عهد فاضل
(لبنان)

عهد فاضل بعد أيام في " جبلة " ، المدينة المتوسطية الصغيرة على الساحل السوري ، ترى التغير وأشكال الاختلاف . مدينة صغيرة كالسر رتّبَ أمورها صلاح الدين الأيوبي ونصّب واحداً من آل " الداية " حاكماً عليها . ومازالت عائلته مقيمةً منذ ذلك الوقت . ينظر أحمد اسكندر سليمان إلى صلاح الدين كما ينظر إلى أدونيس . ينظر أدونيس الى " جبلة " كما ينظر إلى نفسه . خلاف بسيط في الرؤية ، بل في كتاب المعنى . " جبلة " عذّبتْ شاعرها الآخر نديم محمد . عذّبته وهو كان شاعراً . عذّبا بعضهما البعض. يعرف بدوي الجبل ماسمّي (" جحيم السياسة") منذ أول القرن العشرين حتى نهاية الستينات . لقمان ديركي مرّ في جبلة ، هو الآخر وخالد خليفة . مروا جميعاً ربما بالقرب من بيوت الأجداد التي لم أزرها لوقت طويل . بساتين الليمون فيها حزينة أكثر من البرتقال الفلسطيني لأسباب ميتافيزيقية صرف لايعرفها إلا واحدٌ مثل نيكوس كازانتزاكس . هذا الرجل الخاص يفهم السر المتوسطي : كل مدن المتوسط حزينة ، مغلقة ، ولاتنام . تدفعك إلى الشعر كمن يودعك للمرة الأخيرة .

لايمكن اللجوء إلى المدن المتوسطية . فيها سحرُ أنثى العنكبوت . المتوسط ذاته حوضٌ غريب التكوين . غامضٌ ولايفهم عليك . المتوسط عدوٌّ وأخٌ من طراز (الأخ الأكبر) وعمٌّ من طراز(أبي لهب) . كان زوربا تافهاً جداً عندما سلق دجاجات المرأة التي آوته وتزوجته. بعد وفاتها هيّأ طاولةً في بيت زوجته المتوفاة للتو وسلق دجاجاتها ودعى أصدقاءه . وحشية المشهد ذاك ذات أساس متوسطي : متوسط الاسكندر – غير اسكندر حبش طبعاً!- ومتوسط هنيبعل ومتوسط روما ومتوسط إسبرطة . زوربا الفاشل في منافسة النموذج الغربي وفّر على نفسه عناء كبيراً. فلم ينافس " ستيفن ديدالوس " كئيب دبلن في رواية (صورة الفنان في شبابه) لجيمس جويس ، ووجد نفسه قشةً أمام الأمير ميشكين . ماذا يفعل ، إذن ، هذا المتوسطي الغارق في الفشل والخيبة؟ كان الجواب في سلق دجاجات الزوجة الميتة وشرب النبيذ .

الأبطال المتوسطيون غير تراجيديين . أبطال فرحٍ هُم . المتوسط يستدرج الصمت ويحوله إلى نايت كْلاب . كذلك فهو حوضٌ مختلطٌ في صورة نادرة دفعت بكيليوبترا لتجرع السم وتتلذذ به . لايوجد سفنٌ هامة في قاع المتوسط ونادراً مايقصده المستكشفون والجوالون . بحرٌ باهتٌ ومضجر يفرز الموجة ذاتها منذ عشرات القرون . حتى إن موجاته لايتجاوز طولها سنتيمترات قليلة كما لو أنها خارجة من حنفية صدئة . ولو وضعتَ كأس ماء على إحدى صخوره على الشاطئ لبقيت كما هي لايمسها موجٌ أو هواءٌ أو حتى " تسونامي " محلّي مصغّر.

بعد أيام في " جبلة " – المتوسطية – ثمة مايتغير في بلد الأجداد : دخلها عباس بيضون وقاسم حداد وسيف الرحبي واسكندر حبش والعديد من أصحاب الحلول الآخرين وقال لي غسان جواد أنه مرّ فيها وتأمل ليلها السهل وأعتقد أنها أوحت إليه بجملته الشعرية الرائعة : (الباب تمرينٌ على الاختفاء). أحسستُ أرواح الشعراء هؤلاء مُدُناً ، وبوسعك أن تدخل أو لاتدخل . قلتُ : المكانُ بشرٌ. وقلتُ : المتوسط البحر يطرح سؤاله. منذ زمن طويل لم أر أحداً في جبلة . مات من مات وبقي من بقي . أين تخطط روحك لتلجأ؟ أسأل هذا السؤال شبه متيقنٍ أن بول فاليري استوحى عنوان قصيدته الشهيرة ("المقبرة البحرية") من دمار سفن راسية في مرفأ متوسطي(!) .. المقبرة البحرية . تماماً . الشعراء لايدخلون سوى المقابر البحرية . هذه هو سبب كمُّ الشعراء الداخلين إلى جبلة والخارجين من جبلة : أرواحٌ تتأصل في مثل ذلك التحطم ، ذلك السحر ، ذلك المولِّد المستمر لسؤال أوّل : أين ستلجأ روحك في هذا الموت؟

بيروت . 19 كانون الثاني . 2005 .