محمد المسعودي
(المغرب)

عدسة صالح العزاز- السعوديةترمي هذه القراءة إلى تناول جانب من جوانب الكتابة العربية القديمة التي اشتغلت بالهامشي في المجتمع العربي وتمكنت عن طريق الكتابة الأدبية الخالصة إثارة قضايا يثيرها أدباء العالم العربي حتى يومنا هذا.تعود هذه القراءة إلى تراث أبي حيان التوحيدي للوقوف عند موضوعات شكلت منطلقا ومدارا لأدب الهامش في الآداب الإنسانية وفي الأدب العربي بما في ذلك أدب محمد شكري.وعبر هذه الموضوعات استطاعت كتابة الهامش ابتداع أنماط أدبية طليعية في عصرها.وهكذا سنركز في هذه القراءة المتواضعة على عناصر ثلاثة من سمات هذه الكتابة كما نجدها لدى التوحيدي وشكري معا:

1/السخرية باعتبارها أفقا لكتابة الاختلاف والهامش

اتخذ أدب الهامش من السخرية استراتيجية فنية للوقوف عند المخفي في المجتمع والتعريض به وفضحه في صور مضحكة/مبكية.وقد اتخذ الأديب العربي القديم هذه الأداة الفنية وسيلة للتعبير عن رؤيته للمجتمع ولواقع المهمشين فيه سواء في الشعر أو النثر.وقد عد الجاحظ في كتابه"البخلاء"،وفي رسالة"التربيع والتدوير"من أوائل الكتاب الذين سعوا إلى الكشف عن جوانب من اختلالات مجتمع العصر العباسي وعن واقع المقهورين فيه،وذلك عن طريق السرد ومن خلال توظيف السخرية أفقا لكتابة الاختلاف واستراتيجية لابتداع أشكال تعبيرية جديدة،لكن أبا حيان التوحيدي تفوق على أستاذه الجاحظ في السخرية وفي ابتداع أشكال فنية جديدة ومختلفة في عصره،ولذلك نال حظا وافرا من الأذى وقسطا كبيرا من التهميش والمطاردة والتعرض للاغتيال تحت ذريعة الزندقة.

1-1/سخرية التوحيدي:

إن الناظر في كتابة التوحيدي يلمس سخريته البينة من الطبقات المتنفذة في المجتمع،ومن القيمين على شؤون الناس من وزراء وكتاب دواوين وقضاة وفقهاء.وهو بهذه الشاكلة تمكن من رصد واقع المهمشين في مجتمعه عن طريق نظرة تستند إلى مقارنة واقعين مختلفين:واقع الترف وواقع التهميش. وقد اتخذت السخرية عند التوحيدي منحى لا يراد به الهزل والإضحاك فحسب،وإنما يرمي إلى الاحتجاج والتعبير عن موقف رافض للواقع الكائن وسعي إلى واقع ممكن.وإذا كانت كتابة السخرية اعتبرت على هامش الأدب،بحيث لا يُنظر إليها نظرة سوية عند الطبقة المتنفذة ومن يمثلها من كتاب رسميين،فهي بالنسبة إليهم مجرد مستملحات ونوادر مضحكة يراد بها التسلية،فإنها صارت عند عباقرة الكتاب ودهاتِهم أساسا لكتابة الاختلاف ومنطلقا لترسيخ أدب الهامش.

ومن هنا نرى أبا حيان التوحيدي يتخذ من السخرية منطلقا لتصوير واقع مجتمعه في جل كتاباته، ولكن نظرا إلى صعوبة الإحاطة بكل ما كتبه في هذا المقام ارتأينا أن نقف عند كتاب هام من كتبه هو"الرسالة البغدادية"1.فما سمات السخرية في الكتاب؟وكيف تؤسس لكتابة الاختلاف؟

يصور كتاب"الرسالة البغدادية"واقع المجتمع البغدادي في رحلة دونكيشوتية يقوم بها البطل أبو القاسم البغدادي بين دروب بغداد ومجالسها وأسواقها وبيوتات أغنيائها وفقرائها.وبذلك تمكن التوحيدي من جعل بطله يرصد حقائق مجتمعه في لقطات ساخرة دالة،ولكنها شاملة جامعة في تعبيرها عن اختلال المجتمع وتناقضه،وقد استطاع عن طريقها تجسيد موقفه الرافض المحتج على الأوضاع القائمة عبر الكتابة والتدوين.ومن خلال هذه الاستراتيجية في الكتابة تمكن التوحيدي من توظيف سمة هامة من سمات أدب الهامش الذي يأبى إلا الاشتغال بفضاءات مختلفة لنقل صورة واقعية عن المدينة وعن المجتمع المديني،ولذلك تنقلت شخصية البغدادي بين الأزقة والدروب والمجالس والحمامات والأسواق،وتمكنت بذلك من تصوير حياة الشطار والعيارين والظرفاء والمكدين والقيان والمغنين والتجار ورجال الدين،أو بالمختصر المفيد أغلب الفئات الاجتماعية.وتمثل شخصية أبو القاسم نموذج العيار المتشرد الذي يجمع خصال الهامشي.فأبو القاسم البغدادي"يظهر بكل مواصفات هامشيي المدن" (2) .وهو بطل ساخر،هازل،متلون المواقف،متناقض السلوك.وهذه السمات نلمسها في أبطال الأدب الساخر/أو الأدب القائم على منطق الرفض والاحتجاج في كل العصور.

