تشكل السيرة الذاتية أفق الكتابة في “رهائن الغيب” للكاتب “أمين صالح”. ويدعم هذا الأفق عيّنة من الإشارات الإعلانية، بعضها جاء مدخلا تشويقيا لإمكانية سرد سيرة حياة “... والحبلى بي كانت تصقل مرآة الولادة وتقطف قدري من رحم الصدفة، وكنت أرضع حليب الغواية من ثدى المجهول، الحمل مصيري بيدين من صلصال”. “ص ١١”. و بعضها مصرح به عبر الحكاية، نستخرجه من محكيات ضمير المتكلم “أنا”، الذي يفصح عن رغبته في حكي الطفولة وإحياء الذاكرة. “وحميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض نحو مشارف الصبا، خارجا من مهب الطفولة، ومعه تتراكض منازل تشتغل حجراتها شهوة إلى المصادفات”. “ص ٢١”.
ويلح على كتابة سيرته، وسيرة معارفه “أنسج - من شظايا الزمن العداء - أقدار من أعرف ومن لا أعرف”. “ص ٢١”، وسيرة المكان أيضا مؤثثا بتاريخه “أسرد مرايا حي الفاضل في العام ٣٦٩١”. “ ص ٣١”.
كما تجتهد الكتابة السردية في هذا النص في تخصيب تمظهرات السيرة الذاتية من خلال تعيينات خطية، تميز مقاطع السيرة بضمير المتكلم عن غيرها من مقاطع السرد بضمير الغائب، فتأتي بسمك غليظ، ولون أقرب إلى السواد الداكن، وبطريقة مختلفة في برمجتها على الصفحة. إلى جانب كونها مقاطع تحتفي بمشاهد الطفولة وشغبها، وتركز على توثيق سيرة أمكنة وأزمنة ذات علاقة بسيرة الضمير السارد ورفاقه.
وهي مقاطع سينطلق بها النص، لتبدأ في الخفوت تدريجيا مع امتداد السرد، وانخراط ضمير الغائب في الحكي، لتتلاشى مع نهاية النص.
غير أن السيرة الذاتية في هذا الوضع السردي، لا تحضر باعتبارها نوعا سرديا، ولكن فقط إجراء كتابيا، ومقوّما سرديا، يدعم لحظات وجود الذات الفاعلة حدثيا، والساردة نصيا، مما يعزز تواجد المحكي الذاتي في ثنايا النص نتيجة غياب أهم شروط ميثاق السيرة الذاتية كما حددها الناقد الفرنسي “فيليب لوجون”.
إنه وضع يثير مسألة العلاقة بين “السير- ذاتي” والروائي في نص “رهائن الغيب”، وهذا التجاذب بين الضميرين/ المتكلم والغائب في تجنيس النص.
بهذا الشكل يتحقق نص المبدع “أمين صالح” في ملتقى التناوب السردي بين الضميرين. وطريقة اشتغال كل ضمير على حدة، وتركيزه على جوانب دون أخرى انطلاقا من موقعه السردي، وشكل إدراكه للحكاية هو الذي جعل النص يعيش خصوبة في اللغة والمعجم والتركيب والمنظور أيضا. وكأن الأمر أصبح عبارة عن حوار بين موقعين حول نفس الحكاية حكاية السيرة، خاصة مع انشطار الذات الساردة إلى ذاتين، أنجزتا حالة سردية، عمقت السؤال الفلسفي حول معنى الوجود. نقرأ في المقطع التالي:
”لا.. لم أولد هكذا، لم يولد حميد هكذا. كنت أحلم بولادة كهذه، كان حميد يحلم بولادة كهذه، وحميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض “....” وحميد هو الآخر الذي لم أكنه أبدا” “ص٢١”.
يشخّص هذا المقطع الذي يأتي في مفتتح النص، حالة الصراع بين الضميرين، وفي نفس الوقت حالة الكتابة وأسئلتها حول أي طريق أصوب لاستيعاب الحكاية سرديا.
يأتي السيري مطعّما بنفس الشعر، وعبر لغة شفيفة توقظ الذكريات والرفاق من صمت الماضي، ليدخل الكل في حركية سردية شاعرية تكسر حدة لغة السرد مع ضمير الغائب.
نقرأ في المقطع التالي:
”وعندما يعرج كريم فإن الأرض تعرج معه، كذلك العتبات والشبابيك. وعندما يهرول كريم تهرول معه الريح والفصول والمجازفات. منذ أن زلت قدمه ووقع من السطح، قبل عامين، وهو يحمل عاهته مثلما يحمل الفقر فضيحته” “ص ٩١”.
