فاوق يوسف

الخريف ينسج من ريش طيوره الزرقاء بساط أرقهليس للخريف عاداته المتوقعة. فوضاه لا تملأ المكان فحسب بل تختار لها أيضا مكانا قصيا من الروح لتهب عبثها بلاغة الحواس كلها. هو موسم تغادر المرئيات فيه سكونها. الطبيعة تنزع فيه أقنعتها لتؤكد لهذا الفصل المتقلب انها تفعل ما يناسب مزاجه المرح. فصل كل الفصول. في سلّته التي تعبث بها الريح، تجتمع كل الاصباغ التي استخرجها الانطباعيون من آثار قدميه. عريه الذي يملأ المكان صخبا هو فكرة عن متحف يجدد مقتنياته كل سنة. الخريف هو الضيف الوحيد الذي يُسمح له بقلب المائدة ليعتبر ذلك السلوك منه لطفا.

1

لماذا أكتب عن الخريف وهو الذي لا يعرف إلا المحو. يمحو الخريف ذاته أيضا. هنا هو فصل كل الفصول. يجمعها تحت عباءته حين يمطر ويعصف وتصحو شمسه ويهدأ هواؤه وتبرد صباحاته، غير أن الطبيعة تقول شيئا آخر. ذلك لأنه يجرّها بعنف الى شيخوخة كامنة، هي باب لشتاء صامت، متكبر ومغرور. في كل مرة يحضر، يكرر دروسه التي لا يتعلم منها احد شيئا. درسه البليغ الاول: تواضعوا، كل شيء زائل، حتى الجمال الذي تظنونه لقية لا تهرم. لكن الخريف لا يكفّ عن اختراع جماله الشخصي، وهو جمال فالت وساحق ومحلّق ومهشّم لكل فكرة مسبقة عن الفتنة. يجعلنا ذلك الجمال نخسر هويات عدة، ليحشرنا في طبيعة صامتة ومهزومة، هي أمّنا التي سيمضّها الانتظار. كما لو أننا نعيش النهايات، يجلسنا الخريف على طيارته الورقية التي تمسك يدٌ مجهولة بخيطها المتوتر. هناك في الفضاء البعيد نرى القصور الخيالية التي شيّدناها وقد صارت هواء. لا يبقي الخريف ولا يذر. المسافر الذي يأخذ المحطة معه والمسافرين وحتى القطار الذي لم يأت بعد. حلمه لا يهدأ وفتياته المرحات يركضن على السطح بعري لم يعهدنه من قبل. تسيل العطور على أجسادهن جداول من الابتسامات الحيية. أخرجهن الخريف من قبعته كالارانب البيضاء ليعكف على تلميع أفواههن بالشعر والموسيقى. كل ورقة تسقط من شجرة هو يعلم مصيرها، يشحذ حافاتها بكلماته التي تختفي ما ان تتلقفها اليد. لا شيء يبقى. حتى صباحاته هي أخرى. الكائن الذي يُخرج فجأة من تحت الصخرة ريشته الزرقاء ليومئ بها الى نجمة بعيدة. هناك حيث يذهب بعد أن يتعب من اللعب. الخريف سحره لا يطاق وفتنته ترهق النظر. الجمال كائن خريفي أيضا.