يقول السارد في"الرسالة البغدادية"مصورا بطله:
"كان من عادته أن يدخل دار بعض الأكابر،متماوتا،متسمتا في نسك الأبرار،عليه طيلسان قد أسبل طرفه على جبينه،وغطى شطر وجهه،فإذا رأى مجلسا مشهودا بأعيان الناس،أخذ يهمس بتلاوة القرآن،ثم يسلم من خلالها على القوم،بترخيم ونغمة فيها شجى،ويقبل على صاحب الدار،ويقول:حيا الله ذا الوجه بالسلام،وحباه بالإكرام،وجلس متخافتا بقراءته ساعة مديدة(...)إلى أن يلحظ واحدا من القوم متبسما،فيقول حينئذ،بذلك الخشوع،والاستكانة والخضوع،بعد إسبال الدموع،وتصاعد الأنفاس من الضلوع:

يا قاسي القلب،أكل هذا الطرب،بعد قتل الحسين الذبيح؟لا حول ولا قوة إلا بالله،أنت في لهو وطرب،وأهل بيت نبيك في قتل وحرب؟.."(3)
يصور النص شخصية البطل المتلونة المتقلبة،ففي هذا المشهد يبدو أبو القاسم البغدادي في سمت الرجل الصالح الداعي إلى الخير،المتحسر على ما أصاب أهل بيت الرسول(ص)،لكن حينما يتصدى له رجل"جلد من القوم"حسب تعبير السارد يكشفه للحاضرين يتحول خطابه إلى لهو وعبث وسخرية.يقول السارد مجسدا هذا التحول في السلوك:

"...ثم ينطلق من حبسته،ويحل عقد حبوته،وينحي طرف طيلسانه عن جبهته،ويستوي في جلسته، ويقول:صباحا صالحا،لا رديا ولا فاضحا،وينظر إلى أحد الحاضرين،ثم يقبل على صاحب المجلس، ويقول:يا سيدنا من هذا؟ما اسمه؟أمتعني الله بفقده،فيقول مثلا:هذا رجل فاضل أديب يعرف بأبي بشر،فيقول:عبس وتولى،لا إله إلا الله،ثقيل كنيته أبو الهوا،سمادي اسمه شمامة،قفل على خربة،قد قرأ كتاب تأخير المعرفة،وكتاب نسيان العلوم،ودرس مجموع نقصان الفهم،لا يفوته-بحمد الله-من الجهل إلا اليسير.."(4)

وعلى هذه الشاكلة يمضي البطل ساخرا ممن حوله لاعنا من جمعه المجلس به لا يستثني أحدا. وعن طريق هذا النقد الصريح تتشكل رؤية الكاتب المختلفة للمجتمع.وتنبني نظرته المختلفة عن النظرة السائدة في الأدب الرسمي.وبهذه الطريقة تهتز الصورة المتداولة عن المجتمع الصالح السوي المدعي قيم الفضيلة والنبل،والبدل والعطاء،والتقوى والزهد،لتكشف سخرية البطل صورة أخرى تكشفها حقائق لا تُُرى على السطح تبين النفاق والخداع والبخل والكسل والعهر والمجون وغيرها من المثالب.ولطالما عني التوحيدي في غير هذا النص بمثالب الناس،وبخاصة المتسترين في حلل السلطة والجاه والمال والتدين الزائف،فكانت كتبه صورا سردية كاشفة عن الواقع إخبارا وتخييلا معا كما نشهد في رسالته البغدادية.

والجديد في"الرسالة البغدادية" للتوحيدي أنه جعل حكاية بطله البانورامية الشاملة تجري في يوم واحد يصور خلاله أفعال أبي القاسم البغدادي وحركاته ومواقفه وسلوكاته وعبثه بذاته وبالآخرين. وبهذه التقنية السردية يمكن اعتبار التوحيدي من المبدعين المجددين في صيغ الحكاية العربية ومقاصدها.وتذكرنا هذه التقنية بما فعله ساخر آخر من كتاب القرن العشرين وهو"جيمس جويس"في رائعته"عوليس"التي رصد فيها يوما واحدا من حياة بطله ليوبولد بلوم،واستطاع،بدوره،كشف حقيقة مجتمع مدينة دبلن في لقطات لاهية ساخرة،ناقدة فاضحة.وعبر هذه الاستراتيجية السردية الساخرة اللاهية ينتقد الكتاب الساخرون مجتمعهم ويكشفون عن تعارضاته وتناقضاته الصارخة.وهذا ما نراه أيضا في "الرسالة البغدادية"التي تعد محاولة طليعية تجسد ملامح أدب الاختلاف في عصرها حسب ما أعتقد.

من خلال ما سبق يمكن أن نجمل سمات أدب الهامش الساخر كما تمثلت في"الرسالة البغدادية"في العناصر التالية:

اتخاذ البطل الهامشي المتشرذ العيار/"الشطاري"محورا للحكي.
تتبع أفعال البطل المتناقضة المتضاربة باعتبارها صورة مصغرة لواقعه الاجتماعي.

تصوير نفاق المجتمع وتعارضاته تصويرا عبثيا متهكما.
إقامة بلاغة أدب الهامش الساخر على أساس سردي/حكائي.
استناد السرد في هذا الأدب استنادا إلى المشاهد الحسية والمواقف المشخصة تشخيصا مسرحيا.
وهذه السمات جميعا نلمس امتداداتها في الأدب الهامشي الساخر لدى الكتاب العرب حتى لحظتنا الراهنة مع محاولة تكييفها وتطويرها حسب ما يقتضيه تطور الأنواع الأدبية.

1-2/سخرية شكري:

قلما التفت النقد إلى سمة السخرية في أدب محمد شكري وما تتخذه من أبعاد دلالية وفنية.ولذلك ستركز هذه القراءة على ملامح من هذه السمة كما تمثلت في بعض قصصه القصيرة.إن المتأمل في أدب شكري يلمس اهتمام الكاتب المبكر باستثمار السخرية كاستراتيجية في الوقوف على واقع المجتمع واختلالاته.ولعل أول نص نشره في مجلة الآداب"العنف على الشاطئ"يجسد هذا الميل إلى التعبير عن الرؤية الفنية للحياة والواقع من منطلق السخرية،واستمر هذا الميل في قصص أخرى من مجموعة "الخيمة".ففي قصة"العنف على الشاطئ"يركز السارد على رصد تفاصيل الحركة في ساحة السوق الداخلي بمدينة طنجة،واضعا في بؤرة المشهد ميمون المجنون بأفعاله وردود أفعاله وتفاعله مع الآخرين وتفاعل الآخرين معه.إن اهتمام السارد بالشخصية المهمشة المشردة كان منطلق كتابة محمد شكري السردية الرامية إلى الاختلاف والتميز عن السائد.وتبدو المواقف الساخرة متمثلة في موقف البطل مما يجري حوله في عالم الناس.فمن خلال الرصد المشهدي لما يمر أمام ناظريه يتمكن من تجسيد رؤيته النقدية الساخطة المحتجة.إن دقة تصوير الواقع سرديا في جمل سريعة الإيقاع متوترة النفس تبين شدة الانفعال إزاء ما يجري،كما تكشف عن التعليق الساخر/الكاريكاتوري الذي يتحول أحيانا إلى ما يشبه لغة الشتم والقذع التي نجدها في المقامات أو في ألف ليلة أو الرسالة البغدادية (1).وقد تتحول لغة الحوار الداخلي والحوار المباشر معا إلى لغة ساخرة أو ناقدة رافضة لما يقع في الخارج،وفي نفس الآن تقدم نظرة الذات الساردة إلى الحياة والوجود في صيغ تقريرية لا تخلو من تهكم،ومن شعور فادح بالمأساة/الملهاة الإنسانية.يقول سارد"العنف على الشاطئ"في مشهد سردي دال:"أخرجَ من الكوب أوراق البقلة، يجترها.فكرت: إنه يسترد عقله حين يتحدث عن جوني.عقله في أوستراليا وهو هنا.يحدثني عن أوستراليا حين يعي ما يقوله.الماضي:جوني والبقلة المُرة التي يجترها الآن.ميمون،جوني وأنا سنصير بقولا مرة.إن عالم اليوم هو بقول الغد.إننا بعرات يكورها طابور من الجعلان المتدحرجة" 5

وفي نفس الآن يصور السارد أفعال ميمون المجنون ومواقفه الجنونية التي تعبث بالعقلاء وتسخر من أحكامهم"العاقلة"مركزا على المفارقة الساخرة المتولدة عن سلوك المجنون وردود فعل العقلاء.يقول:

"رفع الكرسي بحركة قوية وقلَبه على وجهه:
- ليجلس الآن الشيطان على هذا الكرسي.

رآه صاحب المقهى.خرج من الداخل يعوي:
أيها المجنون،أيها الملعون،سأنفيك من طنجة كلها.
صفق ميمون عقبه براحة يده كبهلوان...أراد صاحب المقهى أن يلحق به،لكن أحد الزبائن أمسكه من ذراعه: - أنت ترى كيف هو.كن أنت عاقلا إذا كان هو مجنونا.." 6

يكشف المشهد عن سخرية واضحة،لكن دلالته على المفارقة تترسخ أكثر من خلال حوار الرجل(الزبون)مع صاحب المقهى،فكأن قوله مخاطبا الأخير:"كن أنت عاقلا إذا كان هو مجنونا"يريد أن ينطق بنقيض المصرح به.وهو أن صاحب المقهى الذي يطارد ميمونا المجنون ويأبى تركه يجلس في مقهاه ويتصيد هفواته،ويراقب حركاته وسكانته،هو المجنون حقا.وبهذه السخرية اللاذعة القائمة على لعبة الخفاء والتجلي يبرز السارد موقفه الساخر من العالم،تارة عن طريق السرد،وأخرى من خلال الحوار.

وفي قصة"الأطفال ليسوا دائما حمقى"يصور شكري عوالم طفولية من نوع جديد قوامها الحكمة والتعقل إلى درجة تفرض احترام الكبار للصغار واندهاشهم أمام مسيرتهم الناجحة.وعبر هذه العوالم الحالمة يسخر السارد من واقع المجتمع الذي يدمر الطفولة والطبيعة ولا يعرف للنظام سبيلا.إن هذه اليوتوبيا الحالمة تنتقد الواقع عبر لغة المفارقة والنطق بالمسكوت عنه عبر لغة السرد المداوِرة المواربة لحقائق تُستشف من وراء السطور.وتتسم جل قصص مجموعة"مجنون الورد"بأبعاد ساخرة كما هو الأمر في قصص"الضاحكون الباكون"و"الكلام عن الذباب ممنوع"و"أشجار صلعاء"وعلى الخصوص نصوصها الثلاثة:القوة السالبة-أذيال الكلاب الصغيرة-الرأس الحليق.

