إهداء
الى
محمد بن حمد الحداد
كان يهدهد أيامي بيدٍ
ويضرم اللهب في حديد الوقت بيد
سأكتبُ،
مستدركاً كل ما فاتني لغزَه في الغياب
غير أن الكلام عن الحب أحلى من الحب .. حيناً
والقلب أصغر من نصفه .. تارة
والذي في يدي نجمة واحده،
... والسماء
مرصّعة بالذي ليس يُحصى من الفصّ والنصّ
ها إنني جملة شاهده ..
... في كتاب العذاب.
أيها الطفل
كيف ستكتب نص المحرق حبراً وماء ؟
سأكتبه
مثلما يصقل الشخصُ أسماءَ أطفالِه
كي يؤثثَ مستقبلاً للكتاب.
***
( 1 )
مثل سيفٍ وُلد في غمده،
سيفٌ، سرعان ما شرعتْ زرقةُ البحر في صقله، لتحيله إلى موضع الندى.
هل يمكنني اقتراح هذا الوصف لعلاقتي بمدينة المحرق، التي ولدتُ وعشتُ فيها أجملَ سنوات التكوين؟
لا أعرف لماذا خطرت في بالي هذه الصورة.
لكن من المؤكد أن ثقة السيف في بيته، وشعوره بالاطمئنان في عزلته، واستعداده الدائم للمجابهات الجميلة والجديرة، هي صورة سوف أحبها يوماً بعد يوم.
مثل حنينٍ غير معلن إلى عالم لم يعد موجوداً.
بالرغم من معرفتي مدناً كثيرة بدرجات مختلفة، إلا أنني أشعر باكتناز في معرفة أناس كثيرين وأشياء تستعصي على الوصف في مدينة واحدة، مدينة كفيلة باختزال المدن. وأظن أن معرفة ِأشياء كثيرة في مدينة واحدة، مثل مدينة المحرق، يمكن أن تغني عن معرفة مدن كثيرة.
بالنسبة لي، أقدر على القول بأنني تعلمتُ في هذه المدينة درس الحياة، هذا الدرس الذي كان يسألني، فيما يعلمني:
كيف ستكتب النص: نص السيرة ؟
وهو سؤال لم يدر في بالي في أي مرحلة من مراحل الحياة والكتابة. أنا الذي انشغلت حيناً، وانهمكت كثيراً، في كتابة سيرة النص متفادياً الكلام عن سيرة الشخص.
فلستُ ممن يحسن كتابة السيرة بالشكل المتعارف عليه في هذا الحقل، ليس فقط بسبب ما ينتابني من القلق والارتباك عندما يتطلب الموقفُ كلاماً عن الشخص، ولكن لأنني، خصوصاً، لا أشعر بقدرتي على كتابة ما ينتمي إلى السرد التاريخي المتسلسل والمقيد بتسجيل الأحداث متتالية.
غير أن سؤال المحرق عن النص يفتح الكتاب, المؤجل, على هواء الروح المنتظر.
إن تأمل التجربة الذاتية في ضوء التجربة الأغنى، لمدينة المحرق، هو سياق يضعني في مهبٍ كنت قد تولعتُ به وأنجزتُ له نصوصاً متفاوتة الشكل والسياق، الأمر الذي منحني حرية الزعم بأنني لا أكتب سيرة الشخص بقدر ما أحاول كتابة النص الذي سألتني عنه مدينة المحرق ذات درس :
كيف ستكتب النص؟
أضع أبجدية الناس في قاموس الشخص العتيق،
أنسى فهرس الهجاء والمديح،
وأبدأ سرد النص الذي غفل عنه البحر منهمكاً في ورشة السفر.
***
يمكن الحديث عن هذه المدينة من مستويات وزوايا مختلفة، غير أنني أحب أن أتحدث عنها متقاطعة بالرؤية الإنسانية التي أنشأتني، وتصاعدت في تجربة كان لها الدور الأكبر في صياغتي ثقافياً وإنسانيا وإبداعياً.
لا أكتب كل شيء، لأنني لا اعرف كل شيء.
عرفت مدينة المحرق، في لحظتين باهرتين من الاكتشاف:
الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً.
والثانية بوصفها ورشة الأمل.
ورشة أمل، لأنني أرى في المحرق مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل بحيوية الأمل الإنساني، ويمكن لملاحظ التاريخ الاجتماعي لهذه المدينة، أن يكتشف كيف أن ثمة مشاريع عديدة ارتبطت بأشخاص، في حقول مختلفة، وقد نهضت بهم هذه المشاريع كلما شعروا بالطاقة الصادرة عن الجمرة الخفية في شهوة الحياة والتغيير المتأججة في حركة لا تكفّ عن الإنتاج. كل ذلك صادر من كون هذه المدينة، طوال تاريخها المعروف، مصدر بناء وحيوية وبوتقة أفكارٍ نابضة بالعمل، حتى إنني أميل إلى اعتبار المحرق سواد البحرين، أي مصدر حياتها، بالمعنى الواقعي حيناً، وبالمعنى المجازي غالباً.
كأنّ تلك المدينة كانت اقتراح المستقبل الإنساني بالنسبة لأجيالنا.
فهي اذن :
الأبواب المفتوحة من جهة
وورشة الأمل من جهة أخرى
وفي كلتا الحالتين كانت لحظة اكتشافي لهذه المدينة هي البرهة الشاسعة للاندماج في مشاغل الحياة وأحلامها. وأظن أن العديد من أبناء هذه المدينة سوف يشتركون معي في جانب كبير مما سأشير إليه، أو أنهم سيدركون في أعماقهم ما أعنيه.
لقد كانت أبواب المحرق مفتوحة دائماً أمام طفولتنا.
بسبب طبيعة الأحياء الشعبية التي كانت تشكل مناخاً اجتماعياً مشتركاً، سوف لن يصادف الطفل (ثم الصبي والفتى والشاب والرجل والكهل والشيخ) حدوداً فاصلة بين داره وعائلته، وبين الدور والعائلات الأخرى.
لأن ظاهرة الأبواب المفتوحة سوف أصادفها بأشكال مختلفة في تلك الصيغة الاجتماعية. فمنذ أن وعيتُ في العائلة كانت دارنا تزخر بالناس على مدار السنة تقريباً.
أولاً، لأن بيتنا كان يمثل نقطة تقاطع اجتماعي بين عائلات وفئات ومذاهب وأحياء كثيرة لظروف انسانية بالغة العمق والبساطة في نفس اللحظة.
ثانياً، بسبب وجود (حسينية) النساء التي كانت لا تكف عن العمل معظم أيام السنة. ويجتمع بها أصناف من البشر وبشتى المذاهب يشاركون في مواسمها، التي لا تتوقف، رجالاً ونساءً، وأطفالاً وكباراً، في نفس اللحظة.
ثالثاً، لأن علاقة رجال العائلة بعدد لا يحصى من أًصدقاء العمل أيام الغوص وأيام السفر للعمل في السعودية ودول الخليج الأخرى، ثم ممارسة المهن المختلفة (النجارة، القلافة، الحدادة، البناء). كل ذلك ساهم في انفتاح العائلة على دور وعائلات كثيرة كانت أبوابها مفتوحة للجميع. وكان الجميع يلتقي في دارنا في مناسبات الأفراح والأحزان وغيرهما.
في هذه الآلية الحيوية الغنية بالنماذج البشرية والمشاعر والتجارب كنت أتعرف على شبكة من علاقات البشر، وأتحسس المعنى العميق والبسيط لضرورة الفرد في المجتمع وحيوية تقاطعه مع الآخرين. فقد كان لكل فرد في الدار (مقيماً أوعابراً) دور يقوم به ويؤديه بعناية الحريص على إثبات جدارته بجانب الآخرين. وما سيساعد طفلاً مثلي على اكتشاف الحقائق الكبرى في سياق من البساطة والعمق، كون الجميع يتساوى في حرية الاتصال والمساهمة مادام جاداً، فليس هناك حجب أو حواجز تفصل بتعسف بين الرجال والنساء، وهو الأمر الذي يمنح الحياة في بيت يزخر بالحركة والعمل، مشروعية سلسلة من الرغبة في الحياة. فليس أسوأ من أن يفقد الكائن الشعور بهذه الرغبة الباهرة في الحياة، حتى أن بعضنا كان يعتبر مجرد النوم وقتاً ضائعاَ لأنه يحرم الشخص من العمل.
***
( 1 )
ترتبط تجربة تلقي التعليم في المحرق بشخصين اثنين في الكتّاب (امرأة ورجل) حيث حفظ القرآن، وثلاث مدارس رسمية (الجنوبية والشمالية ومدرسة الهداية)، ومدرسة صيفية واحدة، هي التي كان يفتحها الأستاذ عبدالله حجازي (مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة الهداية) في داره التي كانت تقع فوق قرطاسية صغيرة لبيع الدفاتر والأدوات المدرسية التي كانت مصدراً لأبناء المحرق طوال الخمسينات وبداية الستينات، وكان صاحبها (علي عبدالكريم) رحمه الله، وهو من جيراننا في حي البوخميس.
مدرسة الأستاذ حجازي الصيفية التي درستُ فيها هي عبارة عن فصلين لمادتي الحساب واللغة الإنجليزية برسوم رمزية. وأذكر أن السيدة أم وليد (زوجة الأستاذ حجازي) كانت تعد لنا في مطبخها الفلسطيني ألذ خبز بالزعتر ذقته في حياتي. السيدة أم وليد التي سرعان ما فجعت بفقد ابنها وليد، في حادث تصادم، مع صديقه غسان ابن الأستاذ فريجة المدرس في الهداية أيضاً. وكان حادثاً هزّ مشاعر أهالي المحرق آنذاك.
***
لقد كان حفظ القرآن مرحلة تأسيسية مهمة بالنسبة للطفل قبل التعليم النظامي، واستمر هذا التقليد بوصفه المزدوج: علماً للطفل وتحصيناً له أخلاقياً ولغوياً قبل انخراطه في الحياة. حيث يعتبر الكثيرون أن معرفة الإسلام، بدءاً من القرآن، واجباً دينياً قبل أن يكون رغبة دنيوية في المعرفة. وكان التسابق إلى حفظ القرآن حقلاً يحق للأهل أن يفاخروا بمن يجتاز ذلك الدرس بجدارة. فبعد الحفظ سوف يقوم الطفل بالسرد المجرد (عن ظهر قلب) لكي يؤكد حفظه وأهليته لحفل الختام وإعلانه في الناس في طقس يسمونه (الختمة).
لا اذكر أنني من الذين وفروا لأهلهم التمتع بتلك المفاخرة. لم أكن ممن يتميزون بموهبة الحفظ في أية مرحلة من حياتي. كأن الحفظ هو نقيض السليقة التي ذهبت لها حواس الطفل. فما حفظته من القرآن لم يتجاوز النصوص الأولية التي لا تصلح لأكثر من احتياجات الصلاة مع بعض الاستشهادات التي كان والدي يختبرني فيها أثناء سيري معه ذهاباً إلى السوق أو أثناء سهرات الشتاء، وكان يكتفي بأن يطلب مني الجلوس بجانبه أثناء تلاوته القرآن في ليالي رمضان خصوصاً. لم يكن الخلل في طريقة التدريس التقليدية، فقد حفظ الكثيرون القرآن بنفس الطريقة، غير أن الخلل كان يكمن في طبيعة تقبلي لفكرة الحفظ أصلاً، وأظن أن هذه الطبيعة هي التي ستستمر معي طوال الوقت، فلست ممن يحفظون النصوص، وهذا أدى، لاحقاً، إلى عدم اعتيادي على حفظ الشعر.. شعري خصوصاً.
وبالرغم من أن الجو العائلي كان مشحوناً بالقراءة والحفظ طوال السنة، إلا أن ذلك لم يؤسس عندي ميلا لتقليد من حولي. فبالاضافة إلى والدي الذي كان يواظب على ترتيل القرآن في ليالي رمضان وفي صباحات بعض المناسبات الدينية، فان عماتي (شقيقات والدي) كن يقرأن كتب قصائد و أراجيز اللطميات والرثائيات في حسينية النساء الموجودة في دارنا منذ أن وعينا على الحياة. وكنت مولعاً بالإصغاء إلى ذلك الإيقاع المشحون بالحزن والحنين الكثيف، غير أن ذلك كله، أيضاً، لم يسهم في تعويدي على قبول فكرة حفظ النصوص.
( 2 )
في المرة الأولى التي أخذتني جدتي (لوالدي) إلى درس القرآن، كنت في سن الرابعة تقريبا. وكانت المعلمة امرأة تدعى (مطوعة أمينة) وكان بيتها قريباً جداً من دارنا في فريق البوخميس. دخلتْ بي جدتي على (مطوعة أمينة) ذات صباح لكي تخبرها أن (جاسم) سوف يتعلم القرآن على يديك. وتركتني بعد دقائق سريعة لكي أجد نفسي بين أطفال الحي في عريشة مفروشة بالحصير وكتاب (جزء عَمَّ) مبسوطاً في أحضان الأطفال. وأذكر أن هذا الانتقال الكوني من أحضان نساء العائلة إلى البيت الغريب بين جمع الأطفال كان حدثاً بمثابة الصدمة التي سببت ما يشبه اللعثمة لدى الطفل الذي كنته، ولفرط الارتباك، وصدمة التجربة الجديدة، شعرت بجفاف في حلقي بحيث أحتجت إلى شرب الماء عدة مرات في ذلك الصباح.
ولهذا نصحتني المعلمة (أمينة) أن أحضر معي في اليوم التالي قنينة الماء من البيت، لتفادي تكرار القيام والجلوس لشرب الماء من الزير الفخاري المنصوب بقرب المطبخ. وقد تعودت على ذلك لاحقاً. وسرعان ما استغرقت في مشاركة الأطفال، بناتٍ وأولاداً، في تلك الحركة الآلية بأرجحة الظهر التي يعتمدها جميع الأطفال فيما هم يقتعدون الأرض ويقرأون نصوصهم المقررة بأصوات عالية تختلط إلى درجة أنك لن تدرك تماما ماذا يقرأ كل منهم بالضبط.
وأذكر أن (المطوعة أمينة) كانت في معظم الوقت تؤدي دورها التلقيني للأطفال وهي تتحرك في حوش وغرف دارها والمطبخ، منهمكة في أداء مشاغلها البيتية وهي تتابع كل ما يقرأ عن بعد، وسوف تختصر الجلوس معنا بعد الانتهاء من كل واجباتها من غسل وطبخ وتنظيف. هذه الآلية بالطبع هي ما جعل مهنة تعليم القرآن على الأرجح بمثابة العمل التطوعي الذي يمزج بين الدوافع الدينية والاجتماعية التي سوف بجري تقديرها، من قبل أهالي الأطفال، بدرجات مختلفة من المكافآت المادية الموغلة في الرمزية، فربما كانت في بعض الحالات تتمثل في النقود لكن من المحتمل أن تكون في صورة حاجيات ومواد أخرى تشي بالحس العفوي للمقايضة. ولكن تبقى الهدية الكبيرة التي ينالها معلم القرآن، وهي عبارة عن قدر من المال بعد أن يختم الطفل القرآن.
بعد الخطوة الأولى للتعرف على القراءة، في (الكتّاب)، على يدي )المطوعة أمينة(، انتقلت بعد ذلك إلى (بيت كتّاب) آخر ومعلم آخر عرفناه باسم (لحْمِدِي)- بتسكين الحاء وكسر الميم والدال- في حي (سوق الخارو) المجاور لحينا بالقرب من محطة السيارات القديمة، المعروف باسم (فريق ستيشن)، وهذا يعني أنني سأكون طوال الوقت في (بيت آخر) غير بيت العائلة. وهذا التقليد كان يشكل بالنسبة لطفل مثلي تجربة متواصلة في اكتشاف العالم خارج الدار.
( 3 )
ولكي لا أشير إلا إلى التجارب المتصلة مباشرة بطفولتي الخاصة مع مدينة المحرق، أذكر تجربة اليوم الأول في أول مدرسة في حياتي. حيث أخذتني جدتي إلى المدرسة الجنوبية (في المحرق كان وقتها مدرستان شمالية وجنوبية) وتقع خلف مسجد الشيخ حمد. وكنت في السادسة من العمر تقريباً.
ولأن تجربة اليوم الأول لطفل يبتعد عن داره كل هذه المسافة، هي بمثابة الامتحان، فقد كان الأمر طريفاً بحق. كان المفترض أن تعود جدتي لاستلامي من المدرسة في نهاية الدوام ومرافقتي في طريق العودة إلى البيت. إلا أنني كنت قد انتهزت فرصة سانحة لكي أخرج قبل سماع جرس الانصراف، واعتقدت أنني أعود إلى البيت وحدي، الأمر الذي جعلني في متاهة طوال النهار، لقد تهت عن طريق البيت. لكي تكتشفني جدتي آخر النهار في أحد بيوت المحرق، حيث دخلت تلك الدار بشكل عرضي باكياً. وكان ضياعي في يومي الأول للدرس هو بمثابة (حسن الطالع) الذي لم يفارقني، ربما حتى الآن، لأنني، لاحقاً، تركت المدرسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية، لكي تنتهي إلى الأبد علاقتي بالدراسة، دون أن يكون ذلك مدعاة فخر لأحد.
عندما تهت في الطريق إلى البيت، وجدت أبواباً كثيرة مفتوحة وكنت أعتقد (لأنني شعرت لحظتها) بأن كل دار منها هي بيتي الافتراضي. والطريف أن جدتي قد أخبرتني فيما بعد أن البيت الذي لجأت إليه، وتناولتُ الغداء مع أهله، لم يكن إلا بيت صديقة قديمة لعائلتنا.
سيبدو كلامي أكثر وضوحاً عن فكرة الأبواب المفتوحة، عندما يتذكر معي الكثيرون من أهالي المحرق، عندما كنا نسير، آنذاك، في أحياء المدينة ونصادف ظاهرة تستحيل مصادفتها الآن، فقد كانت كل أبواب البيوت، بلا استثناء، مشرعة، ومن المألوف أن ترى أهل هذه البيوت يتنقلون بحرية من بيت إلى آخر. بل إنك سوف تعرف، بعد جولة صغيرة في أحد أحياء المدينة، ماذا ستأكل كل عائلة على الغداء في ذلك اليوم. وعليك أن ترقب الحركة الرشيقة التي ستبدأ لحظة الوجبة حيث ستنتقل الأطباق جاعلة هذه الأبواب المفتوحة تزخر بالناس. ومما يجعل فكرة الأبواب المفتوحة في المحرق أكثر رحابة، استعادة تلك الجولات الجماعية أيام الأعياد، حيث يجوب الناس، جماعات وأفراداً، شوارع وأزقة المحرق، خروجاً من بيت ودخولاً في بيت آخر طوال النهار حتى المساء، لتبادل التهاني وتناول الغداء والعشاء على موائد مفتوحة اتصالاً بالأبواب المشرعة. وهو تقليد قل نظيره، وأخشى أننا لم نعد نشاهده في السنين الأخيرة، كما لو أن ثمة ملامح إنسانية هي الآن قيد الانقراض من حياتنا.
كانت أبواب المدينة مفتوحة دائماً للجميع يوم كنا أطفالاً مشغولين بالألعاب الشعبية وندخل أي دار تصادفنا.
فيما بعد سوف أكتشف هذه المدينة أكثر، وأتعرف عليها في مرحلة انخراطي في العمل المبكر، وقت كنت أشتغل "فاعلاً" في البناء، حين كانت أعمال البناء مياومة بأجرة لا تتجاوز الخمس روبيات. ففي العطل الصيفية كان كثير من أبناء جيلي يشتغلون في مهن مختلفة. وأثناء العمل كانت تجربة التعرف على فلسفة الباب المفتوح في المحرق، جعلتني أكتشف ماذا يعني، بالنسبة للأهالي، أن يكون صبيٌ في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة يشتغل عاملاً في البناء، حيث يتحول في معظم البيوت كما لو أنه جزء من العائلة.
ثم تعرفت على المحرق أيضاً عندما كنت أعمل مع والدي في دكان السمكرة الذي يصنع فيه علب الحلوى من صفائح علب التمر الكبيرة الفارغة، وقد كنت أجمعها من سوق المحرق، وأقوم بتقطيعها لتحويلها صفائح مبسوطة وأنظفها بالماء، ليعيد والدي إنتاجها مجدداً في صيغة علب للحلوى البحرينية أو في صيغة الأدوات المنزلية، ثم يضعها لي في كيس كبير من الخيش وأحملها على ظهري وأجوب بها مدينة المحرق من شمالها، حيث دكان (يوسف البلوشي) صاحب محل الحلوى المجاور لدكان (بوهيال) رحمه الله، حتى جنوب المحرق، حيث سوق (الكراشية) ودكان بائع الحلوى (بوطالب العماني) الذي كان يشترى مني بعض تلك العلب التي أحملها.
ويبقى المرحوم (حسين شويطر) في مركز سوق المحرق، (محله لا يزال في موقعه القديم بادارة ابنه فؤاد)، هو أهم من كان يشتري من والدي علب الحلوى. وفي هذه السوق الأشهر في المحرق (وأظن في البحرين أيضاً) تعرفت على المحرق بالشكل الذي ازعم بأنه صاغني روحياً واجتماعياً. لأن معرفة المدينة، بالمعنى الإنساني، من مظاهر الحضارة في حياتنا. كما أن الشخصيات الشعبية التي زخرت بها المدينة القديمة، كانت من الخصوبة والطرافة الإنسانيتين مما يجعلها تحتاج الوقت الكثير والسياق الأنسب للحديث عنها.
***
بعد تلك الفترة بسنوات، سوف نصادف أبواب المحرق مشرعة لنا مرة أخرى، أثناء صداماتنا مع شرطة (مكافحة) الشغب، في انتفاضة عام 65 من القرن الماضي، وفرارنا، متوزعين، في الطرق الداخلية للمدينة عندما كانت الشرطة تطارد المتظاهرين لتفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع، كان الأهالي، في أحياء المحرق يقفون في انتظارنا على أبواب بيوتهم المفتوحة حاملين قطع القماش المبللة بالماء ثم بحبات البصل التي كنا نقاوم بها الدخان الخانق.
أجمل من ذلك أن أبواباً (طوال النهار والليل) كانت مفتوحة لنا أيضاً أثناء العمل النضالي عندما كان بعضنا يتفادى المبيت في داره أثناء الأحداث بسبب ملاحقات رجال المخابرات. كنا نجد المجال مفتوحاً برحابة القلب لدى بيوت كثيرة لكي نقضي كل ليلة في بيت مختلف. وكانت العائلات، ومعظمها لا تعرفنا شخصياً، تهيْ لنا المبيت والطعام وتسهر علينا كما لو أننا من أبناء الدار، بتعاطف وحنان آسرين. بل إنَّ معظمهم كان يتمنى علينا أن نعود ثانية. وأذكر أن رجلاً في إحدى العائلات، جنوبي المحرق كان يبكي لأن أحدنا سوف يغادر بعد ثلاث ليال من المبيت في بيته، متهدجاً:
" الى أين تذهبون ".
لم نتمكن من وصف هذا السؤال بغير تضرع المحب.
لكن، في العمق، عندما نتأمل سؤالاً على هذه الدرجة من العفوية والصدق والحب، يمكن أن ندرك أنه كان سؤال المحرق المبكر عن مستقبل البحرين المؤجل.
غير أنه، أيضاً، سؤالٌ قد تم توجيهه لمن كان في تجربة البحث، حيث لم يكن الأفق واضحاً ولا الجواب متاحاً.
فمن يزعم، آنذاك، أننا كنا نعرف: أين كنا ذاهبين ؟
نحن الذين لا نستطيع الزعم (حتى الآن، بعد أكثر من ثلاثة عقود) معرفة طريقنا؟
( 2 )
بقي أن أقول عن المستوى المعرفي الآخر لمدينة المحرق، وهو المستوى الذي سيكون اكتشافي له بمثابة فتح الكنز لكائنات الريح.
انه البعد الحضاري لمدينة المحرق، التي أحب أن أسميها أيضاً (ورشة العمل)، التي لا تكف عن الإنتاج. وأعني به أولاً الطبيعة السوسيولوجية التي جعلت المحرق عبارة عن مجموعة أحياء متجاورة متداخلة، غالباً ما يأخذ كل حي أسم مهنة أو حرفة من الحرف اليدوية ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للناس طوال تاريخ المدينة المعروف على أقل تقدير. فمما يلفت النظر في هذه المدينة أنها اشتهرت بالمهن التي يُعرف بها عدد من أشهر أحيائها. وهو أمر أتمنى أن يتولى دراسته مختصون لكشف البنية السوسيولوجية والانثروبولوجية لمدينة المحرق، التي لا تزال أرضاً بكراً من هذه الزاوية.
ويمكنني، كمثال، الإشارة إلى أسماء أحياء (البنائين، الصاغة، الحدادة، الحياك، القلاليف.. وغيرها)، وهي أحياء كانت، بالنسبة لي شخصياً، العالم الأقرب إلى ممارسة الحياة، ليس لقربها أو تقاطعها مع حياة البيت ومعيشة الأسرة فحسب، ولكن، بوجه أخص، لكوني عملت في معظم هذه المهن والحرف اليدوية في فترات مختلفة من حياتي، وعرفت عن كثب علاقة معظم هذه المهن بالحياة اليومية للناس في مراحل نشوء هذه المدينة منذ فترة الغوص وصناعة السفن، وارتباط مهنة الحدادة مثلاُ بمهنة صناعة السفن. ثم فترة البناء حيث كان بعض أشهر البنائين في المحرق، وفريق البنائين خصوصاً، يجري الاستعانة بهم لتشييد العديد من أشهر البيوت في المحرق والمنامة والرفاع لكون هؤلاء البنائين من بين أمهر العاملين في حقل زخرفة الجبس والبناء عموماً. وأذكر بالتحديد خصوصاً (أحمد الميل) رحمه الله، الذي عرفته شخصياً بحكم الصداقة التي تربطه بوالدي، وقد أخبرني والدي أن شيوخ العائلة الحاكمة في الرفاع كانوا يطلبون (أحمد الميل) شخصياً ليشارك في بناء بيوت وقصور العائلة لخبرته المتميزة، وكان يضطر- حسب رواية الوالد- للإقامة فترات طويلة في الرفاع لإنجاز العمل، بسبب عدم تيسر المواصلات في ذلك الزمان. وفي تقديري أن الإسهام العمراني لأحمد الميل وأمثاله هو أحد مظاهر البعد التنموي الذي كان أسهم به أهالي المحرق في سياق فنون العمران كحرفة تقليدية، ليس اقتصاديا فقط، ولكن بالمعنى الفني للكلمة، خصوصاً إذا لاحظنا أن ما يجري ترميمه في السنين الأخيرة من البيوت القديمة هو بالضبط ما كان الحاج (أحمد الميل)، وأقرانه من بنائي المحرق، قد أنجزوه سابقاً.
ولعلك إذا صادفت الآن أبناء وأحفاد (الميل الكبير) ستعرفهم مباشرة بقاماتهم الفارعة التي ورثوها منه مثلما ورثوا مهارته في فن البناء. وليس من غير دلالة أن من بين أشهر الذين تستعين بهم إدارة الآثار بوزارة الإعلام لصيانة المباني القديمة في السنوات الأخيرة هو (الأستاذ علي الميل) الذي تربطني به صداقة مبكرة أيضاً وقت كنا نشارك معاً في مواكب العزاء بالمحرق وهو أشهر من قاد فرقة (الزنجيل/ ضرب الظهر بالسلاسل) في المحرق، والمشهور بقامته الفارعة، وهو نجل أحمد الميل الذي أتكلم عنه، و(علي الميل) هو من بين أكثر أبناء حي البنائين دماثة وحباً وإخلاصا للعمل، وقد أسعدني أن اشتغلت ذات مرة تحت اشرافه في البناء أوائل الستينات. في الفترة التي كنت عملت معظم الأوقات تحت اشراف الأستاذ عبدالله بن عيسى الحداد، الذي أشتهر وقتها بأسد الحدادة، ومنه تعلمت الكثير.
إنني أدين لوالدي كونه عرَّفني على كل هذه التجربة الغنية التنوع، فقد وجدت في الأشخاص الذين تعرفت عليهم كنزاً من الخبرات والأخلاق والمشاعر. تعلمت دروساً لم أصادفها في حقول معرفية أخرى. إلى درجة أنني أستطيع الآن أن أستعيد بوضوح، شبه كامل، العديد من المواقف والأشخاص كلما تعلق الأمر بتجربة أو موضوع محدد في حياتي منذ أن وعيت علاقتي بمدينة المحرق. لقد كنا عائلة واحدة بحق.
وأذكر كيف أجهشتُ في البكاء وأنا أشاهد منظراً لا أستطيع نسيانه إلى الأبد، في ذلك الصباح يوم كنت أقف على الرصيف الخارجي الجنوبي المحيط بمبنى بمدرسة الهداية، المطل على شارع المطار، وإذا بي أرى أحد البيوت على الجانب الموازي لشارع المطار المقابل لسور المدرسة، حيث كان به عمال بناء يشتغلون، ينهار قسمه الأعلى ويتصاعد صراخ العمال وهم يحاولون الفرار خارج البيت، وكان (أستاذهم) من بيت (موسى بن حمد) وهم أيضاً من المعروفين بمهنة البناء في المحرق. رأيت البيت ينهار فجأة على العمال، وكنت أعرف شخصياً بعض أولئك العمال، وقد تُوفي بعضهم تحت ركام البيت المنهار، ومن بين المتوفين في ذلك الحادث أحد أبناء (موسى بن حمد). البيت كان قديم البناء، وهو كما أذكر كان لصيقاً لبيت الفنان (أحمد الجميري) آنذاك، ويجاوره من جهة الجنوب الشرقي منزل الأستاذ (عتيق سعيد) رحمه الله المقابل لبيت (عائلة الشتي).
لقد كان حادث انهيار البيت فوق رؤوس العمال مفرط القسوة، بحيث أمضيت عدة أيام طريح الفراش مريض الروح والجسد، بسبب صدمة المشهد والواقعة، فقد شعرت جسدياً بما حدث لأشخاص أعرفهم وربما عملت معهم في العطل الصيفية. ووجدت نفسي أنهار (مثل بيتٍ آخر)، منخرطاً في بكاء مكتوم لهول الصدمة، مما جعل ادارة المدرسة يومها أن تسمح لي بالعودة إلى البيت. وكانت الحادثة قد روعت أهالي المنطقة.
بهذا المعنى أستطيع أن أقرأ الآن تلك العلاقة، وأزعم أنني أعرف مدينة المحرق على طريقتي.
( 3 )
ولكي تكتمل معرفتي بهذه المدينة الناشطة في تاريخنا الاجتماعي والسياسي الحديث، فإنَّ جانباً ثقافياً مهماً لابد من الإشارة إليه. فالامتزاج الحميم بالحياة اليومية لمدينة المحرق أتاح لي معايشة واكتشاف عبقرية التعبير الشعبي لدى أبناء هذه المدينة، فقد كنت أستمع يومياً، من والدي وجدتي، وغيرهما كثيرين، إلى عشرات التعبيرات والأقوال وخصوصاً الأمثال التي كنت ألتقطها بالحس العفوي للفتى المتعطش للمعرفة، معرفة العاطفة العفوية وليست المعرفة المنظمة، غير أنني الآن أشعر بالاكتناز الثري بقدر هائل من الأمثال والأقوال التي أجد نفسي أستخدمها عفو الخاطر في حياتي اليومية، مما يلفت الأصدقاء أحياناً، لأنهم غالباً يسمعون هذه الأمثال والأقوال لأول مرة. ولفرط جمالية دلالاتها ومقدرتها على الاختزال والذكاء والرشاقة في التعبير، يسارع بعضهم بتسجيلها. والحق أن عبقرية بناء هذه الأقوال والأمثال وبلاغتها الرشيقة البالغة الذكاء والاختزال والمكر التعبيري، هو ما يشدني لحفظها، بل والاستفادة منها في بعض البنى التعبيرية في بعض ما كتبت.
***
( 1 )
يعود اسم المحرق (كما أحب أن أذهب) إلى أحد ملوك الحيرة الذين بسطوا حكمهم على هذه المنطقة قبل الإسلام، ويدعى (المحرّق) على وزن المفعل، بتشديد وكسر العين، لاشتهاره بالتخلص من خصومه السياسيين بإحراقهم.
لا يجبر هذا التفسير أحداً، لكن ليس من اقتراح (تاريخي) أعرفه يروق لي، شعريا، غير هذا التفسير.
ربما كان في هذا نزوع متماه للاتصال بالشاعر طرفة بن العبد من عبر هذا السديم التاريخي الذي اخترقه طرفة، مثل كلمة الشعر الباهرة، عائشاً منذ ملوك الحيرة حتى حيرة الملوك، حيث ما يزال.
فمنذ أن وعيتُ في هذه المدينة شعرتُ بأنها قائمة على ما يشبه التنور الجحيمي المتواصل الالتهاب والتحول.
شعرت بالمحرق كناية عن العمل الدائب لإنجاز الشيء الغامض الذي لا يدرك أهلها كنهه طوال التاريخ. لقد بنى أهل المحرق المزيد من السفن، وفي معظم هذه السفن أبحروا في ماء هائل غير قابل للتفسير.
