عقل العويط
(لبنان)

عقل العويطأنا الكاتب، لم يعد يهمّني أن أرفع شعارات كبرى، كمثل شعار تغيير الحياة والعالم، الذي سرقه السياسيون، وباتوا يرفعونه عَلَماً في "حضارتنا" السياسية الراهنة، هنا والآن، خصوصاً، كما في الأماكن "المضيئة" من العالم، لذرّ الرماد - بل الرمل والوحل - في عيون الناس. أقول العيون على سبيل التواضع اللئيم والتفكهة الساخرة والجدية الناقصة، لكني أراني أقول العقول، تداركاً،، فأقترب أكثر مما هم به، وفيه، هؤلاء الناس.

أنا الكاتب، لم يعد يهمّني أن أرفع أيّ شعار، ولا حتى شعار الحقيقة، خشية أن "يتنبه" السياسيون الى غواية هذا الشعار فيُقضى حتى على فكرة الحقيقة. كل حقيقة.

أنا الكاتب، لم أعد "أحلم" بأن أريد نواباً ووزراء ورؤساء جمهورية، لأن هؤلاء لا يستطيعون، أو لا يريدون أن يستطيعوا بظلال أنفسهم. أحدٌ آخر يكونهم، فيصيرون. آخرون يكونونهم، فيصيرون (أقصد هم)، هؤلاء الآخرين، أو بهم.

طبعاً، أريد رئيساً للجمهورية، لكنْ ليس على هدي الشعارات المدوّية والهائلة التي، لفرط الضوء الكاذب الذي فيها، تُعمي. أريد رئيساً بدون رماد ورمل ووحل، من أجل أن لا يغرق ويُغرِق، ومن أجل أن لا يعمى ويُعمي.

رئيساً على طريقة الظلال فحسب.

ففي نهاية الأمر، وحتى في أوّله، لم يعد يهمّني أن أريد شيئاً كبيراً وكثيفاً:
أريد الظل فقط. بل أريد فكرة الظل عن نفسه، لئلا ينظر السياسيون (وغير السياسيين)، المستحقون فتات الظلمة (السلبية، بالطبع)، الى فظاظة شمسٍ في عزّ ظهيرة، ويتناهى اليهم أنها ربما تكون مشاعاً ضوئياً متروكاً فيستولون عليه، أو لئلا يستحلوا وقاحة قمرٍ مكتملٍ بدرُهُ في منتصف ليل، فتذهب الشمس ويذهب القمر، لنستيقظ ذات فجر، أو لنخلد الى نوم ذات فجر، فلا نعثر على شمس ولا على قمر، ونصبح، ونمسي، يتامى شموسنا والقمر.

لكنْ، ما لي وللسياسيين، وخصوصاً هؤلاء الذين خرجوا لا أعرف من أين ليسكنوا الرماد والرمل والوحل. الأصحّ، أكاد أقول، ليسكنوا بركة آسنة.

ما لي وللسياسيين، لأن ناس السياسيين هم أيضاً المشكلة. الناس الذين نحن تقريباً. أقصد: أنا وأنتم، أهلي وأهلكم، أقربائي وأقرباؤكم، أصدقائي وأصدقاؤكم. و"الأعداء". وهلمَّ.

لهذا السبب بالذات، لن يكون ثمة خلاص قريب من الشعارات كهذه. الشعارات غلاّبة، كالضوء، ومنتصرة... بالرماد والرمل والوحل.

لن يكون ثمة خلاص من الشعارات كهذه، لأن رافعيها ومعتنقيها والمهجوسين بها هم أنفسهم الذين قيل: الزاهدون المترفعون الأباة والأولى بالمعروف، قبل أن يكونوا الطمّاعين الوالغين الأبعدين والغرباء.
المشكلة في هذا المعنى، جوهرية لا عرضية، وتقيم في عقول الناس وليس فقط في العيون. وعندما يجري ذرّ الرماد السياسي فإنما يصبح هذا الرماد، في رمشة عين، جيشاً لجباً من رمل ووحل، ويُغرق هؤلاء الناس إغراقاً، تقريباً أجمعين، ابتداء بالأرجل، وصعوداً صعوداً صعوداً، الى حيث ما يُظَنّ أنه الأدمغة... ليصير هؤلاء الناس، تقريباً، بلا أدمغة. لهذا السبب، ليس من خلاص قريب. ولهذا السبب، أذهب قصداً الى حيث يقع هذا القول في باب الهجاء السياسي. تواً. وأولاً، على سبيل التواضع، ضد الذات. وتقريباً ضد الأجمعين.

