للروائي‮ ‬أمين صالح

زهور كرام‮
(المغرب)

‮ ‬أمين صالحتشكل السيرة الذاتية أفق الكتابة في‮ “‬رهائن الغيب‮” ‬للكاتب‮ “‬أمين صالح‮”. ‬ويدعم هذا الأفق عيّنة من الإشارات الإعلانية،‮ ‬بعضها جاء مدخلا تشويقيا لإمكانية سرد سيرة حياة‮ “... ‬والحبلى بي‮ ‬كانت تصقل مرآة الولادة وتقطف قدري‮ ‬من رحم الصدفة،‮ ‬وكنت أرضع حليب الغواية من ثدى المجهول،‮ ‬الحمل مصيري‮ ‬بيدين من صلصال‮”. “‬ص ‮١١”. ‬و بعضها مصرح به عبر الحكاية،‮ ‬نستخرجه من محكيات ضمير المتكلم‮ “‬أنا‮”‬،‮ ‬الذي‮ ‬يفصح عن رغبته في‮ ‬حكي‮ ‬الطفولة وإحياء الذاكرة‮. “‬وحميد هذا هو الصغير الذي‮ ‬كنته في‮ ‬الزمن الراكض نحو مشارف الصبا،‮ ‬خارجا من مهب الطفولة،‮ ‬ومعه تتراكض منازل تشتغل حجراتها شهوة إلى المصادفات‮”. “‬ص ‮٢١”.‬

ويلح على كتابة سيرته،‮ ‬وسيرة معارفه‮ “‬أنسج‮ - ‬من شظايا الزمن العداء‮ - ‬أقدار من أعرف ومن لا أعرف‮”. “‬ص ‮٢١”‬،‮ ‬وسيرة المكان أيضا مؤثثا بتاريخه‮ “‬أسرد مرايا حي‮ ‬الفاضل في‮ ‬العام ‮٣٦٩١”. “ ‬ص ‮٣١”.‬

كما تجتهد الكتابة السردية في‮ ‬هذا النص في‮ ‬تخصيب تمظهرات السيرة الذاتية من خلال تعيينات خطية،‮ ‬تميز مقاطع السيرة بضمير المتكلم عن‮ ‬غيرها من مقاطع السرد بضمير الغائب،‮ ‬فتأتي‮ ‬بسمك‮ ‬غليظ،‮ ‬ولون أقرب إلى السواد الداكن،‮ ‬وبطريقة مختلفة في‮ ‬برمجتها على الصفحة‮. ‬إلى جانب كونها مقاطع تحتفي‮ ‬بمشاهد الطفولة وشغبها،‮ ‬وتركز على توثيق سيرة أمكنة وأزمنة ذات علاقة بسيرة الضمير السارد ورفاقه‮. ‬

وهي‮ ‬مقاطع سينطلق بها النص،‮ ‬لتبدأ في‮ ‬الخفوت تدريجيا مع امتداد السرد،‮ ‬وانخراط ضمير الغائب في‮ ‬الحكي،‮ ‬لتتلاشى مع نهاية النص‮.‬

غير أن السيرة الذاتية في‮ ‬هذا الوضع السردي،‮ ‬لا تحضر باعتبارها نوعا سرديا،‮ ‬ولكن فقط إجراء كتابيا،‮ ‬ومقوّما سرديا،‮ ‬يدعم لحظات وجود الذات الفاعلة حدثيا،‮ ‬والساردة نصيا،‮ ‬مما‮ ‬يعزز تواجد المحكي‮ ‬الذاتي‮ ‬في‮ ‬ثنايا النص نتيجة‮ ‬غياب أهم شروط ميثاق السيرة الذاتية كما حددها الناقد الفرنسي‮ “‬فيليب لوجون‮”. ‬
إنه وضع‮ ‬يثير مسألة العلاقة بين‮ “‬السير‮- ‬ذاتي‮” ‬والروائي‮ ‬في‮ ‬نص‮ “‬رهائن الغيب‮”‬،‮ ‬وهذا التجاذب بين الضميرين‮/ ‬المتكلم والغائب في‮ ‬تجنيس النص‮.‬