مجانين المحرق وشعراؤها وحدهم حاولوا تفسير البحر،
فقالوا إنه : حرب حيناً وحبر أحياناً ورحب دائما.
***
اشتهرت المحرق في عصرها الحديث بأنها العاصمة التاريخية الأولى للبحرين في الحكم الحديث. والمحرق جزيرة لم تتصل بالبر الثاني من البلاد إلا في مطلع الأربعينات بعد إقامة جسر الشيخ حمد سنة (1942). قبل ذلك الوقت كان الانتقال بينها وبين المنامة (العاصمة)، والأرخبيل الكثيف من الجزر الصغيرة، يتم بواسطة السفن والقوارب.
غلبت على حياة الناس الطبيعة البحرية بصورة جعلت المزاج الإنساني للأهالي يتصف بالصرامة والبساطة، السلاسة وحب العمل، روح الجماعة وشهوة التمرد. ومن هنا سوف تكتسب المحرق تسمية طريفة في خمسينات هذا القرن. فبعد أحداث حرب السويس والمقاومة الشهيرة لمدينة بورسعيد للجيش البريطاني، لم يجد الإنسان البسيط مديحاً لائقاً لمدينته أجمل من اسم المدينة المصرية المقاومة: (بور سعيد). المحرق هي أيضاً، مع البحرين، (ميناء) العالم. بور = ميناء.
كيف يمكننا تفسير هذا الزفير والشهيق المتبادل بين (المحرق) ملك الحيرة في ما قبل الإسلام، ومحرق النضال المتحول في راهن الوقت، وصولاً إلى حيرة الملك الصالح؟
( 2 )
ثمة النقائض على آخرها في احتدام مثل هذا التاريخ الذي لا يريد أن يذهب.
لقد تباهى (لئلا أقول تعصّب) جيلنا بمدينته وقارنها بمدينة بورسعيد لكونهما اشتركتا في مقاومة استعمار واحد هو الاستعمار البريطاني، وتولعا بقائد واحد هو جمال عبدالناصر، وخالجهما نفس الحلم: الحرية.
وهو حلم لا يزال.
أحياناً ينتابك شعور أن أهالي المحرق يتصرفون، لفرط حماسهم لجمال عبدالناصر، كما لو أنهم جزء من مدينة بورسعيد المصرية فعلاً، إخلاصا لهذا الاسم الذي طاب لهم المباهاة به. فعندما زار رئيس الوزراء البريطاني سلوين لويد في شهر مارس عام 1956 البحرين استقبلته مدينة المحرق بأسلوب لم تنسه بريطانيا ولم تغفره السلطة المحلية.
فبعد أن هبطت طائرته في مطار المحرق كان في استقباله رجال الدولة آنذاك، وكان لابد الموكب الرسمي أن يعبر جسر المحرق من خلال الشارع الوحيد الذي يمر بسوق المحرق. وعندما وصلت سيارة الضيف البريطاني في المنعطف الذي يتقاطع فيه شارع الشيخ حمد بالضبط أمام قهوة عبدالقادر، المقهى الأشهر في سوق المحرق، حيث مصطبة شرطي المرور بمظلتها الخشبية المألوفة تأخذ مكانها في وسط نقطة تلاقي الشارعين المؤدية إلى جسر المحرق. كان أهالي المحرق قد حشدوا جمعاً غاضباً للتعبير، أمام المسئول البريطاني، عن رفض الاستعمار في بلادهم، والاحتجاج على سياسة بريطانيا تجاه ثورة عبدالناصر. كان أهالي المحرق قد تسلحوا بكل ما طالته أيديهم من الأحجار والأخشاب لقذف سيارة سلوين لويد.
كنتُ في سن الثامنة في ذلك اليوم عندما أخذني (عيسى) ابن عمتي للمشاركة في الحشد، لكي يكون ذلك أول درس لي أتعلمه في الاحتجاج السياسي.
ويمكنني هنا أن أذكر أطرف أشكال التعبير عن الاحتجاج التي شارك فيها عدد كبير من العمال الذين استعدوا لهذا الاستقبال بأغرب طريقة يمكن أن تدور على البال. فقد اتفقوا على ارتداء الأحذية الجلدية المصفحة مقدماتها بالحديد التي كانت شركة النفط، آنذاك، توزعها على عمالها لتوفير السلامة أثناء العمل، خطرت هذه الفكرة على بال العمال بعد أن علموا أن لاعبي كرة القدم في المحرق سوف يرتدون أحذيتهم المشهورة وقتها (الأحذية الخاصة بلاعبي الكرة، ذات المقدمة الصلبة). كل ذلك من أجل الاشتراك معاً في رفس سيارات موكب رئيس الوزراء البريطاني بالأقدام المصفحة.
أتذكر هذه الحادثة، بالذات، ليس بسبب طرافتها فقط، ولكن خصوصاً لكوني في الثامنة من العمر، وكنت أرى الصورة بوضوح أكثر على مستوى نظر طفل يقف بين تلك الحشود ممسكاً بطرف ثوب مرافقه، ولا يرى سوى جوانب السيارات العابرة والأقدام المصفحة بالأحذية الحديدية وهي تحدث أضرارا واضحة في أجسام السيارات الفارهة، إنها صورة لا تزال ماثلة في ذاكرتي البصرية.
وعندما احتدم الحشد وراحت الجموع تتدافع، خشي عليّ ابن عمتي فرفعني عن الأرض وأوقفني على احد المقاعد المستطيلة المرصوفة بموازاة الشارع أمام مقهى عبدالقادر، مما أتاح لي رؤية أكثر وضوحاً لكل تلك الجموع التي كانت بالنسبة لطفل مثلي بمثابة التجربة الهائلة.
كان موكب السيارات يتقدم ببطء وصعوبة، ورجال الشرطة عاجزون عن صد اندفاع الجموع المنفعلة أو حماية الضيف البريطاني ومرافقيه. انه موكب يريد اجتياز منطقة غير صديقة على الإطلاق، في لحظة الذروة من أحداث 56 التي عصفت بالبحرين ووضعتها في سياقها من النضال الوطني والقومي. ومجرد اضطرار الموكب المرور بمدينة المحرق يسبب للسلطة مأزقاً غير مأمون العواقب. كأن جمهور المحرق يريد التأكيد للمسئول البريطاني أن الصعوبة التي يواجهها في عبور الشارع الرئيسي في هذه المدينة الصغيرة، هي تجربة يجب أن تذكره بصعوبة عبور مدينة بورسعيد المصرية.
ربما لم يكن ينقص أهالي المحرق آنذاك نشاط المخيلة ولا حس الدعابة السياسية، دعابة مشحونة بسخرية المواطن البسيط من الدولة الكبيرة التي كانت تستعمر بلاده. لكن من المحتمل أيضاً أن ثمة من كان يصدر عن فانتازيا الذاهب إلى سرادق العزاء مرتدياً ملابس العرس.
لقد كانت المحرق تلهو مع الخصوم السياسيين بقدر من روح الدعابة السوداء التي لا تنسى. وفي ظني أن ذلك كان يجعل من النضال الوطني، في خمسينات وستينات القرن الماضي، تاريخاً زاخراً بالمتعة المشوبة بروح التضحية دون الاكتراث بالمصالح الذاتية وحرة من الأنانية.
وقتها لم يكن الناس هناك يملكون ما يخسرونه.
حتى أن بعضهم كان يذهب إلى السجن كمن يذهب إلى بيت الدولة.
***
( 1 )
بعد الأحداث الشعبية التي شهدتها البحرين في الخمسينات والستينات، كان للمحرق دور متميز في التعبير عن مشاعرها الوطنية والقومية، ولم يكن في ذلك أية مبالغة. فقد شهدتُ أحداث الخمسينات، وشاركتُ في أحداث الستينات، وكنتُ جزءاً من رعيل كثيف التجارب التي شكلتْ (في أكثر من جيل) مشهداً، لا يزال حتى هذه اللحظة، تراثاً لا يستعاد ولا يضاهى ولا يقبل الفقد، خصوصاً بالنسبة لمن يرى الغموض العنيف الذي يذهب إليه المشهد الراهن.
في المحرق.
كان فقراء ورشة الأمل يحسنون قراءة كتاب البحر ودفاتر العذاب.
لقد كان الجميع يعمل في ذلك المرجل المنصوب في مواجهة الماء الأزرق العظيم دون أن يقوى أحد على إطفائه. ولهذا السبب، خصوصاً، يعود جانب من شعوري المبكر بالمدينة بوصفها ورشة من الفعل المستمر. فهي ليست مدينة متفجرة بشهوة النضال فحسب، ولكنها، قبل ذلك وبعده، مختبر دائم للمواهب الأدبية والثقافية والعلمية التي كانت طليعة متقدمة لفعل النضال بشتى تجلياته وتحولاته منذ بداية القرن العشرين.
عدد كبير من كتاب وأدباء ومبدعي ومثقفي ومناضلي ومصلحي وليبراليي البحرين كانوا من المحرق، أو أنهم اكتووا بلهيبها بشكل أو بآخر، لكون التجمعات والأندية الأدبية والاجتماعية كان لها مصدر، أو مصب مهم، في المحرق. وهذا ما سوف يجعل من هذه المدينة خميرة للأمل والعلم والعمل إسهاماً في مستقبل البحرين.
هذا التنور البشري يتصل أيضا بالمهنة الأشهر في حياة المحرق (مثل باقي أهل الخليج) وهو البحر، حيث الرحلات الطويلة في مصائد اللؤلؤ. ذلك العمل الذي يختصر تجربة كثيفة من عذاب لقمة العيش التي خاضها الإنسان في هذه المنطقة من العالم. لقد وعيت على معيلي الأسرة وهم يغيبون عنا فترات طويلة في رحلة الغوص التي تستغرق عدة أشهر. لقد رايتُ والدي وعمي وهما يسافران معا على سفينة واحدة، فيستغل ربان السفينة ذلك لكي يضع أحدهما مسئولاً عن الحبل الذي يغوص به شقيقه، وهذا تقليد من تقاليد الغوص، لكي يظل الأخ مسئولاً عن أخيه في حالة تعرضه للغرق أو أخطار البحر الأخرى. لقد كان عمي هو الذي ينزل الأعماق (غيص)، وأبي يمسك له الحبل (سيب).
لكن ليس هذا هو العمل الوحيد لأهل المحرق.
ففيما كانت مهنة الغوص تتقلص حتى قبل اكتشاف النفط، كانت ثمة مهن تتكشف عنها حياة هذه المدينة. فعندما أقول إنها كانت تنوراً من العمل، لم أكن صادراً من السديم التاريخي الذي اقترح علينا الاتصال بذلك التنور الذي كان ملك الحيرة يحرق خصومه فيه، ولكنني أتصل خصوصاً بالورش المتنوعة التي كانت تقوم عليها بنية مدينة المحرق، وتكوينها السوسيولوجي والاقتصادي منذ أكثر من قرنين على الأقل. ولو أن دارساً في الفكر الاجتماعي تأمل ملياً طبيعة التكوين البشري لمدينة المحرق، لكان عليه أن يقرأ لنا الدلالة التاريخية والنفسية لكون هذه المدينة لا تزال أحياؤها تسمى بأسماء عدد مختلف من المهن. وهذا ما استوقفني مبكراً، لكي يتأكد لي إلى أي حدٍّ كانت هذه المدينة تشكل نشاطاً بشرياً متنوعاً منتجاً ومساهماً في التنمية.
فأحياء المحرق المعروفة، كما قلت في مكان سابق، بأسماء مهن الناس، أزعم أنني عرفتها منذ الطفولة، عشت في معظمها، وعايشت أشهر أصحاب هذه المهن فيها. بل إنني عملت مع بعضهم في الحدادة والبناء والقلافة، في مرحلتي الطفولة والصبا.
يتميز أهالي كل واحد من هذه الأحياء بطبيعة خاصة بهم من حيث الطباع والمزاج النفسي الاجتماعي. ولكل منهم تميزه الخاص في حقله.
فشهرة صاغة المحرق، مثلاً، بصياغة الذهب والفضة، وخصوصا صناعة السيوف وتزيينها، جعل شيوخ العائلة الحاكمة يقصدون ورشة (أحمد الصايغ) الملحقة بمجلس داره بحي الصاغة، أو يطلبونه للحضور إلى مجالسهم، لكي يوفر لهم ما يحتاجونه من السيوف والخناجر التي كان اقتناؤها مظهراً من مظاهر هيبة الحكم وزينة الملبس.
ولكي لا اذكر، نموذجاً، غير من عرفتهم عن قرب، فلا أزال أذكر سوق القيصرية كأنه الآن. دكانة (بوخماس) الصغيرة الشهيرة تتصدر قاع السوق من جهة الجنوب، وفي المدخل الشمالي لسوق القيصرية دكان (عابد الحواج) يقابله بالضبط (عبدعلي الحواج) في المدخل الشمالي للسوق. وفي الجانب الغربي من خارج القيصرية دكان (حسين شويطر) صاحب أشهر محل لصناعة الحلوى البحرينية آنذاك، حيث كنت أزوده بعلب الصفيح التي كان والدي يشتهر بصناعتها، قبل العلب البلاستيكية الحالية.
كل هؤلاء، وغيرهم كثيرون في سوق القيصرية وما جاورها، كانوا أصدقاء لوالدي.
( 2 )
ولم يكن العمل في مرحلة الطفولة فقط هو ما أتاح لي التعرف على المدينة، فقد استمر العمل أيضا في مرحلة الصبا والشباب أيضا. ففي العطل الصيفية خلال المرحلة الابتدائية والثانوية، كانت الظروف تستدعي أن أعمل في مهن كثيرة من أجل مساعدة الوالد في عبء الحياة.
لقد اشتغلت عاملا مع النجارين، وصبياً في أحد دكاكين سوق القيصرية، ومنادياً على باصات النقل الخشبية (محرق/ منامة)، وعملت ملاحظاً لماكينة الحفر (عطشجي)، وصباغاً وعاملاً في الحفريات. لكن المهنة الأشهر والأكثر استغراقاً زمنياً، وخبرة أيضا، هي (الفاعل) عامل البناء (ما يسمونه بعامية ذلك الوقت- الكولي، وهي كلمة هندية). وهي مهنة طافت بي مدينة المحرق (ومدينة الحد) من شمالها حتى جنوبها، حيث عملت في عدد كبير من البيوت، لا أزال إذا مررت بها أتذكر تفاصيل الأيام التي عملت فيها.
عملي في البناء ساهم في تعرفي العميق والمبكر على مدينة المحرق، التي كانت حتى الستينات لا تزال تحافظ على طبيعتها العمرانية التقليدية. وكنت أثناء تلك السنوات أعيش في المحرق كما لو أنني أعيش في داري الخاصة. كانت بساطة البشر في المحرق طاغية إلى الدرجة التي تتيح لكل شخص أن يشعر بالحميمية والحب بلا تكلف ولا مجاملات، فلم تكن الصداقة الانسانية تحتاج لأسباب.
ولعلي لن أنسى موقفا فائق الدلالة على تلك الروح الشعبية الموغلة في الناس، ففي أثناء أحداث العام 1965، خلال الانتفاضة الوطنية، والمطاردات الليلية، كان معظم الشباب لا ينام في داره بسبب مداهمات المخابرات. وقد صادف أنني كنت أبحث مع بعض الرفاق ترتيب مكان للمبيت، لنكتشف أن عدداً من الأهالي يعرضون (بطرق اتصال مختلفة) استضافة المناضلين في دورهم. وكان ذلك يحدث بعفوية خالصة، ويحدث أحياناً أن يدخل كل منا أقرب بيت يصادفه في حالة المطاردات التي كانت تحدث بدون سابق ترتيب.
ذات ليلة طرقت باباً (لا أزال أذكر موقعه) طالباً الدخول، وبعد أن دخلت، وفيما كانت العائلة تهيئ لي مكاناً للنوم، اكتشفناً معاً بأنني كنت في هذا البيت في وقت مضى. فهذا بيت اشتغلت فيه كعامل بناء قبل سنوات، وتعرفت على العائلة التي فوجئت بضيفها تلك الليلة. أذكر ليلتها، أن أحداً من العائلة لم ينم، فقد استمرت السهرة النادرة في الحديث الحميم حتى الفجر.
لا أستطيع الفصل بين المدينة وتاريخها السياسي، ثم بينها وبين تاريخي الشخصي في هذا الحقل. إن فكرة (العمل) كأسطورة وواقع، هو ما يرتبط عندي بمدينة المحرق. لقد تعلمتُ جدية العمل من اثنين: والدي ومدينة المحرق.
حالة التنور التي أشرت إليها في البداية والتي رافقتني طوال حياتي بأشكال مختلفة، هي مجازية حينا (مرارة الفقر، تجربة النضال والاعتقال، لذَّة الكتابة) وواقعية حيناً، حيث كان التنور حاضرا أثناء العمل مع والدي في ورشة الحدادة، وفي بعض المهن الأخرى التي تناوبت على جسد الصبي الغض الذي كنته.
لقد كنت مع مدينة المحرق في تنور واحد، في فعل مستمر متواصل، نتبادل الأدوار حينا، ونكتشف علاقتنا المشتركة بالمكان والزمان حينا آخر.
أشعر بالحنين الجريح لتلك الأمكنة. في السنوات الأخيرة، كثيرا ما أترك كل شيئ، وأذهب إلى المحرق (كأنها بعيدة الآن)، لكي أتمشى في الأسواق والطرقات، مستعيداً جذوة الشغل التي أشعلتني منذ الطفولة في تلك الأزقة والأحياء والأسواق، أستعيد السديم الغامض الذي يربط بين أحلامي الأولى، وبين خطوات والدي السريعة وهو يذرع المسافة الأسطورية بين بيتنا ودكانته في سوق المحرق القديم، وأنا ألهث خلفه بخطوات صغيرة محاولا اللحاق به، أستعيد تلك الرائحة المشبوبة التي تفوح في سوق القيصرية في مزيج لا نهائي من الأخلاط الزيتية والنباتية، والعطور المكبوتة كأنها تشي بعشاق يتماهون مع ظلال الطرقات المتربة الحارة. أستعيد المعنى الخفي الذي كان يذهب إليه الطفل (المأخوذ بفكرة الكتابة)، أبحث عن الفتى المذهول أمام أول منجد للغة العربية يشتريه.
لا أزال أحمل للمحرق تلك الرغبة الحميمة في الهجاء، لفرط شعوري بأن المديح لم يعد يليق بالمدن التي نبتعد عنها دون أن نقوى على نسيانها.
إن أحداً من أبناء المحرق لا يستطيع أن يتحدث عنها بصيغة المضارع، حتى أولئك الذين لم يغادروها بعد. لقد تعرضت المحرق، مثل غيرها من مناطق البحرين، للعقاب، ربما لأنها بالغت تاريخياً في إعلان خروجياتها، وتمردها على إدارة السلطة (في البحرين كانوا يسمون مركز الشرطة: الإدارة)، فلم تغفر لها سلطة الإدارة العليا ذلك، فعوقبت بالإهمال عن التعمير والتنمية لحقب طويلة (نموذجاً لعقاب أكثر شمولاً، طال الأرض بمن عليها)، بصورة تكاد تكون ضرباً من تبادل الضغائن بين الجغرافيا والتاريخ. ورغم ذلك فإنها لم تتوقف عن الحلم والعمل.
العمل، الذي كان هو وردة المحرق المتألقة طوال تاريخها المعروف.
وإذا هي بالغتْ أحيانا في (العمل) وتفجرت فيها تجربة المعاناة في شكل من أشكال البوح الأدبي حيناً، والاحتجاج السياسي حينا آخر، فذلك لأنها كانت البنت المدللة للبحر الذي يحيط بها مثل خاتم عرس مؤجل.
مزاجها العاصف الأليف يضاعف من اتصالها بالتاريخ الشخصي لكل فرد من أبنائها. وحديثي عنها يمكن أن يتكرر (بتفاوت في الدرجة والنوع) عند غير شخص، من المؤكد أنه سوف يصدر من الشعور نفسه الذي ينتاب العاشق، وهو يقف على الساحل، فيما يرقب زورق الحبيبة ينساب مغادراً مبتعداً في البحر.
كأننا نرى إلى مدينة كانت لنا، منحتها لنا أسطورة البحر، ويبدو أن البحر راح يأخذ المدينة من كل واحد منا بأشكال مختلفة يوماً بعد يوم، من غير أن نقوى على الحيلولة دون ذلك.
المحرق التي كنا نعرفها موجودة هي الآن في احتمالين:
ذاكرة التاريخ، أو مخيلة المستقبل.
***
( 1 )
قلت، ان حاجات الحياة وانخراطي المبكر مع والدي في دكانة الحدادة والسمكرة، تتطلب مني أن اذرع مدينة المحرق من جنوبها حتى شمالها، حاملا مصنوعات والدي من علب الصفيح، وأدوات المطبخ الشعبية في كيس كبير من الخيش على كتفي، لكي أبيعه على محلات الحلوى الشعبية. اذا كان ذلك العمل قد أتاح لي أن أعرف أسواق المحرق وأحياءها ودكاكينها وشخصياتها، فهو أيضاً هيأ لي أن أعرف مجانين المدينة الذين أخذ اللطف بألبابهم حتى صاروا على درجة من العقل، يفتقدها الملائكة العقلاء.
فالمحرق هي أيضاً جنة الجنون.
على أن لا ينظر إلى هذا التعبير بوصفه قدحاً، فالجنة هي (في دلالة الشعر) الفضاء الذي يمنح الشخص شيئين: الحب والحرية.
تخيلوا إذن كيف كان المجانين في المحرق هم بهجة المدينة.
فانهم لم يكونوا ملوك المحرق فقط، ولكن أيضاً يملكون ألبابنا ويأخذون بشغاف قلوبنا. فمن منا لم يكن مولعاً بواحد أو أكثر من تلك الشخصيات ذات الصيت الغامض من شطح الفعل وفرادة التفكير. أقول (التفكير) دون أي قلق من تناقض دلالات هذه الكلمة مع حال من يوصف بالجنون. فالتناقض والمفارقات ليست هنا، لكنها هناك، في الحياة، حيث شخص الكائن مدعي العقل دون أن يعقل.
( 2 )
حتى نهاية الستينات في المحرق، حين تذكر شخصاً، قارناً اسمه بوصف الجنون، فأنت لا ترتكب خطأ أو خطيئة ولا إساءة. إنها جملة الخبر العادية. كأن تقول أن فلاناً ركب الحافلة المتجهة إلى المنامة. لكن ليس من المتوقع بالطبع أن تلك الحافلة ستأخذه إلى المنامة على وجه التحديد. فالمجنون لا يذهب إلى المدن التي نذهب إليها نحن البشر العاديون.
من هنا صار لشخصية المجنون في مدينتنا دلالة أليفة ومكتنزة بالمحبة، ومشوبة بالحكمة الغامضة.
في حياتنا الشعبية، الدرس لا يأتي من العقلاء فقط، ولكن ربما سوف يستنبط من المجانين.
( 3 )
في المحرق تعلمت التعامل مع الناس بملامسة الروح البسيط والعميق فيهم.
عند العرب، يقال عن الأعور (كريم العين)، وهو تعبير يشفّ عن درجة متقدمة من اللطف المرهف والحس اليقظ، الذي يتفادى القول المباشر المحمل بالوصف الجارح، وفي هذا ضرب من الأدب، بمعناه الأخلاقي ثم الفني معاً. وأخذت الذائقة الشعبية عندنا هذا التعبير ليصبح متداولاً في تعاطي الشأن الاجتماعي. وقد تميزت الذائقة الشعبية عندنا بابتكار دلالات غاية في الظرف والطرافة، ينزع معظمها نحو تفادي المسّ بمشاعر الآخرين.
يذكر الكثيرون معي تعبيراً شعبياً ظريفاً كان يقال عندما يجري الكلام عن شخص مصاب بمرض نفسي أو عصبي، مما يجعل تصرفاته وتقديره للأمور ليست كما ينبغي. حيث يقال: أن هذا الشخص ( لك عليه).
فعندما تجد نفسك في موقف اللوم والمؤاخذة على شخص ترى أنه وقع في سوء التصرف أو الخطأ تجاهك وأوشكت على التصدي له، ستجد من يأتيك لكي يحول دون توغلك في مؤاخذة غريمك، لكونك تجهل طبيعة ذلك الغريم. فسوف يقال لك من باب تهوين الأمر وتطيّّب الخاطر وتفادي سوء الفهم أو الخلاف، يميل بك الطرف الثالث هامساً في إذنك:
(وسّع الصدر يا الطيب، أنت على صواب، بس الأخ مثل ما أنت شايف، لك عليه).
عادة، ما أن تسمع هذا التعبير حتى يتضح الأمر.
فكلمة (لك عليه) تعني، فيما تعني، أنه لابد أن يكون عقلك أرجح منه، وبالتالي فأنت مدين له ببعض العقل. ويحق لك دين عليه، وهو بطبيعة الحال دين مؤجل، لا يستدعي في مثل هذا الموقف سوى التسامح ورحابة القلب. والطريف أن بعض محاولات تفادي الإشكال، قد لا تنجح وقد لا تمر بسلام. فما إن يسمع الآخر، أي الطرف المعني، كلمة (لك عليه) حتى يعتبر ذلك إهانة غير مقبولة:
(ماذا تعني؟ أنا مجنون؟!).
وعندها نستطيع أن نلامس البعد الدلالي لذلك التعبير، فهو في حقيقة الأمر، قول يدل على أن ثمة شخصاً لا ينبغي أن نؤاخذه لعدم جواز اللوم عليه، لاتصاله بمن لا يطالهم الحرج. وبقي أن يكون الحضور قادرين على معالجة الأمر دون الوقوع في محذور شعور أي طرف بالإهانة، ومن المتوقع أن لا يكون الأمر سهلاً، خصوصاً إذا صادف أن الشخص الذي (لا يجوز مؤاخذته لعلة في قدرته العقلية) يبالغ في المكابرة.
( 4 )
في سوق المحرق، تعلمت، في مثل هذه المواقف، كيف يمكن أن يشعر الشخص بما يختلج في داخل الآخر دون الحاجة إلى الكلام. ففي زحمة السوق وحركة العمل لن يكون الوقت كافياً للشرح والتفسير. فالمشاعر بين كائنات المحرق في لحظات الانهماك تكون من الرهافة بحيث يمكنك معايشة مشهد قل مثيله هذه الأيام.
فما أن ينشأ احتكاك بين اثنين ويتفجر الانفعال وتعلو الأصوات، حتى ترى البشر يهبون تاركين دكاكينهم ومجالسهم، مسارعين، ليبادر كل منهم يحتضن أحد المشتبكين ويبدأ في تهدئته وتطييب خاطره بل وتقبيل رأسه، حتى قبل أن يتبينوا سبب الخلاف أو سماع القصة. الاهتمام يذهب مباشرة وبلا تردد إلى تهدئة الخلاف والابتعاد بالطرفين إلى مكان هادئ، يحضرون له الماء و(استكانة) فنجان الشاي. بحيث يخرجونه من حالة الغيظ. وما إن تمضي دقائق قليلة حتى يحضر أحد الطرفين (ربما ليسبق الآخر) ويبدأ في التصالح والمعانقة.
ويستعيد الطرفان حياتهما الطبيعية.
بمثل هذا الجو من العلاقات سوف تجد أمامك في أسواق المحرق كائنات تنضح بحب العمل والحرص على تحصين هذا العمل بشتى أشكال المحبة والمشاعر الطيبة.
كلامي هذا ليس حكماً ناجزاً يجعل المحرق مجتمعاً مثالياً، على الإطلاق.
لكنني أشير خصوصاً الى سياق ملحوظ كنت عاصرته في أسواق المحرق، ولا يصعب ملاحظة حضوره عندما تذكر أسواق البحرين الأخرى.
هناك، كل المجانين بشخصياتهم الأليفة سوف يتم الترحيب بهم على المقاعد الخشبية المستطيلة لمقاهي السوق، مقهى عبدالقادر التاريخية، ومقهى بوطبنيه فيما بعد، (شمالي سوق اللحم القديم). أتذكر جيداً كيف أن " ازكرتية" المحرق وبحارتها المتقاعدين وعمالها وموظفيها وكتيبة لا بأس بها من مجانينها كانوا يشكلون مجتمعاً بالغ التنوع والتلاحم في نفس الوقت، وإذا تعرض أحدهم لضيم أو حيف هبوا لمد العون له.
هناك، لم يكن جلوس مجانين المحرق على تلك المقاهي وتبادل (استكانات) الشاي والأحاديث مع الآخرين حضوراً مستهجناً، على العكس فمعظم رواد المقاهي هم من أصدقاء هؤلاء المجانين في الحي أو العمل أو المدرسة. لقد كانوا كائنات أليفة بيننا. ولا نكاد نعرف بالضبط أينا المجنون لكي نصغي إلى حكمته.
( 5 )
هناك، ما إن تجد نفسك في موقف اشتباك حميم بين اثنين، عليك أن تكون ألمعياً بدرجة تسعفك على التبكير في إدراك الموقف وتدارك الأمر، دون الإلحاح على التفاصيل. أما إذا كان أحد الأطراف (لك عليه)، فعند توقفك للاستفسار عن الأمر سيختصر عليك أحدهم الشرح ويقول لك:
- هذا الشخص روبيته ليست ( 16 آنه) .
عندها لابد لك أن تعرف بأن الشخص المقصود يعاني من بعض المشاكل العقلية أو الذهنية. لئلا يضطر الحضور، لحظتها، للجهر بجنون الشخص أكثر مما ينبغي. والذين يذكرون زمن الروبية الهندية يعرفون أن هذا المصطلح أصبح واحداً من أشهر العلامات اللغوية الدالة في تراث حياتنا الشعبية اليومية. ولا بد لنا أن نستحضر القيمة النقدية للروبية الهندية، بوحداتها التكوينية الصغيرة، لنعرف أنها كانت عبارة عن (الروبية = 16 آنه = الآنه 10 بيسات). وحسب التقدير الشعبي للأشياء ستكون الروبية مقياساً قابلاً لكثير من المقاربات الحياتية التي تستدعي استخدام الكنايات والدلالات الإشارية، تفادياً للمواقف المحرجة التي يمكن أن تترتب على تسمية الأشياء بنصها الواضح، مادام الأمر يحتمل الابتعاد عن ذلك.
وأذكر أنني حضرت موقفاً سمعت فيه أحدهم يؤكد على أن روبية فلان (مثقوبة)، لئلا يجهر بعدم أهليته للثقة، وإنه شخص لا يعول عليه، وإن كل هذا معروف وواضح ومؤكد مثل الروبية الصحيحة، والذي يضع ثقته في شخص مثل هذا سيكون كمن يقبل روبية مثقوبة.
تذكرت حكاية الروبية، التي غالباً ما أصبحت أقل من ( 16 آنه) منذ ذلك الوقت، وما زلت أصادف، في الهزيع الأخير من العمر، مواقف تمتحن مقدار العقل الذي نتمتع به، قياساً لروبية ذلك الوقت. سنصادف أكثرنا يزعم الحكمة والعقل والفلسفة أحياناً. وكلما سألت شخصاً عن عدد الآنات في روبيته، أكد أنها مئة فلس، دون أن يدرك أن المقياس هو الروبية القديمة، لأن الـ( 16 آنه) أكثر بركة من المئة فلس، التي ما أن تصفّ سيارتك وتضع مئة فلسك في عدّاد موقف السيارات، حتى يلتفت لك رجل المرور معلناً أن الوقت قد انتهى منذ نصف ساعة (؟!).
يبدو أن الروبية الهندية كانت مقياساً دقيقاً لعقلنا طوال اليوم. وأقصد باليوم: (الآن)، حيث سيكون علينا مراجعة أنفسنا ثلاث أو أربع مرات في اليوم، للتيقن من عدد الآنات في روبيتنا.
وإزاء الحكماء بيننا خصوصاً ينبغي أن نكون أكثر حذراً.
فإنني أعرف (الآن) حكيماً محرقياً مشهوراً، بالغ الادعاء، لا تستطيع أن تقدّر روبيته بأكثر من تسع آنات بقياس كل الأزمان. الأمر الذي يجعلك تبجّل مجانين المحرق راكعاً لهم حتى تلامس رأسك الأرض لفرط عقلهم الراجح، لأنهم كانوا يمنحوننا دروس الحياة في أزقة المحرق بدون أي ادعاء.
فمن بين أولئك أشخاص تقدر أن تزن الذهب بعقلهم والحب بقلبهم.
