كتبت مابين الموت.. والموت
1
لمرة سألتكَ:
لما نتنحب الجنادب ليلاً
وتزرّق عيون العصافير
قبل أن يأتيها الموت؟
لمرة نسيتُ أن الأنجم أسماءنا
وأننا حضورها في الحلكة.
ظننتُ أن البيوت أوطانُنا،
الأحلامَ أشجارُها،
ونحن الفصول.
2
كأنها الفراشة
حين تحترق أطرافها
لمجرد التحليق قرب الموقد،
ومع هذا يقولون أنه قدرها.
كأنها ورقة سقطت
في يوم خريفي عادي
دون أن ينتبه لترنحها المارة.
كأنها أنتِ
تنطفئين في زاويتك
منذ مئة ليلة
وما من أحد يلتفت لبكائك.
3
في المدينة الرافلة بالأضواء،
الأنيقة كتمثال تحت المطر
كان النبيل يفترش قميصه النظيف
وبجانبه لوحة كُتب عليها:
"إني جائع".
في تلك المدينة،
إنتظرت طويلاً
أن يخلو مقعد لي لأجلس.
4
الرجفة فوق رئتي
تخزّ القلب كمسمار صدىء.
الكلمات مطوية بالشرائط
والجثة المنحازة للصمت
تكتفي بتأمل وقع الموت فوق وجوهنا.
5
منذ زمن والهاتف ساكن
كأيقونة مغبّرة.
الأوطان البعيدة تقترب في
الأفكار فقط،
الأصدقاء
يبتعدون.
6
الغيمة البيضاء،
الغيمة المعقودة خلف السور
أضاءت الليل الطويل ببياضها القارس.
كانت تتبع قلبي
وهو يفتش عن شعلته
في العتمة.
7
كل ليلة
تضيق الغرف.
كل ليلة
تتسع المتاهة.
8
الآفاق لابدة منذ البارحة.
قطفة الحزن في الحديقة
تضمّد جراحها
ونحن
نتشاغل باقتفاء أرخبيلات الخرائط،
برنّات الأجراس البعيدة،
وفناجين القهوة.
السماء ساكتة هي الأخرى
أما الأشجار
فتكفي للمحة خاطفة
ثم تعترك البروق.
هاهو أسبوع آخر
يرشو آلامنا
كي تستكين في التبدد
9
كخوف الأطفال من العتمة
أنتظر من يأتي
ليحكي حكاية ما قبل النوم.
حكاية الجنيات بشعرهن المتطوح
في الريح
ووقع المطر في أصواتهن
وقصص الأشجار
التي تخبىء العشاق في جذوعها
أو لمعة العصا السحرية
والنجمات المتهاطلة في إثرها.
أدع المصباح مستيقظ،
الموسيقى
تُتم المشَاهد،
يتلظى الرأس فوق الوسادة
لا تجيء الأحلام،
لا ينتهي
خوف الأطفال من العتمة.
10
غدا أول الخريف
لنا أن نحتفل بصخب أقواس قزح
على الطرق السريعة،
بهجة الأزهار قبل النزع الأخير،
وملائكة الريح الدافئة.
غدا أول الخريف،
بداية جراح الأشجار
وتألم العصافير.
11
تذكّرتُ حلم البارحة:
سقطت الحمامة
بين كفيّ الراجفتين
انتفضت حتى آخر ريشة
على قلبها
تذكّرتُ كيف أنها ذرفت دمها
في حضني
ثم انتصبت لتلقي نظرة أخيرة
على المكان
وطارت.
12
أيقظتني العاصفة
كزائر لوحته الأسفار.
سألتني موقدا ورداء دافئا.
كشفتُ لها قلبي
فعبرت
الأوطان.
13
خرج للتو
مذهولا بالجنادب وهي تقتات
أشجار حديقتنا.
منطوياً صوته على حشرجة كئيبة
عاد فأوصد النافذة
واستل دفتر القصائد.
14
أظنها تلويحة القمر الكسير
قبل أن تبتلي المدائن
أظنه بكاء الآلهة
في موت الشطئان
وانتحار برائتنا.
15
لو أمضيتَ مئة عام تغزل الأخاديد،
مئة عام
تصل الخلجان بالخلجان
وتذرف الصرخة
إثر الصرخة،
لو أغويتَ الأنهار،
الغيمات في إكتواء صيفنا،
ستظل القلاع مهدورة
ودفاترنا
القتلى.
16
شيّعتنا الأطالسُ
فصارت البلدان مثوانا
والأسفار
حائط مبكانا.
17
هامت الأبصار في شدائدها
توشَينا ببوادينا
وأدخرنا
ماتبقى من أحلامنا
لتكون حطب شتائنا القادم.
18
تفادينا الروامس
لئلا يقولوا هذا فألنا
فألّبتنا مواجعها.
19
كان من الممكن أن أغلق النافذة
وأجتنب البرد المشاكس
قبل أن يفترس رئتي،
كان يمكنني إرتداء معطفي
أو مجالسة الشرار المتطاير من المدفآة
لكنني كنت مريضة بطقس تلك البلاد
وشجيرات الشرفة عندما ترتجف
أمام الريح الشتائية.
كنتُ أحلم مفتوحة العينين،
أنني نبتة الياسمين في الزاوية
وأنني ما زلت أصغي لأفكار الرحيل
التي كان يتبادلها سكان الدار
قبل أن يحزموا حقائبهم
ويمضوا دون أن يلتفتوا ناحيتي.
20
إحتمينا بالأفياء
حين أنكرتنا شموسنا
وألبت الشواطىء علينا الموج.
21
المرأة الغريبة
بزنارها الذهبي
وحقيبتها المكتنزة بالأشعار
جاءت تبحث عن هدأة الأمكنة
والزرقة الممتدة للشواطىء.
في أول شتاء أغوت الفتيان
مؤرخة على شفاههم
أولى عبارات العشق
وفي آخر شتاء كانت قد شاخت.
لسنوات سار في أعقابها الأطفال
مرددين وعيد أمهاتهم.
سرق بعضهم الدواوين
رشق آخرون عشاقها
وهربوا قبل أن يلتئم الليل.
في هذا الصباح
شوهدت تتدلى في مياه البحر
وعلى ساقيها خُطت القصائد.
22
زوار مدينتا الذين قدموا
البارحة فقط
عمّدوا طائراتهم الورقية
أغدقوا الفضاء بالألوان
ظننا أننا مدعوين
حتى أوقفنا العسكر على غفلة.
كانت طفلتي تنظرني
وتتألم.
23
على المقهى الرصيفي
تحدثنا قليلا
راقبنا العربات وسائقيها،
المارة،
والمترجلين.
كان علينا إحتساء قهوتنا سريعا
قبل أن تتدحرج أمواج الليل صوبنا
وتضيّعنا أبواب المدينة الغريبة.
24
طاردتنا آلامنا
حتى أعادتنا لزوايانا الضيقة
حيث آخر نتفة هواء
يمكن أن تبعث فينا
الحياة
لكننا لم نقدر على التنفس.
هوت أحلامنا
كبرتقال لم يستو بعد
ولم نرتشف ماءه
ثم فرّقنا الليل عندما لم نغسل
أقدامه أو نضيء لدهاليزه أصابعنا.
25
في الحديقة الجامعية
جاء الطلبة يحتضنون كراريسهم
تناولوا غداءهم
تراشقوا بالقبلات والشتائم
ثم أشعلوا كتبهم
ليتدفئوا.
26
قلبي يهوي
كالصخرة المندفعة في الهواء
دون أن توقف إنتحارها مشيئة.
قلبي يترجل في الحزن
وما من بارقة للنجاة
27
يرقص للشجرة الخريفية
وهذا المساء الظليل كإمرأة.
يرقص،
قلبه فوق المشعل،
ويداه تتوهان في الريح.
28
أيتها البلاد،
لا أفهم كم عليّ أن أخفيك
وأن أستعيدكِ،
أن أتهدم أمام المحطات
لآصلكِ
في آخر المطاف.
29
غنى الأطفال وهم يوارون طيورهم،
لاح صوت الجاز صاخبا
وأليفاً
لكنه لم يكن ليشبه شيئاً
في القرية الصغيرة.
30
أسمع خلاخيل الديار النائية
تأتي مُزخرِفة الحقول بالأصداء،
الشرفات محتدمة بأصصها،
ونحن نتسكع في دمائنا.
31
من الشرفة
بدأ الأرخبيل شاسعاً
كشمس حبلى بالملائكة.
في موج المحيط
استترت الجزر خوفاً من خناجر القراصنة.
حوّمت النوارس فوق رؤوسنا
وأغرقتنا الأساطيل المكتظة في خليجنا.
32
في الطائرة،
تلفّتُ باحثة في الممر عن قصيدة أهديها
لقطيع الغيوم الذي تبعنا حتى تمزّقت أحشاءه.
تغضّنت الوجوه من حولي
وبدت الأجساد محشورة
كدمى متقطّعة الأوصال
رصّت فوق عربة بائع متجوّل.
33
قد تكون هذه آخر مرة
للتسكع تحت وابل هذا الليل،
لإكتشاف المدينة التي لا أدركها تماماً.
قد يكون هذا أنسب مساء
لتهريب الأحلام
وتفريق ذكرياتنا على نواصي الطرقات.
كتبت هذه القصائد في صيف 1995
إلى روما، فلورانسا، بيروجيه،
أسيسي، فينيسيا، وفيرونا،
المدن التي باحت لي بحبه...
جاءت تقرأ مايكل أنجلو
من السقف حتى أخمص قدمي آدم
رأسها ملقى فوق كتفيها
وجسدها يلتف في دائرة بلا محور
كانت مصلوبة في أيقونات الأروقة
لكنها سعيدة
جاءت تتأمل القبة وملائكة الفردوس
وتردد لحناً شرقياً.
أدركتنا السهام بنيرانها
فأقشعرّت أطيار المدينة
وقُرعت أجراس ساحة ماركو
منادية العشاق والشحاذين الأنيقين.
إنسابت أشرعتنا في أمواه البندقية
فيما ارتجت الأروقة مع فرقعات المهرجان.
كنا ملوك الأرجاء
والقتلى أمام نوافير الآلهة.
تعمدنا تجاهل مواعيد مراكبنا
وحين أردنا العودة كان يكفي
أن نتبع الحشود
فيما كانت الطرقات تطول
وأقدامنا تحترق.
شكرا لك ياغريغيت
تدكرتنا قبل أن تتهدم مدائننا
ونسيناك ونحن نستعيدها
والآن ننتظر مجيئك ثانية
نجماتك تتهادى على أضواء شواطئنا
والمدينة نكّست أعلامها من جديد.
( I )
تتقاطع الأشكال في دماء اللوحة،
تحترق عينوننا بفوضى الألوان
ومذابح الرسامين
وعلينا بعد كل هذا أن نتذكر
المعارك
والقتلى.
( II )
خلع العاشق قميصه،
تمايل حتى أراقت الموسيقى دمها عند قدميه
وأراقه الهذيان والتعب.
فهدلت المغنية بصوتها في البعيد
غير مدركة أنها تجرح الوحيدين
حتى أخفت القناديل وجهها في زيتها
وإنهمر البكاء.
( III )
ماذا أقول لهم
وهم يوقظونني في كل ليلة
على نشيج الأنجم
وعذابات الأرغنات.
بماذا أرشوهم
ليبتعدوا عن نافذتي
لليلة واحدة
أو
نصف ليلة.
( IV )
البارحة
قدمت الملائكة
وافترشت الساحة القريبة من شرفتنا.
البارحة فقط ضحك القمر للحظة
ثم أمطرت.
