شوارع المدينة المترامية. هنا سينما فلسطين، ميدان فلسطين، بقالة القدس، حاولت البحث عن بطاقة هاتف للاتصال، فقد انقطع الخط الدولي من الموبايل. وبالكاد تفاهمت مع البقال واشتريت بطاقة بخمسة آلاف من العملة الإيرانية، ولكني اكتشفت أنها لا تصلح للهاتف الموجود على الرصيف، وقال لي البقال عبر مترجم من الزبائن، استخدمها من الفندق، وقد تبين أنها لا تنفع، حتى من الفندق.

الرحلة الأصعب

كانت الرحلة إلى زابل هي 'الرحلة الأصعب'، بحسب تعبير الشاعرة فدوى طوقان، في الجزء الثاني من سيرتها. وفي الجزء الثاني من الرحلة، كان علي أن أصحو مبكراً، جداً، وأن يصطحبني العقل المدبر للزيارة كلها، وللنشاط برمته، الشاعر محمد حسين ناظمي إلى المطار القديم حيث الرحلات الداخلية. كان بيدج ينتظرنا أمام المطار، وزودني بحبة دواء لتهدئة الأعصاب، قلت: يبدو أن لديك حلا لكل شيء، فرد مبتسما: نعم لكل شيء، حتى تهدأ أعصابك، ونصل زاهدان، وأنت (مرتاح). قلت: وكم ستستغرق الرحلة؟ قال: أقل من ساعتين. وعدت أفكر فيمن قال لي إن الخطوط الإيرانية الداخلية تتم في طائرات قديمة ومتهالكة، وبعد أن نقلنا باص المطار، رأيت الطائرة التي تنتظرنا للإقلاع، ولكنها كانت طائرة حديثة، وحين صعدنا قلت أحب الجلوس جهة النافذة، كي أرى ما تيسر من جغرافيا بلاد فارس، وانطلقت الطائرة في رحلة هادئة ومريحة، فعلاً.

في السماء شعرت بقليل من الخوف، وبدأت أنظر من النافذة: جبال وصحراء. قال موسى: هذه صحراء لوط. كدتُ أسأل: وهل جاء إلى إيران، أيضاً؟ ولكني آثرت تأمل الطبيعة الجرداء، التي تخلو من الشجر والبشر، كما بدا، وبعد أقل من ساعتين، هبطت الطائرة في مطار زاهدان، وكانت سيارة أجرة صفراء تنتظرنا خارج المطار، فانطلقنا إلى زابل. استغرقت الرحلة ثلاث ساعات، تقريباً، وكان السائق يتوقف في الطريق لتسجيل المرور، نحن ـ الآن ـ قرب الحدود الباكستانية، وبعدها صرنا لصق الحدود الأفغانية، ودخلنا إلى طريق صحرواي، وبدأت تظهر البيوت الطينية القديمة، جداً، والمتراشقة على جانبي الطريق، بين بعض الأشجار، كأنها تصلح لتصوير مسلسل ديني تاريخي. أخذ الجو يميل للبياض، بسبب الغبار.

وصلنا مدينة زابل، مدينة تشبه مدينة الزرقاء الأردنية، على بساطة الحياة فيها، يتمسك أهلها باللباس التقليدي القديم، وواضح أنها تختلف، كلياً، عن بقية مدن إيران.

في بيت الضيافة، في الجامعة، حططنا عصا الترحال، وكان الوقت يسبق توقيت طهران بأكثر من ساعة، فيما وقت طهران يسبق توقيت عمان بنصف ساعة، حسب التوقيت الصيفي، طبعاً.

يبدو أن الغبار هنا يثور، باستمرار، ولذا تم إغلاق النوافذ بإحكام، فلا يمكن فتحها، وكان مطعم الضيافة في الطابق السفلي، من المبنى، حيث نتناول طعامنا مع المدعوين من الأساتذة وضيوف الجامعة.

