شوقي بزيع

شوقي بزيعلم يكن الفضول وحده هو ما دفعني لتلبية دعوة «دار المدى للثقافة والنشر» لزيارة أربيل قبل أيام، بل كانت لديّ رغبة حقيقية في التعرف إلى عاصمة إقليم كردستان في شمال العراق بعد أن سمعت الكثير عن تطور المدينة المطرد وتحولها في السنوات الأخيرة إلى ورشة هائلة للإعمار، كما للتنمية الاقتصادية والثقافية. ورغم أنني قد تلقيت دعوات متكررة لزيارة العراق في العقدين الفائتين إلا أنني لم أجد ما يكفي من الحوافز لتلبية تلك الدعوات، سواء في الحقبة الصدامية الاستبدادية أو في الحقبة التي أعقبت الغزو الأميركي، حيث بات الخوف وانعدام الأمان سيدي المرحلة، وانكفأت الثقافة إلى مربعاتها العصبية والمذهبية والإيديولوجية. أما هذه المرة فقد أغرتني بقبول الدعوة أحاديث الأصدقاء من الكتاب والمثقفين الذين سبقوني إلى زيارة أربيل وخرجوا بانطباعات مؤثرة حول نموها المتسارع ومناخاتها الآمنة واحتفاء أهلها بالثقافة والمثقفين. ولأن معرضها السنوي للكتاب بات واحداً من المحطات البارزة في حياة المدينة، التي بناها السومريون قبل أكثر من أربعة آلاف عام، فقد وجدت في دعوة الصديق فخري كريم للمشاركة في فعاليات معرض الكتاب الفرصة الملائمة للتعرف إلى بعض مدن العراق الشمالية التي لم تسبق لي زيارتها من قبل، وللقاء الكتاب والشعراء الكرد والعرب المشاركين في تلك الاحتفالية السنوية.
لم تستغرق الرحلة إلى أربيل سوى ساعتين أو أقل من الزمن. وإذ كان من المفترض أن يكون على الطائرة نفسها أصدقاء آخرون مثل عبده وازن وعناية جابر وعبيدو باشا فقد اعتذر الثلاثة لأسباب مختلفة، ولم يحضر من المدعوين سوى السيد هاني فحص الذي تربطني به صداقة مزمنة وقواسم كثيرة مشتركة ليس الشعر إلا واحداً منها. كانت الرحلة إلى كردستان سلسة بالمعايير كافة. وما زادتها سلاسة هي حفاوة المضيفين البالغة وتكفلهم بكل الإجراءات اللازمة لمغادرة المطار، وصولاً إلى فندق ويغان الفخم الذي خصصته الحكومة لضيوفها الرسميين، والذي يتوسط بتصميمه الجمالي الباذخ مساحة واسعة من الحدائق ونوافير المياه. ورغم أن المدعوين إلى الاحتفالية كانوا قليلين جداً، بالقياس إلى الدورات السابقة، فلم يكد يمضي كثير وقت حتى خيّم على الجميع مناخ من الألفة الحميمة التي زادتها الكيمياء الشخصية توهجاً ووثوقاً.
ليست الكيمياء تلك شأناً متصلاً بالبشر وحدهم على الأرجح، بل هي متصلة أيضاً بالجماعات والجغرافيا والفنون والمدن. وأربيل هي واحدة من المدن التي يتلقفها القلب مع العين في الآن ذاته. فهي مدينة أفقية شاسعة الامتداد، وسهلة التناول بما يجعلها أقرب إلى المدينة الريفية أو القرية الواسعة. وهي مدينة يمدّها التاريخ السحيق، والمتبدّل بين الأشوريين والسلوقيين والساسانيين والعرب والعثمانيين، بكل أسباب العراقة والمحافظة، فيما يمدّها الحاضر بأسباب الجدة والحداثة والانقلاب على الذات والرهان على المستقبل. وتمدها الطبيعة بحرارة الشمس وقوة الألوان وحركة الرياح النشطة، بما يفسر تحولها في السنوات الأخيرة إلى واحدة من أكثر مدن العراق ازدهاراً وتفتحاً وخروجاً على الموت. والمدينة التي يعني اسمها بالأشورية مدينة الآلهة الأربعة تتحلق حول قلعتها التاريخية الخالدة مع الزمن كما تتحلق الثمرة حول نواتها، وتحاول أن تعطي لنفسها دوراً آخر يتجاوز مفهوم القلعة والحصن والبأس الإسبارطي ليلامس الثقافي والمعرفي والإبداعي، فضلاً عن كونها عاصمة الأكراد السياسية. ولربما كان معرض الكتاب، الذي ينافس من حيث اتساعه وفضاؤه وعدد الدور المشاركة فيه الكثير من المعارض العربية المماثلة، هو التجسيد الأبلغ لطموحات المدينة الصاعدة في زمن التصدع والانكفاء وواقع المنطقة الزلزالي.