(V )
الراقصة بثيابها المتدلية
كأجساد أبلاها الغرق
تقترب من الطاولات ذاتها
حيث الأزواج اليائسين
يتبدلون في كل سهرة
لكن آهاتهم لا تتغير
ولا يصيبها الملل
بل كلما أرهق حماسهم أردافها
تنحّت في الممر الدامس
متيقنة أنهم سيكملون عنها المشهد
وفي كل مرة لا يصدق أحد أنهم سيفعلون
لكنهم يفعلون.
(VI )
كقصيدة أثملتها اللغة
أخطو نحو التماثيل
وقلبي يهفُّ لرذاذ الماء.
باحثة عن أبجدية
لقول المعارك المصطخبة في رأسي
فتفاجئني صيحات العابرين
أولئك الذين لم تبتّل أعينهم
أو ينشغلوا لمرآ الأطيار
تترنح يابسة من الأبراج المقفرة.
(VII )
عدنا لجراحاتنا،
الإحتدام وتعب القلب أمام صور الأنبياء
المرتقة على جدران الكنائس المغبرة.
عدنا لتفاصيل البراويز المضرّجة بالحكايات الكئيبة،
تخوم السنين بمعاركها، وخيبات أبطالها.
كلما فتحنا مدينة
إنهالت نحونا جماجمها،
كلما أغلقنا رتاجاً
ملأت الصرخات أروقتنا.
لا ندري بأي حيلة نحل وثاق التواريخ
أو بأي خديعة نحرر سجنائها.
(VIII )
ترمينا الأقواس بعيونها في
خلاء بيروجيه،
الأزقة تشرّع عباءاتها
لكننا لا نرى سوى نصف قلب
وأجنحة تتقاتل بين الأبنية
كما لو أنها مأخوذة بالعاصفة.
(IX)
أنتِ يالتماثيل
ما زلتِ تخفرين الساحات
وتحرسين الليالي الطويلة
وأحياناً يرتجف الهواء بين تفاصيلك
وتغرق أحذيتك في الأوحال الرمادية
لكنك تترقبين أن يرمقكِ المارة
بنظراتهم الخاطفة
ومع هذا فهم لا يفعلون.
أبطال الأساطير يسرقون منك مجد الحروب
وأنت تستمعين للحكايات مشدوهة بوقع الأزمنة
وريبة الحفاة والشحاذين الذين يقاسمونك نحولكِ.
أيتها التماثيل
أنحني لآلامكِ ووقوفك الأبدي،
ولرفقتكِ
والظلال التي منحتني أياها ذات ظهيرة
حين كنت أبحث عن شريك لوحدتي.
(X)
مثل هارب من معركة
احتشدت الطيور فوق الأسطح
خشية أن تلسعها أضواء الألعاب النارية
فاكتوت بهجر أصحاب بيتها.
(XI)
في روما،
نفتح القبور واحداً فآخر
مقلبين الهياكل كمشكاة نفيسة.
جئنا نغبّر تحت لفح القرون
وسراديب الموتى
وفي السهرة تنهال الكوابيس
في شكل تواريخ وأسماء
علينا حفظها لإجتياز الإمتحان.
في روما،
جئنا لنعذب قلوبنا
ونحترق تحت أطياف أشباح العصور.
في كل ليلة
يسقط القمر في البحيرة المجاورة
تخرج العاشقات متخفيات
في ظلال الأشجار
تحرسهن فضة الأنجم
ونداءات الشواطىء
محتميات بمواعيد عشاق ينتظرون
خارج أسوار المدينة
وفي عودتهن لبيوتهن
المحصنة بآخر رمق من الليل؛
يرتفع نحيب أرواحهن المثكولة بالفراق
ويهرب الموج
تاركاً أقدامهن تنطبع
في رمال الساحل
فيما الريح ترفع خبب أثوابهن
كطبول الحرب،
الأبواب تنفرج في الفضول،
وأضواء النهار
تقدم للحكايات أدلة الفضيحة.
لا تشفى قلوب العاشقات
من جراحها،
لا يهطل المطر.
بدأتُ أنسى انكسارات الليل
وخيانات الأزقة
التي اعتقدتُ أنها رفيقتي ذات يوم
تعلمتُ انتظار الصباحات
للجلوس في الشرفة
وتأمل ما بقي من الأشجار
بعد عواصف الخريف.
تعلمتُ استدعاء هزائم الأمكنة
بدلاً من التخفي في ظلالها
فإذا ما صاح طائر في حديقة الذاكرة
تشاغلتُ بالتذكر إلى أن ينطفىء
النصف الأعتى من النهار
بعدها أعود بحثاً عن قمر
يُضيء عزلة المساء.
صرتُ أجدّلُ الوقت الطويل،
أتفحّص السماء
ملّوحة لأنجمها الشبيهة بالخرز الطائر
وأدعك المصابيح المغبرّة
ثم أذهب للنوم
لا لشيء
بل لأتجنب الوحدة.
أغمض عيناي
لتأمل حافة أجفاني
واحتفاء رنات الضوء السكرانة
في مطر المساء.
الدهاليز تُحكم عتمتها
لكن الأصوات ما زالت ترتجف
في برد الطرقات.
أغمض عيناي
لأمعن الإنصات
لصفير الريح البعيدة
وهي تدفع عجلاتها فوق الإسفلت
أو تكنس شعر الأشجار.
المدينة برمتها تستحم
في الأغبرة والأمواه
قلبي يتطوح بين الأسوار
وعيناي ثابتتان خلف أجفانهما
على أمل أن يطرق الباب
كائن ما
أن يرن الهاتف
أو أن يصيح
منبه البريد الإلكتروني.
عيناي مغمضتان
وأظنني سأنام
قبل أن يتذكرني أحد.
كسائر هذه الصباحات القارسة
تستيقظ شمسنا كما لو أنها
سفرجلة دعكها الليل بفضة أقماره
تظن لمعانها أعطية الصباح إليك
وما أن تخرج من الدار
حتى يتبين لك كم هي نيئة.