تخيلت أن أكبر مقاومة ممكنة، هي ما يقوم به سكان هذه المناطق النائية، الذين يعيشون في ظروف بيئية قاسية، وحين سألني الطلبة، خلال الندوة المسائية، عن رأيي في زابل، قلت إنها مدينة تقاوم، وهي تقدم الإنسان مثالاً حياً، وعملياً عن المقاومة، فضجت القاعة بالضحك. لكنني حييت الطلبة الذين يقطع بعضهم أكثر من ألفي كيلو متر للوصول إلى الجامعة، وهم يصممون على التعلم والدراسة في ظروف صعبة، بالنظر إلى الأجواء الممتازة، في كثير من المدن والجامعات الإيرانية.
يبدو أن فكرة إنشاء الجامعة، أساساً، في هذه المنطقة النائية، جاءت لكي تسهم الجامعة في خدمة المجتمع المحلي، أولاً، ولكي تسهم في رفع المستوى الاجتماعي للمدينة، ولتوفير فرص عمل لسكانها. وعموماً، فإنّ الجامعة تسهم، فعلاً، في تغيير وجه المدن، والمناطق، التي تقام فيها. وفي مثل هذه البيئة القاسية، التي تكاد تكون معزولة، فإن أفضل شيء يمكن أن تقدمه الدول لشعوبها، هو إنشاء الجامعات، والمصانع، وما شابه، وهي إحدى طرق مقاومة الطبيعة.

مساء وخلال الأمسية التي كان الطلاب يتدافعون على حضورها، تم عرض فيلم قصير عن العدوان الصهيوني على غزة، وبعد ذلك بدأت الأمسية الشعرية، حيث قرأت قصيدة: 'لنهتف للوردة سلاما أيتها الحمراء كلون الدم الفلسطيني'، والتي كتبتها عقب العدوان على غزة، وتمت قراءتها بالفارسية، وكما حدث في جامعة الإمام الطوسي، طلب مني التوقيع على شهادات إبداعية للمشاركين، فانهال الطلبة عليّ للتوقيع على كتبهم ومفكراتهم، كأنني صرت نجماً سينمائياً. وكان عدد من الطلبة البلوش يسلمونني أوراقاً مكتوبة بخط اليد، باللغة الفارسية، وبعد ترجمة بعضها تبين أنها تتضمن عبارات محبة وتحية وأدعية جميلة، كتبها الشبان، بحب كبير، وبخط عربي جميل.

سئلت عن تفسيري لشعر المقاومة، فقلت ليس بالضرورة أن يكتب الشاعر شعراً مباشراً يذكر فيه اسم فلسطين والقدس، بل إن كتابة قصيدة حب، بلغة شاعرية جميلة، هي مقاومة، أيضاً، ولا يجوز أن نصفق، فقط، لمجرد ذكر اسم فلسطين في قصائد رديئة. المقاومة لا تكون، فقط، بالحجر والسلاح، بل هناك أنواع كثيرة للمقاومة، منها: التغلب على ظروف الحياة، وحسن التعلم، حتى فن كتابة شعر الحب.. كلها ـ في نظري ـ مقاومة، مع ضرورة عدم إسقاط الاعتبار الأول للمقاومة الحقيقية، لدى كل شعب يتعرض للظلم والاحتلال.

المدينة المحروقة

هناك مدينة تاريخية قريبة من زابل، تدعى 'المدينة المحروقة'، لكن الوصول إليها يتطلب قطع مسافة تزيد على المئة كيلو متر، على الأقل. أهمية هذه المدينة تأتي من أنهم وجدوا فيها آثاراً عن تطور الطب في العصور الغابرة، فقد تم اكتشاف عين زجاجية ركبت لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وذلك قبل خمسة آلاف ومئتي سنة. وبالفعل انطلقنا بحثاً عن 'المدينة المحروقة'، التي اكتشفها فريق آثار إيطالي قبل عقود قليلة، ووصلنا مكان المدينة.