( 6 )
في لسان العرب:
جنَّ الشيء يجنّه جنّاً: سَتَرَه. وكل شيء سُتِرَ عنكَ فقد جُنّ عنك. وسُميَ الجنينُ لاستتاره في بطن أمه. وجنَّ الليل : شدة ظلمته وادلهامه. والجنين، بالفتح، هو القبر لستره الميت. والجنين أيضاً، الكفن لذلك. والجنان، بالفتح: القلب، لاستتاره في الصدر. وربما سُميَ الروحُ جناناً لأن الجسم يجنّه. والجنين: الولد ما دام في بطن أمه لاستتاره فيه. وقيل: كل مستور جنين. الجنان: الأمر الخفي. وأجننُ الشيء في صدري أي أكننته. والجنة: الدرع، وكل ما وقاكَ جنّة. الجان: ضرب من الحيات أكحل العينين يضرب إلى الصفرة. لا يؤذي. وهو كثير في بيوت الناس. وفي الحديث: إنه نهى عن قتل الجنان، وهي الحيات التي تكون في البيوت. وفي حديث الحسن: لو أصاب ابن آدم في كل شيء جُنَّ، أي أُعجب بنفسه حتى يصير كالمجنون من شدة إعجابه. أرض مجنونة: معشبة لم يرعها أحد. يقال للنخل المرتفع طولاً مجنونٌ.
****
في الخليج الصغير الذي تحتضنه انحناءة حنونة من ساحل المحرق مطلاً على قرية (عراد) المحاذية لمدينة الحد التي تطل على البحر. في هذا الخليج صادفنا منذ وعينا، في طفولتنا، زرقة أليفة، عميقة، شاسعة، هي، بمقياس طاقة الطفل، بمثابة المحيط الفسيح القادر على تنشيط الخيال الغض.
في شرفة هذا الخليج كان بامكان العين المجردة، لشخص يقف على الساحل الشرقي للمحرق، مشاهدة الشريط الأخضر الرشيق المنساب على ساحل عراد الجنوبي المقابل لمدينة المحرق. و(عراد) القرية الصغيرة المطلة على الماء الأزرق من شرفة مدينة (الحد)، هي واحدة من أخصب بقاع الجزيرة وأكثرها ثراء بالماء العذب، وتعتبر مصيفاً متميزاً لبعض العائلات لقضاء فترة القيظ في أكواخ السعف المنتشرة بين مزارع وساحل البحر. وقد أخذت (عراد) اسمها من تاريخ البحرين القديم حيث كان من بين أسماء البحرين القديمة هو (أرادوس).
والذين يتذكرون تلك السنوات لن تفوتهم ما اشتهر به ذلك الخليج الصغير المشهور ب(دوحة عراد)، الذي كان يشتهر بألذ أسماك (الصافي) الذي كان يشكل واحدة من أجمل وجبات أهالي البحرين، في الموسم الذي تزدهر فيه مصائد (خور عراد) بأعشابه البحرية الطيبة المذاق لسمك الصافي، إلى حد أن هناك من كان ينقل كميات من تلك الأعشاب البحرية في موسمها، على ظهور الدواب إلى مناطق مختلفة من المحرق، لإعادة طرحه في أقفاص الصيد (القراقير) ومصائد السمك (الحظور) في الجانب الثاني من بحر المحرق.
كانت قناديل الطفولة ترى في النهار أكثر وضوحاً من الليل.
فعندما نقف على ساحل (حي البوخميس) كنا نلمح تلك الزرقة الغامضة اللانهائية التي تمخرها السفن الصغيرة وقوارب الصيد مشمولة برغبات وأحلام البشر المأخوذين بالبحر، فليس من المتوقع أن نصدق أن الساحل الذي ندركه بأبصارنا يمكن أن يكون متاحاً لنا خارج تلك الأحلام. فلكي تصل إلى (الحد) أو (عراد) ستحتاج إلى رحلة في سيارة تضاهي رحلة الذهاب إلى المنامة العاصمة. وكنا نسمع أن كثيراً من بائعي الخضروات المتجولين على البغال يقدمون يومياً من (عراد)، وبعضهم سوف ينتهز فترة الجزر ليختصر المسافة بين الساحلين عابراً البحر بالتفاف خفيف يوازي قوس الخليج الصغير، لئلا يضطر لقطع مسافة أبعد على اليابسة التي تطوف بالقوس الواسع بين (عراد) و شرق المحرق. غير أننا كنا نسمع أيضاً أن ثمة وسيلة لقطع المسافة بين الساحلين عن طريق السفر بحراً. وهي تجربة جديرة بالاستعادة لأنها كانت من بين أجمل الملامح الاجتماعية لجغرافية المحرق.
كانت أول تجربة اكتشفُ فيها دور الشخص في السفر الجماعي، هي عندما ركبت للمرة الأولى قارباً صغيراً نقلنا من ساحل المحرق الشرقي، عند حي الظاعن، إلى ساحل (عراد) الجنوبي. فيما يسمى وقتها ب(العبرة). والعبرة (بفتح العين وتسكين الباء) هي ذلك القارب الشراعي الصغير الذي لا يتجاوز عدد ركابه خمسة على أكبر تقدير. وتسمية ذلك القارب ب(العبرة) كما هو واضح لغوياً من عملية العبور بين الساحلين. غير أن الرشاقة اللغوية هنا سوف تجمع في تسمية العبرة بين وسيلة العبور، وهو القارب، وعملية العبور نفسها، وهي آلية لغوية سوف لن يتوقف الخيال الشعبي عن ابتكارها. ويتوضح ما أشير إليه من وصفهم للشخص الذي يركب القارب (والحافلة فيما بعد) بأنه (عبري)، عطفاً على فعل العبور و(العبرة) في نفس اللحظة. العبري هنا تعني بالضبط الراكب.
ويبدو أن مهنة نقل الركاب بين ساحلي (عراد) والمحرق هي من بواقي نفس المهنة التي كانت الوسيلة الوحيدة للانتقال من جزيرة المحرق (وقت كانت جزيرة وحدها) وجزيرة المنامة (يوم كانت جزيرة كلها) قبل بناء جسر الشيخ حمد في بداية الأربعينات.
أذكر أنني قلتُ ذات نص:
طوبى لمن يرى البحر من بيته.
لقد كان البحر يحيط بنا من كل جانب.
وكنا نتعلم منه درساً في الألوان منذ أن لامست أحداقنا زرقته الفاتنة.
فليس أجمل من البحر إلا الذهاب إليه.
كمن يريد أن يعلن عن مغادرته الطفولة الى مرحلة الصبا، إذا لم نقل الفتوة. فليس حدثاً عابراً أن (يسافر) طفل خارج بيته في المحرق إلى المكان الغريب. وبين المحرق وعراد مسافة الكواكب والمجرات، أو هي المسافة بين الطفل والفتى.
لقد كانت دقائق لا تتجاوز الخمسة وأربعين تحتاجها الرحلة لعبور خور عراد. لكن كيف يمكننا تصور أن هذه الدقائق التي كانت تفصل جزيرة المحرق عن جزيرة عراد، ستكون، بتقدير تلك السنوات، بمثابة السفر الممزوج بنزهة لا تخلو من مغامرة. ومغامرتنا في ذلك العمر سوف تأخذ أشكالاً مختلفة. غير أنها ستكون في المرة الأولى للذهاب إلى البحر عندما قررنا التسرب من المدرسة ذات صباح قائظ، بزعم الانتقال إلى الضفة الأخرى من العالم، إلى ذلك الشريط الأخضر الكثيف على ساحل (عراد)، مختارين ركوب تلك (العبرة) لكي نقضي يومنا حتى الظهر في المزارع المشحونة بما لذ وطاب من الخضروات وفاكهة البطيخ البحريني الشهير. وكان علينا التضحية بمصروفنا اليومي الذي لا يتجاوز وقتها خمسين فلساً، لكي ندفعها أجرة العبرة وهي عشرة فلوس تقريباً، والباقي لرغيف الخبز نشتريه من الخباز في أطراف المحرق قبل ركوبنا القارب.
القارب الذي ركبته لأول مرة في حياتي، كان مع أصدقاء الحي، أصحاب فكرة الغياب من الدرس إلى مزارع عراد، أذكر منهم (عبدالله إدريس ياقوت وإبراهيم الصاحب ومحمد الجفيري) فقد زينوا لي تلك المغامرة التي سوف أجرب فيها للمرة الأولى البحر الغامض.
وبعد أن خضنا بضع خطوات في ماء الساحل لكي نصل إلى القارب، صعدنا وبدأت الخشبة الصغيرة تنساب بنا في رفق إلى داخل الخور. وكنت أضع رأسي على حافة القارب محملقاً في الأسفل لكي أرى قاع البحر القريب جدا والمح الرمل الأبيض الذي أكاد ألمسه بيدي لفرط قربه من سطح الماء. وكلما تقدم القارب في البحر ابتعدت عن ناظري تضاريس الأعماق.
لقد كان المنظر مدهشاً إلى درجة أنني لا أنساه أبدا. لقد كنت أرى الأسماك في الأسفل تتحرك بخفة ورشاقة، كأنها تدرك أن عيناً ترقبها فتروح تبالغ في رشاقتها وحيويتها كمن يباهي بنعمة البحر أمام طفل ينزل البحر للمرة الأولى. كانت كائنات البحر أليفة أكاد الثمها ببصري لفرط قربها. كانت القواقع تنساب بين الصخور الملساء المغروسة مثل نياشين في قطيفة فضية تشع. والأسماك بأحجامها الصغيرة والمتوسطة وبألوانها التي لا تحصى تتراقص في صفحة الرمل الناعم مثل سرير ملائكة يمرحون. وثمة سرطانات صغيرة وردية اللون تلوح بأطرافها حيناً وتطارد حشرات مائية سرعان ما تتماهى مع الرمل والصخر والأعشاب وأسراب القواقع المذعورة. أحملق كمن ينظر في زجاجة كبيرة زاخرة ببحر صغير بشتى كائناته.
هذا بحر يداعب مخلوقاته ويمنحها لوناً جديداً في كل لحظة، مثل أب يأخذ أطفاله إلى النزهة. كان البحر من النقاء بحيث كنت أشعر كأن كل تلك المخلوقات سابحة في فضاء وليست غارقة في ماء.
رأيت سجادة القاع تنساب تحت القارب مثل ساحة اللعب في الدار وفي تلك المخلوقات النشيطة كائنات جاءت تواً لكي تؤنس وحشتي في غربة خارج البيت.
كان الطفل يتشبث بالحلم والفتى يتفلت من الواقع.
وكنت بينهما أمسك بالجمال من أطرافه.
لم يخرجني من ذلك الحلم إلا صوت أحدهم ينبهني بأن عليَّ الآن المشاركة في نزف (الجمة).
في رحلة باهرة مثل هذه سوف بكتشف الصبي لأول مرة دور الشخص في السفر الجماعي:
نزف (الجمة) بفتح الجيم وتشديد الميم، والجيم هنا سوف تُقلب دائما إلى ياء لتكون (اليمّة). والجمة هي ما يتجمع من رشح ماء البحر في قاع القارب أثناء عملية النضح الفعال، مما يستدعي طوال مدة الإبحار القيام بالنزف المتواصل للماء بعلبة صفيح فارغة وتفريغه في البحر. وهي عملية سوف يتناوب عليها جميع الركاب بالتوالي مساهمة منهم في مساعدة صاحب القارب الذي سيكون مشغولاً بقيادة قاربه ورفع الشراع وتوجيهه، ولا يجوز لأحد أن يتخلف عن المساهمة في (نزف الجمة).
تلك المغامرة الأولى خارج البيت والمدرسة، هي واحدة من بين أبكر المغامرات التي كانت تستعصي على النسيان لفرط ندرتها وخطورتها. فأنا أولا سوف أتغيب عن المدرسة، ثم أنني، ثانيا، سوف أعبر الخور بين المحرق وعراد. وهذا العمل، بقياس ذلك الوقت، هو بمثابة السفر، خصوصاً بالنسبة لصبي في سن العاشرة أو الحادية عشرة. وسيضاف إلى هذا أنني سوف أكون شريكاً في سرقة بعض البطيخ من أحد المزارع في عراد، وهو ما لم أكن أعلم أنه من تقليد تلك المغامرات التي اعتادت عليه الرفقة الخيرة.
لقد كان الهدف الذي سيذهب إليه الصبية الأربعة هو بركة السباحة التي تتوسط أحد الحقول الخضراء التي كانت عراد تتميز بها في تلك الفترة. وبسبب حرارة القيظ كانت الفكرة أن نقضي بعض الوقت في تلك البركة، (وهي على شكل حوض إسمنتي متوسط الحجم) في غفلة من الفلاح الذي ينشغل غالباً في أطراف الحقل. وبعد أن أمضينا ما يقارب الساعة في السباحة وبدأ الجوع يتسرب إلينا أخذنا نأكل من الأرغفة التي حملناها معنا من المحرق، ولكن محمد الجفيري اقترح أن نجرب طعم البطيخ الذي كان يلوح لنا عن كثب بلونه الوردي في ارض الحقل على مقربة من حوض السباحة. وراق الاقتراح لنا فخرجنا من الحوض وملابسنا الداخلية ترشح بالماء متجهين إلى حقل البطيخ.
وما إن انحنينا لكي نقطع البطيخ من شجيرته حتى سمعنا صرخة الفلاح في طرف الحقل منذراً مهدداً، شاهراً منجله المصقول في الريح. تلك الريح التي لم تسعفنا ونحن نحاول الهرب من الفلاح الذي بدأ في الركض نحونا برشاقة قافزاً بين الشجيرات والقنوات الصغيرة، فأسرعنا بالهرب باضطراب على نحو عشوائي وأخرق يفتقر إلى الرشاقة، لأننا رحنا نخبط على الأرض بأقدامنا المذعورة معطبين شجيرات البطيخ وحقول الخضروات الأخرى، الأمر الذي ضاعف من غضب وفزع الفلاح المسكين الذي كان يرى ثمرات جهده وتعبه عرضة للتلف الوحشي، من صبية لم يكتفوا بمتعة السباحة في المزرعة ولكنهم راحوا يسرقون البطيخ ثم يعيثون فساداً في خضرته الطيبة والغنية بالخيرات.
لم أكن أرى سوى النجوم تتراقص أمام عيني لفرط الخوف.
فقد كانت تجربة خارج قانون الطبيعة بالنسبة لي، ليس لأنها ابتعاد مبالغ فيه عن البيت والمدرسة والحي فقط، ولكن لأنني وجدت نفسي فجأة مشاركاً في السرقة ومطارداً من شخص مدجج بسلاح لم تغب عن عيني لمعته طوال العمر. فألقيت العبء كله في تلك اللحظة على القدمين المذعورتين بأمل النجاة من ذلك الموقف. ملابسنا متروكة خلفنا على دكة حوض السباحة وأطرافنا متروكة للريح عراة إلا من الملابس الداخلية المبتلة بماء سرعان ما نشف بفعل الشمس والريح.
لقد كنت أركض هائماً لا اعرف أين أذهب بالضبط بعد تفرق الرفقة الخيرة، التي فرت تاركة الصبي يرفع قدمه دون أن يعرف أين يضعها في أرض غريبة وبعيدة عن البيت. وسرعان ما وجدت نفسي في مواجهة البحر على ساحل أبيض طويل وفارغ إلى الدرجة التي يمكنني تصورها درجة الصفر من الضياع.
فلم أجد مفراً من مواصلة الركض على الساحل بلا هدف سوى الهرب من المنجل اللامع الذي يلوح به ذلك الفلاح المقهور.
ساعتها شعرت بالوحدة والوحشة الهائلتين، لأنني لم أكن أرى أحداً من أصدقائي ولا أحداً أعرفه، لا أحد على الإطلاق.
كما لو أن ثمة كوكباً غريبً وقعت فيه فجأة لئلا ينقذني أحد.
واصلتُ الجري أتبع قوس الساحل الذي صادف أنه سيأخذني بعد وقت طويل، خلته سنوات، إلى الساحل الشرقي لمدينة المحرق. دون أن أشعر بأنني بهذا الهروب والجري المتواصلين كنت قد عبرت قوساً كبيراً من الساحل على أطراف عدد من المدن والقرى ربما اذكر منها الآن مدينة الحد وقلالي وعن كثب من الدير وسماهيج مجتازاً الأطراف الجنوبية للمطار القديم، لكي أجد نفسي تقريباً على مشارف حي البوخميس، وهو بالضبط ما أنقذني من عقاب سرقة حقل البطيخ الذي لم أكن مخططاً له، وان تورطت في المشاركة فيه بفعل رفقة الخير.
أخبرني لاحقاً أحد أصدقاء العائلة أنه صادفني في حالة يرثى لها، هائماً ألهث، وقد أدرك المحرق مساء رطب، فأخذني إلى البيت في محاولة لأن يخفف على العائلة قلقهم الذي كان قد وصل إلى حد الفزع، لكونهم يعرفون أن ابنهم ليس من طبيعته الغياب إلى هذا الوقت، فلم يتركوا كائناً إلا سألوه عن (جاسم) الذي تأخر في العودة الى هذا الحد.
والدي كان رؤوفاً وهو يتلقفني من صديق العائلة، شاكراً له فضله بإعادة الطفل التائه. حدجني وقال بصوت يتراوح بين الصرامة والنصيحة: لا تسمع كلام أحد ولا تذهب إلى مكان لا تعرفه ولا تركب (العبرة).
ولم يزد والدي على ذلك.
فيما بعد، عندما جرى الحديث عن تجربة (العبرة) وعن فكرة مشاركة الركاب في (نزف الجمة)، ابتسم والدي بنوع فاتن من البهجة، لكوني قد ساهمت مع الآخرين في (نزف الجمة). مؤكداً أن تجربة البحر هي دائماً تجربة الفرد في الجماعة، فأنت في البحر لست وحدك ويجب أن تتصرف على هذا الأساس. فما إن تتصرف بأنانية حتى يستفرد بك البحر.
الآن. أفكر.
كم منا سيحتاج إلى (نزف جمته)، لكي نتمكن من إنقاذ المركب من الغرق؟
هل ثمة من يلتفت إلى ضرورة (نزف الجمة) في حياتنا بلا توقف؟
في اللغة: الجمة. جمام: البئر الكثيرة الماء.
مجتمع ماء البئر. يقال استق من جمة البئر.
***
(إلى المسحراتي " بوغوى" ،
موقظ شمال وغرب المحرق)
1
لا أحد في جنوب وشرق المحرق لم يعرفه.
أسمر، فارع، جاء من الأبنوس مباشرة.
في رمضان الخمسينيات والستينيات كان وردة الليل. المسحّراتي (الزكرت) "دالـوب". في السنين الأخيرة، ما إن يسمع إيقاع (المداندو) حتى يضع صفيحته الفارغة مطعوجة الخاصرة، ويتناول أقربَ عصاتين، ويجلس في دائرة يبدأ في توليفها رجالٌ ينداحون رقصاً، مثل موج أتعبه السفر فأقبل يتلاطم استجابةً لهوى الروح. أجسادٌ تتبادل أنخاب الصرناي والطبل والمعدن، فتتهلل الوجوهُ بنشوةٍ تبدأ في ما يشبه هدهدة المهد، وسرعان ما ينثال اللحنُ بها في سيلٍ عارم، فتختلط عليك نظريات الهندسة بموهبة الفيزياء بشهوة الجسد. ولا تكاد تعرف أين "دالـوب" في كل هذا الصخب الأليف. وربما أسعفك الخيالُ أحياناً لتدركَ دلالة الريح من اسم "دالـوب".
ذلك في سائر أشهر السنة،
لكن ما إن يحلَّ شهرُ رمضان، حتى يستبدل صفيحته المطعوجة بطبلة السحر: الهزيع الأخير من الليل.
2
كنتُ في آخر سنواتي العشر الأولى، عندما كان "دالـوب" يعرّج على بيتنا بين وقت وآخر صديقاً لابن عمي، وكانت العائلة تعتبر وجوده مألوفاً. فــ(ازكرت) تلك الأيام لا يرى في تخوم التقاليد حاجباً يحول دون أن يطرق الباب ويقول (هُوودْ)، بصوتٍ مسموع، منتظراً برهةً تكفي لأن تأخذ النساء ساتراً، فإن شخصاً من الأصدقاء أو المعارف على وشك دخول البيت في زيارة مألوفة.
وعيتُ على "دالـوب" مزدهراً في أحياء المحرق، بوصفه حامل رسائل الليل للناس، ففي ليالي تلك الأيام (وكانت دامسة أيضاً) لم نكن نجرؤ على الخروج بعد منتصف الليل. وكنت كلما سألتُ أبي عن الرجل الذي يتجول في عتمة ليالي رمضان بطبلته المجلجلة، كان يقول أنه الشخص الذي يزورنا بين وقت وآخر صديقاً لابن عمي. لقد كان "دالـوب"، حسب تعبير أبي، (هاب ريح) مع الجميع، لا يتأخر عن واجب، فسوف تجده في الأحزان قبل الأفراح، يمتلك حضوراً يميل إلى الرزانة من غير جفاف، والمرح بدون تبذّل، لقد كان (ازكرتياً أَزْهَب من قوازي الغوص).
تراه طوال أشهر السنة دون أن تعرف تماماً ما هو عمله ومتى يبدأ وأين. يقبل عليك مفترَّ الثغر، (كاشخاً) في الأبيض الناصع، (إصراره على الأبيض سوف يَشِي بدلالةٍ لا تخلو من غموض، فسمرته الواثقة سوف تؤرجح خيالنا بين لعبة النهار والليل التي يمعن "دالوب" في التوغل بنا فيها، فلن تلقاه في غير الأبيض الناصع) لتشعر بأن ثوبه قد خرج تواً من تحت مكواة (دخيّل). وأن (نَسْفَـة) الغترة خلقت خصوصاً لمثل هذه (السَكبة). وإذا هو ابتسمَ تستطيع أن تثقَ بأن سيجارة الـ(لكي سترايك)، التي تركتْ صفرتَها في أصابع يده، لم تنل من تألق العاج بين شفتين منفرجتين، توحيان دوماً أنهما موشكتان على ضحكةٍ هادرة. يمكن أن تصادفه في أوقات مختلفة، غير متوقعة، فهو شخصٌ لا يجعلك تشعر بفقدانه مهما غاب، لفرط حضوره الأليف.
3
ما إن يبدأ شهر رمضان، حتى لا يعود "دالـوب" يظهر لأحد أبداً، فلم يذكر أحد أنه رآه في النهار خلال ذلك الشهر. فهو يمارس عمله بعد منتصف الليل فقط، ثم لا يعود يظهر، وظهوره في منتصف الليل لا يعتبر ظهوراً، لأن الظلام الدامس يحجب الكائنات، ولأن الكثيرين يؤكدون أن "دالـوباً"، كان يحرص أثناء جولته الليلية، على المرور في الأزقة المعتمة، وإنه عندما يضطر للانتقال من منطقة إلى أخرى، يختار الزوايا والمنعطفات البعيدة عن البرايح، ويعبر المسافة مارقاً كمن يهرب من النور، كما لو أن الضوء كائن حي يتربصه ويطارد خطواته. إنك تسمع صوت طبلته فحسب، أما هو فربما تقمّص الشبح أو امتزج بالظل. وكان الذي يساعده على التخفي والتماهي في الظلام بشرته السمراء التي تجعله قطعةً من دامس الليل. وهو إلى ذلك يحرص على ارتداء شورت قصير داكن، كما يقال إنه يدهن جسده الأسمر بالزيت، وهذا ما يفسّر البريق الغامض الذي نلاحظه كلما لمحناه خلسةً يعبر المنعطفات في رشاقة النمر الأسود. كل ذلك كان يحدث في الليل، أما في النهار، فإن أحداً لا يجزم بأنه رأى "دالـوباً" في نهارات رمضان. وقتها لم نتوقف طويلاً أمام هذه الظاهرة، فلم يتمكن أحدٌ من معرفة سر الغياب النهاري والحضور الليلي.
حتى أن الأيام الأخيرة من رمضان، عندما يحين وقتُ مرور المسحراتي بدابَّته البيضاء ذات السيقان البرتقالية المحناة بزعفران البحر تجر عربتها الخشبية. يمر بطبلته ذاتها، وثوبه الأبيض هذه المرة، مداعباً العائلات وهو يذكرها يوم كانت تغطُّ في نومٍ عميق حين يوقظها بذات الطبلة لئلا تتأخر عن وجبة السحور المشحونة ببواقي الإفطار والغبقات، ولئلا يسبقها الفجرُ فلا تستطيع أن تأكل شيئاً بعد ذلك.
يحدث ذلك في الأيام الأخيرة من الشهر. يردد "دالـوب" أهازيجه الليلية موشاة بما يحلو له من الأغاني المحببة لأهل الحي، وعلى ذلك ينال مكافأته الحميمة، مما يسمونه عيدية المسحّراتي، وهي هدية رمزية تكون عادة كناية عن كيلات قليلة من الأرز أو حب الهريس أو الحلاوة أحياناً، وهناك من يكون أكثر عملية فيقدم هديته في صورة نقود قليلة لكنها ذات أهمية آنذاك، خصوصاً لـ"دالـوب" الذي سيتحتم عليه أن يستعدَ لدورة كاملة من حياة (الزكرته) طوال العام.
ساعتها نستطيع أن نسمع "دالـوب" يقول (من عواده) وهو يستلم هداياه. وكنا نتمتع برفقة موكبه في شبه هيلمان.
4
في تلك الأيام يكون ظهور "دالـوب" في النهار شيئاً يضاهي العيد بالنسبة للأهالي، وربما اعتبره الكثيرون بشارةً بانتهاء رمضان واقتراب العيد. لكن من يستطيع الجزم آنذاك بمعرفة المكان الذي يذهب إليه "دالـوب" في النهار. ولماذا يكون الليل هو الوقت الوحيد لظهوره. لم يكن لمثل هذا الغموض أجوبة شافية يمكن الركون إليها. لقد كنا نكتفي بالانتظار الفاتن، لكي نشاهد ذلك الفتى الأسمر وهو يخطر كالغزال الشارد تحت جنح الظلام، دن أن يتركَ أثراً لخطواته الرشيقة.
وعندما ينتهي شهر رمضان ويعرّج "دالـوب" على بيتنا، يقول لي أبي مقهقهاً: "أنظر إليه، هذا هو العفريت الذي يوقظنا للسحور طوال الشهر الكريم، هل صدقتَ أنه نفس الشخص؟"
وأصدّق ذلك، وربما استغرقت بنشوة من يشعر بامتياز بين أقرانه الأطفال، لكون هذا (العفريت) يزور بيتنا بشكل مألوف.
كان "دالوب" دائم التجوال بين أحياء المحرق بدراجته التي لا تقل رشاقة عنه.
وحين يزور ابنَ عمي، يسند الدراجة في مدخل البيت، ويشير لنا بإصبعه الطويلة المعروقة : "لا أحد يقترب من السيكل". وما كنا بحاجة لتحذيره، فمع إعجابنا بشخصيته، كان ثمة شعور غامض من الهيبة (لئلا أقول الرهبة) يجعلنا نمتثل له بفخر من يحمي أسراراً خصَّّنا بها شخصٌ خارق، كما يحدث عادة لأطفال يرون شيئاً من الأسطورة في رجل ينتقل بين الليل والنهار بحرية مَنْ يهندس الطقس والطبيعة بشجاعة الفارس.
5
لم أنس "دالـوباً"، برغم الوقت الذي يفصلني عن الطفولة. وقبل فترة كنت أشاهد فرقة (الليوة) في تلفزيون البحرين، وإذا بي أشاهد الفتى الأسمر ذاته جالساً في وسط دائرة الرقص القديمة، وهو يلقن صفيحته المطعوجة درساً واحداً لا يبدو أنها تتعلمه أبداً.
انتبهتُ،
هذا هو "دالـوب" ما غيره،
وتفجرتْ صورُ الذاكرة مثل الألعاب النارية في ليل دامس.
إنه "دالـوب" صاحب الليل ذو الطبلة.
لكنه الآن لم يعد ذلك الفتى الوسيم المشدود مثل الرمح. لقد تقدمتْ به السن، وتسربت فضة الزمن إلى شعره الأجعد الخفيف. وبدت لمحةٌ من حزن شفيف تغمر ملامحه التي ما زالت تحتفظ ببريق ينطفئ. انه لم يزل هناك، في المكان الذي يهدر بالإيقاع الحميم. ذلك الإيقاع الذي ما إن يندفق حتى تنداح الأجساد منتشيةً منسابةً في التذكر والنسيان.
الآن أستطيع أن أفهم (أكثر من خمسينيات المحرق) لماذا لا يستطيع "دالـوب" تمالك نفسه عندما يبدأ الإيقاع. الآن يمكنني فحسب تخيل سر الغياب الذي كان يقترحه "دالـوب" طوال نهارات شهر رمضان، وهو الذي يملأ مدينة المحرق هديراً بطبلته في أنصاف الليالي. أقول أتخيل وأخمّن أيضاً، فالأمر لا يحتمل الجزم. ترى هل كان "دالـوب"، فيما يلعب بطبلته في الظلام، يحاول أن يضع جسده المشحون بالرقص في نافورة الإيقاع، ويطلق للأرواح المكبوتة في جسده لتأخذ حريتها حتى المنتهى، الأمر الذي يجعل جسده متعباًً حدّ الإرهاق، مما يستدعي منه قضاء النهار كله في نوم يشبه ثمل الغيبوبة؟ ترى هل كان "دالـوب" يفعل ذلك فحسب؟ إنه تخمين فقط. والذين يعرفون "دالـوباً" ويدركون جمرته المتوهجة لحظة الإيقاع، سوف يفهمون هذا الاقتراح لتفسير غياب "دالـوب" عن وهدة المحرق في النهار، ليوقظ الحريق في الليل.
6
قليلون يعرفون اسمه الحقيقي:
(نصيب).
أشتهر بــ"دالـوب" وبقي كذلك. ولذلك قصة.
الحكاية التي جرى تداولها آنذاك (وأعادها لي أبي غير مرة) تشير إلى أن أصل الاسم يتصل بحادثة طبيعية تعرضتْ لها البحرين (والخليج كله) منذ أكثر من سبعين عاماً، حيث هب إعصار قويّ على المنطقة، وكان حدثاً مدمراً في حياة ناس ذلك الوقت، حيث غرقت السفن وهاج البحر على السواحل، وتحطمت البيوت واقتلعت الأشجار.
وقد سميت تلك الحادثة بالـ"دالـوب"، وعرف ذلك العام بسنة الـ"دالـوب". وربما سماه العامة (دالوباً) تحريفاً ظريفاً كما يبدو لكلمة (دولاب)، وهو الشكل الذي يتخذه الإعصار عادة، كعمود مخروطي أصله في الأرض متصاعداً إلى الأعالي، ويدور في شكل اسطواني غليظ.
في اللغة، الدلبة : السواد. الدالب: الجمرة التي لا تطفأ. الدولاب والدواليب: كل آلة تدور على محور.
وفي باب إعصار، فالإعصار هو ريحٌ ترتفع بالتراب أو بمياه البحار وتستدير كأنها عمود. وهذا يلتقي مع الدولاب الذي تتحول فيه الريحُ إلى آلةٍ تدور على محور.
وتقول الحكاية التي حفظتها الذاكرة منذ الطفولة أن "دالـوباً" كان قد وُلدَ ليلة ذلك الإعصار الشهير. وكعادة ناس تلك العهود، ارتبط ذلك الميلاد بتلك الحادثة، فسمّته أمُه "دالوباً"، تيمناً بالحادث الجلل، فعرف به لينسي معظم الناس اسمه الأصلي. ويحكي الأولون أن "دالـوباً" ركبَ الغوص في صباه وفتوته، واكتسب خبرته الأولي كغيره في تجربة البحر، وهي تجربة لا تبتعد عن الموسيقى التي عشقها الفتى الأسمر سمهري القوام منذ نعومة أظفاره.
(وإذا كان في الظن خير)، فإن "دالـوباً" الذي عمل في مهن عديدة، مختلفة ومتناقضة، لم يكن العمل البعيد عن الموسيقى يلقى هوىً في نفسه، فاسمه دليلٌ يأخذ إلى الضلالة إذا لم تكن الموسيقى قنديلاً لخطواته.
*****
الحديث عن مدينة الطفولة، هو شيء يشبه الإنصات لطفل خجول يريد أن يتذكر مستقبله بالصورة والكلمة وقدر كبير من المخيلة.
أظن أن المحرق لم تكن مدينة فحسب، لكنها بالضبط كانت مدرسة، بالمعنى العميق لمفهوم الدرس. وليس من غير دلالة أن تكون مدرسة الهداية قد أنشئت في المحرق، كمدرسة نظامية في العام 1919.
فإذن كانت المحرق أماً رؤوفة رحيمة تستعصي على الوصف.
يحق لي أحياناً، أن أحتقن بالبكاء لأن المحرق هي أمي التي أفقدها.
الآن أستطيع استشعار فداحة ابتعادي عن المحرق نزولاً عند شرط السكن.
وأزعم بأن سيفاً أعرفه جيداً لم يعد في غمده الآمن.
في المحرق عرفت المكتبة العصرية الواقعة مقابل مدخل سوق القيصرية الشعبي الشهير. صاحب المكتبة هو الأستاذ (عبدالله الجودر) الذي اشتريت منه أول منجد للغة العربية ورحت أقرأه صفحة بعد أخرى مثل رواية مشوقة بطريقة أثارت استغراب مدرس اللغة العربية آنذاك. ومن نفس المكتبة تعرفت على سلسلة قصص "المكتبة الخضراء"، ومجلات (سندباد) و(سمير) والصحف العربية الأخرى فيما بعد. وفي المحرق عرفت أيضاً مكتبة المكتب الثقافي البريطاني، التي تقع في شارع السوق القديم.