كحارس يداهمك
وأنت غارق في السبات،
يفضّ القمر ستائر نومنا
مُسلطاً كشّافه نحو أعيننا
مجترحاً خلوتنا
والليل ما زال مكتظاً بأحلامه وخرافاته
والشهر بعد لم ينتصف.
كفاكهة تثمر في غير أوانها
تكتمل استدارته عندما لا نريد من كل فضته
سوى لطخة سريعة على نافذتنا.
كماس كهربائي أقدم من الخليقة ذاتها
يوجّه شظاياه نحونا
فنهجر أسرّتنا
ونقسم على قتله
وعندما يُطل ثانية
ننسى ما فعله في المرة الأولى
فنعشقه
حتى إذا ما أستبد بنا حبه
عاد هو لينحر نومنا.
حدثتني البرية
عن الأصدقاء يلتفون حول المساء
ويقسمون على طلاق بيوتهم
وخيانة النوم
عن أصابع القمر
تسقط في العتمة
وتحترق عند مشارف النهار.
وعن الأحداث تتفاقم
في كل لقاء
فقط
لتهب العشاق
ما يقتاتون به في سهراتهم.
لهؤلاء الذين يجرحون
ويتشاغلون بالبراءة
عندما تسقط عيناك في عيونهم
لهؤلاء-
نخب الحياة
وانحناءة المطر.
لا أقدر على غزْل حواشي اللغة
أو تكرار العتب
وعندما أخرج للهواء الطلق
تداهمني فواجع لم تكن بالبال
ولم يتهيأ لها قلبي
لأنني تصوّرت أن الملائكة
تحرس غفلتي
وأن الآلهة تعرفني
كمعرفتها بأبنائها.
لكنني استيقظت على أرق الليالي
لأجد في الأحلام علامات
لم أفهمها حينها
ولم تسعفني اليقظة
على قراءة ما كان بين
سطورها.
نحتدم في الصمت وفي الضجيج
ونبكي حين لا يسعنا الفرح
ولا تدركنا رأفة المحبة
ونتساءل كسائر اليائسين
ماذا يشبه الحزن
غير الحزن؟
خرجتُ أفتش في الهواء الملبّد
بآخر رنة أتذكرها من صوته
عن صوته.
الليل ينخفض في الحرارة
والرسائل تهطل من فضاء الأسلاك البعيدة
دون أن تكون كلماتك بينها.
أرتّب للصمت
الصور الأكثر تطابقاً وملامحه
التي باتت مخيلتي
تجهد في استعادتها
فأرى قلبي ينفتح كأرض
أثقلها حصاد العام الطويل
من الهجران وسحب الكآبة
وعند كل باب
تتوقف ذاكرتي متوجسة
إن كان يمكن لها أن ترى أطيافه
أو تعود من حيث أتت.
أحار
كيف لي أن أصلها
وهي هناك متحصنة
ككثبان في ليل شتائي،
أو كمن يتبسم في عتمة
كيف لي أن أطأ أرضها
وهي منطوية لا تريد
النظر إليّ.
دَخلَت بيتها
لترى الستائر مسدلة بعناية فائقة
وعلى الطاولة أكواب فارغة
تشي بصخب الليل.
الأرائك في الفوضى،
وقلبها يخفق
كأجراس الشرفات
المعلّقة أمام احتمالات الريح.
وطئَتْ حجرتها
فتطاير في وجهها شرار الذكريات
وما كان يمكنها إطالة البقاء
خشية أن ترميها الكآبات بسهامها
أو تطاردها الأفكار التي هربت منها آخر مرة.
هاهي تجيء مثل زائر
يستشف رغبة أهل الدار في بقائه
فيطردها تجاهله
قبل أن يمكنها فظّ حقائبها.
أنتَ كل ما أدخرت
من مغامرات صباي
ويقين الأحلام.
كل ما خفتت له قصائدي،
وبكت لأجله
شتلات حديقتنا.
وأنتَ كل ما أضعت
في أقل من مساء.
شكراً للموسيقى
لأنها جعلت لياليّ
أكثر احتمالا
وحزني أشبه
بحطب الموقد الضروري
لكل شتاء...
شكراً للعازفة
التي أمضت أطراف المساء
تحيك لقصائدي
شالاً من حبات المطر
وزبد الموج
وتعزف للغة
حقلاً من الأرجوان.
بقيَت لي أهداب القمر
وشعر الليل الغزير
المؤجج بالشوق إليكَ.
بقيت أسرار الأدمع
المنهمرة كفصل استوائي،
الأقاليم
ترميني بنظراتها المتحفظة
أو تزجرني
بزم شفتيها القلقتين،
وما من مياه تغسل
مرايانا التي عكّرتها
أدخنة الحروب
أو أنباء
أسبر فيها ظلالكَ.
بقيتُ أنا ملوّحة
بأغبرة الإحتمالات
ولا حدود العتمة،
رهينة للتجوال
في متاهات اليأس
وسكرات الضياع.
رأسي دائخة في رطوبة الشاطىء
وأفكاري مثل عيناي تشوشها الغيوم المدلاة
من السماء القصية..
فأجدني لا أقوى على الإمعان
في تفاصيلي الصغيرة
أو التحديق في مقلتيك
وترتعش أصابعي
حين تلقي السؤال
إن كنتُ قد تداويت ذاك النهار
لكنكَ لا تنتظر إجابة
أو تلتفت للصمت الطويل
الذي يتبع الأسئلة
وإنما ترتشف قهوتك
متشاغلا بوجوه الغرباء
ونتفة القمر المتبقية من
ليلة البارحة.
تتصفح أمواج الرمال
المبعثرة في فراغ الأخيلة
وأطلال البيوت
التي هجرتها أرواحنا
رأسي تدوخ في حرارة القلق
متشبثة بأفكار الهروب
وقلبي تقضه هواجس الغياب.
تنتفض أغصان الوحدة
في ريبة الإنتظار
ولا أقوى على منحها
ماء الطمأنينة
أو حتى دعوة السماء
لبل شعرها بالمطر..