كأنك أمام مدينة حقيقية، اختفت معالمها، ولكن روحها ظلت باقية. هنا وسط المدينة، هنا ضواحيها، هناك تنبسط البحيرة التي جفت، والتي كانت تقوم المدينة على أطرافها، وهناك الجبال التي كانت تقوم عليها البيوت والأسواق، وهناك ترى آثار الطرق التي كانت تتصل بالمدينة، وهنا قصر الحاكم، المكان فسيح وواسع، ومنبسط على مد النظر، وفي المتحف؛ وجدنا الهيكل العظمي للفتاة التي زرعت لها العين الزجاجية، حيث تم اكتشاف هيكلها العظمي، وهي نائمة تضع رأسها على يدها اليمنى، وقد عثر العلماء، كذلك، على آثار تدل على إجراء عمليات جراحية في الدماغ.

لعل المدينة المحروقة كانت مواكبة لعصر الفراعنة في مصر، لكن الزلازل، والتغييرات الجغرافية الكبيرة، محت الكثير من معالمها، لأن المواد التي كانت تستخدم في البناء لم تكن من الحجارة العملاقة التي بنيت منها الاهرامات، وإن بقيت شواهد ودلائل تحتاج، أيضاً، إلى المزيد من النبش والبحث، غير أنّ ثمة روح مدينة حقيقية كانت تقوم هنا: طبيعة الأرض، امتدادها، تعرجاتها، شكل الهضاب من حولها، شكل السهول.. كلها تدل على ذلك، وقد وضع مبنى بسيط يشير إلى تصميم القصر القديم للحاكم، وعثر على آثار تحت الأرض، تدل على ملابس السكان، وأدوات الطبخ والعيش، وحتى أدوات الزينة، وبعض أدوات النسيج والخياطة والتجميل، وحتى الأختام.
لم يتمكن العلماء من معرفة اسم المدينة، ولم يجدوا شواهد تدل عليه، فأطلقوا عليها اسم 'المدينة المحروقة'.

في طريق العودة شاهدت أكواماً من فاكهة تشبه البطيخ، كان لونها يميل للأبيض والأصفر، وكان الناس يأكلونها بأيديهم. اشترينا حبة من كل نوع، وحين عدنا إلى بيت الضيافة، قام بيدج بتقطيع واحدة منهما، ولما بدأنا بتذوقها، قال: لا معنى لها. قلت: لعل الثانية لها معنى، لكن لنتركها لما بعد العشاء.

في اليوم التالي أقيمت فعالية ثقافية جديدة، اختتمت ببعض القراءات الشعرية، والحديث الشفوي، وكان موسى بيدج حاضراً، سريع البديهة، في نقل ما كنت أرغب في قوله للحاضرين.

من زابل إلى أصفهان

تجولنا في مدينة زابل، ثانية، بحثاً عن البهارات الباكستانية، وقد وجدنا سوقاً شعبية كبيرة، مليئة بالبضائع والأغراض المتنوعة، ووجدنا ضالتنا.

بعد ذلك ذهبنا إلى المبنى الجديد للجامعة، وقد أقيم على مساحة أكبر، وبنيت فيه العديد من الكليات، وسوف يتم ترحيل ما تبقى من الجامعة، في المنقطة القديمة، إلى المبنى الجديد، الذي يضم العديد من المرافق التي تم تشييدها، بما فيها مساكن أعضاء هيئة التدريس والطلبة، ولعل القائمين على جامعة زابل الايرانية، والمخططين، أساساً، لإنشائها كانوا يسعون إلى تحويل الصحراء القريبة من الحدود الأفغانية، إلى واحة علم، ويبذل القائمون، حالياً، عليها جهداً واضحاً لكي تنهض الجامعة بالمنطقة، وتسهم في تغييرها؛ فقد تم بناء العديد من الكليات والأقسام، حتى إن فيها كلية للفنون الجميلة. وبالمناسبة، فالنحت والتصوير والرسم، من الفنون التي يتم احترامها وتداولها في إيران، وقد شاهدنا في المطار، خلال العودة، نحاتاً سوف يستقل الطائرة عائداً إلى طهران، وقال لنا إنهم طلبوا إليه الحضور، إلى مدينة زاهدان، لتصميم عدد من التماثيل والمنحوتات لاختيار واحدة، توضع في أحد ميادين المدينة، وقد عرض العديد من التخطيطات لبعض الوجوه والمنحوتات.