بهذا الشكل‮ ‬يتحقق نص المبدع‮ “‬أمين صالح‮” ‬في‮ ‬ملتقى التناوب السردي‮ ‬بين الضميرين‮. ‬وطريقة اشتغال كل ضمير على حدة،‮ ‬وتركيزه على جوانب دون أخرى انطلاقا من موقعه السردي،‮ ‬وشكل إدراكه للحكاية هو الذي‮ ‬جعل النص‮ ‬يعيش خصوبة في‮ ‬اللغة والمعجم والتركيب والمنظور أيضا‮. ‬وكأن الأمر أصبح عبارة عن حوار بين موقعين حول نفس الحكاية حكاية السيرة،‮ ‬خاصة مع انشطار الذات الساردة إلى ذاتين،‮ ‬أنجزتا حالة سردية،‮ ‬عمقت السؤال الفلسفي‮ ‬حول معنى الوجود‮. ‬نقرأ في‮ ‬المقطع التالي‮:‬

‮”‬لا‮.. ‬لم أولد هكذا،‮ ‬لم‮ ‬يولد حميد هكذا‮. ‬كنت أحلم بولادة كهذه،‮ ‬كان حميد‮ ‬يحلم بولادة كهذه،‮ ‬وحميد هذا هو الصغير الذي‮ ‬كنته في‮ ‬الزمن الراكض‮ “....” ‬وحميد هو الآخر الذي‮ ‬لم أكنه أبدا‮” “‬ص‮٢١”.‬

يشخّص هذا المقطع الذي‮ ‬يأتي‮ ‬في‮ ‬مفتتح النص،‮ ‬حالة الصراع بين الضميرين،‮ ‬وفي‮ ‬نفس الوقت حالة الكتابة وأسئلتها حول أي‮ ‬طريق أصوب لاستيعاب الحكاية سرديا‮.‬
يأتي‮ ‬السيري‮ ‬مطعّما بنفس الشعر،‮ ‬وعبر لغة شفيفة توقظ الذكريات والرفاق من صمت الماضي،‮ ‬ليدخل الكل في‮ ‬حركية سردية شاعرية تكسر حدة لغة السرد مع ضمير الغائب‮.‬

نقرأ في‮ ‬المقطع التالي‮:‬

‮”‬وعندما‮ ‬يعرج كريم فإن الأرض تعرج معه،‮ ‬كذلك العتبات والشبابيك‮. ‬وعندما‮ ‬يهرول كريم تهرول معه الريح والفصول والمجازفات‮. ‬منذ أن زلت قدمه ووقع من السطح،‮ ‬قبل عامين،‮ ‬وهو‮ ‬يحمل عاهته مثلما‮ ‬يحمل الفقر فضيحته‮” “‬ص ‮٩١”.

‮”‬وكان إذا جلس على حافة المساء الموحش،‮ ‬يحلم بعالم عادل‮ ‬يصنعه على هواء‮. ‬لم أره إلا لماما‮. ‬وذات مرة أفشى ببعض أسراره‮: ‬انتسب إلى حزب لم‮ ‬يستوعب بعد‮ ‬غاياته،‮ ‬وأحب امرأة لم تفصح بعد عن مشاعرها‮”. “‬ص‮٠٢”.‬

يقدم هذا المقطع السيري‮ ‬معلومات عن كريم رفيق الطفولة والشباب،‮ ‬وهي‮ ‬معلومات لا تأتي‮ ‬بشكل سردي‮ ‬تعريفي‮ ‬بالشخصية،‮ ‬وإنما ترد ملفوفة في‮ ‬لغة شاعرية،‮ ‬كما تتميز بالتلخيص المقتر البليغ‮.‬
تشتغل المقاطع السيرية‮ - ‬حسب وضعها في‮ ‬نظام النص‮- ‬مثل الوقفة في‮ ‬الوصف‮.‬
ونتيجة لبعدها الشعري‮ ‬فكأنها استراحة السرد من ضمير الغائب‮.‬

يسرد ضمير الغائب بقية النص وذلك بسلطة السارد العارف بكل شيء والموجود في‮ ‬كل مكان‮. ‬إنه كلي‮ ‬المعرفة،‮ ‬متواجد بداخل الشخصيات،‮ ‬وسارد لمشاعرها وأحاسيسها‮. ‬إضافة إلى سرده للمعلومة وفق موقف أو حكم مسبق‮. ‬يقول عن خلود‮:‬

‮”‬في‮ ‬كنف عائلة حمدان العامر تربت ونشأت،‮ ‬تحف بها الإهانة والابتزاز،‮ ‬فقد حلت محل أمها الخادمة،‮ ‬وكأي‮ ‬خادمة لابد أن تتهجى الطاعة والامتثال‮. ‬مثل الطاحونة تدور خلود دقيقة‮.. ‬دقيقة حول خشخاش النهار،‮ ‬وعند المغيب تتوكأ مرهقة على ركبة المساء وترنو إلى القمر شاكية‮”. “‬ص‮٢٣”.‬