أذكر خصوصاً مدرسة الهداية التي شهدت نزوعي المبكر للأدب والشعر في المرحلة الابتدائية، حيث أرشد خطواتي الأولى نحو الشعر الأستاذ (عبدالحميد المحادين) الذي كان قد جاء تواً من مدينة الكرك الأردنية متحمساً للأدب ويكتب الشعر آنذاك.
في مدرسة الهداية بالذات سمعت للمرة الأولى بالشاعر طرفة بن العبد، الذي سوف يلازمني طوال حياتي. في الباحة الداخلية للمدرسة كانت ثمة خشبة تتصدر الناحية الشمالية من الحوش، لم أكن أدرك طبيعتها، إلا بعد أن بدأت الاستعدادات للحفل الختامي في نهاية السنة الأولى لالتحاقي بالهداية. ومن بين فقرات الحفل كان مجموعة من الطلبة يتدربون على تمثيلية قصيرة عرفت أنها عن شاعر قديم اسمه طرفة بن العبد حكم عليه عمر بن هند بالقتل وهو في لم يزل فتى لأنه قال لقبيلته: لا.
وبسبب من عضويتي في نشاط إحدى الجمعيات الثقافية، تيسر حضور التدريبات التي غالبا ما تجري في فترة ما بعد الظهر، وبعد أن أقنعت والدي بأهمية حضوري هذا النشاط (وكان وقتها يصر على مرافقتي له في دكانته لمساعدته في العمل) شعرت بمتعة لا تضاهى، وأنا أتعرف على ما يمكن تسميته حقاً بالنشاط المسرحي المدرسي غني الثقافة وجاد النوايا. كنت أساعد المشاركين في احتياجات الحفل، حيث كان الممثلون يتدربون، والفنانون يصنعون الديكور ويرسمون المشاهد واللوحات، لا أكاد اذكر الآن أسماء الذين شاركوا في التمثيل، إلا أنني اذكر جيدا أن طالبا يقوم بدور طرفة بن العبد يضع فخاً، شبيهاً بذلك الذي نستخدمه في صيد الطيور، في طرف الخشبة لكي يبرر ترديده لأبيات طرفة بن العبد المشهورة:
"يا لك من قبّرة بمعمري،
خلا لك الجو فبيضي واصْفري،
ونقري ما شئت أن تنقري.. الخ".
المهم أنني عرفت من تلك التمثيلية أن ثمة شاعراً كان يعيش في البحرين (القديمة) وموجز قصته أنه خرج عن قبيلته، فنبذته ووقع عليه ظلم كبير من أقرب الناس إليه، (فتحامته العشيرة) وبث شكواه الحزينة عن (ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة). فيشدني الموضوع الذي مسّ لدي ميلاً غامضاً لتلك العوالم، فأسعى لمكتبة المدرسة لكي أقرأ أكثر عن طرفة بن العبد. والغريب في تلك التجربة أن تقديم تلك التمثيلية القصيرة، على سذاجتها، قد فتح أمامي سبلا مختلفة من الاهتمامات، من بينها مثلا أنني بدأت اقرأ الشعر الجاهلي من مصادر لا يطالها الدرس التقليدي، ومن بينها أيضا اكتشفت أن ثمة ما يسمونه المسرح يمكن أن يكون رديفاً غنياً للتعبير الشعري، قبل أن أعرف أن المسرح في أصله اليوناني هو نص شعري أيضا. وللأسف فإنني لا أتذكر نشاطا لاحقا للمسرح المدرسي في مدرسة الهداية بعد ذلك، ولعل تلك التمثيلية هي نهايات العهد الذهبي لمدرسة الهداية، وعنايتها بالنشاط المسرحي الذي اشتهرت به في السنوات الأولى التي أسست للمسرح في البحرين بجانب نشاط الأندية الأهلية المعروف. والغريب أن أحداً لم يشر إلى تلك التجربة في المناسبات التي جرى فيها الاحتفال التاريخي بمدرسة الهداية، الأمر الذي سوف يساهم في جعل الأمر بالنسبة لي كما لو أن تلك المرحلة بمثابة الحلم الغامض أكثر منه اتصالا بحدث واقعي.
وربما اتصل ذلك الحلم بالعلاقة الغامضة التي ستنشأ بيني وبين طرفة بن العبد من خلال تاريخ موغل في القدم يجري استعادته وتقمص دلالاته لاحقاً. حيث بدأت بالشعور مبكراً أن لحياتي الراهنة علاقة ما بحياة طرفة بن العبد لمجرد أنه عاش في نفس السديم التاريخي لهذه المنطقة (دون أن يعتبر هذا نزوعا لاستحواذ ساذج على رموز تاريخية من خلال الادعاء بملكية متوهمة لما يمكن تسميته: جغرافية التاريخ). عاش طرفة بن العبد في هذا الفضاء ومات باكراً، جئتُ باحتدامي الشعري وفتنة الخيال متصوراً أنني أكمل تلك الحياة: شعور يصدر عن الهجس الشعري والتشظي بين مفهوم رمزي للزمن، واختراق رؤيوي للمكان التاريخي المتحرر من شهوة الجغرافيا المعاصرة الخاضعة لغريزة التملك.
يوم انتقلت، بداية الستينات، من المدرسة الشمالية (مدرسة عمر بن الخطاب حالياً) إلى مدرسة الهداية، كان الحدث باهراً. الجميع كان يسمونها المدرسة الكبيرة (وباللهجة الشعبية: العودة). ولك أن تتخيل هذه التسمية عندما تقارنها بالتسمية الاجتماعية الحميمة لمنزل العائلة التقليدي الذي يسمونه عادة (البيت العود). ثمة نزوع يشبه التقديس لهذه المدرسة بحيث تضاهي في مكانتها الروحية بيت العائلة الكبير، ففي هذا تعبير عن التوقير والاحترام مما يفرض شعوراً بالهيبة والرهبة لا يمكن تفاديه. أيامها كان الذي يحظى بفرصة الدراسة في تلك المدرسة كمن يتأهل لدخول الجامعة هذه الأيام.
أذكر أن الفصل الأول الذي بدأت به حياتي في مدرسة الهداية هو بالضبط الفصل الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من الدور الأرضي في المبنى القديم، حيث نوافذ الفصل الكبيرة تطل على الساحة الشرقية وشارع المطار جنوب المدرسة. ذلك ركن لا أنساه أبداً فبعد عطلة أحد الأعياد اهتم الأستاذ شناف فيصل، مدرس الرياضة البدنية آنذاك،أن يلتقط بآلة تصويره الخاصة صورة تذكارية لتلاميذ الفصل نفسه الذي سيبدو في خلفية الصورة، ولا أزال أحتفظ بهذه الصورة التي تضم عدداً من زملاء الدراسة والأصدقاء.
جلست على مقعدي في الفصل لصق الجدار. شعرت بكتفي تلامس حجراً جيرياً عتيقاً توشك رائحته القديمة أن تنفذ في مسام جسدي. وتبرع أستاذنا في اليوم الأول بتعريفنا بالمدرسة، أتذكر من كلامه تلك الإشارة المهمة:
بنيت هذه المدرسة عام 1919.
وضعت يدي على ذلك الحجر العتيق كأني أصغي إلى صوت عميق الهمس، فتحدر شيء من رمل أبيض قديم في أصابعي وحضني، كنت كمن يتأكد أنه يبدأ هذه اللحظة في الاتصال بالتاريخ. ثمة فرق بين مبنى المدرستين السابقتين اللتين درست فيهما (الجنوبية والشمالية) وبين هذا المبنى. إنني الآن في قلعة المعرفة. فيما بعد سأكتشف بوضوح أكثر التشابه بين القلاع وبين هذه المدرسة. أحجارها القديمة توحي حقا أن هناك علاقة بين تاريخ المدرسة وتاريخ العلم. هذه الأحجار القديمة تشكل بالنسبة لي دلالة على الصلابة ورغبة في تحدي الزمن.
ثمة من قال: أن الكتابة لا يغلبها الزمن ولا يقهرها الموت.
لا أذكره، لكنني أتيقن يوما بعد يوم أنه كان محقاً.
لم يكن لإحساسي بالقلعة سبباً واضحاً لحظتها.
لكنني عرفت فيما بعد أن الأحجار التي شيدت بها مدرسة الهداية قد تم قطعها وجلبها من جزيرة جده، حيث السجن العتيد الذي عرفه معتقلون سياسيون لسنوات طويلة. ولكن قيل أيضاً أن حجر مدرسة الهداية ربما قد جلب من جبل في منطقة الصخير الصحراوية بالقرب من منطقة الرفاع. تماماً مثلما بنيت معظم قلاع البحرين القديمة. أذكر أننا قرأنا كتابة محفورة على صخرة في جزيرة (جدا) يوم كانت سجناً، أن عدداً محدداً من أحجار الجزيرة نقلت لترميم قلعة البحرين في السنوات السالفة.
ها هي فكرة العمل تتجلى مجدداً في إنجاز بناء مدرسة الهداية. كل ذلك سوف يضاعف من الهيبة التاريخية لمدرسة الهداية.
وسوف تجد أن معظم مثقفي وأدباء البحرين (ومناطق أخرى من الخليج) يباهون أنهم درسوا في مدرسة الهداية. شخصياً أعد نفسي محظوظا أنا أيضاً لكوني من الأجيال التي أحسنت تقدير الدلالة التاريخية للعبور الجميل بمدرسة الهداية.
***
ثقافيا، يمكنني القول إنني تعرفت في مدرسة الهداية للمرة الأولى على ما يسمى بالبعد الثقافي لمرحلة الدراسة، وفي الهداية بدأت الفكرة الثقافية والأدبية تنشأ في تصوري. فقد تعرفت على عدد من جمعيات النشاط في مجالات مختلفة. رياضية، مشاركاً في المهرجانات السنوية للمدرسة (حيث الأستاذ شناف فيصل والأستاذ عبدالوهاب السيسي)، وفنية ثقافية، مولعاً بالرسم والمكتبة (حيث الأستاذ خالد زنتوت)، والأشغال اليدوية لحفر وقطع الآيات القرآنية بالمنشار الناعم (حيث الأستاذ ربحي سالم)، وأدبية، لتحرير الصحافة المدرسية وجرائد الحائط (حيث الأستاذ سليم محمد سليم، وبعد ذلك الأستاذ عبدالحميد المحادين).
بدأت الدراسة منذ السنة الأولى في مدرسة الهداية تأخذ طابع الورشة النشطة المتنوعة التي يتسابق إليها الطلبة، خصوصاً الموهوبون منهم في جميع المجالات. وكان المدرسون وقتها يبدون عناية ملفتة في اكتشاف تلك المواهب، وتشجيعها في سبيل إظهار المعنى المختلف للانتقال إلى مدرسة الهداية. في تلك الفترة كانت ميولي الأدبية تبحث عن سبل للتعبير عن نزوعاتها. وفي الطابق العلوي (الهي من الذي أمر بهدم الطابق العلوي في مدرسة الهداية؟) حيث الغرف التي درسنا فيها بالجانب الجنوبي، وفي الجانب الشمالي المكتبة التي يديرها الأستاذ خالد زنتوت، محاذية لورشة الرسم المسئول عنها الأستاذ زنتوت نفسه، فهو بالمناسبة فنان يمتلك ذائقة فنية ساهم في تشجيع واكتشاف عدد كبير من فناني المحرق الذين درسوا في الهداية، وهو، إلى ذلك، كان يدير متجراً للهدايا والتحف الفنية في (المنامة) يقع في المدخل الشمالي للشارع المسقوف ومتجر روما، مقابلاَ لمبنى (تشارتر بنك حالياً، الشرقي سابقاً) موازياً لعمارة المطيري الشهيرة بالشارع البحري آنذاك، والممتد من رأس الرمان شرقاً إلى مستشفى النعيم جنوباً مارا بفرضة (مرفأ) المنامة.
كنت إذن من بين أعضاء لجنة المكتبة الدائمين في مدرسة الهداية، حيث كانت الفرصة متاحة أكثر للحصول على بعض الكتب التي لم أكن قادراً على شرائها. أثناء ذلك بدأ نشاطي مساهما في إعداد جرائد الحائط في الفصل، ثم تطور الأمر لكي أقود العمل في فريق جريدة الحائط فأقوم بتخطيط الجريدة، وكتابتها كاملة بعد استلام مساهمات الطلبة الآخرين. وأذكر أن الروح الوطنية والقومية والحس السياسي كانا يتفجران في ذلك الجيل من طلبة مدرسة الهداية، بحيث كنت أضع التصميم العام للصحيفة في شكل كلمات كبيرة مفرغة تكتب بداخلها المقالات والقصائد، وأذكر على الأقل جريدتين وضعت لهما تصميماً على شكل كلمتين، أثيرتين:الأولى كلمة (فلسطيننا)، والثانية كلمة (حريتنا). وكان بعض الأساتذة الفلسطينيين يستقبلون تلك الاجتهادات بحماس يشجعني على كتابة المقالات الحماسية المتصلة بالقضايا الوطنية والقومية، الأمر الذي يحول تلك الجرائد مجالا يتنافس فيه المتحمسون من الطلبة على نشر مشاعرهم وأفكارهم. وكانت هواية القراءة التي تستحوذ على وقتي تساعدني على كتابة المقالات واختيار القصائد من مكتبة المدرسة. وأذكر أن الأستاذ سليم محمد سليم مدرس اللغة العربية في السنتين الأولى والثانية قد اهتم بما أكتبه في مادة الإنشاء لكي يشجعني على قراءة بعض الكتب المتصلة بفلسطين، وأذكر أنني كنت صديقاً للأستاذ سليم لدرجة أنني كنت أراسله عندما يسافر في العطلات الصيفية، وكنت أتلقى منه رسائل من عنوانه في مخيم عين الحلوة بلبنان، فهو من لاجئي عام 1948 المقيمين في مخيمات لبنان.
بعد ذلك سوف أكون لافتاً لنظر الأستاذ عبد الحميد المحادين، الذي سيدرسني مادة اللغة العربية، ويتعرف على نزوعي الأدبي الذي يحاكي ميوله الأدبية، ليكون أول من يكتشف موهبتي الشعرية، ويهتم بي اهتماماً خاصاً، ويجعل فكرة أن أكون شاعراً (حسب تعبيره آنذاك) ممكنة.
الصداقة المبكرة التي نشأت مع الأستاذ المحادين، كانت نموذجا غير تقليدي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ الموهوب، ويمكنني الآن القول أن الأستاذ كان يرى في تلك العلاقة محاولة لتحقيق الذات، فالمحادين نفسه كان وقتها مولعاً بكتابة الشعر من جهة ومتورطا في مهنة التدريس من جهة أخرى، فكأنه، فيما يدعم الموهبة الشعرية، كان يعبر عما يمكن وصفه باكتشاف الذات في الآخر. كان المحادين وقتها يكتب شعرا لا يجد من يقرأه ويحبه سواي. فحين صادف لديه تلميذا يعلن عن مشروع موهبة أدبية، كان حماسه للأمر متوقعا لمشروع شاعر محتمل. هكذا أستطيع أن اقرأ طبيعة الصداقة التي هيأت لي مناخاً صحياً لكي أتعرف على الشعر بصورة أكثر رحابة مما فرضته علينا بلادة المقرر المدرسي.
المشكلة في ذلك المدرس، الذي جاء تواً من قرية الكرك الأردنية، أن عليه القيام بتدريس فتية لا يفترقون عنه في العمر إلا قليلا. كنا فتية في واحدة من ذروات المراهقة الممزوجة بما لا يحصى من الهموم والهواجس، وكان على الأستاذ أن يستوعب نماذج صعبة من الشباب. في حين هو ليس بعيداً عنهم في الهموم. وإذا رأينا إلى ذلك الأمر من جانب آخر، سوف نتيقن الآن أن تقارب السن آنذاك كان أهم الأسباب التي هيأت ليكون ذلك الأستاذ، دون غيره من المدرسين، قادراً لأن يقيم علاقة صداقة منقطعة النظير في مدرسة الهداية أوائل الستينات، ولعل كثيرين من طلبة تلك الفترة في مدرسة الهداية يستطيعون تذكر المشهد بصورة واضحة الآن.
لقد كان المحادين أصغر أعضاء هيئة التدريس سناً في المدرسة، وأكثرهم تميزاً بصداقته مع الطلبة. أكثر من ذلك أنه كان أكثر الأساتذة قرباً من حياة المحرق المدينة والناس. واختلافه عن زملائه المدرسين سوف يرشحه دائما للمزيد من المشاكل التي كان يتصدى لحلها على طريقته، بمعزل عن تزمت الإدارة المدرسية بقيادة الأستاذ عبدالله فرج، الذي سيكون من حقه وقتها أن ينظر إلى ذلك الأمر بشيئ من القلق.
لم يكن الأستاذ المحادين متمرداً ولا عاصياً لإدارة المدرسة، ولكنه أيضا لا تستهويه الطريقة التقليدية التي تستدعي اللجوء الدائم لحدود الإدارة المبالغ في صرامتها وتزمتها. ويمكننا، بمقارنه طريفة مع الأساتذة الآخرين، أن نلاحظ الفرق المألوف والمحبب عند المحادين: فهو لم يعرف (مثلاً) بالصرامة القاسية التي أشتهر بها الأستاذ عادل سفيان رحمه الله، مدرس اللغة الإنجليزية الذي كان يتفنن في ضرب الجودو على عنق الطلبة. كما لم يكن المحادين محافظا بصورة مبالغ فيها مثل الأستاذ وجيه نزال مدرس الدين. ولم يكن شخصية أرستقراطية متأنقا في ملبسه ومظهره مثل الأستاذ خالد زنتوت الفنان مدرس الرسم والقابع دوما في برجه العاجي في الطابق الثاني من المدرسة. ولا نراه مأخوذا بالمشاريع (التجارية) في خدمات المدرسة مثل الأستاذ ربحي سالم، مدرس الرياضيات، الذي يستعين بأعضاء جمعية الأشغال، التي كان يتعهدها، للعمل في مقصف المدرسة الذي كان أيضا يتولى إدارته.
أكثر من هذا كله، فأنك لا تصادف كل يوم مدرساً قليل الركون في غرفة المدرسين مثل المحادين، فمن المألوف جداً رؤيته خلال الاستراحة بين الحصص واقفاً مع مجموعة من الطلبة مستغرقا في أحاديث لا علاقة لها بالدرس.
وأذكر أنه كثيراً ما كان يحرص على مشاركة طلبته المناسبات وخصوصا في نهاية العام الدراسي. وهذا ما كان يجعل المحادين شخصية لا يستطيع المرء لأول وهلة أن يجزم ما إذا كان: مدرساً أم طالباً في تلك المدرسة. وليس من المتوقع كثيرا أن تصادف مدرساً، غير مدرسي التربية الرياضة، مولعا بكرة القدم، وهذه واحدة من الهوايات التي كانت تقرب المحادين من قطاع كبير من الطلبة. فقد أصبح المحادين واحداً من أشهر مؤيدي فريق المحرق، ويكون الأمر مشوقا أكثر إذا عرفنا أن أحد أشهر لاعبي فريق المحرق آنذاك كان طالباً معنا في نفس الفصل الذي يدرسنا فيه المحادين، وهو الشيخ حمد بن أحمد الخليفة.
ثمة لحظات كان السجال بيننا وبين المحادين يصل، لفرط الألفة، إلى الانفعال الحار، كما لو كنا فتية حي واحد، ولكونه أصبح بحكم المعايشة يحسن لهجة المحرق وأساليب التعامل باللهجة البحرينية الشعبية بمحمول مفرداتها الماكر ودلالاتها المغلقة على غير أهلها، فهو، مثلاً، لم يتردد في اختراق من يحاول التطاول عليه متسترا باللهجة وكاشفاً تخابثنا، دون أن يشكل ذلك أية حساسية من أي نوع لدينا جميعا. بل أننا سرعان ما ننفجر ضحكاً للموقف الذي نجد أنفسنا فيه مكشوفين أمام معلم أصبح يعرفنا أكثر مما كنا نعرفه، وربما أكثر مما كنا نزعم معرفة أنفسنا في ذلك الوقت. أظن أن تلك أسباب جعلت المحادين صديقا جديراً لأن يحزن بعضنا أويعترض إذا وضع في فصل لا يدرس فيه هذا الأستاذ.
وحين أتذكر الشأن الأدبي في تلك البرهة، سوف أصادف في المحادين القارئ الذي يحببك في الأدب ويشعرك أنك الشاعر الوحيد الذي يمكنه أن يكتب قصيدة مهمة في هذا الكون. بالنسبة له كان يتحدث عن شيئ يحبه، وقد وجدني مولعاً بالأدب بصورة تهدد علاقتي بالواجب المدرسي. لم أشعر أن ذلك الشأن كان يشغله كثيرا، ربما لأنه لم يكن يخشى على الموهبة الشعرية (التي ثبت فيما بعد أنه واثق بها أكثر مني) إذا هي خسرت شيئا من الدرس، مادامت ستؤكد ذاتها بجدارة. ولعله لم يكن بعيدا عما كان يعتمل في نفسي. لقد كانت أحاديثنا في الأدب والشعر تستغرق منا ساعات طويلة لا تسعها الفراغات بين الحصص في المدرسة، مما جعلنا نواصل الاستغراق فيها بجلسات طويلة كنا نقضيها لديه في سكن المدرسين الذي كان وقتها في مبنى بقرب وزارة التربية والتعليم في المنامة، ومن ثم في سكن آخر خصص للمدرسين الوافدين في المحرق بمنطقة القاعدة القديمة. كنت والصديقين، زميلي الدراسة، خليفة وعبدالوهاب العامر، نقوم بزيارات منتظمة للمحادين لمواصلة الأحاديث المشوقة في حقل كنت أكتشفه بولع لا يضاهى. ولقد تعرفت من خلال تلك الأحاديث على الكثير من قضايا الشعر العربي الحديث الذي كان أستاذي نفسه يجد متعة في الصدى الرائع منعكساً في المحاولات الشعرية التي كنت أحملها إليه في كل مرة، ويقوم هو بوضع ملاحظاته الكثيرة المتعلقة باللغة والقدرة على التعرف على مفهوم الشعر.
وكان في مجلة (الآداب) ودواوين السياب و نازك الملائكة وصلاح عبدالصبور ونزار قباني وحجازي والفيتوري وغيرهم مادة خصبة لنقاش لا ينتهي. وحين استوقفني كتاب نازك الملائكة واعتراضاتها الخليلية على تجربة شعراء مجلة (شعر) المحتدمة في مجلة (الآداب)، أثارتني مسألة البحور والأوزان التي لم تكن بالنسبة لي غير ضرباً من الألغاز والعمليات الرياضية التي كانت سبباً في تخلفي في مادة الرياضيات.
وأذكر أنني بدأت أيامها أطرح على الأستاذ المحادين الأسئلة المتعلقة بالخليل وأوزانه، فقد استثارني الزعم الرئيسي الذي كانت تتوقف عنده نازك الملائكة في معظم أطروحتها. وأذكر أن المحادين كان يتفادى الحديث عن ذلك الأمر في كل مرة، حتى أوشكت على الظن أنه لا يعرف تلك الأوزان. وفي ساعة من ساعات انهماكنا في المناقشة أعدت عليه السؤال معبرا عن رغبة في أن يعلمني بحور الخليل بن أحمد، فنصحني بصرامة : ماذا تريد بالقوانين الخليلية، لم تعد بحاجه لها الآن، انك تكتب شعراً موزوناً بدون أن تعرف الأوزان. اسمع نصيحتي، إذا أردت أن تكتب الشعر لا تشغل نفسك بتعلم الأوزان، لأنني أخشى انك ستفقد الشعر إذا شغلت نفسك بغيره.
لقد أذهلني ذلك الموقف لحظتها، لقد كان ذلك (في اعتقاد تلك اللحظة) نقيضاً واضحاً لكل ما تتمسك به وتراهن عليه نازك الملائكة، وهي من هي في تلك اللحظة من لحظات تجربة الشعر العربي الحديث. فعدتُ أراجع كل تلك الدوافع التي شحنتني للظن بأنني أمام شرط بمثابة الامتحان العظيم لابد من اجتيازه لكي أكون مؤهلا وجديراً بمزاعم الشعر. عدت لأكتشف أن ثمة مساحة إضافية من التحدي يقترحها علىّ شخص يؤكد موهبتي من جهة ويشكك في حدود الخليل وشروط نازك الملائكة من جهة أخرى.
الآن، أعتقد أن تلك اللحظة كانت أول المواقف التي وضعتني في مواجهة الحرية، ثم لم تكف عن التأجج في داخلي طوال الوقت.
بدأت منذ ذلك الوقت في فهم الأسرار الفنية التي يحتج بها أصحاب التجربة الجديدة في الشعر الذين يشكلون لنازك الملائكة خطيئة لا تحتمل. ووجدت في أستاذي، ربما من غير أن يقصد ذلك مباشرة، انحيازاً مبكراً لحريات الشاعر المتوقفة على قدرته على الإبداع. ولعل في ذلك الانحياز تعبيراً لا شعورياً عن النزوع الشعري الذي كان يعتمل في روح المحادين نفسه، وهو الذي كان يكتب قصائده الأولى أيضا، (مازلت أحتفظ ببعضها بخط يده) كما لو أنه قرر أن يدفعني إلى الحد الأقصى من التجربة التي على موهبتي أن تجابهها بالمزيد من الحرية.
***
اشتعلت عندي حرائق الشعر أكثر مما كانت.
كان الحوار مع الأستاذ المحادين يتواصل بصورة تتجاوز الوقت والمكان، حتى أننا كنا نواصل حوارنا الأدبي من خلال الرسائل التي أصبحنا نتبادلها في العطل الصيفية، رسائل يكتبها لي من الكرك بالأردن وأكتبها له من البحرين، ولا أزال أحتفظ برسائله المشحونة بالنقاش الأدبي، على ورق أزرق رهيف اشتهرت به رسائل سنوات الستينات. لم يكن المحادين يكترث بالدرس إلا بوصفه مشروعاً إنسانيا من شأنه أن يفتح أمام الموهبة الأفق اللانهائي لمستقبل الشعر الذي كنت أحلم به ليل نهار. أتذكر أنه كان يقول لي: أنك ترى طريقك جيداً فلا تفكر في وضع القوانين أمام الخطوات.
وفي غمرة ذلك الحماس الذي كان يفضح الوعي الاجتماعي والسياسي المتفجر في محاولاتي الشعرية، كان المحادين يمعن في صقل روح التفلت والجرأة لديّ من حيث لا يدري، أذكر أنه قال لي ذات مرة: (الشاعر قدره أن يكون شجاعا، قلْ ولا تخفْ أو خفْ ولا تقل).
وكان الباقي يتوقف على خبرتي في الحياة وفهمي لها، ثم قدرتي على جرأة الخيار. والحق أن مثل تلك الاضاءات المبكرة التي كانت خليطا غامضا من الشعر والوعي الاجتماعي، أشعرتني بالثقة الغامضة في اختياراتي الصادرة من طبيعة حياتي اليومية. كان المحادين محرضا غير معلن للنجاة من التقليد في الكتابة. نزعتُ إلى المغامرة حد التطرف، وبقي هو في حدود المحافظ الأليف.
أذكر أنه عبّر عن رأيه في التقليد الشعري بصورة غاية في الطرافة دون أن تخلو من دلالة فنية، بعد أن احتدم نقاش في الفصل بيننا وبين بعض طلبة الفصل الذين انتصروا للشعر العمودي، في مقارنة بين الشعر الحديث والشعر القديم، كان على سبورة الفصل نص نثري لموضوع إنشاء يملاْ الحيز، تناول المحادين ممسحة الطباشير وقام بمسح النص في وسط السبورة ليقسم النص المكتوب إلى نصفين متقابلين قائلا: هذا هو الشعر القديم، صدر وعجز، يمكن لأي شخص يحسن البحور أن يكتب نصاً على هذه الشاكلة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك شعراً، أنها قيود يكتب فيها العرب منذ مئات السنين، لابد للشاعر الحديث أن يكسر هذا القالب.
بالرغم من طرافة التشبيه وفرط السخرية فيه، (وربما بسببهما) لم أنس ذلك الموقف أبدا، لأنه مسَّ لديّ الحس الغامض بالشكل مبكراً والجرأة عليه، فوجدت من الصعب أن أدرس قديم الخليل بن أحمد لكي أعيد إنتاج القالب القديم بكلامي الجديد.
في مدينة المحرق، لم يكن وقتها ما يشير إلى وجود كثيرين يمكن أن يقبلوا مثل ذلك الاقتراح الساخر الذي ينقض النموذج المقدس للكتابة الشعرية. وقتها بدأت أدرك معنى أن يكون الشاعر شجاعاً: يقول ولا يخاف.
واستعدت لحظتها دلالة اعتراض مدرس آخر في فصل آخر في نفس المدرسة في سنة سابقة، عندما كنت أختار بعض قصائد حديثة لكي أنشرها في صحيفة الحائط، عندما كان ذلك المدرس يقول لي: هذا ليس شعراً، حاول أن تختار قصائد من عيون الشعر العربي لوضعها في الصحيفة.
ذلك هو ما كان يميز الأستاذ المحادين عن الآخرين في تلك الفترة، فهو لم يكن صديقا للطلبة لكونه اجتماعياً أكثر من سواه، ولكن لأنه كان يتصل بالتجربة الحديثة للشعر العربي، الأمر الذي يجعله منحازا للمستقبل أكثر من سواه. كان الآخرون مدرسين، أما هو فقد كان أستاذا بالمعنى الحضاري للكلمة. فالفرق بين المدرس والأستاذ أن الأول سيكون مخلصاً دائماً للماضي، المنهج المقرر، في حين أن الثاني سيكون مخلصا للمستقبل، ابتكار المخيلة.
الأستاذ المحادين أصبح من المعالم الحميمة في مدرسة الهداية، وليس من غير المتوقع أن يكون هو، من دون أساتذة كثيرين، قد تصدى لوضع كتاب خاص في تأريخ مدرسة الهداية.
مدرسة الهداية، بهذا المعنى، كانت البداية الحقيقية لما سيأتي لاحقا، على صعيدين: الانشغال النضالي والنزوع الأدبي. ولهذا فإنني أعتقد دائماً أن الأهمية التاريخية لمدرسة الهداية لا تقتصر على طبيعتها التعليمية والأدبية فحسب، ولكنها أيضاً تتصل بالروح النضالية التنويرية التي كان المناخ العام في المدرسة، من مدرسين بحرينيين وعرب، يدفع ويشجع الطلبة على الاكتشاف والانهماك فيهما. أذكر أن ثمة روحاً شاملاً كان يجمع بين الطلبة والمدرسين بصورة تجعل تلميذاً صغيراً مثلي يجرؤ على مساءلة أستاذين بحرينيين عن الأسلوب المناسب للتعبير عن الروح الوطنية، فأحصل من الأول على محاضرة في التعقل ودرسٍ في التوجيه المعنوي، ومن الثاني درسٍ قاسٍ في الكف عن مثل هذه الحماقات الحماسية، لأكتشف فيما بعد أنني قد أخطأت العنوان. وما كان علىّ إلا أن أبحث عن أجوبة لتلك الأسئلة في مكان آخر خارج المدرسة. خصوصاً بعد تجربة مباشرة في المظاهرات التي كانت تخرج في المناسبات القومية المتلاحقة في تلك الأيام.
وعندما استدعاني الأستاذ عبد الله فرج، مدير المدرسة، ضمن طلبة آخرين، ذات صباح، مهدداً بوقفة الانضباط الشهيرة خلف مكتبه التاريخي، بأن أية مشاركة في مظاهرات أو نشاط مماثل يعني الفصل من المدرسة، شعرت للمرة الأولى أن ثمة سلطات، لا تبدأ من العائلة ولا تنتهي بالأجهزة الحكومية، سوف تكون بالمرصاد للنزوع الوطني العفوي. مثل ذلك الشعور سوف يؤسس لشهوة التمرد على مقاعد الدراسة بوصفها سلطة. ان الأستاذ عبدالله فرج (الذي أدار الهداية في الفترة بين 53 -67) وهو أحد أشهر المدراء الصارمين، وعاصر واحدة من أكثر المراحل حساسية ودقة في البحرين، وتجابه مع أكثر الأجيال تفلتاً ونزوعاً للنشاط النضالي الحديث الذي ساهم في صياغة ملامح حركة النهضة والتنوير السياسية والاجتماعية في البحرين.