وقبل أن اختم الحديث عن الجامعة، لا أنسى القول إن الطلبة، من كلا الجنسين، يدرسون معاً، وإن الدخول إلى الحفلات الثقافية، التي تقام في الجامعة، يتم بتذاكر، وإن كانت بأسعار رمزية، وتجد، باستمرار، اكتظاظاً عند المدخل، ودائماً ترى المسرح مليئا بالحضور.

وداعا زابل

ودعنا زابل الساعة الثالثة في طريقنا إلى زاهدان، فالطائرة ستقلع عند الساعة العاشرة، ليلاً، وهناك نشاط آخر ينتظرنا في جامعة زاهدان. تبدو مدينة زاهدان كأنها عاصمة أوروبية مقارنة بزابل: أسواق حية، حركة مرور كثيفة، محلات حديثة، ويافطات ضخمة. تذوقنا شيئاً من البوظة محلية الصنع، فقد كان لدينا بعض الوقت، قبل الأمسية. تجولنا، قليلا، وحين وصلنا الجامعة، رأينا مدينة ضخمة، تعج بالأنوار الملونة والمزركشة، وفيها العديد من الحدائق والأشجار والساحات المنظمة، والمزروعة، وكانت هذه جامعة زاهدان، التي تضم أربعين ألف طالب.

كانت الأمسية خاصة، واكتفينا بقراءة قصائد بالعربية والفارسية، فلم يكن الوقت يسمح بفتح باب الحوار. ثم انطلقنا إلى المطار، حيث استغرب أحد رجال الشرطة جواز سفري الأردني، ولعله ظن أنني هارب من أفغانستان، فتوقف، ملياً، عند الجواز، وبدأ بالاتصالات الهاتفية، حتى تدخل الصديقان: بيدج، وناظمي، فتخلى عن الجواز، ولسان حاله يقول: ولكن ما الذي جاء به إلى هذه المدينة؟ بالطبع تفهمت الموقف، فهناك رقابة مشددة على حركة المرور والسفر، في تلك المنطقة، بسبب قربها من حدود أفغانستان، التي خرج منها إلى إيران، من بعد الاحتلال الأميركي ثلاثة ملايين لاجئ، تزوج منهم 300 ألف من فتيات إيرانيات، ثم تركوهن مع أولادهن، وهرب منهم من هرب، خارج إيران، وعاد بعضهم إلى أفغانستان، كما قيل لي.

منطقة خطرة

نسيت القول إننا، في الطريق، شاهدنا مقبرة اسمها 'مقبرة الشهداء'، وقد تبين أنها قبور لمواطنين عاديين، قتلوا بسبب بعض حوادث السطو التي كانت تقوم بها عصابة يترأسها أحد البلوشيين، الذي قامت جماعته باطلاق النار على موكب الرئيس نجاد، خلال زيارته المنطقة، وقتلوا واحداً من حرسه، وبعد ذلك فر زعيم الجماعة إلى إيران. لكن السلطات الإيرانية وضعته تحت المراقبة، وفي وقت قريب، سمع الإيرانيون أنه سيركب الطائرة من كازخستان إلى دبي، فقامت الطائرات الحربية الإيرانية باعتراض الطائرة التي كان على متنها، وتم إنزاله منها، وحوكم على عجل، وتم إعدامه. وحين سألت إن كان ذلك يعني أن الطريق تعد منطقة خطيرة، إذن، قال صديقي، ضاحكاً: نعرف، ولكننا لم نحب أن نخبرك قبل الخروج منها، لكنها، اليوم، هادئة، كما رأيت.

وصلنا مطار طهران القديم بعد منتصف الليل. كانت طهران تبدو من خلال الطائرة، مثل بحر من الأضواء، وكان هناك رأيان: أنْ نذهب، غداً، إلى قصر الشاه، في طهران، أم أن نذهب إلى مدينة أصفهان، التي تحتاج ست ساعات سفر بالسيارة. قلت: أصفهان، طبعاً، ولنترك الشاه وقصره إلى مناسبة ثانية

القدس العربي 2010-11-19