2

الخريف ينسج من ريش طيوره الزرقاء بساط أرقهلا يستيقظ الخريف كل صباح. أرقه الشديد يجعله مشتبكا بليله، يمشي وتتساقط من بين ثيابه قطع تشفّ عن سواد حريري. كفتاة ترتقي درجات السلّم وهي تنظر الى الأسفل حيث تلمع غوايتها، جارّةً وراءها حشدا من الشهوات، يكسر الخريف أوقاته حين يفرغ جراره من خمرها. "هاتها" ينصت الى الرعاة والحطابين والمزارعين وعمال السكك وحراس الشواطئ وهم يقلبون ألسنتهم بين لغات شتى، هي فتات خطواته على دروب لا تزال طرية، طينها الندي لا يزال ممسكا بأنفاس العشب الذي لم تفارقه خضرته بعد. ذهبه يلسع كنشيد عصفور عثر للتو على بيته الذي تركه منذ سنة في عهدة الشجرة. ذهبه يشقّ ليل نهاره ذاهبا الى عين العاشق التي تنظف احلامها بالدموع. ذهبه، آه من ذهبه وهو يشبك ذراعيه على ساقين ناعمتين ازاحت عنهما الريح ثياب سهرة الأمس التي لم تنته بعد. فلا أمس له، الخريف كله غد. لخميسه دائما أربعاء تنام باطمئنان في أحضان جمعة مؤجلة. جمعة القديسين الوجلين، وقيل الموتى. حيث يعزّ على الشعراء أن يكتبوا، لتبقى قصائدهم عالقة في المسافة التي تفصل الحنجرة عن صوتها وتهب الكلمة جناحين. الخريف كله شعر، بل هو كائن أمضّه الشعر وأرّقه.

3

القليل من الخريف يكفي لنهتدي الى الطريق التي تقود الى قاع البئر. عري ذلك القليل هو رسالة من أجل هدف لا يمكن بلوغه: النسيان. من يبلغه يكون اهتدى الى بوق أسرافيل، حيث البشارة والمهد ونقاوة الالم وارتجال الحكمة. فحين يمد الخريف أصابعه الباردة بحذق الى الوجه (وجه الطبيعة) ليزيح عنه القناع، لا يترك عليه أي أثر يذكّر بذلك القناع، اما ما تكنسه الريح من بقايا فإنها لا تذكّر بتلك الأعراس الصيفية التي فقدت زينتها حيث كل خاتم في واد، وكل قلادة في مركب. الوجه ما يعنيه، بجماله المتقشف وأبهته المتواضعة ونقاء حافاته. لا زهرة عند الفم بل ابتسامة ولا طائر بين العينين بل نظرة. حينذاك يعود الانسان الى الخبز والخمر وما بينهما سلسلة لا تنتهي من المعجزات. البساطة كنز لا يعرف الفقراء جوهره اما الاغنياء فإنهم يتخذونه صناعة، تستهلكه وهماً من غير أن تتعرف اليه. ذلك الكنز الذي يفتح الخريف أبوابه انما هو خزانة لثقافةٍ قوتُها التأمل البريء والنقي والمتصالح مع الطبيعة. ثقافة الخريف لا تجمّل الخراب، بل تعلي من شأن الازاحة في صفتها أسلوب عيش. كل شيء يمضي إلى فنائه، إلا ذلك المعنى الذي يتكتم الجمال على أسراره. المعنى الذي يزيده الخريف غموضاً، حين يدنيه من العين مثل مرآة يحرمها قربها من النظر. لذلك يضيق الوصف بمن يرى، وتضيق العبارة بمن يتكلم، وتأخذ الأرض هيئة قارورة عطر. فالخريف الذي يطلق روائح مخبأة في الأعماق انما يستخرج من عزلاتها الاستثنائية أرواحاً شقية بحيرتها. بلد للارواح الهائمة هذا الخريف الذي لا نعرف له بلداً.

