استبرق أحمد
(الكويت)

إستبرق أحمد«احذر هبوطك الدرج»، الإعلان التحذيري المخيف يشعّ في جملته الآمرة، لامجال لتخليصه من ذهنك حين ترين الدرج الشديد الانحدار، رجفة ترجّ داخلك عارفة بخصال سيكولوجيتك، إزاء الانحدار، الضيق، الأماكن العالية، الظلمة، يتخلق لديك مذ رأيت اللوحة ماتعرفينه بـ «رهاب الانزلاق».

تهمسين:
هل الدرَج مخيف الهبوط؟

تسمعين:
قليلا، انتبهي.

تهبطين لكثافة الرطوبة، الدرجات المبللة، العتمة الخارقة، خطوات مترددة إزاء الرسالة السابقة، لكنك على وقع الدهشة تغمرين بالانشداه، لايعود للتحذير أهمية ولا موقع.
ينفتح المشهد واسعا، مبعدا ستائر الوجل، تكتشفين ربما أن المقصود بهكذا أمر أن تثقي أنك نزلت بقعة فاتنة، تنسيك وقتك، فاحذري القدوم، وعلى ظهر أجندتك مواعيد أخرى، فالاستمتاع سيبقيك بمعقل الغياب عن العالم الخارجي.
هكذا ترين أمامك تنتصب أعمدة دائرية تزيد تأكيدها أن الزمن هاهنا مستدير،حلقة مغلقة بإحكام، تشرئب أقصى درجات الاهتمام والتشوّق، لوعة الظلام تتناثر فيها الإضاءات الخافتة بحرفية، تغمر المكان بالأسئلة، محتفظة بتلغيزاتها وانكشافاتها، متخففة من الوضوح تعطي جمالية خارقة، تكملين تجوالك، تطلين على مياه الأحواض المزروعة بالأعمدة الرخامية، تجدين أسماكا سابحة باحساس سري بالمراقبة، توشكين على القسم بعماها القادم والحتمي خارج ذلك السواد المتفشي الذي اعتادته.

تتجولين يصادفك نهوض عمود مزخرف بعيون طولية، تبصرك بغموضها، تعرفين لاحقا أنه يحمل اسم «عيون الطاووس»، تتساءلين أي طاووس ذاك؟ الهندي الأزرق ووصل عبر عطايا الحكام والسلاطين؟ أم الطاووس الأخضر الشرقي؟
تعرفين الطاووس ذلك الكائن ليس هينا فقد عرقل فكرة داروين للاصطفاء الطبيعي، لتظهر نظرية أخرى هي الاصطفاء الجنسي. ربما يعتقد البعض أن الطاووس لاينتمي الى هكذا مكان، إلاّ أن عشقه للماء وملوكيته يجعلنا نلتفت لذكاء من قرر وضع العمود ليتميز وحده.

في التماعة الماء تلتقط العين بريق نقود الأمنيات الملقاة في الأسفل، طلبا لتحققها في الأعلى، تلقين بـ «خردتك» وأملك، العيون الطاووسية تحدق في أمنيتك فهل تلبيها؟ تتجولين، تصورين في ذهنك المشاهدات، تلتقطين الظلام والضوء يغشيان المكان، تستمرين في الممرات، تلمحين، تجمع الهابطون حول كتلة حجرية، تنزلين بضع درجات، تصلين لمفاجأة النهاية، هناك تبصرين رأس ميدوزا/ميدوسا المقلوب، تشهقين من الإعجاز، ففي موقعين متقابلين أحدهما الميدوزا/ميدوسا المقلوب والآخر الجانبي، كلاهما لايحمل وعيد ميدوزا/ميدوسا الخارق بالأفاعي والأحابيل والعيون الملعونة، إلا أنها ألقت علينا نظرة ساحرة حولتنا الى تماثيل حيّة تتأمل من كهوف انبهارها، ذلك النحت الحاذق للرأس الرهيب وهو يقابلنا بملاحه الهادئة والمطمئنة.

هكذا كانت الرحلة، لصهاريج/أحواض ييباتان ساريتيسي او صهاريج الباسيليكا، التي ظلت تزود اسطنبول منذ مئات السنين وعبر العديد من تقلبات الدول فيها، والتي قطفت أرواح العديد من العبيد إرهاقا وتعبا في تشييدها، بينما نحن نمارس في مسارات حياة أخرى متعة سفح الوقت عبر العين السائحة.

2 يونيو 2011