قد يكون لهذا الواقع المستجدّ أثر واضح في تراجع الأنشطة المرافقة للعرض. صحيح أن حفل الافتتاح الذي حضره رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني ومسؤولون رسميون والذي تخللته كلمتان لوزير ثقافة الإقليم وللسيد هاني فحص، كان حاشداً وحماسياً، ولكن الأنشطة الأخرى لم تكن لتحظى بالحضور إياه والحماية ذاتها. لذلك عمد القيّمون على المعرض إلى نقل تلك الأنشطة إلى المسرح الصغير الذي يتوسّط الأروقة الكثيرة بغية تجنب الحرج من جهة، واجتذاب عدد أكبر من الجمهور من جهة أخرى. وحيث كان من الصعب عليّ متابعة الندوات المقررة كافة فقد تمكّنت من حضور القليل منها، وبخاصة تلك المتعلقة بواقع الربيع العربي وآفاقه، والتي شارك فيها كلٌّ من الكاتبة المصرية فريدة النقاش والمفكر العراقي الإسلامي عبد الجبار الرفاعي والسيد هاني فحص وأدارها الكاتب هشام داود. وفي الندوة، التي اجتذبت عدداً وافراً من الحضور تحدثت النقَّاش عن استيلاء «الإخوان المسلمين» على الثورة المصرية التي أطلقتها في الأصل قوى الديموقراطية والتنوير، كما تحدث الرفاعي عن ضرورة التمييز بين «الإسلامات» المتعددة والمتباينة وعدم وضعها جميعاً في سلة الأصولية الظلامية، بينما دعا العلامة فحص إلى التمسك بالآخر المختلف بوصفه شرطاً لازماً لتحقق الأنا وصياغة الهوية.
كما يمكن للاحتجاجات المعترضة والمتوترة التي أطلقها بعض الإسلاميين ضد مداخلة النقَّاش بوجه خاص أن تطيح الأمسية الشعرية ـ الغنائية التالية لندوة الربيع العربي، نتيجة التوتر الذي خيّم على القاعة «المفتوحة» آنذاك. لكن ما حدث هو العكس تماماً، حيث بدا الحضور أشد إصراراً على إقامة النشاط الفني اللاحق، كردة فعل على محاولة نسف الندوة الفكرية وما بعدها. أما فكرة تقاسم الأمسية بين الشعر والغناء فقد ولدت بشكل مفاجئ وغير مخطط له بعد لقائي بالمغني العراقي المخضرم جعفر حسن، والذي أعادني بالذاكرة أربعين عاماً إلى الوراء حيث شاركنا سوياً، ومعنا حسن عبدالله والياس لحود وحمزة عبود وعدلي فخري وسمير عبد الباقي، في إحياء الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني في حديقة مقهى «عروس البحر» في بيروت. وما زادني تقبّلاً للفكرة وحماساً لها، إضافة إلى جمال صوت جعفر وقوته، هو احتفاؤه بالشعر العربي من خلال نصوص بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري وآخرين. كما أن تجربة التوأمة بين الشعر والغناء التي تقاسمتها مع أميمة الخليل في أثينا قبل أسابيع كانت أكثر من مشجعة، حيث يمكن للحن والصوت أن يضيفا الكثير من الألق والوهج إلى النصوص الشعرية العزلاء. والواقع أن التجربة الثانية لم تقلّ عن الأولى من حيث الانسجام والتناغم بين طرفيها، خاصة أن الحضور أخذ في التزايد عند نهاية دوام المعرض وبفعل الهطول المفاجئ للمطر الذي منع الوافدين من الخروج ووفّر للقصائد الملقاة، كما المغناة، خلفية إيقاعية وتعبيرية ملائمة. كان مناخ الأمسية تلك دافئاً بالمعايير كافة، خاصة أن الحضور بمعظمهم كانوا ينتمون إلى النخب المثقفة، أو هم أنفسهم من الشعراء. وبعضهم قدم من سوريا مهجَّراً بفعل غياب الأمن كما هو شأن لقمن ديركي، أو زائراً للمعرض كما هو حال كوني ره ش وفاروق حجّي مصطفى وآسيا خليل.