أما في مجموعة الخيمة فتمتد السخرية لتشكل قصصا بكاملها من ألفها إلى يائها في لعبة سردية تستند إلى المفارقة والتضاد،وتجسد الذكاء والغباء،والحيلة والخضوع للحيلة،والرغبة في ملك الشيء والرغبة المقابلة.وعبر تعارض الرغبات تتولد شرارة الملهاة وتمتد جذور السخرية المرة كما نلفي في قصة "نعل النبي".تحكي القصة عن الشيخ الإنجليزي(مستر ستيوارت)الذي يسعى إلى امتلاك"نعل النبي" متوهما أنه سيشتري أجمل تحفة تاريخية وأعظمها على الإطلاق،بينما يتعرض في حقيقة الأمر إلى خدعة ومؤامرة دبرها الراوي ليحصل على المال مكررا لازمته:"مزيدا من اللذة والخيال،مزيدا من المال والحيل".هكذا يدبر الراوي حيلة للحصول على مليون فرنك من الشيخ في مساومة ماكرة انتهت بالرسو عند نصف مليون تقدم فورا بعد تسلم النعل والنصف الآخر يرسل عبر البريد.وقد أوهم الراوي الشيخ الإنجليزي أن النعل مقدسا وأنه روح جدته التي قد تجن أو تصاب بسكتة قلبية إذا فقدته.ومن هنا اتفقا معا على خطة أن يرحل الإنجليزي مباشرة بعد تسلم النعل لأن السارد بدوره سيترك المدينة نظرا لأنه سرق جدته وباع أثرا مقدسا يحترمه المجتمع.

بهذه الشاكلة يسخر الراوي من الإنجليزي وفي نفس الآن يبين طبيعة الخداع التي يتميز بها قطع من مجتمع الهامش قصد تدبر أمور عيشه أو تحقيق حياة الملذة والمتعة.وفي هذا السياق تلعب المفارقة دورا حيويا في تجسيد السخرية وفي الكشف عن الخفي في المجتمع.يقول الراوي مصورا مظاهر التدين الزائف والتستر وراء الحيلة لكسب المادة:
"جدتي حانية رأسها في خشوع.الإنجليزي يأكل المروزية بعين ويأكل بعينه الأخرى وجه جدتي.لباسها أبيض،البخور يتصاعد حولها،روائح العطور عربية والصمت جليل.لقد أتقنت دورها كما علمتها إياه.حملت إلينا الشاي خادمتنا الصغيرة في صينية فضية:لباسها أبيض،خجول،حانية رأسها...حيت الإنجليزي بهزة من رأسها دون أن تبسم كما أوصيتها أن تفعل..صدرت منه همهمة لذة وإعجاب عندما ذاق الشاي.كان الشاي معطرا بالعنبر.مرت لحظة صمت.فكرت:الآن حانت اللحظة التي يجب فيها أن يحك علاء الدين مصباحه السحري.نهضت.غمغمت في أذن جدتي بلا شئ.مجرد كلمات لا معنى لها.هزت لي رأسها دون أن ترفعه.حملت المخدة البيضاء ورفعت عنها المنديل الحريري الأخضر المزركش بأسلاك ذهبية وخطوط بيضاء.تأمل الشيخ النعل الحائل اللون.يده تمتد قليلا نحو المخدة.نظر إلي،رأى في عيني ما يُفهم أن النعل حرام مسه.
ماي جاد!اتس مافْلِس.
غطيت النعل قبل أن أستدير لأترك له فرصة تأمله من خلال المنديل الشفاف.استدرت بحذر وبطء. وضعت المخدة بحركة كما لو أني أضع ضمادة على جرح.نظرة خاطفة منه إلي ونظرة أطول للنعل" (7)
ولا يكشف النص فقط من خلال منطوقه عن خداع الطبقة المهمشة واحتيالها،وإنما ينتقد المجتمع في شموله لأنه ينظر إلى الآخر من منظور ذاتي يبيح له اقتراف المحرم(الحيلة والسرقة).وهو منظور نرجسي يجعل الآخر دائما مثالا للسذاجة والغفلة والثقة المفرطة إلى حد البلاهة،وفي المقابل يجعل من الذات الجماعية نموذجا للذكاء والدهاء واقتناص الفرص لتحقيق المآرب.وقد تكررت هذه الصورة التي يقدمها محمد شكري عن المغربي المهمش في نص آخر بعنوان"أمومة"من مجموعة"مجنون الورد"كتب في نفس الفترة الزمنية1972 مما يدل على أن شكري كان معنيا بتحليل أساليب الخداع والاحتيال التي تمارس في مجتمع الهامش ويكون ضحيتها الغريب.إن الكاتب عبر هذا التحليل للواقع والنقد المبطن لهذه الممارسات بواسطة السخرية يدين مجتمعه الذي تغاضى عن هذه السلوكات وسمح بها.
وإذا كان بطل المقامات وبطل"الرسالة البغدادية"للتوحيدي محتالا مكديا يقتنص الفرص ويستغفل الآخرين،فإن هذه الصورة للهامشي تتكرر في قصص شكري مما يدل على استمرار حضور بعض سمات أدب الهامش بأبعادها التراثية في أدبنا المعاصر عبر إغنائها وتنويع ثيماتها وخصائصها الفنية.

2/الجنس وأدب الهامش
2-1/الجنس عند التوحيدي:

حفلت كتابة التوحيدي بالحكايات والنوادر والمعلومات المتعلقة بالجنس وما يتواشج به من أحوال الجسد،فهي تتخلل الموضوعات الجادة بصفتها وسيلة للترويح عن النفس وأداة لتجنب عناء الجد،ولهذا فإن الحديث عن الجنس يوضع عند التوحيدي تحت بند"الهزل".يقول على لسان الوزير في كتاب"الإمتاع والمؤانسة"مشيرا إلى الفهم العام والنظرة السائدة إلى خطاب الجنس:

"ربما عيب هذا النمط كل العيب،وذلك ظلم لأن النفس تحتاج إلى بشر..."(8)