هذا ليس هرباً، ولا فركاً لعينٍ رمداء، ولا غسلاً ليدٍ وقلبٍ وعقل. إنه تشخيص ومعاينة. ولو لم تكن الحال هي هذه الحال، لكانت الحلول قريبة المتناول، وفي اليد، وليست حيث تحطّ الطيور المحلِّقات. ولا من فخّ ولا من صيّاد.

أعود، أنا الكاتب، الى الظل، ليس لأنه ملجأ، إنما لأنه ظلٌّ فحسب. هذه هي فكرة الظل عن نفسه. بل هذه هي نفسه.

أقول لنفسي: أتركي يا نفسي الفريسةَ العلنية، واذهبي وراء الظل. واذهبي فيه. وإذ أقول الظل، فلأنه هو، خصوصاً، فريسة. بل لأنه أجمل الفرائس طرّاً.

لأن هذا الظل هو حقاً كل شيء. فحيث هو، هناك، أو ها هنا، يُصنَع كل شيء.
... وهذا الضوء كلّه، أيّ جدوى منه، لولا ظلّه!

وهذا الجسد كلّه، أيّ جدوى، لولا ظلّه.

بل وهذا الجمال كلّه، والشعر، صدِّقوني ماذا ينفع هذا الجمال كلّه، والشعر، بدون ظلّه.

وهذا الكتاب كلّه، أيّ جدوى، إذا كان لا يترك ظلاً "يعكّر" صفو الضوء، ويلطش اكتمال قمره وشمسه.

"الخطر" يقيم في الظل. الضوء أيضاً.

كلّ علنٍ يقينٌ كامل. عتمةٌ سلبية بالكامل. كلّ ظلٍّ احتمالٌ مجهول، وغير قابل لأن يكون اكتمالاً... لئلا يفترس نفسه.

أنا الكاتب، طبعاً أريد رئيساً للجمهورية، لكني لا أريد لرئيس الجمهورية أن يكون ما هو، الآن، أو ما نُدفَع دفعاً الى أن يكون.

لا أريد رئيساً جلاّداً ولا ضحيةً ولا رجل مخابرات ولا عسكرياً ولا عسكريتارياً ولا مدنياً على طريقة العسكر، الذين على مقربة، أو في البعيد، ولا مدنياً على طريقة هؤلاء "المدنيين" بالذات، ولا "طاهراً" ولا "فاسداً" ولا مفسوداً ولا خائفاً ولا مخوَّفاً ولا مهووساً بنفسه ولا مجنوناً ولا مصاباً بعقد الاضطهاد والغبن والعفة، وبسواها.

أريد رئيساً طبيعياً. بني آدم عادياً. وذا كرامة. لا ملاكاً ولا شيطاناً. وبدون طموحات منفوخة وعظمى، لأن لا رؤساء لدينا بمواصفات كهذه، منفوخة وعظمى. أي، انتباهاً، ولكي لا يساء الظن، أريد ما (ومن) يعيد "الحياة السياسية" الى ما قيل إنه السياسة.

قد لا يكون ثمة وجود لمثل هذا الرئيس في الظل، أو في ظهرانينا. لذا فلنفتِّش جيداً في القشّ، بل حتى في الرماد والرمل والوحل، عما يقترب من هذه المواصفات.

أنا الكاتب، أريد رئيساً للجمهورية، لكني أريد أن أظل كاتباً لكي أستطيع أن أواصل "مسؤولية" الظل حيال ظلّه. هي طريقتي لأكون ضوءاً... وواحداً ووحيداً. مثنّى.

هي طريقتي لأكون خصوصاً ظلاً لضوئي.

وهذه، إن هي سوى وصفة "شعرية" ليكون الظل ضوءاً.

أيضاً: وصفة نثرية، واقعية، موضوعية، طبيعية، و"سياسية"، ليكون الرئيس رئيساً. وهذه، أيضاً، وصفة متحققة، أو في المتناول، إذا أردنا. وأراد.

النهار
31 اغسطس 2007