”وكان إذا جلس على حافة المساء الموحش، يحلم بعالم عادل يصنعه على هواء. لم أره إلا لماما. وذات مرة أفشى ببعض أسراره: انتسب إلى حزب لم يستوعب بعد غاياته، وأحب امرأة لم تفصح بعد عن مشاعرها”. “ص٠٢”.
يقدم هذا المقطع السيري معلومات عن كريم رفيق الطفولة والشباب، وهي معلومات لا تأتي بشكل سردي تعريفي بالشخصية، وإنما ترد ملفوفة في لغة شاعرية، كما تتميز بالتلخيص المقتر البليغ.
تشتغل المقاطع السيرية - حسب وضعها في نظام النص- مثل الوقفة في الوصف.
ونتيجة لبعدها الشعري فكأنها استراحة السرد من ضمير الغائب.
يسرد ضمير الغائب بقية النص وذلك بسلطة السارد العارف بكل شيء والموجود في كل مكان. إنه كلي المعرفة، متواجد بداخل الشخصيات، وسارد لمشاعرها وأحاسيسها. إضافة إلى سرده للمعلومة وفق موقف أو حكم مسبق. يقول عن خلود:
”في كنف عائلة حمدان العامر تربت ونشأت، تحف بها الإهانة والابتزاز، فقد حلت محل أمها الخادمة، وكأي خادمة لابد أن تتهجى الطاعة والامتثال. مثل الطاحونة تدور خلود دقيقة.. دقيقة حول خشخاش النهار، وعند المغيب تتوكأ مرهقة على ركبة المساء وترنو إلى القمر شاكية”. “ص٢٣”.
”لكن حميدا يرى في سلطان الأسطورة الحية المتحركة، البطل الذي ينتصر دائما، النموذج الذي يرغب في الاقتداء به ويحلم أن يكونه عندما يكبر. افتنانه افتنان بالبطولة والبسالة والعنف. يوما سوف يشد أذيال الطرقات بقبضتيه ويدفعها نحو موقد الطاعة.. هكذا يفكر حميد”. “ص ٣٤”.
إن سلطة المعرفة الكلية والشمولية للسارد بضمير الغائب أثرت على حرية كلام المتكلمين الذي جاء حتى في الحيز الضئيل للحوار مقيّدا بتوجيهات السارد وتعليقاته.
إنه يقدم الحوارات بين الشخصيات من خلال إصدار أحكام مسبقة حول وضعية الحوار وما سينتج عليه.
يقدم السارد لحوار الأب والأم في المثال التالي، بالجملة التقريرية: “غير أنه الآن يصغي إلى ما تفرزه اللحظة المتوترة من إهانة مرتقبة”. “ص ٠٥”. وتكثر مثل هذه الصيغة التقديمية مع بداية كل حوار. مما يعطل إمكانية تحقق حوار منتج يعبر عن الحالة التلفظية لكل متكلم.
غير أن هذه السلطة يتم اختراقها وتكسيرها بواسطة شكلين تعبيريين: من جهة تعبير القصة القصيرة الذي يهمين باعتباره مكونا سرديا، يطبع المقاطع السردية و التي تأتي -في أغلبها- على شكل قصة قصيرة تعبر عن الحالة أكثر من الحدث المسرود بشكل استرجاعي. كما يمكنها أن تكتفي بنظامها البنائي، ومنطقها السردي دون الحاجة إلى سند سردي سابق أو لاحق. وهذه التركيبة لاحظناها أيضا في الكتابة الروائية لدى الكاتب “فريد رمضان” في نصه “السوافح.. ماء النعيم”. ولعله وضع تركيبي يعمل على تخصيب روائية النص عبر أشكال سردية أخرى تساهم في تعدد لغاته، وأصواته، وأساليبه، مما يكسر -سرديا- منطق السلطة العارفة بكل شيء والتي يمثلها السارد بضمير الغائب.
ومن جهة ثانية يحضر الشعري تركيبة ولغة وإيحاء جماليا في السرد ليفتت سلطة السارد الغائب.
استنتاجات اولية
تعتمد رواية “أمين صالح” مبدأ الاختراق الأسلوبي الذي يجعل النص يتحقق من خلال حركية سردية تفتح النص على إمكانيات واسعة من الإيحاء.
إن الكتابة بواسطة أشكال وأنواع سردية متعددة “التراثي والسير ذاتي والقصصي " تنتج معرفة حول الوعي المنتج للتجربة الروائية، وحول تصوره للكتابة الروائية. ويمكن اختصار تلك المعرفة في العناصر التالية:
- إن الكتابة من خلال أشكال تراثية سردية، تقدم قراءة المبدع لهذا التراث، في علاقته بالمستجدات السردية الحديثة “الرواية”.
- استدعاء أساليب سردية قديمة، وتشغيلها داخل السرد الروائي، يجعل منها إمكانيات متجددة للتفكير
الأيام
3 فبراير 2008