ما يستشف من هذه القولة أن كل ما يتعلق بالهزل والجسد والجنس كان يمارس عليه نوع من الحظر والمنع،كما تكشف القولة عن الوظيفة المنوطة ب"خطاب المجون"وهي تحقيق لذة البشر عند المتلقي،إن خطاب المجون يعد أداة ترويح عن النفس.
وإذا كان التوحيدي يؤكد مرارا البعد الهزلي لخطاب الجسد/الجنس في كتاباته،أفلا يحق لنا التروي في قبول فكرته،وعدم الانسياق وراء هواه،والنظر إلى هذا الخطاب بوصفه أداة معرفة نظرية وعملية يسعى إلى تقديمها للمتلقي،كما يعتبر الخوض في هذا الخطاب خوضا فيما هو محرم التعبير عنه وتجسيده عبر الكتابة،بينما هو غير محرم واقعا وممارسة؟فهل الحاجة إلى الهزل وحدها هي التي تشرع الباب أمام الكاتب ليتحدث عن الجنس أم أن هناك حوافز أخرى هي المهيمنة على قلم التوحيدي الماكر الساخر؟

إن القولة المستشهد بها سابقا تَعتبر الحظر والمنع اللذين طالا خطاب الجسد/الجنس ظلما وعدوانا. فالعيب أو اللوم الذي يلقيه"المجتمع"على المتحدث والمستمع إلى هذا النمط من الخطاب بهدف الترويح به ظلم ينبغي أن يواجه عبر فعل الكتابة/القول.ومن ثم يمكن اعتبار إسهام التوحيدي في الكتابة عن قضايا الجنس اتجاه نحو رفع الظلم عن الخطاب المتعلق بالجسد.والناظر في مؤلفات التوحيدي يجد كثيرا من النصوص المرتبطة بهذا الخطاب ذات أهمية للوقوف عندها.يقول معرفا اللذة:

"اللذة انطلاق الشهوة الطبيعية من النفس بلا مانع"(9)
فمن شروط تحقق اللذة الانطلاق بدون قيد أو شرط في رؤية التوحيدي؛وأية لذة وقع عليها الحظر انفلتت من إطارها لتصير قيدا.ويعرف الرغبة بقوله:"حركة تكون من شهوة يرجى بها منفعة"(10)

فإذا كانت اللذة شهوة طبيعية من النفس غير مقيدة،فإن الرغبة هي شهوة مقيدة بالمنفعة.والمنفعة غير محصورة ولا محدودة،قد تكون مرتبطة بالجسد،كما قد ترتبط بالنفس وأحوالها.ويعرف أبو حيان الشهوة على الشكل الآتي:
"هي التشوق على طريق الانفعال إلى استرداد ما ينقص مما في البدن،وإلا نقص ما زاد فيه.والانفعال شئ يجري على خلاف ما يجري به الأمر الذي هو بالفكر والتمييز"(11)
فبما أن اللذة انطلاقة حرة للنفس لا تخضع للحدود والشروط،فإن الشهوة انفعال يتطلع من خلاله الجسد إلى استرداد ما نقص منه،وإذا لم تشبع الرغبة-التي تهدف إلى المنفعة-وخضعت لسلطة الحظر والإكراه نقص البدن وابتعد عن كماله وعن تحقيق منفعته.

تتضمن هذه التعريفات الفلسفية إشارات جلية إلى حرية الرغبة وضرورة انفلاتها من سلطة المنع والرقابة؛فكيف بالخطاب المصاغ حول هذا الفعل البشري الطبيعي الذي يعد مطلبا ضروريا للجسد؟
إن هذه التحديدات لا تنفصل عن رؤية التوحيدي إلى أهمية الخطاب الجنسي،فإذا كان الأخير وسيلة أساس للترويح عن النفس،فإن اللذة والشهوة والرغبة شروط وجود بالنسبة إلى بني البشر يتعرض الجسد في غيابها أو لحظة تهميشها إلى النقص واهتزاز الكينونة.فالجسد يكتمل بالانفعال والفكر والرغبة واللذة جميعا،وبغياب أي عنصر من هذه المكونات يصير الإنسان ناقصا وفي حاجة ملحة إلى تعويض نقصه.وإذا لم يفلح تنفتح أمامه-ولا شك-آفاق العنف والجريمة والأمراض النفسية.
من خلال ما تقدم نستشف أن التوحيدي كان ينطلق من فهم عميق لطبيعة الجسد البشري الذي يتطلب الحرية في تصريف اللذة وإكمال النقص عبر الشهوة التي هي انفعال متصل بالنفس وأحوالها.ومما لاشك فيه أن التوحيدي بإثارته للقضايا المرتبطة بالجنس،وعبر تأكيده أهمية الحرية كان يسعى إلى التنبيه إلى خطورة الواقع الاجتماعي المتناقض.فبينما تتمكن الطبقة الراقية من فعل ما يحلو لها دون رقيب أو حسيب نلفي الطبقات الشعبية تخضع للحظر الفعلي والرقابة المعنوية فتظل رهينة "الكبت"أو النقص في تكوين البدن وتحقيق اكتماله.ويورد التوحيدي في"البصائر والذخائر"طرفة لها دلالتها العميقة على النشاز بين الفئة المتمكنة والفئة المقهورة في ممارسة الحياة.(12)
تعكس النادرة طبيعة الواقع الاجتماعي القائم على المفارقة والتناقض بين المعلن والخفي.ومن ثم فحينما أشار أبو حيان إلى ضرورة تناول"خطاب الجنس"في الكتابة،وإن تحت غطاء الهزل،كان يسعى إلى رصد الواقع وإبرازه.والملاحظ أن أغلب ما يرويه التوحيدي من نوادر وأحاديث عن الجنس مستمد من الوسط الشعبي تتقصى ظواهره المختلفة:الزنا واللواط والسحاق..وغيرها.وتتخذ هذه الحكايات لبوسات عدة لتعبر عن مواقف ساخرة ناقدة.وبعضها وظفت للسخرية من أولئك الذين يمثلون بعض أوجه"السلطة"كالقضاة والأمراء وقادة الجيش والوزراء،أو من يقومون بدور الحراس على الأخلاق والسلوكات من معلمين وفقهاء وغيرهم.ففي نادرة أخرى في"البصائر"(13) يدين التوحيدي رجال القضاء ويسخر من أحكامهم،كما يدين الأزواج الذين يعرضون أعراض زوجاتهم للفضيحة.فالقاضي يعترف بمعرفته بالزوجتين أمام الرجلين والعدول،بل يتبجح بهذه المعرفة ويقضي استنادا إليها بينهما.أما الرجلان فلا تتحرك في نفسيهما الشهامة وكرامة صيانة العرض والشرف-في مجتمع يتقيد بهذه الأخلاق-وإنما يكتفي أحدهما(الذي حكم له القاضي)بالتعبير عن فرحه وسروره لأنه كسب الرهان على خصمه.إن هذه الحكاية إدانة صريحة لواقع متفسخ يسهم في صنعه من يقومون بدور"الحراسة"على القانون والنظام و"القيم الرفيعة"!