كلما تلوتُ القصائد
خفتَتْ أنفاسه
في ضجيج الريح
وازدادت رنة العتاب في صوته.
كلما دَنَتْ المقاطع من تفاصيلنا
تأرجحت عيناه في الأسى
وأضطربت الأحزان على طاولتنا.
وكلما انتظرتُ أن يبوحَ
بإنشغالات الشتاء الفائت
والخريف الذي تلاه
وما علق في ليالي الصيف العصية؛
بقي على كتمان أسراره
وطال الصمت بيننا.
أكاد أنسى الكلام
الذي وقع كالنرد في حواف الأحاديث
وتيبّس في مكانه
إذ لم تلتقطه شفة
وما بللته أمطار الألفة.
وأعجب
إذا ما كانت ستتذكرنا
الفصول من جديد
أو تنثرنا في حقولها
قبل أن يفوتنا هذا العام
والذي يليه
أو تفوتنا كل الحدائق.
أنتظرُ بارقة
أهرّب فيها إحتقان الليالي الوحيدة
والجراحات المتبقية على الفؤاد
ويخونني احتباس صوتي
والتنفّس
عندما تحاصرني المواجع
ويخذلني جسدي.
كما في حلم؛
تضللني أصداء
تأتي من الأنحاء المجاورة
لكنني لا أعرفها
فأخرج حافية إلى الخلاء
مدججة بالمخاوف
وخسائر السنين
و لا ترأف بعواطفي
شجيرات الجاردينيا التي رعتها
مزن روحي
واحتضرَت في غيابها
أطيار البساتين.
أنتظركَ
وأنتظركَ
مقاومة أنهار البكاء
فتتعمد ألا تأتي
محصّناً بالمبررات
وأتعمّد ابتكار الحكايات
وحياكة الحيل لطفلتي الصغيرة
لكنها تؤثر الانتظار
حتى
تبيّض الليالي
وتتبدد آمالها .
العابر كالنهارات القصيرة
أسمع تأوهات الحجر الخافتة
قرب النبع
فترّف أجراس قلبي
كأطيار داهمتها العواصف.
أقترب من المياه
التي لم تنم طوال الليل
فتسري في جسدي تفاصيلنا
عندما كانت تختلسنا القبلات في العتمة
موقظة أشجار قلوبنا.
كنا نحترف خداع المساء
ليترك أحلامنا
تتهادى
في البرية
ونتهادى في بعضنا
كقبلات الندى لريحان الصباحات الناعسة.
أنت نائم الآن
بينما كفك على صدري تتذكّر
رفيف روحي وهي تلهج بإسمك
لهذا كلما حاولت أن أغفو
عادت أطيافها
لتربك هدأة
النسيان.
جئت أفاوض الأحزان التي لم تدعني
أمتثل لأفكار البعاد
ولم ترأف بأدمعي حين احتقنَتْ
مستنجدة بالأزمنة.
توسلتُ الغياب
أن يُسكت مواجعي
أو أن يعيدني إلى المرأة
التي كنتها قبل أن تمطر
آلام الليالي الفائتة.
إحتميتُ بتفاصيل محبتنا
التي تذكرتها
والتي لم أتذكرها.
كانت الرسائل تمد لي يديها
لألتفت إلى حبرها
إذ تماهت ألوانه في غفلتنا،
والكلمات تفتش في عينيّ
عن البريق الذي طالما
استعادها من عتم الوحدة.
لكن عيني اليوم مبللتان
كشمعتين استنفذتهما
الليالي الطويلة
دون أن تجدا من يناولهما
منديلا
أو يهيل عليهما
الرأفة.
يأتيني أنينها،
الأشجار التي كانت حتى عام مضى
حارسة البيت
وسيدة أروقته
فأفتح لها دهاليز القصائد
لتقرأني
وتتذكر أن ماءها
سيكون
من بئر قلبي.
تُقبل أيام الآحاد
بشفاهها المزمومة
وقلبها الداكن
فأتذكر أن علىّ الإستعداد للذهاب
وقبل أن تلتقطني التفاصيل ذاتها
أتأمل طقوسي الجديدة
التي أخذتٌ أتقنها
لإطالة الزمن ماأستطعت.
أؤجل القلق
متعمدة التمهل
أو التسكع في زوايا البيت
بحثاً عن أسباب تبقيني أكثر
فأكثر
فأكثر.
أترك الأوسترادات تحمل أمتعتي
وتحملني.
تدعني الأفكار
أختنق خلف المقود
بينما الشموس
تراقب من خلف زجاج العربة
وتتشاغل
بالإستحمام في مياه المحيط.
أنتظر أوراق الحديقة أن تينع
وترتفع أغصان الكروم
وعندما يتم لي هذا
أتوسل من جديد
أن تنحني العاصفة
لئلا تقتل أشجاري.
حتى عندما أدير الموسيقى
لا أرى سوى صور النعوش
تقترب نحوي.
تذهب للحكايات الممكنة
باحثا في الكلام
عن مساحات تهدىء روعكَ
أو تعيد للروح بعض أنفاسها.
تذهب للذكريات التي تراكمت
في خزائن ملابسكَ
تاركة رائحتها في قلبكَ
وفوق شفتيك.
مبلبلا بالتفاصيل الجارحة
ولسع الآلام في جسدك
تنهال في الصمت النهائي
متوهما أنك تبتعد في النسيان،
أنك ستتعافى
وتكون قادرا على ارتشاف
ماء الحياة ثانية.
تذهب إلى قلبكَ نفسه
مجنونا بالحيرة
ومثكولا كالطفل
الذي يضيّع أمه كل ليلة
وعندما تعجز الرسائل عن اسعافكَ
تعود إلى اسطبلك لاهثا
كفراشة أُودعت تواً
زجاج الأبدية
وحينها تذهب إلى الله
متوسلا الموت.
كلما رفعتُ رأسي لسماء
إزدادت زخات الآلام
وامتلأت أواني القلب
بالبكاء.