الطريف أن من ملامح تلك المرحلة ذلك التداخل الفذ بين تفجر مشاعر النزوعات السياسية، ومن جهة أخرى تلك التمردات التي كان عدد من طلبة تلك الأيام يتفنون في التعبير عنها بنوع من الفتوة الشخصية التي تصل أحيانا إلى مصادمات عنيفة مع الإدارة المدرسية. ويمكننا استحضار تلك المواقف التي يدخل فيها طالب، أو أكثر، على الأستاذ عبد الله فرج في مكتبه لينفجر بينهما نقاش، لا يخلو من العنف، على طاولة المكتب التاريخية العتيدة، حيث يصرخ الطلبة في وجه المدير المتحصن وراء الطاولة المتينة السمراء قابضاً على خيزرانته معلنين بأن أحداً لا يستطيع أن يفصل طالباً من حقه أن يكمل دراسته في مدرسة الهداية، كما لو أن الفتوة من الطلبة المشهورين آنذاك لا يقبلون فكرة خسارة شرف الدراسة في تلك المدرسة، وهم الذين يدركون معنى التخرج من مدرسة الهداية، مهما كانت درجة تقصيرهم الدراسي. لقد كان التعبير عن الإخلاص لمدينة المحرق، عند البعض، يتطلب أحياناً تجاوز بعض شروط واعتبارات نظامية لا بأس من التغاضي عنها. بل أن بعضهم سوف يقدم تضحيات ذاتية في سبيل أن يكون جديراً باقترانه بتأكيد سمعة المحرق، وسوف لن ينسى له أحد هذه التضحية.
وأذكر أن زميلاً معي في الفصل كان واحداً من أشهر لاعبي فريق المحرق في مطلع الستينات، وهو (علي إسماعيل)، المولع بكرة القدم أكثر من أي شبئ آخر، كان يتحدى مدير المدرسة أن يحرمه من شرف الانتماء لمدرسة الهداية، وهو الذي كان يسجل بقدمه الفذة الأهداف التي ينتصر بها فريق المحرق. وفي مثل هذا الموقف يمتزج المعنى الحميم لكون الشخص يعيش في مدينة المحرق، متمتعاً بالتميز الذي يجيز له حق التجاوز في بعض الأمور، التي لا تستثني حتى أكثر مدراء مدرسة الهداية صرامة. وأظن أن بعضنا لا يزال يستطيع أن يذكر أسماء طلبة معروفين يباهون أنهم جابهوا الأستاذ عبد الله فرج في مكتبه، في وضع استعداد لعراك متوقع، ويكاد يكون مألوفاً. غير أنه لم يكن يصدر عن عداء أو ضغائن. حتى إن الأستاذ عبد الله فرج كان يستوعب تلك الاندفاعات المتمردة، التي كان يمارسها بعض الطلبة بنوع من استعراض الفتيان العاصين الذين يشعرون أن الفصول الدراسية والمدرسة برمتها ليست على مقاس طاقتهم المتفجرة، وأن عليهم أن يشاركوا في (تدريس) المدرسين و(توجيه) إدارة المدرسة، وتذكير مدير المدرسة نفسه بتحفظاتهم العبقرية على النظام المدرسي.
لقد كان الأستاذ عبد الله الفرج، حتى وهو يتجول في المدرسة بخيزرانته متفقداً الرعية ومراقباً استتباب الأمن، فإنه لم يكن يعتبر الفتية العاصين سوى المظهر المألوف لحيوية مدينة المحرق وفتوتها التي اعتادت أن لا ترى حدوداً بين حوش المنازل، ومنعطفات أحياء المحرق وأجواء غرف الدرس في مدرسة الهداية، وأظن أن من هذا الشعور اكتسبت هذه المدرسة اسمها الشعبي هو المدرسة (العودة) أي الكبيرة. وكأني بهم يقصدون (العودة - أي الكبيرة) لكونها تتجاوز حدود سورها الخارجي لتصل إلى أطراف مدينة المحرق كلها، من الساحل الجنوبي حتى نهايات البساتين الشمالية المطلة على الشاطئ الشمالي. لقد كان الجميع يؤثث (كوكب) المحرق والجميع كان يشارك في قيادة ذلك الكوكب، ويشعر بمسؤولية حماية هذا الكوكب في مجرة البحرين.
***
منذ أن خرجت من حدود البيت متعرفاً على أطراف مدينة المحرق، كنت أصادف البحر في كل مكان. في البحرين (فيما اكتشفت لاحقاً) وفي المحرق خصوصاً، سوف يتسنى للمرء أن يصادف الأفق اللازوردي الفاتن في نهاية كل طريق، فكل طرق المحرق سوف تبدأ بالبحر وتنتهي به كل يوم.
من أي مكان في المحرق يمكنك أن تلتفت لكي ترى البحر ينتظر هناك.
كأن ثمة كائناً أزرق ينتظر الجميع في كل منعطف.
ولعل في تلك الألفة الحميمة أحد أجمل أسرار المزاج الإنساني الذي يصوغ علاقة المرء بأشياء الحياة.
ولفرط تغلغل الكائن الأزرق في حياة الناس اليومية في المحرق، تحولت العلاقة من كونها طريقة حياة وعمل إلى نوع من الضرورة الفيزيائية التي أدت إلى عدم قدرة الشخص في المحرق على الاستغناء عن الاتصال بالبحر مرة واحدة كل يوم على الأقل. ولدى أبناء المحرق أسباب لا تحصى للالتحاق بالبحر يومياً، وتقديم فروض المحبة له، فإذا لم يكن بدافع المهنة والعمل، وإذا لم يكن بسبب هواية الصيد، وإذا لم يكن بسبب المتعة وترفيه النفس، وإذا لم يكن لضرورات الانتقال والاتصال، فثمة من يبتكر أسباباً كثيرة من بينها الزعم أنه يفعل ذلك للاطمئنان بأن البحر لم يزل هناك.
لقد تداخلت المحرق مع البحر بصورة تكاد تجعلنا نؤمن حقا بأن هذه المدينة هي صديقة البحر بامتياز. لن تعثر في المحرق على عائلة تخلو من علاقة ما بالبحر بشكل من الأشكال.
دائما سيكون البحر هناك.
لقد كان البحر كائنا كلي الوجود بالنسبة لنا. والذين عاشوا في أطراف القرى والمدن التي تطل بيوتها مباشرة على البحر، يتذكرون الزيارة الشهرية التي يقتحم فيها البحر البيوت مثل ضيف متوقع. كانت معظم البيوت الشعبية الكائنة على الساحل مباشرة مبنية من سعف النخيل، ولفرط الاتصال الحميم بين الإنسان والبحر، لن تكون هناك موانع تحول دون دخول البحر إلى تلك البيوت وقتما يحلو له ذلك، وبدون استئذان. ومن مألوف تلك الأيام أن أوائل كل شهر عربي هو موعد منتظر لارتفاع المدّ بصورة تجعل مستوى الماء عالياً وممتدا بحيث يتجاوز الحدود العادية للساحل. وأذكر أنهم كانوا يسمون ارتفاع المد أوائل الشهر العربي (ماية الهلال) لارتباط ذلك المد ببزوغ هلال الشهر العربي أشهر الصيف خصوصا. ويختصرون التسمية بقولهم جاءت (الماية)، وهو لفظ تدليل لكلمة الماء وهو يزداد ويفيض ويخرج من سواحله ليدخل ضيفاُ على الأكواخ الفقيرة المشيدة من سعف النخيل. وسيكون مألوفا أن يستيقظ أهالي الساحل على حركة غريبة تحدث في حوش البيت وغرفه المصنوعة عادة من سعف النخل وبعضها من الطين. فامتداد البحر وارتفاعه حتى حوش البيت، سوف يجعل كل أدوات المنزل ترتفع عن الأرض وتسبح بهدوء في أروقة البيت، وتدريجيا سوف يصل الماء إلى البسط (الحصير) الخوصية، ثم فرش النوم ليدفع الأهالي للإسراع من أجل رفع الفرش وأدوات البيت الأخرى إلى أماكن تقيها من التلف أو التسرب عائدة مع (الماية) عند انسياب الموج العائد إلى بيت البحر. لقد كانت حيطان البيوت المصنوعة من الجريد مخلخلة، عند أصولها، بحيث لا تمنع الماء ولا الهواء، الأمر الذي يجعل تسرب البحر سلساً، ولا يشكل ظاهرة كارثية آنذاك. كانت حياة الأهالي في مثل تلك الأيام طبيعية وتخلو من الاحتجاج على مداعبات الطبيعة البحرية ورغبتها في تبادل أنخاب الحياة، كما لو أنهم يتفهمون هذا الزائر ويرحبون به مفسحين أمامه الوقت والمكان، لكونهم يدركون أن ذلك أمر مؤقت، فبعد ساعات قليلة سوف ينسحب البحر نحو بيته. وربما اعتبروا زيارة البحر لبيوتهم رداً كريما على زيارة أهالي المحرق الدائمة للبحر طوال المواسم، نزهة وصيداً وإبحارا وسفرا ومباهاة.
أكثر من ذلك فإن أهالي السواحل كانوا يرون في تلك الظاهرة خيرا يستبشرون به ويتفاءلون، فمع ارتفاع المدّ سوف يتوفر السمك بصورة أكثر، و أذكر أن الأطفال في تلك المواسم يجدون فرص صيد الأسماك الصغيرة متاحة بصورة أكثر، فيلجأون إلى وسيلة شهيرة للصيد، آنذاك، تتمثل في إناء من أواني البيت مغطى بقطعة قماش بيضاء خفيفة مثقوبة في الوسط، ويضعون داخل الإناء بقايا الخبز أو بعض العجين، ويتركون الإناء في ماء الساحل فيمتلىء الإناء سريعا بنوع معين من السمك الصغير يسمونه (الميد).
وفي الساحل الشرقي للمحرق سوف يتفنن الصبية في ابتكار الوسائل لصنع القوارب الصغيرة بصفائح البراميل وبعض قطع الخشب وقليل من القار المأخوذ من بقايا تبليط الشوارع ، لكي تتحول أيام المد مهرجانا يبدأ من بعد الظهر حتى سهرة الليل. وتتحول تلك الشطآن إلى مكان يعج بالكبار والصغار كما لو أن في الأمر ضرباً من مهرجان البحر الزائر.
لقد كانت تلك أيام دخول البحر في الناس.
أيام لا نكاد ندرك حدود البحر من حدود البيوت، وأسرة النوم، وسفرة الأكل، أيامها يتصاعد اللهو مع البحر الذي يبالغ أحيانا بالعبث بنا. المهم أن البحر وقتها سوف يغسل كل أشياء حياتنا، فكل ما لا نقوى على أخذه إلى البحر من أجل تنظيفه، سوف يأتيه البحر إلى مكانه ليغسله لنا بكل كرم. وسوف نصادف البحر يدخل المدينة من كل المداخل المطلة على الساحل، سيكون البحر هو ملك الوقت والمكان.
ظاهرة المد هذه واحدة من أشكال الاتصال الحميم بين الناس والبحر. فالألفة كانت يومية بصورة تشفّ عن تفاهم غامض بين الناس والبحر. ولفرط العلاقة الأزلية بين الناس والبحر، ثمة شعور ينتابني أحيانا بأن الناس يتصرفون مع البحر بوصفه كائنا عاقلاً يحسن التفاهم معهم، ويدرك مشاعرهم تجاهه. ولعل بعض الطقوس المرتبطة بالبحر تشي وتؤكد هذه الطبيعة البشرية في تلك العلاقة.
فلا يخلو من دلالة مثلا ذلك المشهد الذي تخرج فيه النساء، أيام الغوص، بعد أن يطول غياب الرجال لشهور، ويتفجر شوق النساء لأزواجهن، الذين بالغوا في رحلة الغوص على اللؤلؤ، تخرج النساء متوجهات إلى البحر معبرات عن انتظارهن الطويل، يطلبن من البحر أن يأتي برجالهن في أغنيات جارحة الحزن:
(جيبهم جيبهم خاطفين بجيبهم)
ويعني: أرجعهم لنا مشرعين قلاعهم.
ثم يتصاعد ذلك الموقف كلما طالت غيبة الرجال، فيتحول الشعور إلى نوع من الغضب، مما يدفع النساء إلى معاقبة البحر لإمعانه في تغييب الرجال وعدم إصغائه لتضرعهن له. فيحملن في أيديهن سعف النخيل المشتعل متجهات إلى الساحل، ليغمسونها في ماء البحر كناية عن كي البحر، وذلك إشارة إلى غضبهن منه. ولعلهن بذلك العمل يعبرن عن حقهن في الانفعال والغضب على صديق حميم مثل البحر، يسمع نحيبهن، ولا يصغي ولا يكترث بشكايتهن وشوقهن إلى الرجال الغائبين.
كان في ذلك شيء من الأسطورة، فالميثولوجيا رفيقة أهالي هذه الجزر منذ الأزمان السالفة. لكنها في زمن الغوص خصوصاً تحولت إلى ضرب من الفلكلور المتصل بحياة الناس اليومية وعملهم وطريقة معيشتهم ومعايشتهم للطبيعة. إلى ذلك كانت النساء تؤدي نوعا من النذور تجاه البحر في حالات مختلفة من تأخر الغائب أو مرضه، أو تعرضه للغرق ونجاته منها، حيث كان الأهالي يقدمون أنواعا معينة من الطعام تعد خصيصاً للبحر بمثابة القرابين، رجاة أن يشفق البحر على الشخص المقصود، فيعيده من سفره، أو ينجيه من مرضه.
وللمشهد الجماعي الجميل لمجموعات الأطفال، وهم يتوجهون إلى سواحل البحر حاملين أصص القمح النابت في قفف الخوص الصغيرة، كان قد سهر الأطفال على رعايتها طوال أيام قبل عيد الأضحى، ليقوموا برميها في البحر في مساء اليوم الأخير قبل العيد، كما لو أنهم يقدمون أضاحيهم الخضراء بتلك الصورة المشحونة بالدلالة التي تعبر عن حالات مختلفة في العلاقة بين الناس والبحر، تلك العلاقة التي تتراوح بين الشد والجذب بناء على ميثولوجيا قائمة على حالات الحياة والعمل في ذلك المجتمع.
ولم أزل أتذكر تلك المناسبات التي تتكرر بعد انتهاء أيام حداد المرأة عند وفاة زوجها، ففي اليوم الأخير من أيام (عدتها) التي تكون فيها معتصمة في دارها أربعة أشهر، محجوبة عن غرباء الرجال من المحارم، تخرج مغطاة بالكامل متوجهة إلى البحر في بداية الليل متسترة بالعتمة السرية، كمن تذهب إلى موعد حميم متوخية الستر. فتتوغل المرأة وحدها داخل البحر حتى تغتسل بكامل جسدها تطهرا من أيام (العدة)، ربما ليشهد البحر على طهارتها بعد زوجها الميت. وبعد أن تعود من أداء ذلك الطقس تستعيد حياتها الطبيعية. ويبدو الأمر مثل امرأة تكون مستعدة لحياة كاملة جديدة.
كنت أرقب ذلك كثيرا، وأرى فيه غموضاً لا أقدر على تفسيره أبعد من الذهاب إلى الغسل. لكي أكتشف فيما بعد أن للبحر كرامات يستعصي على عقل طفل مثلي إدراكها آنذاك.
ومن فضل البحر على هذه الجزر عيون الماء العذب الخفية، تلك التي كانت تتناثر كثيرا في السواحل القريبة، والتي كثيرا ما يقصدها الأهالي لرفع الماء منها عندما يحل الجزر، ويبدو الساحل أرضا براحا لمسافات داخل البحر.
لم يكن البحر قاسياً إلا بالمعنى الذي يتصل بالصعوبات الطبيعية التي تتطلبها طبيعة الحياة في ذلك الزمان، وهي صعوبات لا تختلف عن أخطار (طبيعة العمل) كما يسمونها في العصر الحديث. الصعوبات أيام الغوص بحثاً عن اللؤلؤ لم تتأتَّ من البحر في حد ذاته، لكنها صعوبات تتصل بالظروف المرافقة لمتعهدي رحلات الغوص وأصحاب السفن وتجار اللؤلؤ.
أما البحر فهو صاحب المزاج الرائق وقت الحب والعاصف وقت الحرب.
***
لم يكن البحر مجرد الجار الدائم المستمر للبشر المقيمين على حدوده الفارهة، على العكس، أحياناً يخالجنا الشعور بأننا نحن الطارؤون عليه، فهو صاحب المكان وسيد الزمان.
وبفعل طبيعة الأشياء وعيتُ مبكرا على حقيقة العلاقة التكوينية بين معظم مهن أهل المحرق بالبحر، ومن النادر أن تصادف عملا يشتغل به الناس دون أن يكون صادراً عن حاجتهم اليومية، ويعتمد عليه أهل المحرق، فليس ثمة انفصال بين المهنة والحياة. ويمكنني حقا أن أعدد الكثير من المهن اتصلت بالبحر منذ الأزل، فهي إما تعتمد في موادها الخام على البحر، مثل البناء والصيد والتجارة، أو أنها تعتمد على التسهيلات التي يوفرها البحر لعملها مثل صناعة السفن والحدادة والنقل والاتصال. ولكي لا نتحدث إلا عن نموذج واحد من هذه المهن، أجد في صناعة السفن واحدة من أكثر الحرف اليدوية التقليدية التي وجدت فيها التجلي الباهر للإبداع الإنساني الذي يتصل بالبحر، بل إنني أشعر أن صناعة السفن تتميز عن الحدادة بعناصر وطبيعة جمالية تجعلني أقرب إليها بصورة غير قابلة للتفسير، إلا إذا وضعنا في الاعتبار الجماليات التي تقترحها هذه الحرفة على حياتنا اليومية والفنية.
حتى منتصف الستينات كانت المحرق تتميز بعدد من ورش صناعة السفن في أكثر من موقع على سواحل تبدأ من جنوب المحرق جنوبي السوق حتى أطراف (الحالة)، وتنتهي في شمالي المحرق والساحل الشمالي لمنطقتيّ (الحد) و(قلالي). وعلى امتداد ساحل المحرق الغربي خصوصاً كانت الورش المتفاوتة الحجم والأهمية تعمل بصورة متواصلة. وعن قرب تعرفت على هذه الورش في مكانين أذكرهما جيداً، ففي الجانب الجنوبي للمسلخ خلف سوق اللحم القديم، كانت واحدة من الورش الشهيرة التي تميزت بقربها المباشر من موردين مهمين لتلك المهنة، وأعني بهما المخازن الشهيرة التي تستورد وتوفر كل ما يتصل بصناعة السفن من أنواع الأخشاب، وهي محلات بيع يطلق على الواحدة منها اسم (عمارة)، إضافة إلى سوق الحدادة الشهير جنوبي المحرق الذي لا تستغني عنه صناعة السفن. وكنت أكتشف تلك الورشة كلما عبرت بها قاصدا سوق الحدادة، فقد كانت علاقتي بسوق الحدادة آنذاك ليست مهنية فقط لجهة التداول اليومي بين دكانة والدي الكائنة في سوق الدلالين القديم في الشارع الموازي شرقاً لسوق القيصرية، ولكنها أيضاً علاقة عائلية أيضا لكون معظم العاملين في ورش الحدادة وقتها من الأقرباء، مثل محمد بن سلمان زوج عمتي، أو حسن بن مرزم الحداد، وجمعة الحداد، أو مبارك الحداد، والأخير هو واحد من أشهر (النهامين) في فن الغناء البحري (الفجري) في ذلك الوقت.
وعندما عملت مع والدي في الحدادة، كانت لي عدتي ومطارقي الخاصة، وعشت في سوق الحدادين، حيث كان إيقاع المطارق يشكل جوقة متداخلة يستطيع المرء، بفعل الخبرة، أن يميز، عن بعد، حجم المطرقة ونوع الحديد المطروق، وما إذا كان محمياً أم بارداً، ومن المشوق أيضاً أن تنصتَ إلى الحداد وهو يتلاعب بالمطرقة حيث: طرقة على الحديد طرقتان على السندان. وأذكر أن أحد الحدادين كان يبالغ في تنويع إيقاعه متلاعباً بمطرقته، حيث كان يضع بجانب سندانه قطعة من الصخر الصلد، زاعماً أنها نوع من الحجارة تشحذ المطرقة، وتصقلها لتحسن تطويع الحديد الخارج من النار، وكان ذلك ضرباً من الاستمتاع وتبجيل العمل، بتحويله إلى طقس يزخرفه الإيقاع المبتكر الذي تخلقه مخيلة العامل.
وكانت ورش الحدادة آنذاك على شكل عرائش صغيرة متجاورة ظهرها للبحر وتقابل الشرق. وبسبب من طبيعة العلاقة اليومية العملية بين ورش الحدادة، وورش صناعة السفن، ويطلق عليها (القلافة)، كنت أنتقل بين الجانبين بشكل دائم، خصوصا أن معظم العاملين في (قلافة) السفن هم أيضا من أهالي حي الحدادة الذين يتصلون عائليا أو أصدقاء يوميين للعائلة، وأذكر أنني كنت أعرفهم شخصيا منذ الطفولة وأراهم كثيرا في بيتنا في مناسبات مختلفة طوال العام. وهذا ما سيجعل وجودي بينهم بين وقت وآخر مألوفا. خصوصا إذا علمنا أن المشتغلين في صناعة السفن من الصنف الذي لا يحبذ زيارة الغرباء كثيرا لأسباب لم أكن أدركها آنذاك، وإن حاول أحدهم أن يفسرها لي لاحقا على أنه نوع من خشية نقل أسرار المهنة، دون أن أصدق ذلك التفسير.
ما أريد الكلام عنه في هذا المقام ورشة القلافة الشمالية. وهي الورشة التي كانت تقع قبالة مدرسة الهداية من الجانب الغربي على ساحل البحر مباشرة، ولا أظن أن أحدا من أهالي المحرق، من طلبة مدرسة الهداية خصوصا لا يتذكر تلك الورشة التي كانت هياكل السفن (قديمة أوجديدة) تنتصب فيها بشموخ يوما بعد يوم طوال أشهر السنة. ولعل من أجمل الصور الحاضرة في ذاكرة ذلك الجيل، عبورنا اليومي على الورشة في ذهابنا الصباحي للمدرسة، وخروجنا بعد انتهاء الدوام ظهرا، وملاحظتنا لتلك الخطوط والأشكال الخشبية التي تبدأ غامضة من سطح الورشة، وتتكون في تناسق غاية في الغرابة والجمال، لكي تتشكل يوما بعد يوم في هيكل يتصاعد وينداح ويتلون بأنواع شتى من الأخشاب، لكي نصادف ذات صباح سفينة مكتملة يستعد العمال لدهنها بمادة (الصل) المستخرجة من كبد الحوت، لتغليف هيكلها الخارجي، مما يكسب الخشب متانة تحصنها ضد أنواء البحر وتفاعلات الملح.
في هذه المهنة خصوصاً سيكون التنوع الكبير في أصناف الخشب ضرباً من وضع مواهب العامل في صناعة السفن تحت اختبارات متواصلة لحواسه وقدرته على الإصغاء. فليس من غير دلالة أن يحسن الإنسان الإصغاء للخشب والتفاهم معه.
وفي اللغة: قَـلّفَ السفينة: خرز ألواحها بالليف وجعل في خلالها القار، ما يسمى: القلافة.
العامل الموهوب في ورش (القلاليف) يمكنه تمييز وقع المطارق المختلفة الأحجام على الأنواع الكثيرة من الأخشاب، حيث كل جزء من السفينة يتطلب نوعاً خاصاً من الخشب، والمحترف يستطيع أن يدرك عن بعد، بمجرد السمع، على أي نوع من الخشب يشتغل هذا العامل، ويعرف أيضاً حجم المسامير، وما إذا كان الخشب رطباً أم يابساً، بل أن بعضهم كان يستطيع تقدير مرحلة العمل، بمجرد سماع رجع المطارق على هيكل السفينة.
أذكر أنني كنت أجلس في ركن بعيد على السفينة، في الورشة المقابلة لمدرسة المحرق القريبة من البحر، وأضع أذني على سطح الخشب لكي أصغي إلى الإيقاع الذي كانت المطارق والمثاقب اليدوية تزخرف به فضاء المكان. وكانت رائحة الخشب وإيقاع المطارق يأخذاني إلى النوم.
وأذكر أن تلك الورشة كانت مكانا أثيرا بالنسبة لعدد كبير من طلبة المدرسة أيام الامتحانات، حيث ننتشر بين هياكل السفن وأكواخ الورشة وأكداس الخشب، ناشدين نسمات باردة تنبعث عادة من أعمدة الأخشاب المصفوحة والمنقوعة في مياه البحر التي تتداخل أحياناً مع مرافق الورشة. حيث كان النجارون يعمدون إلى وضع الأخشاب بعض الوقت لكي يتم تشربها بالرطوبة اللازمة لتكون أكثر طواعية للعمل أولا، وثانياً من أجل أن تستعد، وتبدو صالحة مسبقا للبيئة المائية التي ستذهب إليها لاحقاً بعد تجهيز السفينة. فمن ذلك الخشب المنقوع في ماء البحر سوف ينبع هواء رطب يلطف حرارة الصيف أيام الامتحانات. بالنسبة لي كان الجلوس ساعات أرقب النجارين ينتخبون الأنواع المختلفة من الخشب، ويقومون بتشريحه وطيه برشاقة مذهلة حول هيكل السفينة، وتحديد مواقع الثقوب المطلوبة للمسامير ذات الأحجام الكبيرة والمصنوعة خصوصا لدى الحدادين الذين أعرفهم شخصيا. وأكثر ما كان يشدني في ذلك العمل الجميل والدقيق في نفس الوقت، تلك الأدوات البدائية التي كانوا يستخدمونها في عملهم، من أداة الثقب المكونة من الخشب والمسمار الرفيع والحبل المطوي، أو المسحاج الذي يشذب ويبري الخشب ويُنعِّم سطوحه، إلى تلك الخيوط القطنية اللانهائية الطول التي يكنزون بها شقوق الألواح المتراصة، (الفتيل). وأطراف قطع الخشب المرصوص لسد المسام المتوقعة في جسم السفينة. وأذكر أن ما يشوقني في براعة الصانع تلك الدقة الهندسية الفطرية التي يعتمدها لتنفيذ تصوره على الخشب دون الاستعانة بأية أداة حديثة على الإطلاق، وكان عندما ينتخب قطعة الخشب المناسبة، ويحدد عليها بعود خشبي رفيع مبروم الطرف، يستعمله بمثابة القلم المغموس في تلك المادة الحمراء الغامضة التي يشترونها في هيئة بودرة يضيفون الماء لها، فتصبح سائلا مثل حبر أحمر كثيف يخط بها ويرسم متخيلاته على اللوح. ثم يبدأ بقطع الخشب مباشرة بالمنشار الرشيق أحيانا، أو بالقدوم الحاد الزاوية أحيانا أخرى، لكن دون أن يخطئ في قياسه على الإطلاق. وحين أكون جالسا معهم يحلو لي أن أستكشف صندوق العدة المستطيل الذي اشتهر به القلاليف أيامها، محاولا التعرف على تلك الأدوات السحرية، فأقوم بإخراج بعض تلك الأدوات، وأضعها بجانب بعضها البعض محاولا أن أتخيل العمل الذي تنجزه كل أداة. وأشد ما كان يبهرني من بين تلك الأدوات ذلك المثقاب الذي يتم إدارته بخيط من الحبل الرفيع والقوي المشدود من جهة إلى قوس خشبي يتحرك أفقياً، ومن جهة ثانية يكون الحبل نفسه مطوياً على عمود قصير ينتهي بمسمار يجري تحريك أداة الثقب فيه بشكل حلزوني، مع الضغط عليه في المكان المراد ثقبه لتكون النتيجة مدهشة. وكان القلاليف يسمونه (المجدح). وكنت أشبه هذا (المجدح) بآلة الكمان الموسيقية ربما لتشابه حركة تشغيل كليهما القائمة على نفس فكرة القوس، وأذكر أنه لفرط إعجابي بتلك الآلة عمل والدي على توفير (مجدح) قديم لي من أحد أصدقائه القلاليف. الغريب في تسمية هذه الآلة أنها تسمية تتصل بنفس الحركة البدائية التي يقوم بها الإنسان ( القدح) الشرار بهدف إشعال النار.
في القاموس: قدحه، خرقه بسن النصل. والعامة تستعمل (قدح) بمعنى ( ثقب). ولكون عاميتنا في اللهجة تحول القاف إلى جيم، كما في تحوير اسم قاسم إلى (جاسم)، فان تسمية هذه الآلة تتصل بضرب من الفصحى. ومن الطريف المشوق أيضاَ أن القاموس يقول أيضا إن المجداح هو ساحل البحر.
فضاء تلك الورشة، إذن، كان بالنسبة لي مكانا آسراً.
تستحوذ على مخيلتي تلك الأنواع المختلفة من الأخشاب، فأجلس إليها متفحصا كل نوع، في محاولة لاكتشاف السر الذي يجعل تلك الأخشاب الكبيرة الحجم قابلة لأن تستجيب لرغبات الصانع الذي يعمد إلى طيها على هيكل السفينة بصورة نصف دائرية دون أن يتعرض اللوح إلى الكسر. أذكر أن أكثر ما يستحوذ عليّ، تلك الرائحة الغريبة المنبعثة من كل صنف من أصناف الخشب، ومن الخبرة التي اكتسبتها فيما بعد بفعل المعايشة و الأسئلة، أن ألوان الخشب المختلفة تشي بطبيعة تميز بعضها عن الآخر، فطبيعة نوعٍ ما تجعله صالحاً بشكل خاص لجزءٍ معين من هيكل السفينة لكونه مثلاً أكثر قابلية للطي، فهو مطواع لرغبة النجار في تشكيله كما ينبغي. وثمة أنواع تكون قادرة على مقاومة الماء بصورة تجعله صلبا كأنه الحديد. وهناك أنواع من الأخشاب تناسب أجزاء السفينة العلوية على سطح الهيكل، حيث تصلح لتحقيق زينة شكل السفينة الخارجي، وقدرتها على مقاومة أنواء البحر والشمس المباشرة. ومعظم هذه الأخشاب تترك بدون أن تطلى لجمال لونها الأصلي الذي يتفنن الصانع في استغلاله بشكل جمالي يضفي على السفينة إيقاعا لونيا لا يعتمد على الصدفة دائما. وكنت حينها لفرط ولعي برائحة تلك الأخشاب وألوانها، أستهدي للتعرف على أسماء تلك الأخشاب وأصنافها بواسطة تلك الشرائط الخشبية الرفيعة الشفافة المتفاوتة الطول والسمك التي تخلفها آلات السحج والتشذيب، التي يستخدمها النجارون أثناء عملهم ب (الفارة)، وهو ما يسميه العامة عندنا (كشبار)، حيث يتجمع كثبان صغيرة متوزعة في مواقع كثيرة من ورشة العمل، وكثيرا ما تستخدم هذه البقايا الخشبية في مواقد الطبخ، وأذكر أن هناك من يملأ بعض أكياس الخيش بهذه البقايا لاستخدامه كوسائد كبيرة في بعض البيوت، خصوصا إذا كان ذلك (الكشبار) ناعما.
كان البقاء في تلك الورشة يشكل بالنسبة لي متعة تخفف أحيانا رتابة الدوام المدرسي الذي كنت قد بدأت في التفلت منه آنذاك. وأذكر أن ولعي بقضاء فترات ما بعد الظهر هناك في تلك الأرجوحة الخشبية المعلقة بين الماء و اليابسة، وضعني في موقف لا أنساه أبدا. فقد ركبت ذات مرة إلى سطح السفينة التي كان يجري العمل فيها، وكانت من نوع (البوم)* الكبيرة الحجم. ورحت أتجول في مرافقها من السطح إلى (الخن)* إلى المقدمة إلى الصدر، ثم طاب لي أن أستلقي في بطن السفينة مستمتعا ببرودة تنبعث من بعض الأخشاب الباردة التي تتدرب على مقاومة نزّ الماء.
استلقيت وشرعت اقرأ في كتاب أحمله معي كالعادة، فاستسلمت لنوم لذيذ لم أفق منه إلا بعد وقت طويل لأكتشف أن الليل يوشك والعمال قد غادروا، وحين أسرعت عائدا إلى الدار كان تأخري غير المعتاد قد سبب ذعرا في العائلة، حيث بدأ الجميع يبحثون عني في كل مكان، ولم تنته المسألة إلا بمحاسبة غاضبة. يومها لم أجرؤ على إخفاء سبب ذلك التأخير. عندها تأكد والدي أن ولعي بصناعة السفن يمكن أن يزاحم اتصالي بمهنة الحدادة، وراح يتندر مع أصدقائه (القلاليف) على الحداد الصغير الذي يعشق حرفة (القلافة). لكنني حاولت أن أشرح لأصدقاء الوالد أن ما يستحوذ على خيالي هي فكرة صناعة السفن التي ستمخر البحار بمجرد رصف ماهر لعدد لا متناه من الأخشاب.