‮”‬لكن حميدا‮ ‬يرى في‮ ‬سلطان الأسطورة الحية المتحركة،‮ ‬البطل الذي‮ ‬ينتصر دائما،‮ ‬النموذج الذي‮ ‬يرغب في‮ ‬الاقتداء به ويحلم أن‮ ‬يكونه عندما‮ ‬يكبر‮. ‬افتنانه افتنان بالبطولة والبسالة والعنف‮. ‬يوما سوف‮ ‬يشد أذيال الطرقات بقبضتيه ويدفعها نحو موقد الطاعة‮.. ‬هكذا‮ ‬يفكر حميد‮”. “‬ص ‮٣٤”.‬

إن سلطة المعرفة الكلية والشمولية للسارد بضمير الغائب أثرت على حرية كلام المتكلمين الذي‮ ‬جاء حتى في‮ ‬الحيز الضئيل للحوار مقيّدا بتوجيهات السارد وتعليقاته‮.‬

إنه‮ ‬يقدم الحوارات بين الشخصيات من خلال إصدار أحكام مسبقة حول وضعية الحوار وما سينتج عليه‮.‬
يقدم السارد لحوار الأب والأم في‮ ‬المثال التالي،‮ ‬بالجملة التقريرية‮: “‬غير أنه الآن‮ ‬يصغي‮ ‬إلى ما تفرزه اللحظة المتوترة من إهانة مرتقبة‮”. “‬ص ‮٠٥”. ‬وتكثر مثل هذه الصيغة التقديمية مع بداية كل حوار‮. ‬مما‮ ‬يعطل إمكانية تحقق حوار منتج‮ ‬يعبر عن الحالة التلفظية لكل متكلم‮.‬

غير أن هذه السلطة‮ ‬يتم اختراقها وتكسيرها بواسطة شكلين تعبيريين‮: ‬من جهة تعبير القصة القصيرة الذي‮ ‬يهمين باعتباره مكونا سرديا،‮ ‬يطبع المقاطع السردية و التي‮ ‬تأتي‮ -‬في‮ ‬أغلبها‮- ‬على شكل قصة قصيرة تعبر عن الحالة أكثر من الحدث المسرود بشكل استرجاعي‮. ‬كما‮ ‬يمكنها أن تكتفي‮ ‬بنظامها البنائي،‮ ‬ومنطقها السردي‮ ‬دون الحاجة إلى سند سردي‮ ‬سابق أو لاحق‮. ‬وهذه التركيبة لاحظناها أيضا في‮ ‬الكتابة الروائية لدى الكاتب‮ “‬فريد رمضان‮” ‬في‮ ‬نصه‮ “‬السوافح‮.. ‬ماء النعيم‮”. ‬ولعله وضع تركيبي‮ ‬يعمل على تخصيب روائية النص عبر أشكال سردية أخرى تساهم في‮ ‬تعدد لغاته،‮ ‬وأصواته،‮ ‬وأساليبه،‮ ‬مما‮ ‬يكسر‮ -‬سرديا‮- ‬منطق السلطة العارفة بكل شيء والتي‮ ‬يمثلها السارد بضمير الغائب‮.‬

ومن جهة ثانية‮ ‬يحضر الشعري‮ ‬تركيبة ولغة وإيحاء جماليا في‮ ‬السرد ليفتت سلطة السارد الغائب‮.‬

استنتاجات اولية

‮ ‬تعتمد رواية‮ “‬أمين صالح‮” ‬مبدأ الاختراق الأسلوبي‮ ‬الذي‮ ‬يجعل النص‮ ‬يتحقق من خلال حركية سردية تفتح النص على إمكانيات واسعة من الإيحاء‮.‬
إن الكتابة بواسطة أشكال وأنواع سردية متعددة‮ “‬التراثي‮ ‬والسير ذاتي‮ ‬والقصصي‮ " ‬تنتج معرفة حول الوعي‮ ‬المنتج للتجربة الروائية،‮ ‬وحول تصوره للكتابة الروائية‮. ‬ويمكن اختصار تلك المعرفة في‮ ‬العناصر التالية‮:‬

  • ‬إن الكتابة من خلال أشكال تراثية سردية،‮ ‬تقدم قراءة المبدع لهذا التراث،‮ ‬في‮ ‬علاقته بالمستجدات السردية الحديثة‮ “‬الرواية‮”.‬
  • ‬استدعاء أساليب سردية قديمة،‮ ‬وتشغيلها داخل السرد الروائي،‮ ‬يجعل منها إمكانيات متجددة للتفكير

الأيام
3 فبراير 2008

أقرأ أيضاً: