عهد فاضل
(سوريا/مصر)

عهد فاضلأسهم المعيار الايديولوجي كثيراً في مفاهيم نقدية تتعلق بالشعر والرواية، وبعامة في أغلب الفنون.وعلى رأس هذه المعايير ما سمّي الواقعية الإشتراكية، وإن بتحريفات جزئية لم تتطابق بالمطلق مع واقعيتها المرجعية تلك.إلا أن تطابق اللفظ مع المعنى ومحاولة استيحاء الواقع عبر التجربة الشخصية كانا الإطار العام للمعايرة النقدية هنا وهناك.ويخطئ من يقول إن المعايير تلك تحددت في إطار جغرافي دون غيره، بل على العكس من ذلك كله، كان أدب الالتزام، ذلك الاصطلاح الشهير، منارة للكثير من التجارب والمعايير سواء في سوريا أو مصر أو العراق وعدد من التجارب الفردية في دول عربية أخرى.ساهمت الواقعية الإشتراكية، أو طبعتها المحلّية المتمثلة بـ "أدب الالتزام" في نشوء ظاهرة من الأدب الموسوم بتطابق اللفظ مع المعنى، وبحيث تكون للحياة الاجتماعية والتجربة الشخصية الأساس المعياري والموحي في إنتاج النص.ومن الأشكال التطبيقية لأدب الالتزام ممارسة القضية الفلسطينية والوحدة العربية والطبقة العاملة شعراً ونثراً.وأكثر ما تحدد هذا الميل في الأدب السوري (لعلّه من أسباب انحداره الأولي)المقيم.وكانت مرحلة جيل السبعينات الشعري الزمنَ الأقوى لتلك الأصوات، إلا أن قلةً قليلة تعاملت بنوع من "التحريف"مع المصدر الملزم تطابق اللفظ بمعناه وخرجت من إسار مرجعيتها كتجربة نزيه أبي عفش، في سوريا، ووديع سعادة وعباس بيضون وبول شاوول، في لبنان، وحسن نجمي، في المغرب، وقاسم حداد في البحرين، وعبد المنعم رمضان في مصر، وكمال سبتي وخزعل الماجدي، في العراق، وسواهم.مثّل هؤلاء الشعراء استمرارية للمعيار الشعري الصرف و"اللازمني" تماماً، كحال النقاد العرب القدامى كابن طباطبا وابن سلام والجرجاني وقدامة بن جعفر، حيث كان الجهد عند هؤلاء تقنيا صرفاً ولا زمنيا وإن داخلته بعض الولاءات والحرتقات.إلا أنه وفي الوقت الذي "قاوم"به هؤلاء "الناجون"السابق ذكرهم مدَّ الالتزام والواقعية كانت تتأصل شيئا فشيئاً نزعة التطابق بين الاسم والمسمى وبين اللفظ ومعناه، في الذائقة الشعرية العربية، وكان الخَدَر ينتشر من القدمين إلى باقي الجسم.لم تستطع نجاة الناجين ترسيخ معيارٍ "جماهيري"، فالأخيرون انتصروا للتطابق وتركوا المجاز الجرجاني و"معنى المعنى" جانباً وصارت الشعرية تقاس بالقابلية على الفهم وسهولة الرواج والأثر.وهي مرحلة انحطاط فعلية، فلم يكن الوعي النقدي العربي يوما، وكذلك الذائقة، بمثل هذا الانصياع للمتلقي، وإلاّ كيف كان لبشار بن برد أن يقول:هل تعلمينَ وراء الحُبّ منزلةً
تُدْني إليكِ.فإن الحبّ أقصاني؟!

وكيف كان للمتنبي القول :

أتُراها لكثرة العشاقِ تحسب الدمع خلقةً في المآقي؟
فمثل هذا التطابق الظاهري بين اللفظ والمعنى لم ينتج معنى تطابقيا والدليل عوز البيتين السابقين للتأويل، ففي الأول يبدو اللعب على التناقض بين القرب منها والإقصاء، حيث يتشكل المعنى استحالةً مطلقة، فهو يريد مكاناً قريبا من المعشوق في الوقت الذي رماه الحب بعيدا عنه.ابتكارٌ وحرتقةٌ فاضلة وعليا.وفي الثاني يتطلب تأويلاً زمنياً "لولبياً" في العودة بالزمن إلى منشأ الدلالة بدءا من الجاذبية المبكرة، ومرورا بإعجاب المعجبين، وانتهاءً برفضهم جميعاً منذ الصغر، فبكاء المرفوضين الدائمين، حتى التبس عليها الأمر (كونها من صغرها جذابة ورافضة لهم) فلم تعرف هل بكاؤهم جزءٌ من وجوههم، كالعين والأنف والفم؟!وفي هذا ابتكارٌ ساحرٌ لا مثيل له.وهذان البيتان لا يمثلان سوى مستوى بسيط من "التحريف" بحيث اعتمدا التطابق بين اللفظ والمعنى أساساً إلا أن الدلالة ساهمت في توسيع المسافة بينهما لتوليد "معنى المعنى" الذي ظل يتحدث به الجرجاني طوال حياته!

كان أدب الالتزام "تحت" معنى المعنى.كان أدباً تعبيرياً مباشراً، وكما يقول أنسي الحاج في إحدى لمعه في (الخواتم):"التعبير خبرةٌ ناقصةٌ".أمّا "فحول" الستينات فانقسموا فيما بينهم حول التطابق السالف، فمنهم من اقترح الشكلَ الأقصى في الشعر، كأدونيس، ومنهم من عمل على كسر البنية الزمنية في الشعر، كأنسي الحاج، ومنهم التلفيقي المنتصر كمحمد الماغوط الذي نجح بعنب التطابق وناطور النثر! وفي جوارهم محمود درويش الذي أعاد فعالية الصوت مجددا إلى الكتابة ولم يحرمها من فاعليته التي تكاد تكون الأثيرة في الشعر، إلا أن درويش عمل على شيء من الحماسة والتوتير اللذين تجليا في كثير من شعره على حساب معنى المعنى.وكثيراً ما يخرج قارئ درويش بأثر عاطفي وإنما بلا "معنى". ونتحدث هنا عن المعنى الثاني لا الأول، حسب تقسيم الجرجاني.الأمر الهام الذي نود الإشارة إليه أن التطابق انتصر مع نهاية الثمانينات وبداية جيل التسعين، ومثل جيل السبعينات هناك قلةٌ "ناجيةٌ" من الثمانينات والتسعينات، كلقمان ديركي وعبده وازن وعابد إسماعيل وباسم المرعبي وعماد فؤاد وغسان جواد وعلي مطر وناظم السيد وأحمد النسور وإبراهيم الملا ومحمد المزروعي، طبعا الأسماء ليست على سبيل الحصر.إلا ان ناجي السبعينات والجيلين التاليين لم يقدروا على منع اكتساح تسونامي التطابق على الذائقة، فلقد كان بطل التطابق نزار قباني يكتسح المعايرة والنموذج وجمهورية الشعر عقوداً.لم يصبح نزار قباني رئيساً لجمهورية الشعر إلا لأن ثقافة التطابق حلّت محلَّ معنى المعنى، وما على الناجين إلا أن يسردوا لنا كيف كانوا يملأون وقت فراغهم؟!!خصوصاً والحالة الآن على الشكل التالي:مدّ التفاصيل والخبرات الفردية يقوم على حساب المعنى الثاني، بل إن الأخير يكاد يتحول أثراً وذكرى على شيء كبير من التوهّم والافتقاد وعدم الوجود.

عن مجلة "المجلة"16/07/2005

من منتخبات (جهة الشعر)