أرتجل الضحك أمام الغرباء
فتفضحنى براءة أطفالي
حين يسألونهم
عما كنت أفعله مساءً
فيقولون:
كانت تنتحب وحيدة...
كثيرة كانت البيوت
التي وطأتها أقدامنا؛
قليلة الضحكات
التي ظلّت تحرس عودتنا.
طويلة
أطول من صرخة في حلم كريه
الليالي التي تركتنا ننطفىء في البكاء
أما الأزمنة التي سرقنا مفاتيحها
ليمكننا أن نحتمي بجدرانها
أو نتحدث إليها عن دواخلنا
فلكم كانت قصيرة.
أراكَ هناك
تبتعد متخففاً
من أطيافنا المتبقية
من آخر لقاءاتنا وقبلاتنا؛
الأطياف التي أصبحت نائية
كسديم من الحقب البعيدة.
أراكَ تألف هدأة البيت
وما بقي من الأشواق النائمة
تحت وسائدنا
وتعتاد الغياب.
أما أنا
فإني أضيء في كل ليلة قنديلاً
متحاشيةً
حتى أسئلة أفكاري.
إبقى بعيدا
لتكتب القصائد
وتعتاد فراقنا.
استغرق التفاصيل التي لا تنتمي
لأحدنا
وإن شئت
طلّق الأزمنة
التي كانت لنا فيها ظلال وأقانيم
طالما يجعلك هذا
أكثر قابلية للحياة!
أستيقظ
ليهبني النهار قبلته
ويمنحني رائحتكَ.
يستيقظ قلبي في الصباح الباكر
ليتأمل خفة نومكَ
وأسرار الليلة الفائتة
حيث تركنا حرارة أنفاسنا
تتهادى مثل أنجم في الريح،
وأرواحنا في ليل طويل
تذوب الواحدة
في الأخرى.
أستيقظ اليوم
لأعرف أكثر من أي وقت مضى
أنني سأدع روحي
تستظل في حبكَ
وإن ضاقت الأزمنة
أو بردت أطرافي
في ليل الوحدة
لأنها في غيابك
تضل طريقها
حتى وهي في بيتها.
ماذا فعلتُ بكَ
وكلما نَمَتْ بيننا السنوات
أطلقت نحوي غمائم النسيان
وأسدَلتَ على ذكراي
رماد الفصول؟
ماذا فعلتُ
لتُفجع ياسمين حديقتي
وتقتل الماء الذي كان
يرتّل لجداولنا
صباحاتها
وأحلامها؟
والأرغنات التي عزفَت
في إنتظاركَ
حتى جرّح الغياب أوتارها
ماذا علىّ أن أقول لها؟!
لأي الوعود التي تركتَ
لي قبل رحيلكَ أنصتُ الآن
لأيها أهييء سرير الطمأنينة
ولم يعد لدي ما يكفي من البكاء
ولم يعد لدي ما يُسكتُ
وجد كل تلك العصور
أو يلجم الكسور
في جدران مساءاتي الوحيدة!
للمرة النهائية
والنهائية
والنهائية
أسألكَ
ترى
ماذا فعلتُ بكَ
لتهدر الأنجم،
الشواطىء،
والإبتسامات القليلة المتبقية
من جنّتنا معاً؟
للمرة التي لا أظنها ستكون
الأخيرة
أو الأخيرة؛
أنتظر منك إلتفاتة
لكنك ويا للآلم
تضع ثوبك فوق كتفيكَ
وتغادر
كما لو أنك لم تر
الدمعة تنحدر من دمي
غارقة
بلا صوت
في بئر السكوت.
في كل ليلة أذهب للنوم
تأتيني المشاهد برنات الإنكسارات.
في كل ليلة
أعقد مع الأحلام المواثيق
كي تدعني وشأني،
لكنني كلما استيقظتُ صباحاً
وجدت جرحاً غائراً فوق يدي.
كان يعرف كيف يبدأ الكلام
ويحيك اللغة كسجادة تبريزية فاخرة،
وعندما نلتقي
تدعوني شفتاه للقصائد
وقبلات الشتاء الدافئة
أما عيناه
فكانتا تبرقان
محتفلتان بانتصاراتهما
ظانتان أنني صدّقت الأكاذيب.
تحتقن الأروقة حين أطوف بها
في المساءات الماطرة
فأسمع بكاءا خافتاً ينبعث من الجدران
التي احتضرت في طفولتي
ولم يبكها أحد.
تحتدم الحياة من حولي
وأحفظ تجاعيدها
عن ظهر قلب،
وفجأة تداهمني اخفاقاتها
فأتذكّر
أنني أنا أيضاً
هجرت ذكرياتي
حتى ما عاد بإمكانها
التعرّف عليّ.
كنتُ في الإنهيار
عيناي تسافران في بياض الذهول،
وأطرافي ترتجف مثل قلبي
بينما كنتَ تحتفل بالمساء
وصخب الألعاب النارية
وتدّعي أنكَ تبحث عن النسيان.
ومع هذا حرستُ الليالي
مزينة الحلكة
بما بقي معي من قناديل
ظلّت تضيء الطاولة الشتاء برمته
وحين تضاعفت بيننا المسافة
وهطلت سحب الفصل التالي
أدركتُ أن للمطر رائحة أليفة
تشبه أحزاني
وأن الأفاق التي اعتقدتُ للحظة
أنها شقيقة وحدتي
قد أصبحَت صنو الكآبة
وميناء تألمي.
تنتظرُ لتأتيها المحيطات
وتسامرها نداءات السفن البعيدة.
مأخوذة بزفير الموج
وتمايل النوارس تتساقط في الماء
كالظلال.
تجلسُ بعد أن أهدرتها
مواعيده الخاطفة
وأوجلتها الأسفار
مترقبة رفة ما على الأغصان.
وكلما ظنّت أنه سيعود ذات ليلة
ليدع أحلامها تنام على ساعديه
تباعدت بينهما الضفاف
وما عاد أحدهما
يعرف الآخر.