إن هذه الحكاية وغيرها من الطرائف والحكايات التي أوردها التوحيدي-كما جمعها بعض المؤلفين الآخرين في عصره،بل قبله أيضا-تعكس واقع المجتمع العباسي وتفضحه دون مواربة.والتوحيدي من خلال جمعه لهذه النصوص،وإشارته إلى وقائع وأحداث وحكايات انفرد بذكرها،كان يرمي إلى ربط الكتابة بالقضايا الخفية في المجتمع،وعلى رأسها مسألة الجنس بما تمثله من خطورة في حياة الناس.
ونحن إذ نعالج هذا الموضوع ندرك أن أبا حيان،بحكم العصر الذي عاش فيه وبحكم طبيعة الأسئلة المطروحة في تلك الفترة،لا يطرح مسألة الصراع بين الرغبة والسلطة،وبين الأنا الفردية ومعايير المجتمع الأخلاقية عبر الكتابة مباشرة،وإنما قراءتنا الخاصة لخطابه حول الجسد والجنس والنفس والرغبة... وغيرها،وتأويلنا لهذا الخطاب هو ما يجعلنا نفترض حضور هذه الرؤية عنده،خاصة أنه أشار على لسان"الشيخ"في الطرفة السابقة إلى التحريم الذي تعرض له العامة في ممارسة حياتهم وحريتهم على عكس الطبقات المتنفذة الراقية!وهذا ما يبين وقوف التوحيدي إلى جانب"المساواة" في تصريف الرغبة بين جميع الفئات باعتبار أن الرغبة لا تنفصل عن كينونة الإنسان الذي لا تكتمل شروط وجوده إلا بتلبية دعائها.(14)

2-2/الجنس في أدب شكري:

عُرف عن شكري أنه كاتب فضائحي صور الجوانب الخفية في المجتمع المغربي تصويرا مكشوفا لا يستر عورة ولا يداري نقيصة.ولذلك تعرضت نصوصه للحظر،كما تعرض خطاب التوحيدي عن الجنس للمنع.وكما عُد خطاب التوحيدي عيبا اعتُبر أدب شكري عيبا وخطرا يهدد المجتمع.وقد كشفت نصوص شكري القصصية والروائية عن تناقض المجتمع واستتاره وراء شعارات الفضيلة والأخلاق الحميدة ليمارس في الخفاء سلوكات أخرى نقيضة.وقد كان يرمي من وراء كتابته عن الجنس وما يسود المجتمع من تفسخ ومجون وعهر إلى إدانة حالة التهميش التي تتعرض لها فئات من المجتمع لا تجد لها بديلا سوى المتاجرة بأعراض الآخرين أو المتاجرة بذاتها أو بما يقع تحت يدها.وقد حفل أدب شكري بمثل هذه النماذج المهمشة ليكشف عبرها عن اختلال المجتمع واضطرابه لا ليدعو إلى المجون والتفسخ والالتذاذ بالصور البورنوغرافية التي تثير المراهقين والمختلين نفسيا.وقد كانت الصور التي قدم بها هذه الجوانب تؤدي وظيفة أدبية جمالية إلى جانب وظيفتها التعبيرية المباشرة عن الوضع الاجتماعي.
في قصة"أمومة"(15)يصور شكري نموذجا لهامشي يستغل ظروف نساء مهمشات مثله قصد الحصول على المال.إن بطل القصة يستغل وضع"أنيسة"الحامل سفاحا ومثيلاتها من بنات الليل ليبيع أطفالهن غير المرغوب فيهم إلى أغراب أو من هم في حاجة إلى تبني أطفال.وبهذه الكيفية المواربة يلقي شكري الضوء على هذا البعد السلبي للجنس في المجتمع مشيرا إلى ظاهرة استفحلت فيه ضاربة عرض الحائط بكل القيم التي يتشدق بها هذا المجتمع،وهي ظاهرة أولاد الزنا الذين يباعون ويشترون أو يتشردون في الشوارع دون أن يهتم بهم أحد.ومن جهة أخرى يقف عند بؤس البغايا الحوامل وتوزعهن بين الاحتفاظ بأبنائهن أو التخلي عنهن.وإذا كانت"أنيسة"في القصة قد رفضت بيع ولدها،فإن هناك أخريات على استعداد لفعل ذلك كما حاول بطل القصة أن يبين لسنيورا أليسيا الإسبانية التي قدمت له سبعمائة درهم من أجل الحصول على المولود الذي كانت ستضعه"أنيسة".