ثمة علاقة غامضة سوف تربطني، مجدداً، بنفس مواقع ورشة صناعة السفن الشمالية تلك. وهي واحدة من المصادفات التي لا أعرف حتى الآن كيف يمكن تفسيرها من وجهة نظر حضور المكان في حياة الإنسان. فبعد سنوات سوف يبنى منزل صغير من طابقين في نفس موقع الورشة، يقابل مدرسة الهداية، ويوازي شارع المطار. ذلك المنزل سيكون سكناً لمدير مدرسة الهداية آنذاك الأستاذ عبد الله فرج. لا تكمن المصادفة في هذا الأمر، ولكنها تكمن في أن ذلك المبني سيتحول لاحقا، بعد سنوات، وبعد مغادرة الأستاذ عبد الله فرج للبحرين بفترة طويلة، إلى أول موقع لفرع المكتبة العامة التابعة لوزارة التربية والتعليم أوائل السبعينات. وقتها كنت لا أزال أعمل في المكتبة العامة المركزية بالمنامة، يإدارة الأستاذ محمد صنقور، الذي رشحني لأن أتولى تصنيف دفعة الكتب التأسيسية التي حصلت عليها إدارة المكتبات كهدية من الشيخ (فالح آل ثاني) من دولة قطر. فوجدت نفسي أعود إلى نفس المكان الذي عشقت ارتياده وقت كانت ورشة صناعة السفن، لكي أمضي عدة أشهر منكباً في العمل مع زميلتين من موظفات المكتبة على تصنيف تلك الكتب التي كانت في معظمها مجلدات قديمة متصلة بالتاريخ وعلوم الدين والفلسفة، وتنبعث منها رائحة التاريخ شكلا ومضمونا. الطريف في تلك المصادفة أن روائح الكتب القديمة ذات الأغلفة الجلدية المتهرئة أحياناً، كانت تذكرني، بشكل ما، بروائح الخشب الرطب والمنقوع في البحر، خشب سبق أن تولعت بألوانه، وتعرفت بصفاته وتنوعه الباهر. ثمة علاقة بذلك المكان تجعلني أفكر كثيرا في المعنى الغامض الذي يجعلني قريبا من المحرق، وخصوصاً بذاكرة المحرق القديمة التي وعيتُ على تفتح معناها الحضاري الحديث كمدينة، معنى أن تتحول الأماكن إلى أشياء ومواد يمكن ملامستها باليد، وتقمصها بالحواس جميعها أيضا، دون أن يقوى الزمن على مصادرة حقنا في استعادتها بالصورة التي تعرفنا عليها للمرة الأولى، كأن ذلك الحق هو الحق الوحيد، لكي لا أقول الحق الأخير، الذي يمكن أن يبقى للإنسان في مدينته.
***
غرفٌ كثيرة في بيت كبير، نشأ الطفل على عادة التنقل بين الغرفة والأخرى منبهراً مغموراً بالروائح الحميمة التي تتميز بها كل غرفة.
هذا هو مكان الطفولة الأول.
كل حجرةٍ مكانٌ.
للغرف في البيت التقليدي الكبير طقوس غامضة أحياناً، كأننا لم نكن قادرين، آنذاك، على إدراك سر الخصوصية التي تتميز بها كل غرفة في ذلك البيت. كنت في السنوات العشر الأولى من العمر عندما انتبهت إلى الحب الذي يتسابق أفراد الأسرة على غمري به. لقد كنت الولد الأول للأسرة.
حتى إنَّ كل واحدة من نساء العائلة تحرص على أن أبيت في غرفتها ليلة من ليالي الأسبوع، غير أن جدتي بسبب كونها الشخصية الرئيسة في العائلة كانت تستفرد بحبها الأشهر لي، وتستحوذ على العناية بي إلى الدرجة التي كانت تثير غيرة الأخريات بما فيهم أمي.
غرفة الجدة هي أهم وأكبر الغرف في البيت بلا جدال. مجرد الجلوس تحت سقفها يضفي أهمية خاصة على الحضور. وأذكر أن والدي لا يحلو له الجلوس إلا في تلك الغرفة. وفي الشتاء خصوصاً تكون السهرات حول المجمرة بعد العشاء لحظات لا تضاهى.
يجلس أبى في مواجهة المجمرة، ويبدأ في دفن حبات الكستناء التي يهتم بجلبها معه من السوق، ويحرك حولها الجمرات المتوهجة. فتبدأ الكستناء بإصدار تلك الفرقعة التي تشي بأنها على وشك النضج. ثم يخرجها بالملقط المعدني الذي يكون قد صنعه هو بنفسه في مستهل الشتاء. فهو يعتني بصنع ملاقط جديدة لمجامر الدار أول كل شتاء. وهذا الحال ينطبق على أدوات كثيرة مختلفة يجري استخدامها في البيت، يهتم والدي بتجديدها بشكل موسمي دائم قبل أن تبلى، هذه ميزة بيت الحداد.
في غرفة الجدة ثمة صندوق قديم من خشب الساج الهندي المزين بصفائح النحاس. صندوق من ذلك النوع التقليدي الذي يسمونه (المبيت). وهي تسمية لا أدرك بالضبط القصد المحدد منها، غير أنه لفرط عناية الناس باقتناء أجمل وأجود أنواعه، ولكونه أحد أهم مقتنيات الدار البحرينية، فهو غالباً يكون في قلب أهم غرف الدار، ويحتوي عادة أغلى الممتلكات وأهمها وأكثرها حميمية وسرية. وربما لهذه الأسباب مجتمعة (يبيت) دائما أقرب إلى ربة البيت في غرفتها الأثيرة.
يحلو أن أفهم تلك التسمية من عادة مبيت الصندوق في الركن الحميم من الغرفة.
في صندوق الجدة، الذي عهدته في ذات المكان منذ وعيت، عادة ما كنت أشعر بأن ثمة حديقة سرية تحتفظ جدتي بغموضها هناك. لم أعرف من قبل حديقة يمكن أن تنبت في صندوق. أيامها كانت الفاكهة فاكهة حقاً على اسمها. وفي العائلة الفقيرة يشكل حضور الفاكهة في الدار حدثاً استثنائياً لا يمكن تفادي الشعور إزاءه بالغبطة الشفيفة.
من الطرائف المرتبطة بالفاكهة في العائلة، أن الوالد قد اعتاد على تقشير حبات التفاح بمدية خاصة يحتفظ بها عادة في جيبه، (وأذكر أنها السكين الوحيدة المستوردة في الدار من خارج صناعة الوالد) وهي مدية من النوع الذي يمكن طيه. إذن فهو يقشر التفاح بحجة أنه لا يقوى على قضم التفاحة بقشرتها السميكة، وفيما أكون جالساً بجانبه منتظراً شريحة صغيرة، سرعان ما ينصحني بتناول قشرة التفاح المتجمعة في الصحن متذرعاً بأن لقشرة التفاح فوائد صحية بسبب القيمة الغذائية في القشرة، وأنه يحب طعمها لولا أن أسنانه لا تساعده على قضمها. وقد اعتدت على ذلك لدرجة أنني وقتها لم أكن أكترث بلب التفاح قدر شغفي بالقشرة. وفي مستقبل الأيام عندما سأعرف من المعلومات العامة أن القيمة الغذائية للتفاح يتركز في قشرته، سوف أبتسم متذكرا نصيحة الوالد المبكرة.
وعودة لحديقة الجدة، فمن بين أصناف الفاكهة التي يجلبها الوالد، سوف تنتخب الجدة أكثر حبات الفاكهة صحة وقدرة على البقاء، وتخزنها بعناية فائقة في صندوقها الأثير في الركن المعهود بحجرتها، حيث لا يصل إليها أحد سواها. فذلك الصندوق لم يعتد أحد غير الجدة على فتحه إلا في السنوات الأخيرة لحياتها، ولكن دائما بمعرفتها.
في الأيام التي تشح الفاكهة ويندر وجودها في البيت، وهذا يحدث كثيراً، سوف تبقى تلك الذخيرة مثل خزانة الذهب. وعندها سوف يعرف الجميع المحبة التي أتميز بها عند رئيسة البيت.
ففي ليالي الشتاء، وبدايات السهرة، سوف يلتفت البعض بغمز واضح الدلالات، هامسين بسؤال طريف: ترى ألم تثمر حديقة الصندوق فاكهة هذه الليلة؟
ثم يلتفتون ناحيتي قائلين: هيا، ألن تذهب إلى الحديقة هذه الليلة؟
وعندها سوف تبتسم الجدة ابتسامة ذات معنى. وتنهض وهي تومئ لي كي أتبعها. وتذهب بي إلى غرفتها وتفتح الصندوق، الذي انتظرت بضع سنوات لكي أستطيع النظر إلى داخله، لفرط ارتفاعه عن الأرض، فتلك الصناديق عادة ما تكون مثبتة على أربع قوائم خشبية ترفعه عن الأرض، حماية له من الحشرات والقوارض، وصيانة له من رطوبة الأرض، و ربما، من عبث الأطفال وفضولهم.
تنحني الجدة في جوف الصندوق برهة وترفع رأسها حاملة بضع حبات من التفاح والموز والبرتقال، وتدفعها في حضني لكي أعود راكضاً بها إلى أبي الذي سوف يبدأ بتوزيعها على الجالسين في تلك السهرة. وسرعان ما يضع يده في جيبه ليخرج تلك السكين المألوفة ويبدأ في تقشير التفاح. غير أنني هذه المرة ربما أكون قد نلت فاكهة حقيقية كاملة، لأنني كنت الواسطة في جلب الفاكهة للجميع.
بالطبع هناك صناديق (مبيتة) أخرى في الدار، غير أنها لا تقارن بصندوق الجدة، حيث الحديقة دائمة الخضرة والثمر في الصندوق المبارك.
هذه ميزة واحدة، من بين ميزات أخرى، تضفي على غرفة الجدة خصوصية طريفة.
ففي وضع الفاكهة في الصندوق الذي يضم، إضافة إلى أشياء مختلفة، ملابس الجدة الخاصة، بشكل يجعل من الصندوق، الذي لا تنفذ إليه الريح ولا النور، خزانة تحتفظ بالرائحة بصورة تضاهي احتفاظ الثلاجات هذه الأيام، عبارة عن حديقة افتراضية، إلى درجة أن معظم أفراد العائلة كان يستطيع أن يكتشف ما إذا كانت الحديقة عامرة بالفاكهة أم لا، من خلال رائحة ملابس الجدة في ذلك اليوم. ولقد كان ذلك الأمر واحداً من أسباب التندر، بسبب الاحتمالات الكثيرة لإصابة بعض الفاكهة بالعطب لطول انتظارها، مما يؤدي إلى اختلاط رائحة العطن الحاذقة برائحة دهن العود والبخور الذي تحتفظ به الجدة في الصندوق لتعطير ملابسها. ولقد حدث أكثر من مرة أن غفلت الجدة عن الفاكهة المخزونة مما أدى إلى فسادها وإصابة محتويات الصندوق جميعها بالرائحة العفنة، الأمر الذي يجبر الجدة على إخراج كل محتويات الصندوق من ملابس وغيرها، وطرحها في حوش الدار طوال النهار لتطهيرها من عتمة الصندوق بنور الشمس. ويومها ستكون الفرجة على أسرار الجدة مجاناً، غير أن الشعور الفادح سوف يتمثل في يقيننا بأن أياماً عديدة قادمة سيكون غياب الفاكهة في الدار مؤكداً.
غير أن أسرار الجدة المكنوزة في صمت المحرق ليست من بين أشياء الصندوق التي تخرج إلى الحوش. وهي أسرار لا تطال وليست في المتناول.
صدفة أنني كنت مرة هناك عندما سمعت نحيباً مكتوماً يصدر من داخل الصندوق.
يومها كانت قد أرسلتني جدتي لكي أنال بعض الفاكهة من الصندوق. ثم نسيتني.
لا أذكر بالضبط من نسي من.
فما إن مددت يدي للبحث عن حبات الفاكهة في قاع الصندوق، حتى تعثرت أصابعي بما يشبه النقش البارز في خشب القاع، تحسسته بأصابعي فعلق إصبعي في ثقب صغير في مركز النقش. فإذا بصوت خافت من نحيب بعيد كأنه يصدر من زمان ومكان مجهولين يقول بخفر: لا تفتح. ثم تصدر من خلفه ما يشبه الزغاريد المكبوتة يتخللها صوت محموم يقول: افتح.
لم يكن لطفل مثلي أن يتفادى فضوله. حركت النقش فإذا بغطاء صغير يأتي في يدي ويندفع من بعده نور خفيف سرعان ما بدت في قاع الصندوق صرة من القماش حائلة اللون تصدر النحيب ذاته والزغاريد ذاتها وتقول: لا تفتحني.
غير أن الطفل كان يستجيب للرغبة المكبوتة. فتحت الصرة بيدين مرتعشتين فإذا بفستان أزرق جديد مطرز بالقصب. ثوب كأنه لم يلبس. وإذا بصورة لبنت مثل فلقة القمر مطوية بلطف الجنيات في كيس من حرير أبيض. وإذا بعقود وقلادات وخرز ملون من كل الأحجام ينثال من ثنايا الصرة ويلون قاع الصندوق ببريق خاطف متسارع مثل كائنات متناهية الصغر تفر من قمقم. وإذا بباقات من الورد البلدي الأحمر والياسمين والمشموم تنشر رائحتها في فضاء الغرفة. واذا بحوش الدار يتبدى بحشود في حركة دوؤبة، وإذا بطباخ ولائم الأعراس الشهير(عبود) الفتى الأسمر المربوع ينصب قدوره الكبيرة على نار الطبخ في سرادق الحوش ويطرح قطع اللحم مغموسة بماء الورد والزعفران وأخلاط بهاراته الهندية. وإذا بفاطمة الخضارية بلثامها الأسود وهي ترفع طارها المزين بالجريسات النحاسية الصغيرة وتصقله بكفها السمراء وتقود فرقتها في حوش الدار وهي تهزج :
مباركين عرس الاثنين، ليلة ربيع وقمرة
واللي جمع بين قلبين الله يطول في عمره.
وإذا بعبود (ما غيره) ينط في رشاقته المعهودة ويبدأ في الرقص متمايلاً مثل غصن الخيزران وهو أفضل من (زفن) بكأس الماء على رأسه فيما عيناه تتبادلان الغمز مع جوقة النساء الملثمات فيبدأن بتناوب التحرش به ويشاركنه بحركات راقصة. وإذا بغيمة كثيفة من رائحة البخور وموجات صغيرة من عطور دهن العود تتسرب منسابة بين الحضور مبشرة بمقدم العروس. وإذا بالنساء يقتحمن الحشد وحلبة الرقص وجوقة الغناء ويدلفن إلى داخل غرفة الفرشة وهن يحملن البنت ذات الوجه الجميل كفلقة القمر محمولة في سجادة جديدة يزفونها على عريسها والغرفة متألقة بالمرايا الكبيرة تغطي جدران الغرفة والرمانات الزجاجية الملونة تتراقص تحت الأضواء الساطعة. وإذا بأصابع أنثوية مخضوبة بالحناء الأسود تنثر الحلوى الملبس في أحضان الناس. وإذا بدلال القهوة الرسلان بنحاسها المصقول تدور وتملأ فناجين الناس. وإذا بالزغاريد والضحكات وأثواب النشل وأقراط الذهب والتعب والسهر والنوم والأحلام والغيم والنجوم.....
وإذا بصوت فتاة تجهش فجأة في بكاء مغدور.
وإذا بجدتي تظهر بغتة صارخة بالجميع: كفى.
فيهمد المشهد كله بغتة وتتلاشى الصور مثل انهيار لوح زجاجي يتحطم على الأرض. ويخيم صمت ووجوم يشلان قدرة الطفل على إدراك ما ترآى له.
فيتلعثم الطفل وهو يسأل: من هذه الفتاة يا جدتي؟
فإذا بالحكاية ذاتها تبدأ كأنها تواصل سرداً لم تتوقف عنه إلا اللحظات التي يحتاجها المرء لالتقاط أنفاسه.
كانت الجدة هي التي تكنز أسرارها للطفل الذي كنته:
هذا ثوب لم يلبس وعرس لم يتم وتلك فتاة مأخوذة.
ثمة كائن يسيطر على ليل المدينة ونهارها. يطارد الصبايا ويخطف بنات الناس وينالهن دون أن يقوى على ردعه رادع. كان هو سيد الليل والنهار. لمح البنت عائدة من عين الماء، فأرسل لها خدينته ذات الوشاح، لاستدراج من يريد من البنات. فغررت ذات الوشاح بابنة القمر التي قدّها الله من كبد أمها. فطار عقل الأب وأصابته العلة الأخيرة، وذهب عقل الأم وقلبها، فأخذت تطوف المدينة من شمالها إلى جنوبها باحثة عن البنت. إلى أن أرشدها الناس إلى الغابة حيث غيبت البنت. لم تترك باباً إلا طرقته ولم تعرف وسيلة إلا توسلتها لكي تعود الصبية وتنجو. حل الحزن في البيت وران الفزع. لم يعرف أهلها النوم ولم يعرف والدها السكينة وقام الذعر في العائلة. فرابطت الأم طوال الليل والنهار في بهو الغابة متضرعة، رجاة أن تعاد الفقيرة إلى فقرائها. لكن ذلك لم يحدث.
قتلت البنت وصبغ بدمها أشجار الغابة وطارت أوراق الشجر ملطخة بالدم وتناثرت في الأزقة. ونالت العلة الأخيرة من الأب، فنصبت في البيت من يومها سرادق الحزن الأبدي، ولم تخلع أمها الأسود حتى الموت .. لتموت.
لماذا أيتها الجدة تكبتين الأسرار.
لماذا أيها الطفل تكتب الأسرار.
لم تنته الحكاية، كأن لم تبدأ الحكاية.
فثمة صندوق مبيت في كل بيت، وفي جميع هذه الصناديق من القصص والأسرار ما تضيق به الكتب وما يشيب له الولدان.
***
أبكر دروس الحياة تلقيتها في سن مبكرة، أنني أتذكر تفاصيل تلك الصورة التي تجسدت أمامي لحظتها، وهي صورة تتماهى الآن مع ما يمكن وصفه بشهوة استعادة الطفولة التي تعرضت لدرجة كبيرة من الاختزال، حتى أنني لست متيقناً ما إذا كنت طفلا في وقت ما، أم أن ذلك كان حلما.
نشأتُ في بيت ينهمك جميع أفراده في عمل متنوع ومتواصل. عمل من أجل توفير الحد الأدنى من أسباب العيش. ففي تلك الفترة (نهايات النصف الأول من القرن الماضي) كانت الحياة في البحرين صعبة وغير كافية، لكون المجتمع الفقير يخرج وقتها من مرحلة الغوص، محملا بكل أعباء ذلك العمل الشاق الذي لا يختلف عن السخرة إلا بكون البحارة يتعرضون لضرب من الاستغلال المركب الذي يجعلهم يضاهون الرقيق. وما إن يخرج الفقراء من مرحلة وهم اللؤلؤ حتى يتعرضون لوهم أكثر فداحة يتمثل في مرحلة وهم النفط، لكي يكتشفوا أنهم في براثن استغلال جديد. يعمل التجار وشركات النفط على شفط دم العمال ونفط الأرض معا. وهذا ما سيمهد سريعا لنمو وتفاقم مشاعر الغضب الشعبي التي ستؤدي إلى انتشار نضالات شعبية ستعصف بالبحرين والمنطقة منذ أوائل الأربعينات. في خضم تلك التحولات كانت الطبقات الشعبية مرشحة دائما لمعاناة عظيمة ستدفع جميع العائلات للبحث عن مصادر الرزق بكل الوسائل الشريفة. وهذا ما يجعلنا نصادف ظاهرة انهماك أفراد العائلة جميعهم بالعمل، ليس الرجال والصبيان والأطفال فقط، بل والنساء خصوصاً.
عندما وعيت تلك الحياة كنت في السابعة من العمر تقريباً، واعتدت على سماع أبي يردد مقولته المألوفة، فيما هو يصف سعيه اليومي لتوفير لقمة العيش، فقد كان يقول لنا أن كل ما يستطيع تحقيقه في هذه الحياة يختصره المثل الشعبي المعروف (قوت لا تموت). مستطرداً في تعليق غامض: أنهم (دون أن يفصح عمن يقصدهم بذلك الضمير الغامض) لا يريدون لنا أقل أو أكثر من ذلك. يريدوننا أن نعمل كعبيد مستسلمين، وفي نفس الوقت لا يتركوننا للموت من الجوع، لكي نكون دائما على شفير الحياة والموت معا).
كان أبي يردد ذلك كمن يحصن نفسه ويدربنا على مستقبل أكثر ضراوة. وهو الذي كان يجرب احتراف كافة أشكال المهن من البحر حتى الحديد. ومعه كان يعمل رجال العائلة، كل منهم على طريقته ومهنته. كانت نساء العائلة ينهمكن طوال النهار والليل في مشاغل ومهن مختلفة داخل الدار وخارجها، يبتكرن الأسباب لتوفير بعض الدعم لمصادر العيش. ولا ينبغي التقليل من أهمية دور عمل النساء في مجابهة مقولة (قوت لا تموت)، وأحيانا سيكون عملهن عنصراً حاسماً في الحصول على لقمة الحياة، خصوصاً في تلك الفترات التي يتعرض فيها الرجال لما يشبه البطالة والجلوس في الدار، مثل الليوث في انتظار الطرائد الناجزة.
في تلك السن كنت أرقب حوش بيت العائلة الكبير وهو يتحول إلى خلية نحل منذ الفجر حتى المساء. كانت جدتي تربي في حظيرة داخل الدار بقرتين تدران بعض اللبن ومنتجاته، وإحدى عماتي تعمل بالأجرة في تطريز الملابس النسائية بالقصب المذهب بأدوات يدوية على طوق خشبي تشد عليه قطعة القماش وتسهر عليها، والعمة الأخرى تشتغل بأجر شحيح في مهن مختلفة، من بينها مشاركة نسوة الحي في حياكة الخيوط المذهبة على أصابع اليد (يسمى الكورار) للملابس والعباءات النسائية، إضافة إلى عملها غسالة عند عائلة أخرى. وكانت والدتي توظف معرفتها في العمل على آلة خياطة تقليدية لتخيط بعض الملابس لأهل الحي مقابل بعض الدراهم النادرة، وهو العمل الذي شاركتها فيه شقيقتي الكبرى التي تركت الدراسة مباشرة بعد ثلاث سنوات تقريبا.
في تلك الورشة المنهمكة في الشغل من أجل (قوت لا تموت)، كانت أشياء كثيرة سوف تعتبر ضرباً من لزوم ما لا يلزم في نظر العائلة. بل أن ثمة أموراً ستكون ترفاً لا يجوز التفكير فيه. وربما ضغطت حالات الضنك على العائلة للتنازل عن بعض الضروريات أحيانا. لكن من أين لطفل في السابعة أن يدرك، من غير لحظة صادمة، معنى الترف تحت وطأة شرط (قوت لا تموت).
أذكر أن أياما كانت تمر على العائلة تجد نفسها، من غير أن تدرك، تشارك أبقار الجدة في علفها، وكان ذلك يحدث بقدر من براءة الفقر، كما لو أنه الأمر الطبيعي، ربما لفرط العلاقة (الحيوية) بين أفراد العائلة والبقرات الطيبات. فعند جلب شوالات علف البقر المكون عادة من نوى التمر، ننشره في حوش الدار ونبدأ في تنقيته من الشوائب، ومن بين هذه الشوائب سوف نصادف دائما بعض التمرات اليابسة المتبقية بين النوى، فنقوم بجمع هذه التمرات وغسلها، ثم تقوم جدتي بتحميصها لنا ببقايا الزيت المستخلص من زبدة البقر، الأمر الذي يوفر لنا وجبة لذيذة ومغذية سوف يزاحمنا عليها أبي وعمي في جو من المرح الذي لا ينسى. مما يجعل يوم إحضار علف البقر مناسبة (عائلية) مشحونة بالبهجة.
كل ذلك المشهد من شأنه أن يكون درساً شاملاً لا تنساه الذاكرة، غير أن لحظة الدرس الشخصي الذي أذهب إليها هنا هي في انتظار عودة والدي من يوم فادح.
كنت في سنتي الدراسية الثانية على ما أذكر. داخلاً الدار لأذهب مباشرة لأبي معلنا عن رغبتي في استبدال نعلي القديم بحذاء أبيض يلبسه معظم زملائي في الفصل. ولم يكن ينقص والدي في ذلك اليوم إلا أن يسمع ابنه الوحيد والمدلل يطلب حذاء. وهو أمر سيكون بمثابة الانتقال التاريخي من مرحلة النعل إلى مرحلة الحذاء، انه حدث جدير بالذكر حقا. المشكل أن توقيت طلبي لم يكن مناسباً على الإطلاق. ساعتها لم أكن أدرك الأمر، وقد عرفت فيما بعد، أن والدي كان قد عاد ذلك اليوم بعد نهار فاجع من البحث عن عمل دون فائدة، أكثر من ذلك أن ديناً من تركة أيام الغوص لا يزال بعضهم يطلبه من أبي بالحاح صارم، في حين كان زاد العائلة يوشك أن ينفد. أي أنني جئت لكي أضع الملح في الجرح و أضاعف معاناة والدي.
صعق الطفل بانفجار البركان بين يديه، حيث دوت صرخة الوالد في أرجاء الدار كأنه يستجير بالسماوات لكي تنقذه من هذا العذاب الذي لا يحتمل. ولم أفهم، لفرط المفاجأة، سببا آخر، سواي، لانفجار الأب. فركضت مذعورا ليتلقاني حضن والدتي مدركة ما يحدث. كان الجميع يعرف غضب والدي الذي سرعان ما يتحول إلى نسمة رقيقة بعد لحظات قليلة، غير أن غضب ذلك النهار كان مختلفاً. كان نهاراً بحاجة لليلة كثيفة من المشاعر لكي يكون الحب أكثر صلابة من الحياة والدرس على آخره.
كانت العائلة الكبيرة تهدأ في مراقدها في منتصف ليل مشحون بالقلق، كل في غرفته. نحن في الغرفة الصغيرة. والدي وحده على سريره المتواضع، ووالدتي وأنا وشقيقتي الكبيرة على الأرض. لم يدركني نوم أبداً. وكنت تقريباً أسمع دقات قلب والدي والنبض المتسارع في أوردة القلب المتوهج في صدر أمي. فإذا بي أسمع حركة أمي في الظلمة الغليظة وهي تفتح صندوقها الصغير تحت سرير الوالد ثم تزحف نحو رأسه تسمعه همساً يضاهي التضرع، تبينت تدريجياً أنها كانت تقدم له شيئا من النقود التي جمعتها من عملها في الخياطة من أجل أن يأخذني في اليوم التالي للسوق ليشتري لي الحذاء المطلوب : (انه ولدنا الوحيد، نحن تعودنا على حالة العوز، لكن لا تكسر قلب ولدك يا محمد).
( .. يا محمد) ؟
لم اسمع أمي تنادي أبي باسمه مجرداً قبل تلك الليلة على الإطلاق. هذه المرة الأولى التي أشهد العلاقة بين أمي وأبي بهذا الوضوح والمباشرة والصرامة والحب في لحظة واحدة. وكان على أن أصمّ أذني لكي لا أسمع الاضطراب المتسارع لدقات قلب أبي وكلماته التي كانت تشبه النشيج وهو يتلعثم ببعض كلمات غامضة. ولكي يكتمل ذلك الموقف محفوراً في الذاكرة، لن يعرف أبي نوماً قبل أن يقترب مني، معتقداً أنني في النوم، ويلثم وجهي بقبلة حسبتُ أنها الجنة.
وكأن ذلك لم يكن كافياً أيضاً.
فالدرس سوف يكتمل في الصباح، حيث سيفاجأ والدي بشقيقتيه قد جمعتا مبلغاً من دخلهما الشحيح كلفتا الجدة، التي أضافت إليه شيئاً من صندوقها القديم، بتسليمه إياه من أجل أن ينال الابن الوحيد الحذاء الأبيض الذي يحب.
لقد كان الدرس على درجة من الفداحة بحيث شعرت للمرة الأولى بأن الذهاب إلى المدرسة سيظل يشكل عبئاً وسبباً دائمين لمضاعفة تكاليف حياة العائلة. أقول كان درساً فادحاً لأنني بالفعل بدأت منذ تلك اللحظة أنطوي على ضغينة غير معلنة تجاه الدراسة. ترى هل كنت أعبر عن كفايتي بذلك الدرس المبكر والقاسي لكي أتفادي أية دروس أخرى؟.
ومن يومها كنت قد تهيأت، لاشعورياً، للانهماك المبكر في الحياة العملية، بلا توقف طويل في طفولة غامضة وصبا مختزل، لكي أجد نفسي دائماً في منعطفات تجربة الحياة ذات المشاغل الجادة. وبدأت مبكرا مشاركة والدي في تحمل أعباء حياة العائلة، محاولاً أن أفهم معنى تجاوز حالة المثل الشعبي القاسي: (قوت لا تموت).
هذه هي (عين نجم) إذن.
لم يشعر الجميع بالوقت. ولم ننتبه لغياب ابنة عمي (أم فيصل)، إلا بعد أن سمعناها تدعونا للأكل. لحظتها فقط شعر الجميع بالجوع. فنحن لم نتناول شيئا، تقريباً، منذ غادرنا القطيف. خرج الجميع، بملابس تتقاطر برحيق المعدن، واقتعدنا أطراف الصخور نتعرف على الأكل. شاي بالحليب، الخبز المتأخر، المربى، لكي يلسع حناجرنا بحلاوته، والجبن، الذي ستجرح علبته المعدنية أصابعي فيما كنت أتلمس الطريق إليه في العتمة، خليط من الفاصوليا الخضراء المطبوخة سلفاً منذ الظهر. ثم ذلك الطبق الذي سيفاجئنا جميعاً، ويدفعني إلى منتهى البهجة كأي طفل. فقد كنتُ في ذلك الزمان أحد المذهولين بالاختراع الخارق الذي يسمى (معكرونة)، وكانت المرحومة (أم فيصل) تحسن إعداد ذلك الاختراع، كما لو أنها تعيد ابتكاره في كل مرة. الأمر الذي جعلها تهيئ ذلك الطبق كمفاجأة لي. قالت إنها مكافأة إضافية، لأنني كنت صاحب فكرة الذهاب إلى ماء الإحساء.
ولكي تبدو الأسطورة رفيقة لطفولتنا، وعدنا السيد (علوي) أن يأخذنا، في طريق العودة إلى سوق التمر، لنحمل معنا شيئاً مما اشتهرت به الإحساء في جميع العصور. وأظن أن الأسطورة هي ذاتها التي هيأت لي، في السنوات الأخيرة، صديقاً من الإحساء اعتاد أن يتحفني، كل عام، بسبائك التمر المطيب بعسله الكثيف.
فشكراً لأن الإحساء لا تزال قادرة على دفع الروح في ذاكرتي، لكي أسرد شيئاً يتقاطع مع الخيال متجاوزاً الواقع.
****
يستعيد عبوره المكترث للجسر القديم الذي يصل بين جزيرتين تطمحان لتكوين بلد هي الأصغر في خريطة العرب.
جزيرتان. وصفتُ الجسر بينهما ذات نص، بأنه يصل بين ميمين:
( ميم الحسرة وميم المرارة)
يقف قبالة الزرقة التي ترافق العابر الصغير من حافة المحرق إلى شرفة المنامة. زرقة مزخرفة بالمراكب. كان الطفل الذي يتجاوز السادسة بقليل معتمداً على ركبتيه في المقعد الخلفي المستطيل بالحافلة الخشبية، واضعاً ذقنه على حافة النافذة، محصوراً بجسده الضئيل بين والده وراكب آخر تدثّر بأكثر الملابس دفئاً فأخذ حيزاً يكفي لاثنين. كان منتصباً متشبثاً بحافة النافذة لتفادي اهتزاز الحافلة الخشبية التي تستجيب لكل تضاريس الشارع بإخلاص، مصدرة ضجيجاً يكفي لإيقاظ طبقات الإسفلت حتى أحجار الجسر القديمة. وبدا أن الطفل قد أوشك على نسيان نفسه وهو يطلق أحداقه واسعة في هذا الماء اللانهائي الذي يرافق الحافلة من الجانبين، يرسل بصره كمن يرى العالم بأكمله.
حين توقفت الحافلة عند مدخل الجسر في صف العربات الأخرى منتظرة دورها للعبور، يلاحظ عدداً من المراكب تتجمع على الجانبين، يلفت نظر والده للخليط المتنافر من السفن، خصوصاً تلك التي تنتصب صواريها عالية.
(لماذا ننتظر كل هذا الوقت يا أبي؟).
فيخبره الأب بأن وقت فتح الجسر قد أزف الآن لكي تعبر السفن.
(كيف يمكن لهذه المراكب أن تمر تحت الجسر الذي يكاد يلامس سطح البحر؟). فيعرف من الأب بأن ثمة رجالاً سيعملون الآن على فتح الجسر ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج.
طاقة الطفل على التخيل تتساءل :
- كل هذا الحديد والأسمنت يجري تحريكه بالأيدي؟.
شعر الأب أن شك الطفل سوف يمس مصداقية رجل مثله :
- يجب أن ترى ذلك بنفسك.
- هل يمكن ذلك يا أبي؟.
أمسك الأب رسغ طفله الذي يتصنع فضولاً أكبر من عمره، وترك الحافلة مستأذناً من السائق بأنه سيقوم مع ولده بإلقاء نظرة على المشهد عن كثب. سوف ننتظر هنا على السور حتى يبدأ العمل. ثمة عبور مزدوج يحدث هنا يومياً علينا أن نرقبه بأنفسنا لكي نصدّق أن الأمر يحدث بالفعل. أجلس طفله في مواجهة البحر، وجلس بجانبه، وأرخيا سيقانهما ناحية البحر. وبعد دقائق كانت العربات قد عبرت، وبقيت ثلاث عربات صادف أنها وصلت متأخرة بعض الوقت، وعليها أن تنتظر حوالي ساعة واحدة لكي يتأكد الطفل أن هذا الأمر يحدث بالفعل.