السماء تغتسل بثلج السحب،
والأشجار تخفي أصابعها
لئلا تبترها الريح.
السماء مدلهمّة هذا المساء
وقلبي على حافة التل،
هبة
ويسقط في الهاوية..
القمر يتألم في أنحائنا،
والجهات تكرهنا
مع أننا قبّلنا أقدامها
وإنحنينا أمام عتباتها.
الأضواء خافتة في بيتنا،
وما من بارقة تشفع
لكل ذلك الحب الذي نمَت
فيه كل تلك السنوات.
أتأمّل عينيه اللتان تحاصراني بأقاليمهما
وتدفعان أفكاري للحيرة،
وأستدرك أنني لم أنم
منذ الأمس
وقبل الأمس
وقبل
قبل الأمس
وأن بصري يتخبّط،
في خلاء الأضواء المنسكبة في البعد،
غير قادر على تحديد أكثر الملامح قرباً من أدمعي
وأنني أصبحت مبتليةً بالعقاقير التي تشحذ النوم.
أتأمّل شفتيه
اللتان لم تبادلاني السلام
منذ رتل من الزمن
وأحار في كل تلك العصور
التي تقاسمنا أرغفتها
وقبلاتها
عندما كانت حتى الأحجار
تعرفنا من أصواتنا
ومداعبات الريح لنا.
وأستغرب لماذا لم تعد
عيناي تحتملان هذا البصيص الضعيف
من الأضواء
وأتذكّر
أنني سهرتُ الأمس
واليوم الذي قبله
وقبله
وقبله
وأنني كنتُ أجهش في العتمة، وضوء النهار،
وفي خفوت الشموس،
وتثآب الأنجم القصية؛
وما من أحد؛
ما من أحد على الإطلاق
تساءل لمَ كل هذا الألم!
أخبىء عن قلبي مخادَعَاتْ النهار
خوفاً من موته في قميصي
أو ربما خوفاً من سقوط النرد تلو النرد
في الهوة السحيقة من آمالي
وتكسّر مراياها على مسمع من روحي.
أخبىء النحيب لمنتصف الليل
كي لا تنتبه الأسئلة
أو تصحو الأقاويل
على احتضار محبتنا
وأبقى حبيسة الظلال
ألحظ تفاصيلك من جديد
أصابع يديك تتجاوب مع العابرين
وتتلعثم عند تحيتي،
انشغالاتكَ تتسع في الغموض
وتؤثْر الغياب
وصوتك الذي نَسْيتَه
عند آخر شجار عالق
على أسلاك الهاتف.
منذ متى؟
لم يعد بإمكاني حتى استعادة الأزمنة
وما عدتُ أفهم
لماذا علينا الإنتحار في المدارات ذاتها
ونحن نعرف
أن أجسامنا تزداد هشاشة
كلما رشقناها بالجراح؟
ولماذا على لياليّ
أن تبيّض في شيب الصباحات
وتذبل سعفة الكلام
فلا يبقى لدينا ما نقتاته.
تتقادم التقاويم
في التقاويم
عواطفنا مسرجة في اسطبلات
لا تعرف أقدامنا أمكنتها
أحاديثنا هبّت عليها الأحقاب
ونسيَت شفاهنا
أين تركت نجمة الحب.
أخبىء عن عينيّ صدودكَ
ومواعيدك التي ترفل
في أول مساءات الآخرين
وآخرها
فيما الوعود التي قطعتها لي
تغبّر في تعب الإنتظار.
أخبىء عن غرفتي أنباء الفراق
حتى لا يصفّر الياسمين في الآنية
ويموت الليلك بالأسى.
****
الحرير الملطخ بأدمع آخر الليل
كتبت هذه القصائد يوم أمس..
تطاردنا الفصول بأمطارها
وجفاف أطرافها
فنكتوي
بصقيع صباحاتها الموحش حتى البكاء
أو نحترق بهجيرها..
نقول سنتوارى في وحدتنا؛
فتغافلنا الأعوام مهرّبة
دسائسها تحت أبوابنا
ونستيقظ على كهولتنا
حيث الإنكسارات تشق خنادقها
تحت جلدنا
من غير أن نجرؤ على ردمها
خشية أن تنهال علينا
أو
تجرّحنا شظاياها.
نترك أرواحنا تستظل
بشموس الأوطان البعيدة
ونخبىء آلامنا في الأزمنة
كي لا تهزنا الغربات
أو نجول في دمائنا كمن يبحث عن
وسيلة للخلاص
الأشعار مائدتنا
ونبيذ اللقاءات التي ننتظرها
من أسبوع لآخر
لكننا كلما نظرنا في عيون بعضنا
إحتدمت المسافات
وضل القمر.
نفتش أحلامنا وأدراج أسرتنا
عما يشبهنا
ونكتشف أننا عير تلك
الكائنات التي تركت
جوارحها تنمو على أشجار الحدائق
وأن قلوبنا قد أصبحت مثقوبة
وخوفنا لابث في حجرته
كالفراشة الدائخة
دون أن تجد من يكترث
لنجدتها.
أهي بهجتنا الأخيرة
للتسكع تحت خيمة الليل
وتجاذب الضحكات
في خلوة الطرقات المستترة
قبل النوم؟
أهو قمرنا الأخير
ذاك المسمّر عند شباكنا،
حارس سهرتنا،
وهجسنا؟
أو أنه نحن
بعد أن صرنا نعرف
أننا مهما أمضينا من أزمنتنا معا
فإن الغداة لن تكون لكلينا
وأنك ستمضي لعاداتك المألوفة
وتتوارى في أطياف البعاد؟
وأن علىّ أن أحيا
الإحتضار تلو الآخر
قبل أن يمكنني نسيانك تماماً.
لو أنك جئتَ
نشبك أصابعنا في هذا الصباح
أو نخادع الشمس قبل أن تسرق منا قمصاننا
ربما استعدنا قبلاتنا
أرّخنا بعض الأحاديث كي لا تعاتبنا الأزمنة.