ونجد في نصوص أخرى لشكري نماذج متنوعة لشخصيات تمثل هذه القيم السلبية المتناقضة داخل المجتمع.وكأن شكري يكرر نغمة بدأها التوحيدي في نصوصه السردية وأبى كاتبنا إلا الاستمرار فيها كاشفا عن مثالب المجتمع ونقائصه.في قصة"بشير حيا وميتا"(16)يرصد شكري نمطا آخر من اختلال الواقع الاجتماعي ممثلا في بشير المترف المبذر لماله بأوجه شتى حتى تحول بعد إفلاسه إلى مهمش متوحش وضار.ينبش القبور ويتبول عليها ويدفن الحيوانات إلى جانب الإنسان ويقتات على بقول المقبرة أو على الدواجن الميتة.وقبل ذلك مهد شكري لهذا التحول الخطير الذي عرفته شخصية بشير بصور تقف عند سلوكاته الشاذة.وفي هذا الإطار يركز على شذوذه الجنسي في لمحات تقريرية مباشرة دون وقوف على مشاهد تثير القارئ.وبذلك كانت الإشارات إلى الجنس تؤدي وظيفة فنية داخل النص تشي ببوادر جنون بشير أو بالأحرى تبين طبيعة نفسيته المختلة منذ البداية.ومن هنا لم يكن الحديث عن الجنس مقصودا لذاته في القصة وإنما يؤدي وظيفة فنية محددة لا تنفصل عن مقاصد الكاتب وغاياته.

وعموما إن استثمار خطاب الجنس والجسد في مجموعة"مجنون الورد" كان محتشما عند شكري،ومن ثم كانت وظيفته جمالية في جل نصوص المجموعة يرمي إلى بلورة مواقف الشخصيات القصصية أو تجسيد رؤيتها إلى الواقع ونظرتها إلى الحياة.ولكن استثمار هذا الخطاب سيبرز بشكل آخر في مجموعة"الخيمة"التي لم يعد موضوع الجنس في قصصها مجرد عنصر فني إضافي،بل صار موضوعا مقصودا لذاته للكشف عن الاختلاف والتمرد والتعبير عن رفض الواقع عند الشخصيات،وهو في هذه الحالة أيضا ظل محافظا على أبعاده الفنية لأنه كشف عن نفسية الشخصيات وصور الواقع الاجتماعي تصويرا لا يخلو من رصد سردي دقيق لاضطراباته على جميع المستويات:أخلاقيا وماديا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا.ففي قصة"الخيمة"(17)التي تحمل المجموعة اسمها يجول بنا السارد بين أنواع شتى من المهمشين والمطارَدين اجتماعيا وسلطويا من بائعي المخدرات والمجرمين والعاهرات وغيرهم.تحكي القصة عن ليلة لهؤلاء المهمشين عند شاطئ البحر تذكرنا بإحدى ليالي هارون الرشيد أو بحكايات ألف ليلة.غناء ورقص وأكل وشراب واحتفال وسباحة وجنس.لكن موضوع الجنس في هذه القصة لا يبرز بمعزل عن سياقه الفني داخل القصة التي ترمي إلى تصوير هذا الطقس الاحتفالي الجماعي لهذه الفئة المهمشة.بل إن السارد أراد تجسيد كرم شخصية عبدون فوروسو الذي لا يحد مع أصحابه عبر تصوير استحواذ الأول على صديقة فوروسو"ظريفة الريفية"/احويتة دون أن يغضب منه لأنه حاربه بسلاحه/ شعاره الذي يردده دائما:"اللي هواك أهواه،واللي عراك عريه".وتصوير الجنس في هذه القصة لا يتم إلا رمزيا عبر تداخله بوصف الطبيعة أو رصد تهويمات السارد.وعادة ما يتم في نصوص شكري القصصية تصوير ما يرتبط بالجنس عبر الحوار المباشر بين الشخصيات ونادرا ما يركز الكاتب على وصف الفعل والمشاهد الحسية في هذا الإطار كما نجد في كتابه"الخبز الحافي".و قد كان تصوير هذا الجانب عند بعض الكتاب القدامى الذين كتبوا في هذا الموضوع أكثر جرأة من تصوير شكري كما نجد في كتابة التوحيدي.(18)

في ضوء ما سلف يمكن القول إن موضوع الجنس يعد عنصرا من عناصر كتابة الهامش والاختلاف في أدب التوحيدي وشكري معا يراد به تصوير وضع المجتمع واختلاله،أو تصوير تطلع المهمشين إلى تقليد المترفين في طقوس بذخهم وترفهم.ويعد هذا الجانب المشترك بين الكاتبين بعدا من أبعاد فضح الواقع والوقوف عند اختلال النظرة إلى الحياة عند الطبقة المترفة التي تضيق الخناق على الفئات الهامشية في المجتمع إلى حد السعي إلى تقليدها في طقوسها وعوائدها وإن كان ذلك على حساب قيم الكرامة والإنسانية والحرية والعدالة التي ترفعها شعارات ولا تمارسها واقعا.
3/سردية أدب الهامش
من سمة كتابة الهامش التنظير لجنس أدبي هامشي في رتب الأجناس الأدبية السائدة وهو السرد والدفاع عن أهميته ودوره،كما يشير محسن جاسم الموسوي،(19)على اعتبار أن السرد الأدبي هو النوع القادر على رصد الهامشي وتتبع تفاصيل المسكوت عنه.ومن هنا كانت خطورة القص وعلة رفضه في الثقافات الإنسانية،ومن بينها الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية ذاتها.وقد اتخذ أدب الهامش من السرد/الحكي أساسا للتعبير والتصوير.فالسرد بقدرته على رصد التفاصيل والجزئيات،وتمكنه من عرض المشاهد وتحيينها،واستطاعته كشف التناقضات كان الفن الأثير لدى كتاب الاختلاف والتمرد. وقلما نعثر في الشعر على إمكانات السرد الهائلة التي تمكن الأدباء من تصوير واقع مجتمعهم،وتجسيد ظروف المهمشين والمقهورين فيه.ومن هنا اتخذ كل من التوحيدي وشكري السرد منطلقا للوقوف على الهامشي في المجتمع،والانطلاق منه لتأسيس كتابة الاختلاف كما رأينا في المحورين السابقين.وقد وعى كل منهما أهمية الكتابة عن المهمشين من مشردين ومكدين ومجانين وآبقين عن أعراف المجتمع،كما وعى كلاهما أهمية تشكيل الرؤية السردية انطلاقا من منظور نقدي ساخر وفاضح.

