لن يكون ديوان عبده وازن الجديد، "حياة معطّلة"، الصادر لدى "دار النهضة العربية" إيذاناً بما تعيشه كلمات الحياة نفسها من تعطيلٍ افتراضي ومحتمل في أعماقها اللاواعية. لا. هذا ليس صحيحاً. بل العكس هو الصحيح. العطل الذي يومئ اليه الديوان لا تقع مفاعيله تحت العين، وباقي الحواس، لأنه يجري في الطبقات الدفينة من الحياة، ولا يطاول حبرها وكلماتها إلاّ تعبيراً من داخل الشعر. وهو يتغلغل هناك، مكتفياً بالشهادة الشعرية فيه، وعنه، ليس إلاّ. فالكلمات، كلمات الشاعر، تعي ما لا يعيه الواقع، وما لا يقع تحت ناظريه. لهذا السبب هي تنتسب الى الرؤيا. وكلما انتسبت الكلمات الى الرؤيا، صارت أعلى من الواقع، وأبعد منه. تحته. وأكثر كرماً وتبذيراً. وتبقى. والأكيد: تصير في لاوعيه الشعري. وهذا ما يفعله عبده وازن. وقد أحسن صنيعاً.
لكن الحياة ليست معطّلة، يا أخي الشاعر، وإن كنتُ «تواطأتُ» معك على تفضيل هذا العنوان واختياره، باعتباره إحدى مرايا الكلمات، كلماتكَ، لا مرآتها الوحيدة. أراني أرى الى العطل هذا، بالجمر لا بالحواس، وبالشعر لا بالواقع، فأعرف الآن ما لم أعرفه من قبل، وما لم تعرفه أنت بنفسكَ. هكذا يكون على الشعر دائماً مهمة أن يرى ما لا يراه الواقع، وأن يراكم غيم الحالة والمعنى، وأن يضاعفه، وأن يجعله كثيفاً وكثيراً كسمك الاعجوبة، وأن - إذا شاء - يميط اللثام، وأن يكشف على العطل المركون في الطيّات الوجودية والقدرية للغة نفسها، وأيضاً للحياة، على حد سواء.
هذا لا يكون بسوى الشعر. بالشعر فقط، كهذا الذي يكتبه عبده وازن. وخصوصاً في هذا الكتاب. حيث الصفاء الوجودي واللغوي لا يترك مجالاً لالتباس الرؤية، بل فقط للنفاذ الكشّاف. لأن هذه الرؤية تقع مباشرةً تحت إشراف الروح. وما أعظم الروح، وما أدقّ سهمه عندما يرى، ويصيب.
في هذا المعنى، ليس من "حياة معطّلة". بل هو عطب الوجود. وهي اللغة تبحث عن كلماتها فتعثر عليها في الحالات والأسئلة الفلسفية، الوجودية، التي من شأنها أن تجعل الكلمات مكلومةً بها. وقد يتراءى للقارئ أنها "معطّلة". لا. إنها فحسب ترى من هناك، بالروح، ما لا نتلمس وقائعه في الحياة نفسها هذه.
هو الشعر ليس إلاّ. يدرك ما لا تعرفه الحياة عن نفسها، فيروح يقول ما نظنّه وصفاً للعطل الذي يطرأ على الحياة، في حين أنه إشادة رؤيوية بها، وإن مكتئبة، يُستقى التعبير عنها برؤىً هي من المعين الخبيء وليس من المعين الخاضع للحس وسواه.
هو الشعر ليس إلاّ. لأن القلب يعي المأزق الذي يواجهه الشرط الوجودي، وهو ليس في الضرورة ذاتياً وشخصياً، إلاّ من حيث اقترانه بالشرط الوجودي العام. ساعتذاك، وهي ساعة الشعر، يسحب الشاعر بساطه الى مائدة لغته الشعرية، الى جروحه، الى أسئلته، الى هواجسه، الى فلسفته في الحياة، وعنها، فيصير كل شيء يبدو أنه «حياة معطّلة»، في حين أن لا.
هو الشعر ليس إلاّ، يرى فيه الشاعر ما يشكل تقديراً فلسفياً وثقافياً للوجود، الذي يقيم، هو، في مأزقه. مأزقٌ عميق، حتى اللحم الحيّ، حتى ليعتقد المرء أحياناً، الشاعر خصوصاً، أن لا خروج. لكن الخروج موجود. الحقيقيّ منه، يكون بالروح، وبهذا الشعر بالذات، وخصوصاً عندما يبحث بالمأزق عن كيفية الخلاص به، ومنه، وعندما يبحث بالجروح عن الجروح، وبالكلمات المجروحة عما يشفيها، ويجعلها بريئة، لتبرأ رويداً رويداً، وتبلسم ما لا يُبلسَم في هذا الوجود الجائر المحكوم بشرطه المأسوي هذا.