برز ثلة من الرجال الأشداء يحملون مفتاحاً كبيراً أخذوا يثبتونه في موقع ما في منتصف الجسر بشكل جانبي. وما إن لمح سائقو العربات ذلك حتى أخذوا يتركون عرباتهم وينادون الركاب الذين يرغبون عادة في اختصار انتظارهم. وإذا بعدد أكبر من الرجال يتجهون ناحية الرجال الأشداء، ومفتاحهم الكبير في منتصف الجسر لمعاونتهم على إدارته. التفت الأب ناحية الطفل:
- هل رأيت؟ هذا ما يسمونه (فزعة الجسر). انه العمل الجماعي الذي سيقوده دائماً شخصان معروفان للجميع، (علي بوتاكي) من المحرق و(سلمان) من راس الرمان ناحية المنامة، وكلاهما يتميزان بقوة جسمانية ظاهرة. ويشاركهما من يصادف وجوده على الجسر.
انتظرني هنا، سأذهب لكي أشارك الآخرين في فتح الجسر.
راقبنا ولا تترك مكانك.
تواجه الرجال في صفين متقاطعين يمسكون بأطراف المفتاح المثبت في أرضية الجسر، وأخذوا يطلقون أهزوجة تنظم حركتهم في إيقاع واحد رتيب ومهيب. ويدورون في ما يشبه حركة الحلزون الدائرية على شفير جسر أخذ ينفرج ببطء شديد ولكن بثقة، كأنهم يعرفون ما يفعلون، فيما يأخذ الجسر بالتحرك في شكل انحراف كامل مفسحاً ما يكفي لمرور السفن. وفي الوقت نفسه انفرجت أسارير الطفل، وهو يراقب الجسر الضخم يستجيب لقبضات الرجال الذين كانوا يفعلون ذلك بحركة لا تخلو من المرح. إنهم يزيحون كتلة الحديد والأسمنت التي كانت تعبر عليه كل تلك العربات يومياً، وهو ينشق ويتسع شيئاً فشيئاً، ليتأكد له أن وقوف تلك السفن بصواريها العالية ليس انتظاراً عبثياً، ففي الأمر شيء من الجدية، وإن والده كان يعرف ما يقول حقاً، وها هو بالفعل يشارك في تحقيق تلك الفسحة الرحبة التي بدأت تسع أكبر الفلك لكي تواصل سفرها في الجانب الآخر من البحر.
وبالفعل بدأت السفن بالتململ وهي تعدّل من موقعها متجهة، في صف طويل لتعبر معبرة عن شكرها لأؤلئك الرجال، بالصوت والإشارات اليدوية الصادرة من بعض البحارة. أما السفن البخارية فقد بدأت تطلق صفيراً جهورياً تحية للسواعد المفتولة التي وقف أصحابها مستندين الى سور الجسر الجانبي لأخذ قسط من الراحة واستعداداً لجولة ثانية ستكون أكثر حيوية وتفاعلاً، حيث سيهزجون بأسرع من الأهزوجة السابقة، فقد أنجزوا عملاً مذهلاً بالنسبة لطفل يرى الأمر يحدث أمامه للمرة الأولى.
لقد كان يعتقد بأن الجسر وضع ثابتاً لعبور العربات، وهاهو الآن يرى بأنه جسر لا يمنع السفن عندما ترغب في العبور هي الأخرى. الجسور الطيبة هي التي تنقل الناس دون أن تمنع البحر ولا تقطع السفن.
عندما عاد الأب كان الصهد الخفيف يرطّـب جبينه وفوديه :
- هل صدقت، إن هذا يحدث كل يوم؟.
أمسك الأب بيد ولده المهتاج لفرط التجربة، وعاد به إلى الحافلة، التي بدأت تدير محركها استعداداً لمواصلة الطريق إلى المنامة. تأمل الطفل الزرقة بأحداق تتسع من الدهشة، وأخذ ينهال على والده بسيل من الأسئلة عن أولئك الرجال الأشداء الذين حملوا المفتاح الكبير. هل هذا عملهم الوحيد؟ وكيف يحدث أن يشارك أصحاب العربات والركاب في تلك العملية دون أن يكون ذلك عملهم؟ ثم ما هي الأغنية التي كنتم ترددونها أثناء العمل؟ وهل من بين كل هؤلاء الرجال الشخص الذي بنى الجسر؟
التفت الأب نحو طفله البالغ الفضول، وافتر ثغره عن ابتسامة تعني إن اختزال كل هذه الأسئلة، يستدعي اختصار تجربة إنسانية كاملة في ثلاث أو أربع كلمات. وكان الأب يرقب في البدء منذ أيام الغوص الأولى، تلك الحكاية التي لا يمل من تكرارها، فشعر الطفل بأن الأمر سوف يأخذ منه ثلاث ساعات إضافية للإصغاء الى قصة سبق أن سمعها مئات المرات لكي يدخل بها الأب، بعد كل ذلك، إلى حكاية الجسر. فأدار الطفل رأسه، متنازلاً عن فضوله، ففهم الأب مغزى ذلك.
ماذا أفعل لك؟ إن كل قصص حياتنا تبدأ من هناك.
عليك أن تؤجل الأمر بضع سنوات لكي تعرف كل شيء بنفسك.
كانت الحافلة الخشبية قد وصلت إلى نهاية الجسر من ناحية المنامة، حيث سمع مساعد السائق ينادي (راس الجسر؟).
ورنّت في أذنيه أهزوجة الرجال، وهم يديرون المفتاح الأعظم في منتصف الجسر:
(اشلون جيّم الجسر
آيّـه على وظيفتي
وظيفتي إميه وعشر ..)
سمع الأب ما يستعيده الطفل في ذاكرته، فابتسم لأن طفلاً في هذه السن يريد أن يذهب إلى التجربة باكراً إلى هذا الحد.
لا بأس، ما عليك إلا أن تنتظر،
و إذا لم تذهب إلى المستقبل،
فإنه يأتي إليك،
لأنك تعبر الجسر إليه أينما وجهت وجهك.
***
1
بحرٌ عاصفٌ. موج. جبالٌ من الماء الهائل تتلاطم وتدفع السفينة إلى الجنون. مياهٌ كثيفة تخترق الليل وتغمر سطح السفينة، فتتناثر محتوياتها وأدواتها على الجانبين. ثمة بقايا شراع شبه معقود تصفقه الريح فيتقوّس وينبعج، خارجاً عن سيطرة بحارة يركضون في الاتجاهات كلها، يتشبثون بما يصادفهم، فتبدو تضاريس السفينة، وهي في مهبّ الضياع، أطواقَ نجاة في أحداق الغرق.
ربانٌ يوزّع أوامره بصرخات مذعورة فيتضاعف الذعرُ في كوكب السفينة، فلم يكن ينقص البحارة والسفينة في تلك اللحظة إلا ربّان مذعور، حيث غضبُ القائد الخائف خيرُ مرشد إلى الهلاك.
في لحظات سريعة بدأ يتضاءل شعورنا الواثق بحجم السفينة، التي كان الأهالي يسمّونها (الديرة) لفرط ضخامتها واتساع سطحها ورحابة صدرها، يوم كانت تشقّ بحر السفر من جهة، وتغمر البحارة بالخير الوفير والراحة من جهة ثانية. ها هي الآن أكثر ضآلة من ريشة في الريح، ففي موج شاهق مثل هذا لم تعد الحجوم قادرة على المحافظة على نسبها، ففي الخطر تصبح جميع الأشياء تحت رحمة البحر، البشر والخشب والمعادن. تذكرتُ يوم قلتُ لأبي إنني أصبحتُ رجلاً كبيراً وأستطيع دخول البحر معك، حيث قال ساعتها:
اسمعْ، ليس على البحر كبير، إنه أكبر من كل شيء، وما عليك إلا أن تجرّب ذلك.
الآن فقط أفهم المعنى الخطير في تلك الكلمة.
مثلما لا تستطيع أن تقبض على الماء تكون قبضة البحر قادرة عليك. وها نحن في العاصفة التي بدأت تمزق أخشاب السفينة، مثل طفل يعبث بلعبته الورقية. كل شيء كان في المهبّ، كل شيء عرضة لأن يستقر في مكانٍ ما في المسافة بين الريح والقاع. الصارية وحدها لم تزل ثابتة القاعدة في منتصف السفينة، فيما كانت قامتها تتأرجح مثل بندول معلق في فراغ، خشبة نحيلة شبه عارية تتأرجح منها حبال كثيرة كألسنة الأفاعي، في طرفها بقية من شراع، لتبدو مثل شخصٍ ذاهب إلى الحرب يلوّح للمودعين لكي ينقذوه، فيؤمنون بإصراره على الذهاب.
الصارية وحدها كانت هناك تتأرجحُ بفوضى واضطراب دون أن نعي سبب قدرتها على الصمود الغامض. وفي لمحة خاطفة أضاء البرقُ سطح السفينة لتشخص الأعين في قاعدة الصارية، كان ثمة شخص لا يزال مصلوباً هناك.
لحظتها فهمنا ذلك الصمود الغريب الذي كانت تتحصّن به الصارية، إنها محتفظة برهينتها، ففي غمرة ذلك المشهد العاصف، حيث الكارثة تحاصر السفينة وتحدق بالجميع، لم يزل ذلك الشخص موثوق اليدين والرجلين في أصل الصارية، عيناه طائرتان مثل عصفورين أفزعتهما العاصفة في غابة تحترق، حيث لا مفر.
لقد كان الشخص آخر ذكريات ما قبل العاصفة، يؤدي عقاباً سابقاً دون أن يجرؤ أحدٌ على إطلاقه. لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني، ونحن في المشهد العاصف نختلج في حضرةِ موتٍ وشيك .
2
كان والدي يسرد الحكاية، مرتعش اليدين مختنق الصوت ملتهب العينين محتقن العواطف، كمن ينقل خبراً تمنى لو أنهم اختاروا شخصاً سواه لقوله. تتنازعه لذة التجربة وعذاب الرواية.
توقف لحظة عن الكلام، وأخذ يزفر بأنفاس غواص خرج تواً من الأعماق.
حملقتُ في وجهه فرأفتُ به. كدتُ أطلب منه نسيان الأمر والانتقال لحديث آخر. لكنه أشاحَ بيديه كمن يطرد الفكرة. أشعل سيجارته وصرَّ عليها بإصبعين معروقتين تشوبهما صُفرةٌ قديمة، كاد أن يستسلم لبرهة من التأمل، ولكنه سرعان ما اعتدل وهمهمَ، كمن يحدث نفسه:
كيف يمكن أن تقيّد شخصاً وتلقي به في البحر، ثم تطلب منه أن لا يغرق؟.
بادرته بسؤال يتلجلج في حنجرتي طوال الوقت، عما إذا كان يتذكر اسم الشخص الذي كان مصلوباً في الصارية. نظر في عينيّ يلومني على السؤال الفاضح، ثم حاول أن يبتسم، فاندلعتْ تنهيدةٌ مريرةٌ مثل جمرة تحرق الشفتين والعينين معاً:
لا أهمية للأسماء، أي شخص منا يمكن أن يكون هناك، لقد كانت الصارية جواباً على كل سؤال.
قلت له:
ولكن في تلك العاصفة، حيث يستوي الجميع في الموت، ألم تكن الضرورة تستدعي إطلاق المصلوب للمشاركة في إنقاذ السفينة.
انتفضَ كمن لدغته الفكرة، وهو الذي لا يريد أن يبدو أمام غَـرٍّ مثلي في صورة الغياب أو القصور عن إنقاذ السفينة:
مثل هذه الفكرة لا تراود أحدٌ في حالنا. لم نتعود على جرأة التفكير في مثل تلك المواقف. لقد كان كل مَنْ يستحق الصلب يخرج من حساب الموت والحياة، إنه لا يعود موجوداً على الإطلاق، فما إن يربط في الصارية حتى يصبح خارج البشر، إنه في حكم الصارية وجزءٌ من مصيرها، عليه أن يقضي العقوبة كاملة كيفما كان، لقد خرج عن (قانون الغوص) وعليه أن يقبل بحكمة الريح.
قال جملته الأخيرة وهو يحدّجني بعينين جمرتين، كمن يبحث عن يقين بموافقتي على قوله.
لم أكن لحظتها قادراً على بذل الأجوبة الشافية لأبٍ لا يريد أن ينسى تجاربه الأليمة في أيام الغوص، ولا يكفّ عن استحضار الحكايات، كما لو أنها تحدث الآن. في تلك الساعة خصوصاً لم أكن قادراً على مقاومة السحر الغريب الذي يستحوذ عليّ، بهذه الحكاية الفاتنة، لكي أستعيد حادثة أخرى، عن صديق أعرفه، صُلبَ على البوابة الداخلية في باحة السجن أمام رفاقه، لمجرد أنه فزع من نومه تحت وطأة كابوس الليل، فنهض يصرخ بالآخرين لكي يدركوه بالماء، لشعوره الغامض بعطش فاحش يكاد أن يقتله، وهو في هيئة جثمان يفرز أسراباً لا نهائية من الكائنات الصغيرة تدبّ من الجسد المسجّى، سرعان ما تنشر هذه الكائنات أجنحتها وتطير. وقد فسّر بعضنا ذلك الكابوس بطبيعة السجن الصحراوي، حيث الفقد كيمياء الحياة. اعتبر السجان صراخ الكابوس خروجاً عن قانون السجن، يستوجب مضاعفة العقاب في صورة الصلب. وفي ظهيرة اليوم التالي كان علينا نحن المعتقلين جميعاً أن نتجرع شعور اليأس والمذلّة، لعجزنا عن إطلاق صديقنا من صلبه، فقد كانت حناجرنا مجرّحة لفرط العطش.
تذكرتُ صلب ذلك الصديق في ذلك المشهد، لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني.
3
المحرق، ليست نهاراً فقط. لكنها ليل أيضاً. وهو ليل كثيف مشحون بالسهرات المكتنزة بالقصص والحكايات. ونادرا أن تصادف حكاية من حكايات المحرق لا تتصل بالبحر. كأن البحر هو جوقة من الرواة القادمين من الماء لفرط ما تزخر به تلك السهرات من أعشاب البحر ومخلوقات الأعماق والأسماك القادرة على التجول في أزقة المحرق تصحب أبطال القصص مثل زينة المشهد وأديمه.
أبي مثلاً.
انه نموذج لهم. لكل رجال المحرق الذين يشكل لهم الحديث عن البحر متعة من لا يريد التوقف عن السرد. وفي الشتاء سوف نقتسم الليل بين مطلع في اللعب خارج الدار وسهرة النوم متحلقين حول والدي وهو يروي قصص البحر التي صاغها وشارك فيها ووحده له حرية التغيير المستمر لنهاياتها.
حرَّكَ كومة الفحم المتأجج في مجمرته، ودَسّ حبات الكستناء في رمادها الملتهب:
"هذا شتاء يستحق الاحتفاء، لئلا يقال إننا كنا نهدر الانتظار، ولسنا مؤهلين لمطرٍ مثل هذا، ينصبُّ علينا مثل غضب الله الغاضب".
في العام الماضي أبلغه مهندس الطبيعة أن عطباً أصابَ اسطرلاب الطقس، فاختلتْ روزنامة الفصول، مما أدى الى تخلف الشتاء عن وقته. وقيل إنه لم يذهب إلى أي مكان أبداً. سمع قشرة الكستناء تستجيب لكوامن الرماد، وتفتح بواباتها بصوت لذيذ، يذكره بتقصّف شروش المحار على سطح سفينة تمور وتنتقل من الذاكرة إلى المخيلة، كأنها الآن.
و(الآن) ليس ظرف زمان فحسب، لكنه ظرف مكان أيضاً.
حيث البحر سيد الوقت والمكان.
حرّك الجمرَ وأبعدَ حبة الكستناء عن برتقالة الرماد. تناول الحبة بأصابع ثابته، وحنا ظهره يعدل من طيّة عبائته الوبرية حول جسده. وفيما يقشر بأصابع ثابتة حبة الكستناء، استغرق في استعادة الحكاية التي لم يسأم من سردها كلما سنحت له الفرصة. الحكاية ذاتها التي كانت تستهويني في كل مرة، كما لو أنني أسمعها للمرة الأولى :
***
( كل شيء كان على طبيعته، وكنت أتولى طرف الحبل الذي كان عمك يغوص بطرفه الآخر على محار الأعماق. هذا تقليد يعتمده أهل الغوص، إذا صادف وجود شقيقين معاً على مركب واحدة، لابد أن يغوص أحدهما و(يسوب) الآخر عليه، ففي هذا التقليد مجابهة مباشرة للمسئولية.
في الليلة السابقة كنت ضحية أرق لا أذكر له سبباً محدداًً، لكنه أرقٌ جعلني منهك القوى ضعيف المقاومة. مما أدى إلى غفلتي عن الحبل الذي بين يديّ، بحيث لم أنتبه إلى نترة عمك المنتظرة. كان عمك تحت الماء، بعد أن أنهى غوصته الأولى. شعرت فقط بصفعة (النوخذا) التي أطارت صوابي وهو يبعدني بعنف عن مكاني، ليسحب الحبل بسرعة. وفي ذهولي أكتشف أنني كنت في النوم، في الوقت الذي كان عمك يطلب نجدة من يسحب الحبل. وما إن شق سطح الماء برأسه، حتى انتفض مثل سمكة تنال حرية الماء ثانية. وهو يصرخ بصوت لا يمت للبشر، صوت بين النحيب والشهيق والصهيل والغيظ في آن واحد. وسرعان ما انتشله الآخرون ورموه على سطح السفينة، وهو لا يكاد يصدق أنه في الحياة.
لذتُ جانباً أرقب ما يحدث عاجزاً عن الكلام. لقد كان عمك على وشك الموت بسببي.
لم نتبادل كلمة واحدة.
كل ما استطعنا أن نفعله هو ارتماء كل منا في حضن الآخر في عناق شرس، كمن يعاقب الواحد منا شقيقه على أمر لا يحدث أبداً. لم يلتفت (النوخذا) نحونا، رَمى الحبلَ في وجهي بعينين محايدتين. استدار إلى منصته، قاذفاً نفسه في عالم التبغ، ولم يجرؤ أحد، حتى معاونه، على الاقتراب منه.
أمضى البحارة طوال تلك الليلة يتوقعون ما الذي سيكون عقابي على ذلك.
كنت أرقبه طوال الليل، لنصبح اثنان لم يقدرا على النوم: النوخذا وأنا.
في الصباح، بعد حبة التمر وقهوة العلقم، صرخ بي (النوخذا) لكي أقترب. تأملني لحظة ثم قال:
- إنه أخاك يا محمد، ماذا ستفعل لو أن أحداً غيرك ارتكب هذا الخطأ؟
من الواضح أنه لم يكن يطرح سؤالاً. لقد كان يعيد صياغة الاحتدام الكثيف الذي عانيته، معه، طوال الليل.
لم أعلق سوى بما يشبه الهمهمة. أدركَ منها أنني سأقبل الحكم الذي يرانى أستحقه. صَفَنَ برهة أخرى، ثم نادى (المجدمي) وقال له :
- خذ محمد إلى الصارية.
انتفضَ بعض البحارة الذين سمعوا الأمر. وأكثرهم ارتعاشاً كان عمك. وفيما كنت أسير خلف (المجدمي) ناحية الصارية، اندفع عمك نحو النوخذا صارخاً:
- انه أخي، وها أنا سليم لم أصب بمكروه، إنني أعفو عنه ولا داعي للعقاب.
ابتسم (النوخذا) على غير عادته:
- إنه أخوك حقاً، ولكن هناك، في البيت، أما هنا فهو يرتكب الخطأ في حق الجميع، ربما تسامحه أنت، ولكن البحر لا يغفر لأحد.
وما إن التفت عمك ثانية حتى كان الحبل قد أكمل عقدته حول جسدي لكي أكون مربوطاً بالصارية. وسرعان ما انثنى الجميع متفرقين كل إلى عمله. وبقيت في الصارية ثلاثة أيام مع الماء والتمر فقط. دون أن أقوى على الاعتراض. ففي الغوص يا بني ليس الربان هو الحاكم، لأنه معنا على نفس المركب وفي نفس الخطر، الحاكم وقتها هو البحر.
في تلك الليالي المقمرة، والبحر في هدوئه، والجميع في آبار النوم، و أنا أحدق في بريق غامض يتراقص فوق سطح الماء، كان عمك وحده يجلس ساهراً بجانب (السريدان) يحرك الجمر الكسول، ليبقي توهجه ساهراً معنا في صمت السفينة الدامس. كان عمك يحرك الجمر في تلك المجمرة متخيلاً خشب الصارية وقوداً طيباً للشتاء القادم. لكنه ظل شتاء لم يأت، لم يأت أبداً يا بني).
4
عندما وصل أبي عند هذا الحد من روايته، كان قد أنهى تقشير كومة صغيرة من حبات الكستناء، وبدت أطراف أصابعه مسودّةً، فاستدار يبحث عن إناء الفناجين ليغسل أصابعه في الماء. ثم يقدم لي الكستناء المقشر، مازحاً:
- هيا، دعني أرى كيف ستقرض هذه الحبات كما يفعل الفأر، لقد فعلت ذلك من أجلك، أنت تعرف إنني لا أملك الأسنان اللازمة لهذه المهمة. فقد نال مني البحر كل شيء.. كل شيء يا بني.
كان عليَّ أن أكون مستعداً ذات سردٍ لكي أطرح السؤال على والدي، في محاولة لمعرفة هذا الهيام الغريب برواية قصة الصلب نفسها بين وقت وآخر، حيث يسرد التجربة بحماس مَنْ يستلّ شوكةً من باطن القدم تجعل المشي في الحياة متعذراً، حماسٌ سوف يجعل الجسد مثل ريشة في رواق تعصف به الريح.
كان عليَّ أن أختار مناسبة أكثر هدوءاً لئلا يكون رجلٌ مثل والدي قادراً على مواصلة أداء دور المهزوم الذي حانت لحظة انتقامه ممن يعترض الطريق نحو الحكاية التالية عن بحرٍ لا ينضب.
لو أن العمر امتدَّ بوالدي بعض الوقت لكنت سألته السؤال، وربما سعيت معه لجوهرة المشاعر المكبوتة، تلك المشاعر المتصلة بحادثة الصلب في الصارية. فقد بدأت تتوضح لي جوانب غامضة من طفولة كان والدي يرعاها بأسلوب لا يخلو من الصرامة المبالغ فيها أحياناً. فربما فهمتُ الآن، بعد فوات الأوان، تلك الحادثة التي وجد فيها والدي شكلاً خارقاً لمعاقبتي على خطأ غرّتني به طفولةٌ طائشة.
5
ما إن عدت من المدرسة ذات ظهيرة، حتى وجدت جو البيت محاصراً بالوجوم، تأخذني والدتي برفق لكي أتناول غداء مازلت أراه أمامي الآن مثل لوحة مألوفة لطبيعة صامتة، لأنني لم أقدر على مسّ قرص الخبز وحبات الحمص لفرط الهلع الذي انتابني. كان أفراد العائلة ينظرون إلي بأعين شاخصة متذرعة بالخوف المشفق، وهم يديرون رؤوسهم نحو تلك الخشبة المغروسة في حوش الدار، يتدلى منها حبلٌ يكفي لشنق تسعة أشخاص وجلب الماء من بئر بعمق تسعة أمتار بالباقي.
وعندما اقتربت من أبي الجالس في صدر المكان، متحصّناً بصمته المعهود حين يكون غاضباً، شعرت بأن ثمة كارثة تحدق بالموقف. ومثلما يعرف الخاطئ جرمه، أدركتُ أنني صاحب هذه الخشبة لا محالة، وإن هذا الحبل لن ينطوي على غيري في هذا النهار الرائع.
حين تأكد والدي أنني عازف عن تناول الغداء، نهض واقفاً وأمسك بذراعي (دون أن يقول كلمة)، وأخذني إلى الخشبة، وراح يقيدني ويشدني بالحبل الى الخشبة واقفاً (دون أن أقول كلمة). ثم بدأ في تلقيني الدرس بعصا كان قد أعدَّها مسبقاً إلى أن تكسرت (دون أن ينبس أحد بكلمة).
وبعد أن فرغ من ذلك الدرس، وجميع أفراد العائلة يقفون عاجزين عن فعل شيء، جاحظي الأعين ومحتقني الوجوه، لفرط البكاء والغضب المكبوت. وقف والدي وهو ينظر إلى الجميع (أذكرُ أنه لم يتوجه لي بالكلام ولم ينظر في عيني طوال الوقت، وأذكر أن ذلك كان موجعاً لي أكثر من درس الصلب والضرب) وأنذرهم بأن لا أحد يقترب مني أو يفكّ الحبل عني حتى يعود من السوق في آخر النهار. ثم تركني تحت شمس ذلك النهار المبارك، وخرج تاركاً الجميع في جحيم بلا وعد بالجنة.
لكن الأب هو والد قبل كل شيء وبعده. والأولاد ليسوا قدوة للآباء.
فالمحبة هي الأصل.
فلولا أن عمي، (الذي كان مناكفاً تاريخياً لوالدي) عندما عاد إلى الدار وعرف بالأمر، قد بادر بتحدى تحذير شقيقه، لكان والدي قد فعل ذلك بنفسه بعد قليل. فقد عاد والدي من السوق (قبل موعده اليومي على غير عادته) باحثاً عني لكي يطلقني، وعندما عرف أن عمي قد أنزل المصلوب عن خشبته، طلبني لكي يحدّق في عيني بحنان المقهور الآسر، ويحضنني احتضانة سمعتُ بفعلها شيئاً مثل البلور الحزين يتكسر بين الأضلاع. وراحت اصابعه تتحسس جسدي من يريد أن يمسح أثر الجلد ببلسم الحنان. وكنت أسمع في صدره قلباً مفعماً يعتذر لي عن حب عنيف بهذا الشكل، حب يستعصي على الوصف. ثم همسَ في أذني بود فائض قائلاً:
- اذهبْ وارفع تلك الخشبة واكسرها لكي تستخدمها والدتك غداً في وقود التنور.
بقي ذلك السر أياماً طويلة قبل أن تعرف العائلة سبب ذلك الصلب.
لم يشأ والدي أن يتكلم عن الأمر لفرط الجرح الشخصي، ولم أرغب في ذلك شعوراً بالخطأ الفادح. إذا كان ثمة أب سيعاقب ولده بهذه القسوة، يتوجب أن يكون الابن قد فعل جرماً كبيراً شديد الوطأة على الأب.
لقد ارتكبت ذلك الجرم فعلاً.
لقد سرقتُ. سرقتُ بعض المال من والدي نفسه. لا أسوق الأعذار هنا لكي أبرر فعلتي، لكن هذا ما حدث بالضبط.
كان والدي قد صنع صندوقاً خشبيا صغيراً على شكل (حصالة) يوفر فيها جزءاً من دخل شقاء عمله في دكانة السمكرة التي كنت أساعده فيها. وكنت أنا الوحيد من يعرف سر ذلك الصندوق. ولشدة ولعي بالكتب التي كنت اشتري بعضها من المكتبة العصرية بسوق المحرق، بالغت في ذلك الولع فرغبت في الحصول على كتب أكثر. لم يكن والدي مقتراً علينا، لكن دخله لا يكاد يكفي لضروريات العائلة، فيتجاوز بعض مبالغاتي. فما كان مني إلا أن انتهزت فرصة ذهابي المبكر لفتح الدكان لكي أستل بعض الوريقات النقدية بسلك قوى من شق الصندوق الخشبي المغلق، متوهماً أن والدي لن يلحظ ذلك. ولكنني استمرأت الأمر لكي يكتشف والدي بطريقة ما أن ما يوفره لنا في حصالته يتعرض للسرقة. وهو يعرف أن أحدا سواي لا يعرف عن سر حصالة التوفير الفقيرة هذه. نصب للسارق الصغير فخاً لكي يتيقن من شكه في الولد العاق، فتيقن ان لديه ولد يرتكب السرقة.
أفهم الآن كلمته الوحيدة التي قالها بعد فترة طويلة من درس الصلب: (لقد كنت أوفر المال من أجل طعامكم).
وأدركت حجم صدمة الأب في ولده.
إذا كنت سأنسى شيئاً في حياتي، فإنني لن أنسى هذه الخطيئة الفادحة التي جعلت والدي يهمس في أذني بعد سنوات طويلة بالكلمة الأخيرة عن الدرس القديم.
في سنواته الأخيرة ذكرته بحادثة الصلب. لم يغضب. لم يبتسم. لم يقل شيئاً. لكنني لمحت غيمة كثيفة من الحزن الشفيف فيما يحاول أن يتفادى النظر اليّ.
وبعد لحظات قال بصوت خفيض كمن يخشى أن يسمعه أحد:
(خفت أن تتعود على سرقة الناس. لقد شعرت بخطر فشلي في تربيتك بالأخلاق الصالحة. عاقبتك قبل أن يفعل ذلك الآخرون. الآن أنت تعرف كل شيء).
كيف يمكن لأب مثل هذا أن يموت؟
***
حصتان للبحر
حصة تفزع البحر وحصة تدفع القلوع.
وفي تلك السنة التي انقلب فيها البحر على السفن، أخذ البحر الحصتين معاً. لعب بالسفن مثلما يلهو الطفل بالحبر والمخطوطات في هامش النص.
للآلهة لهوٌ يضاهي لهو الأطفال.
كانت الشطآن بعيدة والنساء هاجعات في مراقدهنَّ الموحشة يحلمن بالرجال عائدين على خشبة منسابة مثل هودج يؤوب بالمليكة نحو عرس وشيك. فإذا بالبحر يعود وحيداً متظاهراً بالبراءة، يسألنه عن الرجال فيتقمّص دور رجل البريد البارد، يشرع نهنهة مكتومة ثم يصدر بكاء مموه، وسرعان ما يطلق الصرخة الماجنة. يعلن بريده المشؤوم في سرادقات ملفقة ويسرد الحكاية، كمن يتلو التراتيل في جنازة يجهل صاحبها. يتظاهر ببسالة الفارس العائد بالهزيمة، فلا يصدقن رواياته المفتعلة.
وعندما يأخذن في إشعال نيران الحسرة والغضب ويبدأن كيّه بالنيران لكي يعيد لهنَّ رجالهنَّ سالمين، يبدأ البحر في إطلاق صريخه الفاجر، لكنهنَّ لا يصدقنَ براءته، فيزدن عليه النيران، فيتأوّد ويتلوى تحت وطأة حسرة أكبادهنَّ متلذذاً بنحيبهنَّ الفادح، وفي ذروة المآتم يبدأ في الاعتراف ويسرد لهنَّ أكثر القصص ضراوة:
(زوجك يا مريم كان في مقدمة الذين سمعوا وقع خطوات الإعصار، فقذف بنفسه في فوهة الماء لكي يصدّ الهجوم/
ابنك يا فاطمة صفعته حبال القلوع فأوشك على التشبث بخشبة الصارية المكسورة لكن /
والدك يا ليلى شدخت رأسه مقدمة السفينة وهو يحاول الفوز بنجاة نادرة /
شقيقك يا نعيمة كان نائماً ومات قبل أن يصحو /
أبوك أيها الطفل كان في قارب (الذخْر)، وكان بعيداً عن سفينته، لا نعرف ما إذا كان قد أدرك اليابسة، لعله يعود من الأقاليم البعيدة /
زوجك يا أمينة كان في الخنّ ينزف نضح الخشب، فيما كانت السفينة ترسب كاملة في اليم /
سلطان كان أكثرهم ذكاءً، قذف بالفنطاس وتشبث به منادياً بمن يسمع لكي يتبعه/ وابنك يا زهرة كان قد قفز لكي يحضر غطاء الفنطاس في سفينة الماء فأخذه الماء الأعظم/
وعندما تصاعدت ألسنة اللهب المذعورة من السفن كان الجميع ينشد بالصوت الجارح مرثيتهم الرهيبة حيث الخشب الخفيف يتثاقل مثل الفولاذ ويغوص بلا حبل نحو قواقع ليست في الحسبان).
فتصرخ النساء بالبحر : (وأنت. أنت، أين كنت).
فيتلعثم البحر مثل طفل يوشك على الغرق :
(لم أكن في مكان،
لقد كنت وحيداً في الأعالي. باغتتني الصاعقة مثلما باغتت الناس. كنت أحاول إنقاذ تلك الكائنات الصغيرة، لكن الريح كانت كبيرة وغادرة بما يكفي لقصف كل خشبة تعوم. وكان غطاء كثيف من الظلام يركض به مردة قاهرون يكتمون به أنفاس المشهد. لكي يتحول النهار الواضح ليلاً دامساً لم أصادف ليلاً مثله طوال عمري. كنت مأخوذاً بما يحدث، ثمة آلهة كانت تعبث بنا في تلك الساعات.