وإلى جانب الوعي بأهمية السرد ودوره في تأسيس كتابة الاختلاف مال الكاتبان إلى توظيف اللغة العامية في السرد وتشكيل الرؤية النقدية والتصوير الواقعي للمجتمع انطلاقا منها.وقد كان التوحيدي أسبق إلى استعمال العامية في سرده قبل أن تطرح القضية للنقاش في الساحة الأدبية العربية أوائل القرن الماضي.فمن سمات كتابة الهامش التي أشار إليها أبو حيان في رسالته البغدادية ما أسماه ب"اللغة المستفصحة المستفضحة" التي تتمكن-حسب التوحيدي-من تقديم"معرفة أخلاق البغداديين على تباين طبقاتهم".(20)وهذه اللغة سمة أخرى من سمات أدب الهامش يشترك فيها الكتاب الساخرون/المنتقدون. وقد استثمرها أبو حيان في كتابه خير استثمار فتمكن من خلق مواقف ساخرة ناقدة كشفت اضطراب المجتمع وتعارضاته،كما بينت اختلاف العوائد بين مختلف طبقات مجتمع بغداد.ومن رام التوسع في هذا المبحث عليه بالعودة إلى الكتاب ذاته لينظر كيف يوظف الكاتب بعبقرية نادرة اللغة العامية في عصره متلاعبا بصيغها مبرزا حيوتها التصويرية.وقد لفتت هذه السمة انتباه بعض الدارسين إلى درجة جعلت ناقدا مثل أنور لوقا يتحدث عن"حداثة التوحيدي"ويلح على أنه كان يمتلك"موهبة روائية"لم يلتفت إليها النقاد العرب الذين ظلوا أسرى أدواتهم التقليدية. (21) وبذلك جعل التوحيدي من سرده قصصا فنية متميزة بألوان التشويق وأنواع البناء الدرامي/الساخر بفضل التنويع اللغوي والتفعيل الحيوي للغة اليومي.إن الخروج عن اللغة السائدة في الأدب والانحياز إلى اللغة اليومية كان يرمي إلى تفعيلها نظرا إلى ما تتميز به من حيوية من حيث طبيعتها وقدرتها التصويرية.وقد نجح التوحيدي في سخريته المرة بفضل لغة أهل بغداد المستفصحة المستفضحة،وكذلك نجح شكري في تصويره القصصي للهامشي بفضل لغة أهل طنجة الغنية بمفرداتها العربية والأمازيغية والإسبانية وغيرها من اللغات.وهي اللغة المستفضحة المستفصحة التي كانت هامشية بدورها ولا تزال تتعرض لأنكى أشكال التهميش.يقول في قصة"الخيمة":

"فتحت الباب وسقصاني عبدون مازحا وضاحكا:
- واش وقع لك معهم؟ياك ما لعبتِ لعبك معهم؟

ركبت جنبه وهمست:
- قلع،قلع تسمع مني كل شي!" (22)

يستعمل شكري اللغة الدارجة في السرد والحوار معا وبواسطتها يرصد أفعال الشخصيات وأقوالها.وإلى جانب ذلك تستطيع هذه اللغة خلق تنوع لساني بين داخل النص السردي وتتمكن من تصوير مواقف ساخرة ودرامية وخلق أنواع من التشويق الفني.يقول أيضا في نفس القصة مصورا لحظة من لحظات ليلة شخصياتها الفنتازية:
"أمسك خاي احمد الزهواني وعبد اللطيف الدنيا قوائم الخروف بعنف ومداه.تخلى الخروف عن الاجترار والهلعُ في عينيه تلتهما مسكنة ثم بعبع ومعمع ثم لعلع ولغلغ.خزر إليهم باستسلام (..) نظر عنتر الساكوتي الذباح إلى الخنجر..مرر نصل المدية.." (23)

تقترب اللغة في هذا النص من حيث لعبها اللغوي واستنادها إلى الجناس والازدواج من لغة التوحيدي الذي برع في رسالته البغدادية في توظيفها توظيفا ساخرا.

انطلاقا مما رأيناه يمكن القول إن أدب الهامش في الأدب العربي انطبع بسمات فنية نبعت من نوعية الموضوعات التي عالجها.وهي موضوعات ما تزال في دائرة عناية كتاب الهامش حتى وقتنا الراهن.وإذا كانت الأدوات الفنية والأنواع الأدبية تتغير وتتطور،فإن الاستفادة من القديم تظل أبدا طي الجديد.ورب قديم هو أنفع وأجدى من جديد لا يسعى إلى الاختلاف ولا يؤسس لأدب طليعي جاد.