هو الشعر ليس إلاّ، وخصوصاً عندما تشفّ حالاته وأسئلته وغنائياته، وتعبيراته، حتى لتصير كلماتها وتعبيراتها في بعض المطارح كأنها تواجه المصير إياه. بل هي تصيره روحياً، ولغوياً، لكن بما يمنع هذا المصير المحتوم من أن يتحقق، ومن أن ينفّذ وعوده الرجيمة. هكذا يكون في مقدور هذا الشعر أن يعايش العطل، أن يتعايش وإياه، أن ينغمس فيه، وأن يصيره حتى، ليمنعه شعرياً من الحدوث. لطريقٌ صعب، وشاقّ، هذا الطريق، حتى لينخرط الشاعر في العطل، لكي يعرفه عن كثب، مثلما يعرفه بالشعر.
هذه الثنائية، وهي ليست ثنائية، التي باتت الآن في حوزة الشاعر، تمنحه موهبة أن يرى العطل وقد صار لعبة بين يديه. هو، الشاعر، يتلاعب بالعطل، بدل أن يكون هذا العطل قادراً على التلاعب بالشاعر، وبكلماته، وحياته. وهي محنة وجودية، يرى الشعر أن اختراق حجبها لا يكون إلاّ بالذهاب فيها حتى الثمالة، حتى الغرق، فحتى الخروج الى الشمس. كالخروج الى الفجر بعد الليل – الكابوس. وأيضاً، وفق التعبير المشهود: كالخروج الى البرّ الأمين بعد طول يمّ وهول خضمّ.
هو الشعر ليس إلاّ، يمنح الشاعر، ويمنح قارئه، فرصة أن يعاين كلٌّ منهما خراب الوجود، وأن لا يبقيا فيه، بل أن يقيما على تماسّ مع هذا الخراب، وأن يعايناه، بالعين، وبالشعر، مرتين، فيكون الأجر أجرين. وهذا أكيد.
كنتُ أسأل نفسي بعجب واندهاش، كنت أسأل قبل قليل، قبل أيام قليلة، أكثر قليلاً، كيف يستطيع المرء أن يصف حياته المعطّلة إذا لم تكن معطّلة، وكيف في مقدوره أن يلج منطقة العطل، وأن يمثل أمام مراياه، وأحواله، وأسئلته، ووقائعه، وأن، تالياً، أو في الآن نفسه، يفكّك هذا العطل...، كيف في مقدوره أن يفعل ذلك كله لو لم يكن هو بالذات، معطّلاً ومعطوباً؟! الآن أدرك بالكلمات الملموسة، وكنت أؤمن بالحدس فحسب قبل قليل، أن الرؤيا الشعرية تستطيع أن تمنح صاحبها ما لا تتيحه له الوقائع وأسئلة المأزق ومراياه. وعندما يحصل ما يحصل، يتأكد ان الشاعر لا بدّ انه "عبر" في "مطهر" ما، كهذا "المطهر" الوجودي - الشعري الذي يجعله يرى فيرى، ويجعل ما يرى مكتوباً بحبر الشعر. بل وبدمه خصوصاً.
مرةً جديدة، أعتقد ان الحياة ليست معطّلة، وأن العطب الذي ساور الشاعر لدى الكتابة كان مطهراً فحسب. وعلى غرار كلّ مطهر، لا بدّ من خروج. وها هو الخروج يشرق بخفر، وتؤدة، وتحت شمسٍ لا بدّ أن تقوى بعد قليل. لكنها كالشعر لا تفصح عن نفسها بفجاجة وصلف. وكهذا الشعر، تظل شفيفة ومرتابة بالضوء، فتؤثر الظل، وتختار كلماته، وغنائياته، الفلسفية حتماً، المثقفة جداً، الكثيرة الهجس والأسئلة، وإن على كآبة متعاظمة. وهذا ليس غريباً، ذلك لأن لغتها تعالج مسألة المأزق الوجودي بالذات. فكيف لا تكون هذه اللغة مجروحةً به. وأنا أقول مجروحة لا معطّلة. وها هو البرهان: إنها تدعونا الى معاينة هذه الجروح وقد تماثلت الى الشفاء الوجودي، بعد الشفاء بالشعر.
النهار
26 يناير 2008