4

غريبٌ مثلي هذا الخريف، يعيش خارج جسده، مبعثراً يجد شيئا منه في الاشارات المبتذلة والمقصية والمهملة في كل مكان وفي لا مكان أيضا. هامشه الليلي يتشبه بجدار ممتلئ بالسهام المدببة التي تجرح العين بالنظر قبل أن تتقدم اليد لتلمسه. لقدمه أن تمضي، خطوتها لا تترك أثرا. ألا يقيم معنى وجوده في غياب كل أثر؟ ليست الغابة فضاءه الوحيد. معجزة تمرده تفصح عنها البيوت حين تتخلى نوافذها عن أصص الازهار، تراها فارغة وهي في حقيقتها ملأى بالرحيق المسافر بين الازمنة. ليس ضيفاً، ذاك الذي تسبقه نبوءته في الريح والمطر والابخرة والانطباع الأخير الذي تعيش العين تجلياته الفذة. كان الانطباعيون خريفيين وهم يُخرجون الرسم من عدميته اللاهية في التشبيه، ليهبوه رمقا اخيرا قبل أن تجرّه الحداثة الفنية الى مختبرها الشقي. "كلنا انطباعيون في الخريف"، هذا ما يمكن أن يقوله المرء وهو يرى الاشجار عارية فيما الدروب امتلأت بأخف أنوع الذهب وأكثرها استدراجا للريح. النغم الذي ينبعث من الخطوات يجعل النظر الى الارض نوعا من المسرة، فلا أرض، انما هو بساط حاكته يد خريفية كتبت قصائدها اليابانية ومضت. مثل كل قصيدة، يقيم الخريف خارج بيته.

5

تلك الشجرة هي طعنتي في الهواء. بها أؤرخ لأيامي التي تمضي وتجيء على حد سواء. بطريقة أو بأخرى هي أناي التي تعيش في الغابة، وكلانا بين يدي الله. الطيور السود التي امتلأت بها شجرتي هي بشارة خريف كان سبقها. تُدخلني الطيور وهي تشقّ زئبق مرآتي القريبة من أنفي. أمس رأيت حشدا من الطيور يغادر على شكل سهم مدبّب في السماء. منظر مدهش لا يوصف. معجزة صورة لا يراها المرء كل يوم، بل قد يراها مرة واحدة في العمر وقد لا يراها. هل تخلي تلك الطيور التي ذهبت أماكنها للطيور التي تأتي؟ كان هناك بيت على شجرتي لطائر وحيد، كنت اراه في الصيف فارغا، منذ أيلول الماضي صرت ارى أربعة من الطيور السود وهي تتنافس عليه. هل كانت حقا تتنافس أم جاءت لمؤانسة ساكنه الوحيد في وحشته، الغريب مثلي، كما لو أن ليس هناك غرباء سبقوه الى المنفى؟ كنت أسمع كلاما، غير أنه لا يشبه أيّ كلام. ولأني لم أفهمه صرت احلمه. انا الجالس في شرفة تطل على غابة مستفهماً عن أسباب وجودي هنا، في بيت أسكنه ولا يسكنني، أؤثثه ولا يؤثثني، ترعى زوجتي نباتاته ولا يلتفت الى دموعها الصامتة، أبثّ فيه نجوى كتبي ولا يشفق على تلفتي. صرت أحسد الطائر الذي صار اصدقاؤه يضمّون أجنحته الى جسده. ممتلئٌ بيته ببلاده.

6

لن يأتي الكنّاسون حتى يُتمّ الخريف درسه. دروب الغابة تلمع، هنالك شمس في كل ورقة صفراء. سوق مفتوحة لذهب بريء، لمعانه يخطف غير أنه لا يذلّ. "كل ورقة هو يعلمها". أفكر في مصير كل هذه الحيوات التي عصف بها الخريف فصارت هشيماً كإرم ذات العماد وبومبايي التي ابتلعها الزلزال. "كل خريف وأنتِ بخير يا حياتي"، أقول بمسرة وأنا أنظر من شرفة البيت الى الشجرة، شجرتي التي صار الخريف يطعنها فيما الطائر الوحيد يُخرج رأسه من بيته بحذر. هذا الكائن البريء تسكنه هو الآخر فكرة عدوّ مستتر. هو الآخر ينظر بريبة الى الأشياء من حوله ويعرف مثلي أن ليست هنالك لحظة قابلة للاستعادة. كل نافذة نطل من خلالها انما تهبنا صورة عن حياة لم نعشها من قبل. يا لروعة الخريف وهو يعرّينا بجنون مخيلته من ثيابنا

النهار الثقافي
6- 11- 2007