ربما تداركنا جنيات الرؤى قبل أن يُطفئها النهار
لكنك لم تجىء.
علىّ أن أذهب
لتكتبَ لي القصائد
علىّ أن أهجركَ
لأحبكَ
أكثر.
أستفيق على نحيبك في أقاصي الليل
قلبي شبه معتقل في جدل
كل تلك الفصول التي أرقتنا
والتعابيرُ مستهلكة في الخوف
لكنني أحبك
ولهذا أفتح لدمعك ذراعي المبتورتين
داعية أنفاسك تقتفي رائحتي
وياسمين سريرنا
فيما شفتيك تهذي في القلق
وفي هزائم جسدي.
نستظل بهواجسنا
كلماتنا تحترق في موقد الظلمة
وحكايا الشوق تستدرجنا إلى متاهاتها.
أحب قبلاتك
ترتجف عند عتبة لقاءاتنا
وأحبك حين تشعل لمجيء الشموع
وتذيب زيت الخزام
لأبقى في أسرك أكثر.
أحبك
لأنك تشبه القصائد التي أقع في شراكها
ولا أعرف كيف أفر من طغيانها.
ها قد أخذَنا النسيان من أيدينا
وأدخلَنا بيته
تاركاً للموج
تفاصيلنا التي شيّدناها
برمل الشواطئ
ها بردت قهوتنا في الفناجين
التي انتقيناها سوياً أعوام قليلة مضت
الفناجين التي تتجاور الآن
وكأنها تماثيل
تنتظر في اتجاهين مختلفين.
* * *
أفتش في عتمة المخيلة
عن آخر مرة وضعتَ فيها
رأسك على كتفي
ودعوت البحر ليقرأ أعيننا
وجدتك قصياً
ووجدتُ أطيافنا تنهض وتختفي كالغبار
لا ملامح لأجسادنا فوق الرمل
لسنا هناك
ولم يعد لنا مكان هنا.
* * *
أقدامنا تطأ أراض جديدة
لكنها لا تريد الاقتراب
ولا تتبع الواحدة آثار الأخرى.
* * *
الجهنمية التي بدأت شتلة في شرفتنا
تشتعل الآن فوق الأسوار
مخبئةً في جدائلها أصواتنا حين كنا لا نزال
نرهق الكلام في الشرفة الجديدة
دون أن ندع النوم
يبدد حرارة أيدينا
أو يسرق من شفاهنا
بريق الرغبة.
* * *
هذا الصباح
كاد جسدي يسقط في الموت
من جديد
وكنتُ أعيد المحاولات
لانتشاله
لكنه ما لبث يسقط
في الانهيار
و لم يبق له
من يحبه
أو
يشعل له شمعة.
* * *
أغفو
متحاشية أن تلتقي عيناي
بعقارب الساعة
أو تسقط في أسر
أضواء النافذة
فأكتشف أنني أمضيت
الليل الغزير
مرددة الصلاة ذاتها
والآن وقد أهدرتني الأزمنة
لا أتذكر
إن كنت أصلي للقائك
أو الراحة من عناء
انتظاركَ.
* * *
يتقاتلون
يستلون المحبة من أصواتهم
ويذهبون لاستراحة العتمة.
حتى وهم صامتين
يتقاتلون
بلا هوادة.
* * *
هكذا تمضي علينا الليالي
مُستَنفَذة في الوحدة
والصمت الذي لا تبدو له أطراف
هكذا نعتاد أن نجرح
أعيننا بالحزن
ونحرق وجناتنا
بملح الأدمع
وعندما تضيق بنا عزلتنا
نختار الغياب
الذي جربنا رأفته.
* * *
الرياح كنست الحديقة
وما بقي من رمل في الأصص
وما بقي من أعشاش عالقة في الجدران
الرياح تريد راحتي
ولهذا أزالت كل ما يمكن
أن يذكرني بك.
* * *
أتأمل عبور الظلال على جدران الغرفة
أو أحسب المرات التي
يتبدد فيها الهواء في كثافة التنفس
ولا يدع أثراً لرحيله.
ضجرة
وكل شيء يتلعثم حولي
حتى أحلام صغيرتي
التي غفت تواً
دائخة في تعب انتظار
حكاية المساء.
* * *
تحسست القصائد التي كتبتَها
منذ عشرة أعوام وأكثر من مساء
كانت اللغة ثملة مثلك
الصور أخف من نسائم
أول الصباح
والعشق برتقالي ودافىء
كخيط الشفق
كان كل ما في كتابتك
يشي بشوق
لا يطول.
* * *
نسي الوقت أين وضعتُ
الوردة التي قطفتها لأجلك
للمرة المئة
ربما الألف
أجلس في انتظارك
مهجوسة
بالتوقع والأسئلة،
لكن الكلمات هذه الليلة
تختفي
قبل أن تتشكل فوق الشفاه،
الأنجم حذرة وباردة رغم كثرتها،
وحنجرتي تنسى اللغة
التي أعدتها للقائك.
* * *
سأودعكَ
تاركة الصمت خلفي
وأقل ما يمكن من الغموض
سألملم الذكريات
وألجم الأسئلة
وإن تطلّب الأمر
سأحكم إغلاق الخزائن عليها
وأدّعي أنني أضعت المفاتيح.
سأدّعي أيضاً
أنني قتلت عصافير قلبي
أو أغرقت القوارب
المتبقية من ركام أحلامنا معاً.
لكن هل تعرف؟
ربما لن أحتاج لكل هذه التدابير
إذ لم يعد يهتم لما بيننا أحد
ولا حتى أمهاتنا.
الأرض تفتح فمها لخطواتنا
وأسرارنا
متهيئة لدفن تفاصيلنا
متهيئة لأخذنا معها.
* * *
نجوم الغانم صدر لها ؛ مساء الجنة 1989 الجرائر 1991 منازل الجلنار 2000 |