في السليمانية عند شيركو بيكه س

كان يصعب أن أزور كردستان العراق من دون مقابلة شيركو بيكه س الذي التقيته مرات عدة في بيروت قبل أعوام، والذي بعد اليوم أحد أرفع قامات الشعر الكردي وأكثرها احتضاناً لجغرافيا الروح الكردية المثخنة بالمرارات والآمال. وحين عبَّرت للشاعر والكاتب الصديق فاروق حجي عن رغبتي في لقاء صاحب «سفر الروائح» و«إناء الألوان» عمد إلى الاتصال به، حيث أخبرته بوجودي في أربيل واستفسرت منه عن إمكانية مجيئه إلى المعرض. لكن شيركو الذي لم يتجاوز عمره الثالثة والسبعين تحدث بصوت راعش عن وهن جسدي يعيق قدرته على السير الطويل، فعقدت العزم على زيارته في السليمانية رغم ضيق الوقت ووعورة الطريق بين عاصمتي المحافظتين الكرديتين. وحيث إن القيمين على المعرض سارعوا إلى توفير مستلزمات الرحلة من دون إبطاء فقد غادرت أربيل عصراً، برفقة فاروق، متجهين إلى الشرق وخارجين من فضاء المدينة السهلي نحو الشطر الجبلي المدهش من كردستان، حيث تبدو القمم العالية مثلومة بالسيوف، وحيث النسور تحلق عالياً فوق آلام أحد أكثر الشعوب مكابدة وتمزقاً على الأرض. وقبل أن نصل السليمانية بقليل قطعت بنا السيارة مسالك شديدة الانحدار ومنعطفات بالغة الحدة والضيق، ورسم لنا نهر الزاب الكبير والبحيرة المتلألئة خلف سد دوكان إحدى أجمل اللوحات التي يمــكن للمــرء أن يبصرها في حياته.
بحرارة وامتنان واضحين استقبلنا شيركو في مؤسسة سردم للنشر التي يرأسها منذ عقد ونصف. لكنه، خلافاً للانطباع المقلق الذي خلَّفه صوته، كان مشرقاً وأنيقاً وذا وجه طافح بالعافية وشهوة العيش. وحين وصلنا خرج من وراء مكتبه الخاص وطلب لنا كأسين من الشاي، قبل أن يشير على مساعده بإحضار بعض أعماله المترجمة إلى العربية والتي كنتُ قد قرأتُ معظمها من قبل. استغرق اللقاء ساعة كاملة من الزمن تحدّث شيركو خلالها عن تفاؤله بمستقبل الشعب الكردي الذي لم يستطع رؤيته خارج دولة مستقلة، في يوم لم يحدد تاريخه، بسبب تعقيدات المنطقة وجغرافيتها الشائكة. تحدث عن حبه للشعر العربي وبخاصة شعر محمود درويش.
وحين قلت له بأنني أرى في تجربته الفريدة، التي تجمع بين الحداثة والروح الملحمية والقومية، المعادل الكردي لتجربة محمود درويش أكد لي موافقته على ذلك. وقال إنه يحترم تجربة أدونيس الذي زاره في العام الفائت، ويعلق على أحد جدران مكتبه صورة له تجمعه بصاحب «أغاني مهيار الدمشقي»، جنباً إلى جنب مع صورة أخرى تجمعه بأحد أكبر ملهمي الروح القومية الكردية الملا مصطفى البرزاني.
يصعب الحديث عن أيام أربيل الخمسة من دون الإشارة إلى لياليها الموازية التي قضينا معظمها في ضيافة صاحب الدعوة في مطعم مارينا، الذي ذكَّرني بهوه الواسع وسهراته العامرة بقاعة خان مرجان التاريخية في بغداد. كان عقد المدعوين يلتئم هناك كل ليلة، حيث البهجة والغناء الشعبيان العراقي، كما العربي الطربي، سيدا الموائد. وحيث يتخفف الأكراد من مواجعهم وأسئلتهم الوجودية المؤرقة ويأتون بأزيائهم الفضفاضة والملونة ووجوههم الملفوحة بوهج الشمس للاحتفال بترجيعات عيد النوروز وتردداته المفعمة بالبهجة. فهم منذ قرون طويلة جعلوا اليوم الأول من الربيع عيداً لهم وسقوه بأنهار غزيرة من الدماء. ولعلهم كالعرب تماماً يستشعرون موعداً مع الربيع طال انتظاره، ولم يعد يفصلهم عن تحققه سوى ما يفصل الشجرة عن ظلها في نهار غائم.

السفير- 21-4-2013