لستُ سوى ضحية مثلكم، ضحية حاولت أن تنقذ الضحايا، فلا تظننَّ بي الظنون. إن فقدي أعظم مما تشعرن أيتها النساء. لقد كان الجميع أطفالي أيضاً. لكم أن تتخيلوا بحراً بلا رجال مثل رجالكم. لقد توهمت أنني الحاكم المتحكم في رعاياه، توهمت ذلك لفرط ما كنتم تقولون عني، توهمت أن بيدي الحياة والموت، فإذا بالموت يعسف بنا جميعاً. لست إلا ماء غزيراً يمنح الأرض ميزانها.
أنظرن الآن كيف أبدو وحيداً.
كيف تعاقبن بحراً ثاكلاً مثلي.
تضعن النار على جسد مصاب بالفقد.
جسد في الثكل أكثر مما تحسبون).
ثم أجهش بالبكاء مثل رجل يريد أن يغرق مع أطفاله الذين أخذهم الموت من بين يديه. فكفتْ النساء عن الندب وتوقفنَ عن وضع النار على الماء.
وأخذت كل امرأة تكفكف دموعاً حارة طفرت فجأة بشكل مضاعف. وأخذ المشهد في التفاقم. بدت النساء في موقف من يحاول تهدئة بكاء شاسع راح يغمر الأفق. وتضاءل حزنهن أمام حزن البحر. وللمرة الأولى رأت النساء بحراً أليفاً لم يعهدنه من قبل، بحراً حملن له الضغينة طوال السنين لفرط ما أخذ منهن الرجال معظم أشهر العام، للغوص والسفر.
التفتت كل واحدة تعانق الأخرى، يتبادلن العزاء لفقدٍ ناجز والتهنئة على حبيبٍ وشيك.
أيها البحر.. البحر.
ماذا فعلت بنا لكي تستحوذ علينا بهذا الشكل الفاتن.
أيها البحر يا رجلنا الكبير الماثل في حضرة هذا الفقد الذي لا يحتمل.
حصتان تنالان منا حـدّ الشغاف.
حصة تصعد بالإعصار حتى نهايات البحر،
وحصة تهبط بالسفر كي نفقد رجالنا دفعة واحدة في غفلة من الأرض.
أيها البحر يا رجلنا الجليل يا إرثنا المهيب،
أهدأ قليلاً لكي نتثبّتَ مما أصابنا معاً،
أنت لاضطراب ميزانك،
ونحن لفقدنا الكثيف لرجالنا النبلاء في غوصهم.
أيها البحر.. البحر.
دعنا نتذكرك مثلما يمسح الحارس مرآة فناره في ليلة ممطرة.
مرآتنا القديمة التي يغمرها غبش كثيف لفرط ما تعاقب عليها من سنوات العمر. دعنا نتذكرك، لننساك، ونتذكرك ثانية،
أيها البحر، نتبادل معك الفقد .. ونتذكرك وننساك.
***
يجلس على البحر في هيئة المزيج الباقي من الزمن، يهمّ بمداعبة الماء بقدمين مرخيتين بإهمال، مثل جسد يتدرب على نسيان أطرافه.
(هل رأيت كم خذلتك الشطآن ؟)
يريد أن يتذكر... فينسى.
لم أضع جسدي في بحر إلا وأصابتني الكارثة. كأن هذا الماء الشاسع قد خلق لمعاقبتي كلما حاولت ترك الأرض وحدها، كما لو أن الأرض اليابسة امرأة وأنا زوجها الفالت. تخرج له نساء طريات من بين الزبد، يغوينه فيذهب معهن، وعندما يصلن به عرض البحر يتركنه لموج لا يرحم، لا يجد من يسعفه في الماء، والشاطئ بعيد عنه. فلا يسمع إلا قهقهة النساء الطريات متقهقرات به، متوغلات إلى أعماق تستدرجه وتناديه، وبكاء الأرض اليابسة هناك بعيدة عنه. عندها فقط يكتشف كم هو عرضة للخذلان إن هو ذهب إلى البحر وبالغ في طلب الشطآن، ففي السواحل ما لا يحصى من الأعداء المدججين بضغائن يغزلها الأسلاف.
بينه وبين النحيب الطالع من السفن العابرة رسائل لا تقرأ إلا في ليل كثيف الكوابيس نادر الأحلام.
(اصعد معنا نأخذك إلى امرأتك المنتظرة).
لكنه لا يصعد. يترك جسده العاجز يغوص مثل حجر يرتطم بقاع أبيض الرمل ناعم القطيفة تزخرفه القواقع والمحار. يجلس هناك وحيداً يتأمل الفضاء المنساب من حوله بأسماك تأخذ شكل المخلوقات الرؤوفة، تمسك بيده مثلما يأخذ الرجل امرأة إلى الرقص.
(أنظر،
هذه هي المسافة التي أغرت أباك لئلا يعود إليك سريعاً يوم كنت تنتظره في البيت، أنظر)
فينظر.
لماذا لم يتعلم الغرق باكراً.
يمد يده المرتعشة ليأخذ محارة ويفتحها بسهولة من يفتح رسالة طازجة، ويقرأ فيها كلاماً يتذكر أنه كتبه ذات ليل في ظلام كثيف في زنزانة رطبة، فيتيقن أنه يؤلف نفسه مثلما يصنع كتاباً ويؤثثه بالأساطير.
تحت قدميه رمل أليف يداعب باطن القدم ويمحو آثار جراح تركتها التجربة مثل زينة على الجسد من الحنجرة حتى الإحليل.
وحين يهمّ بالسؤال تتناهى إليه تلك القهقهات مختلطة بذلك النحيب، فلا يكاد أن يميز التخوم بين نساء البحر ونساء الأرض.
هذه جزيرة تحضنك بغياب طويل، غيابٌ يمحوك بالدفتر والكتابة. تهزّه يد الهواء لئلا ينام، ويرفع عينيه ليرى قاع السفن من أسفلها منسابة فوقه غير عابئة به وهو في الأعماق على بياض ناعم مزخرف بالقواقع.
وكلما فتح محارة قرأ فيها رسالة يتذكر أنه كتب كلماتها ذات ليل كثيف الكوابيس.
هذه أعماق مكنوزة به.
يذهب إليها الأب ليعود بهدايا من نجوم البحر يصنع منها أفراساً وحيوانات لبونة يتصارع عليها مع شقيقته فلقة البدر. أعماق مكنوزة يذهب إليها الابن فلا يعود إلا وهو ملطخٌ بالذكريات الدامية عن رفقة يفتك بهم جنون البحر ويصيبهم الفزع، فيبدأون في قذف حمولتهم: محار وكتب ومخطوطات وقمصان ملطخة بالحسرة ومناديل الدمع المكابر وسمك مملح وغلال التمر وصناديق الذكريات وحبال الصبر وأفئدة المحبة المغدورة، رفقة، لفرط الفزع، يقذفون بكل ما تطاله أيديهم، يتخفّفون مما يثقل سفينتهم، فيفقدون الخفيف من عناصرهم، يشهقون بالباقي خشية أن تأخذهم الريح فيصيبهم الفقد.
وعندما يذهب إلى البحر وحده لا يكون البحر هناك.
كأن كل شيء محض سرد تكتبه الأرض ليمحوه الماء.
كأن كل ماءٍ مخطوط بمكابدة الكوابيس وتمائم السفر. وهو موزع بين نسيان الأب وذاكرة الابن. وهو طفلٌ يريد أن يتذكر... فينسى.
لم أضع جسدي في بحر إلا وأصابتني الكارثة.
أيها البحر.. البحر،
يا قرين الصوت متصاعداً في نشيدٍ يابسٍ، تؤثث لي المسالك بالنحيب لأعرف أن بيني وبين جسدي درج أنزل عليه لأقرأ كتبي مكنوزة في محارات متروكة في رمل أبيض في تجاعيد غضة في نحيب وفي مرايا.
أيها البحر.. البحر،
يا نشيداً يتقدم في هودج من نخيل القطيف رافلاً بمحتملات العرس والموت.
تذكرت لي الثكلَ لكي أرى، فنسيتَ عني، ونسيتني.
أيها البحر.. البحر،
يا بريد الأقاصي، تحمل فلك الحديد وتخذل جسدي ضعيف الهيكل والجرم.
تحمي ممرات الليل وتظنّ بالحجر المسروق الظنون وتستثني رعاياك من حنان المرافئ.
تعبر بك خشبُ التمر مخبوءة بالبشر يفرّون من الذبح ذاهبين إلى الجبّانة بوهم البيت.
أيها البحر،
تعرف أسمائي السرية وتنسى ملامحي وتتيقن من نسياني.
هذا نشيد جارحٌ.
هذا نحيب يتماهى بزغاريد الثواكل،
هذه مآتم تبحث عن حزنها الشريد،
هذا باب نجاة أمة يطاردها العطش.
هذا ماءٌ قراحٌ شاغر.
هذا جسدٌ مقسوم في جسومٍ كثيرة.
هذا بشرٌ يهدهدون الموج بأجسادهم المعروقة لعله يحمي أسرارهم ويطلق أسراهم ويسكت لهم عن الأخطاء البيضاء مصقولة بزبده الفارع.
أيها البحر.. يا بحرنا ويا منتهانا.
نشيد جارحٌ وخشبٌ يحنو على بشر يفرّون
لكن، هل رأيت كم خذلتك الشطآن؟
يريد أن يتذكر... فينسى.
***
سعيت إليه كمن يذهب إلى حبيب.
قلت للأصدقاء :
أحضر إلى عُمان، شريطة أن تأخذوني إلى (السيد).
قالوا: أي (سيد).
قلت : الجبل الأخضر.
فتعهدوا أن يرتبوا لي موعداً مع السيد.
أعرف عن عزلته الطويلة، وأنه لم يزل في حزنه الرصين. أتخيله متصوفاً يعتكف على كتابة مخطوطاته في ضوء شمعته القديمة، جالساً بين الغيم وغبطة الناس في صمتهم. لم أعرف جبلاً مكتنزاً بالتاريخ مثله، ولا يتصرف بعيداً عن ذلك. حين تقف أمام دارك، في المدينة، يستطيع السيد أن يراك من هناك، دون أن تدرك ذلك. (إنه هناك). قال الصديق الذي جاء يأخذني، كأنه يتكلم عن شخص ينتظرنا في المنعطف. وعندما كانت السيارة تتقدم في إسفلت نظيف لا ينتهي، كنا نستطيع أن نضبط أنفسنا متلبسين بشعور غامض، ونحن نزداد اقتراباً من تلك الغيمة المنخفضة العصيّة على التقدير. (إنه ينتظرنا هناك).
ردَّد صديقي إشارته، فشعرتُ أن كلمة (هناك) لم تعد دقيقة فيزيائياً، لأنني أكاد أحسّ به يسير بجانب سيارتنا، بل ربما كان مثل كائن هائل ينظر إلينا من الأعالي كما في الأساطير. كان والدي يقصّ علينا في الطفولة حكايات موغلة في الخرافة عن هذا الجبل. ثمة رجل عماني في حينا في المحرق اسمه (ناصر) راجتْ عنه خرافة صدقناها بدهشة الطفولة. قيل لنا انه يغيب في دامس الليل ليحضر لوالدي حبات الهال الطازجة من الجبل الأخضر. وكان والدي يدخل علينا في الصباح حاملاً في كفّه حفنة من الهال، يجعلنا نلمسها بأصابع مرتعشة، لنتأكد كم هي نديّة لفرط طزاجتها (لقد أحضرها ناصر الليلة الفائتة من الجبل الأخضر. وحين نهمّ بالقول إن هذا ضرباً من السحر، يبتسم والدي مفتخراً أنه الوحيد الذي يمكن أن ينفي ذلك أو يؤكده. وأذكر أنه ذات سهرة، في غمرة حماسه هتف بنا (إنه لا يذهب إلى مكان، الجبل هو الذي يحضر بين يديه). وعندما تقدم بي العمر والتجربة، رأيت في الجبل الأخضر حلماً يستجيب لشهوة الشعر في تغيير العالم بدءاً من هناك. و(هناك) ليس مكاناً، لكنه فصل من الزمن الذي يتصل بانطلاقة رفقة المستقبل الذين يعيدون إنتاج أحلام الماضي. فيما بعد، عندما تأملت المفارقة الشعرية بين الجبل وبين الخضرة، بالغتُ في الثقة بقدرة الأخضر على أن يزخرف الجبل ويغلبه ويغويه، وبأن الأحلام تقدر وحدها على استنبات العشب في الصخور وإحيائها. لقد رأيت في تسمية (الأخضر) ضرباً من الشعر، يليق بسيد شاهق مثله. وبالمقارنة مع جبل آخر (كان يصّاعد دخاناً ولا يعقد غيماً، كما عبر الشاعر الصديق يعقوب المحرقي أوائل السبعينات)، لا يحنو ولا يكترث بمن حوله، فإن شوقاً حميما جعلني أرى في الجبل الأخضر تاريخا شخصياً لتجربتي. فللحجر أحياناً أن يكون أكثر رحمة من البشر.
كلما اقتربت السيارة من (بركة الموز)، صار للجبل حضور مهيمن لا يمكن تفاديه. و(بركة الموز) هذه عبارة عن وادٍ (يراوح بين القرية والبستان) يتميز بالخصب لفرط الماء الذي يتحدّر من الجبل. اشتهر بأشجار الموز فأخذ منها التسمية. أذكرُ في زيارة سابقة، وقفتُ أقرأ سيرة (زاهر المياحي) الصديق الذي غابَ عنا باكرا، صادفَ أن داره الأولى في واحد من حقول الموز هذه. أذكرُ، حاول ذلك الصديق أن يتبادل (بين الجبل والساحل) صوراً قديمةً تجعل الحلم ممكناً. لكنه بوغت بالمسافة الشاهقة بين خفة المكان ورصانة الوقت، فأصيب بالفقد.
كان الجبل ينظر إلينا من (هناك). أكتافه منحدرة دون تهدّل ومسترخية دون كسل، مثل شيخ يتقدم في التجربة من غير أن تبدو عليه علامات الشيخوخة. ترفع رأسك لتحصر حدود الحجر بعينيك، فلا تدرك ذلك تماماً، فتلجأ إلى نشاط المخيلة. يزداد الهدوء كثافة كلما اقتربتَ من السفح. وغالباً ستشعر بأن ثمة انتقالاً بين الفصول يأخذ بتلابيبك. عند خروجنا من المدينة كان الفصل صائفاً، وها نحن نكاد نشعر، لفرط الغيمة الثقيلة التي تزداد انخفاضاً علينا، بأن طقساً يميل إلى البرودة يقترح على جسدك أحاسيس منعشة، وتوشك على انتظار زخّـة مطر مفاجئة.كان أبي يقول لنا عن السيول العظيمة التي تندفع من أعالي الجبل عبر السفوح، بقوة تجعل الطين الطازج يتفلّت ليصل إلى مناطق مختلفة في عموم المنطقة، حتى أن نساء الخليج كـنَّ يتبركنَ بنوع نادر من ذلك الطين، ويغسلنَ به شعورهنَّ، إيمانا بأنه صعيد طاهر جبلته الأساطير لكي يطرد الشر عن البشر. لقد كان الجبل الأخضر يسبغ كراماته على الجميع، مثل أحد الأولياء يخط المخطوطات في طين التجربة، ويبعث بها لمريديه المنتشرين في الأقاصي. تقف السيارة عند دكانة صغيرة بالقرب من محطة البترول في (بركة الموز).
هذه هي المحطة الأولى قبل الجبل.
يتوجب أن نستبدل سيارتنا. ثمة صديق ينتظرنا بعربة (الرانج) التي تناسب المرحلة الثانية من الطريق إليه. صافحنا شخصٌ، شعرت أنه مبعوث الجبل. (هل تريد أن تصعد حقاً؟) شعرت بأنه يسوق لي تحدياً مضاعفاً. التفتُّ برأسي نحو الأعالي التي تحدق بنا الآن. (هل الطريق إليه وعرة إلى هذا الحد؟). لقد كان احتدام سؤالين بهذا الشكل كافياً لتفادي الجواب على الجانبين. (على أية حال، فإنه على الموعد). أطلقتْ (الرانج) صريخاً مكتوماً ونحن نأخذ أماكننا بثقة المكتشفين. شعر الصديق الذي يجلس بجانبي برعشة جسدي الغامضة. (لماذا تذهب إلى الجبل كمن يصعد إلى الأسطورة؟). خجلت لأول وهلة من القول بأن هذه هي الحقيقة بالنسبة لي. فقد كنت أذهب إلى الجبل الأخضر ليس بوصفه حقلاً من تضاريس الأرض، لكن باعتباره جزءاً من تكويني الروحي الممتد من الطفولة حتى مشارف الخمسين، إنني أذهب إلى الحبيب. الطفولة والتاريخ يلتقيان في هذا الجبل مثل أسطورة نلمسها باليد. إنني، فيما أصعد إليه، إنما أتقهقر فرحاً نحو طفولة ممزوجة بشهوة تاريخ لا يزال طازجاً مثل حبة الهال.
إنني فحسب أقرأ كتاباً أحفظه عن ظهر قلب. أخذت (الرانج) دورة غير مكتملة علي طريق شبه ممهدة، قبل أن نجد أنفسنا في مدخل منبسط قليلاً، سرعان ما ينتهي بطريق ترتفع تدريجياً وهي تتوغل في ممر صخري يستضيق كلما توغلنا، لنتوقف أمام بوابة محروسة، ظهرت أمامنا بغتة.
كان الأصدقاء قد استصدروا أذناً خاصاً للصعود إلى الجبل (كأنه لا يستقبل الغرباء قبل أن يعرف هويتهم). ابتسم الحارس عندما تعرّف على السائق مرحباً كمن ينتظرنا. الأمر الذي ضاعف شعوري الغامض بأن الجبل الأخضر قد بعث لي بكائناته لكي تجعل الأسطورة أقرب إلى الحقيقة. تستوجب هنا الإشارة إلى الرفقة المجنونة من الشعراء الذين كانوا معنا، سعدي يوسف وأمجد ناصر ومن شباب عمان الصديقين ناصر العلوي ومحمود الرحبي ودليلنا في رحلة الجبل أحمد سالم الريامي.
الغريب أن شعوراً بالوحدة كان يستحوذ عليّ طوال الوقت.
كنت متوحداً بصورة غير مرئية، بفعل اتصالي الخفي بالطفولة والذاكرة والمخيلة في آن واحد. الأمر الذي لم يترك مجالاً لأية كائنات أخرى تزاحم لقائي الشخصي بالجبل الأخضر. فقد كان ثمة شعور ذاتي جعل الجبل كائناً يخصّني وحدي فقط. لذلك كان بعضهم يشدني بين الوقت والآخر من ذهولي غير المعلن. ما إن عبرتْ (الرانج) حديد البوابة حتى أشعلت بعجلاتها المتوترة أحجارَ الطريق منطلقة نحو مدارج أفعوانية صاعدة ببطء مكين.
لبعض الوقت سيطر صمتٌ كثيفٌ على الجميع. تحولت الأجساد المكنوزة في العربة إلى كائنات أثيرية غير موجودة، يستعصي قياس خفتها وطاقتها على الوجود، مثل الأواني المتجاورة وغير المستطرقة.
استغرق ذلك وقتاً خلته دهراً.
لم يرغب أحد منا أن يخرق ذلك الصمت الذي لا تُسمع فيه غير ضراوة احتكاك العجلات الصلبة بالصخور المكسورة التي طحنتها آلة افتتحت المسار منذ سنوات، ومهّدها العبور النادر. لقد كانت حقول النخيل التي عبرنا جانباً منها في طريقنا السفلي إلى (بركة الموز)، تلفت إلى النعمة الخفية التي يدفقها الجبل على خلقه المطمئن من حوله. وطاب لي أن أسمي ذلك سواداً يشفُّ عن خضرة قانية، يحسن الجبل خطّها في دفاتر مريديه، حتى إنَّهم برعوا في رد التحية بأحسن منها. فحين يشحُّ المطر، ويهدد العطش ثنايا جبلهم، يبتكر المريدون (الأفلاج) لتصعيد الماء من السفوح نحو الأعالي، ويكافئون أسطورة جبلهم بمعجزتهم في هندسة الماء التي لا تزال عصيّة على التفسير، فهي ضربٍ من مشاكسة قانون الجاذبية. مثل السحر، يعالجون حياتهم بالغامض الأليف.
الانسياب المتأرجح يجعل (الرانج) خفيفة في حضن رحب. هل كان يهدهدنا مثل أطفال في مهدهم الأول؟. غير أننا لا ننام. خبرة الدليل بأشياء الجبل تمنح الطير والشجيرات والمهاوي، وقطعان الماعز المتقافزة والحيوانات الهائمة، والأبراج الناهدة التي تحرس الطرق والثكنات الكامنة، والانهدامات الصقيلة والمغارات الغامضة أسماء جديدة. أشارَ دليلنا إلى جيبٍ حفرته الطبيعة في تجاعيد الجبل وقال: (في خمسينات الحرب، كانت الطائرات تقصف هذه الأرجاء بحثاً عن أحد مريدي الجبل، وهو يختبئ في هذه المغارة، يبعث برسائله من هنا، وهم لا يقدرون على الوصول إليه. لقد كان الجبل يحميه. ويقال إنه عاش أكثر من مطارديه). كان الدليل يتكلم عن الجبل بلغة تضاهي الحب، إنه ضرب من تبجيل العاشق والذوبان فيه. عندما كان يضع يديه على حجر الطريق، يبدو كمن يلامس جسداً يحسّ به ويشعر بحركة النبض فيه ويحسن مكالمته. (لم يبخل علينا بشيء. حتى في سنوات الجفاف كان يبكي لأجلنا فننال ما يبل ريق أطفالنا. كنا نصحو في بعض الصباحات فيجد كل منا أمام بابه حفنة من التمر وحزمة من فواكه ليست في موسمها. وكان الأطفال وحدهم يرددون أن ذلك من فضل السيد، دون أن يسأل أحد من هو السيد. لقد كان الجبل لا يغفل عن مريديه حتى عندما يتمردون عليه) قال دليلنا ذلك وهو يداري عنا عينين مغرورقتين لفرط التأثر.
هذا ليس جبلاً.
وأمسك كل منا أقرب فلذة إليه، في محاولة لسبر الحياة في هذا الحجر الحي. نبالغ في الصعود، والجبل ينحني بطقسه الحميم نحو شغافنا المبتهجة. بدأتُ أشعر بقماش ملابسي الملتصق بجسدي، بفعل عرق داهم، يجفّ قليلاً ليتحول القميص إلى نوع من قشرة رهيفة، ويتسرب هواء طازج يميل إلى البرودة كلما تقدمت العربة في الصعود. كنا نشعر بالجبل يرافقنا مجاوراً للعربة، حيناً من اليمين وحينا من الشمال. مثل شخص شاسع يحمي تقدم غزاة أليفين حاضناً فيهم مريدين مؤجلين، في محاولة لمنحهم حناناً يحتاجونه في وعورة أحلامهم. وأخذت الصخور تتبادل الألوان أمامنا.
كأن الجبل يستبدل ملابسه بين لحظة وأخرى باحثاً عن زينة تناسب زائريه. لا أعرف لماذا رأيت فيه كائناً حياً قادرا على الكلام معنا لو أن أحدنا توجه إليه بالخطاب. كان يصغي لهسهسة أصواتنا برصانة الشيخ العاشق. دليلنا سائق (الرانج) من سكنة الجبل، يلوذ إلى الصمت بين لحظة وأخرى، وكان بعضنا يستحلب منه الكلام بأسئلة متباعدة عن الجغرافيا والطبيعة والتاريخ في آن واحد. غير أن الجبل كان أكثر بلاغة منه، وكنتُ أتصلُ بحضوره على طريقة متصوفة البوذيين : أعضاء مسترخية، أحداق مفتوحة، وحواس في يقظة الكشف، وهو يسرّ لي الأشياء. الجبال أيضاً تميل إلى العزلة، الجبال أيضاً تنتظر، الجبال تعرف الحزن أيضاً، الجبال فقط تسعى لمن تحب، وللجبال نعمة لا يمكن تفاديها.
منذ سنوات طويلة ظل هذا الجبل وحيداً، مفصولاً عن الناس. هو الذي صاغَ لهم تاريخهم. وهو لم يأخذ تسمية الأخضر مصادفة، فقد كانت المنطقة تعتبره سيدها الذي يهب لها شتى أنواع الزرع والضرع. وهو كان حصنهم ضد الخصوم. لكنه بعد ذلك كله انتابه تعب العمل، فذهب معتزلاً لفرط جحود بعضهم وعدم تعلّم بعضهم الدرس كاملاً.
بغتة لمحت تحتي هاوية تطل على الوادي، فبزغت في ذاكرتي صورة من الطفولة، رأيت نفسي ذلك الطفل وهو يصعد البرج القديم في جنوب العراق، الذي يسمونه (الملوية). غير أن الأمر هنا يبدو أكثر تشويقاً، حيث الطبيعة هي التي شيدت كل هذه الصخور الهائلة، ومدّت فيها مسارات متعرجة مشغولة بكثير من العشوائية.
عبرتْ (الرانج) كتلة قديمة من الحديد على جانب الطريق، عرفنا أنها بقايا طائرة حربية سقطت في خمسينات الحرب. طلبنا التوقف لمشاهدتها عن قرب. كانت هناك آثار قبر الطيار البريطاني الذي دفن بالقرب من الموقع. أخذنا ندور حول كتلة الحديد ونجسّ بأصابعنا تفاصيلها الضائعة، كمن يقرأ مخطوطاً قديماً في ضوء ذاكرة واضحة. قبل أن نغادر الموقع كنت قد حملت معي شظية من أشلاء الطائرة بحجم كتف صديق عصفته تروسُ آلة ضارية، فسألني شاعر آخر:
- ماذا تفعل بالماضي؟
قلت:
- أشحذ به الزيت في قنديل الذاكرة.
حضرت الأساطير ثانية.
خلال حرب الخمسينات، كانت الحكايات تتوالى عن أساليب القتال التي يبتكرها مريدو الجبل ومتمردوه لمقاومة الطائرات المغيرة. قيل إنهم، حين تنفذ ذخائرهم، كانوا يسلّطون سحراً غامضاً، يجعل الطيارين أنفسهم منقادين، مثل حشرات عمياء، للاصطدام بطائراتهم في تغضنات الجبل، بلا هدف ولا ذخيرة. حتى شاعت بينهم رهبة تضاهي الخشية من عبور مثلث برمودا. وكان أبي يباهي بذلك في حضرة جلسائه الذين يتابعون تلك الحرب المنسية. وكان يردد بأن أحداً لن يهزم الجبل الأخضر.
كان معدن الطائرة نظيفاً كأنه سقط قبل أيام. بدتْ لي بقايا هيكل الطائرة مألوفة، ربما كانت هذه الطائرة قد أقلعتْ من مطار الجيش البريطاني بالمحرق آنذاك. فزادت مشاعري احتداماً، وأنا ألامس الشظية كمن يجسّ بقايا آلة ضارية سبق لها أن طافت على جسده. أية ذكريات يمكن أن تثيرها هذه الشظية عبر التاريخ؟ فسمعت الجبل يهمس لي بأن هذه ليست أجمل ذكرياته. فالحجر أكثر قدرة على البقاء من حديد الطائرات. فانحنيت أحمل معي حجراً مكنوزاً بالأجنحة.
الحجر هو أيضاً ضربٌ من الكتب.
هبتْ علينا ريح مشحونة برائحة زهرية نادرة لم ندرك مصدرها. قال دليلنا إنها بقايا شجيرات الخوخ في غير موسمه. وأشار نحو جهة في الجبل (انظروا هناك)، وكان علينا أن نتبيّن المشهد، ونجوس بأنظارنا لكي نلمح بقعة خضراء تبرق عن بعد. رأيت فيها كتيبة كامنة وترنو إلى الجهر معاً، تزهو وتتماهى مع تجاعيد الجبل في آنٍ واحد. ثمة ما يشبه الحقل منساباً في تضاريس يصعب عبورها. إنها واحدة من الحقول المتوغلة في الطبيعة. وبعد قليل توقفت (الرانج) ليعلن الدليل أن الطريق الصالحة للعربات قد انتهت، وعلينا، إذا أردنا مواصلة الرحلة، أن نترجل ونبدأ العبور إلى آثار منازل محفورة هناك. والوصول إلى (هناك) استدعى منا سيراً مرهقاً استغرق حوالي الساعة والنصف لكي نصل إلى دور شبه منحوتة في الجبل، دُورٌ لم تزل تحتفظ بآثار بشر كانوا يسكنونها. وتقع هذه الدور على مسارب مهجورة (لأفلاج) لا يزال أثر الماء مرسوما على حوافها بشريطٍ عتيقٍ من الخضرة الداكنة. ولبعض الوقت تاه الجميع في تلك الدور، كان بعضنا يتوقع أن يدخل إحدى الغرف القديمة ليشاهد أناساً تشغل أنفاسهم المكان. بقايا ملابس ملونة، أحذية قديمة (حملت منها فردة حذاء لطفلة تخيلت أنها قد شبّتْ الآن وصارتْ أماً) حديد عتيق ينتمي إلى ما يقارب أثاث المطبخ أو أسرّة النوم، خشب يَشِي بأنه صدّ حريقاً عابراً.
وقبل أن نغادر، طابَ لنا أن نستريح في باحة ما كان مسجداً. وهو المبنى الوحيد الذي شعرنا بأن بشراً قد أدوا فيه طقسَ الصباح على الحصر النظيفة في بهوٍ لا يزال يحتفظ برائحة الصلاة. رفعتُ رأسي لكي أنظر إلى هامة الجبل الشاهقة، متخللاً بنظري حلقة كثيفة من أشجار غامضة ذات أزهار نارية اللون، كانت لا تزال تظلل المكان. فيما يتسرب جدول ماء صغير بين صخور هائلة الحجم تدحرجت منذ أحقاب طويلة لتصل وتشكل حصناً طبيعياً يحرس هذه الدور. تأكدت لحظتها أن كائنات خرافية ساعدت الطبيعة على صياغة هذا الجسد الصخري العظيم. بدا لنا المكان صالحاً لعزلة النساك بعيداً عن العالم، حيث لا تسمع فيه غير حركة الطبيعة. كيف تسنى لهذا الجبل أن يحتفظ بالطبيعة كأنها بعض أثاثه في بيت الوقت.
الجبل لا يذهب إلى العزلة وحيداً.
ثمة سدنة مختارون يعملون على خدمته وحراسة تاريخه.
واختلط عليّ لحظتها معرفة من الذي يحرس الآخر في هذا المشهد. كان الطقس لحظتها لا يتصل بالفصل الذي يغمر الأمكنة التي صعدنا منها، فقد كان فصل المدينة مختلفاً، وفصل (بركة الموز) لا يشبه غيره، أما الطقس الذي غمرنا في بهو المسجد فإنه يشي بشتاءٍ وشيك، ولو أننا تأخرنا قليلاً لكنا غسلنا أجسادنا بزخة مطر محتملة. هل كانت البرودة التي انتابتنا في ذلك الموقف هي بفعل وحشة الأرواح التي لم تزل تسكن المكان، أم أن للوقت سلطة على المخيلة ؟
في البيت الذي استضافنا على الغداء، كانت شتلات البصل والثوم تملأ الحديقة الصغيرة، وبلا تردد رحتُ أقلع بعض تلك البصيلات ذات الخضرة القشيبة الفاتنة، وأغسلها لكي أضعها معي على السفرة. ليس ألذ عندي من استطعام خضرة هذا الجبل على طريقتي.
لكن الجبل هو أيضاً بشرٌ دمثون يغمرونك بالحنان ذاته الذي منحتهم إياه الطبيعة والتاريخ الذي لا يزال. لذلك ما كان لنا أن نتفادى دعوة شيخ مهيب صادفنا وأصرّ على دعوتنا لتناول القهوة في داره قبل المغادرة. فرأيتُ في ذلك الشيخ ذي الذقن البيضاء المرخية، المحاط بدفء العائلة ورصانتها، واحداً من مريدي الجبل وسدنته، وربما كان أحد متمرديه أيضاً.
قال الشيخ :
- أشعر بالغربة كلما نزلتُ إلى المدينة. إنهم هناك يتحدثون بلغات لا أفهمها. ظلامهم دامس، ولا تبدده الكهرباء. نحن هنا أقرب إلى القمر في الليل، والشمس صديقة رحيمة بنا.
وكدتُ أسمعه يقول (لا أستطيع ترك الجبل وحده، أخشى أن يهاجمه عدوٌ في غفلة منا. لم يبق لنا سواه. علينا أن نحميه مثلما يحمينا).
شعرتُ بالجبل من حولي يأخذ نفساً عميقاً، ويتنهد مطمئناً لمريديه الذين لا يتركونه وحيداً في الليل. كأنه يتذكر أيضاً، حتى عندما كانوا يتمردون عليه، فإنه يتفهم ذلك فيتمجّد بهم ويشمخ.
ثمة أسطورة تقول إن الجبل يأخذ في الليل هيئة شخص يتجول في القرى والأحراش، يمضي سهراته كل مرة في مكان، والناس يعرفونه في كل مرة، ويشعرون بأن يداً رحيمة تغلق عليهم باب الدار في نهاية السهرة، ليكون نومهم عميقاً وزاخراً بالأحلام.
وهناك من يقول إن الجبل يفعل ذلك طوال الوقت، وخصوصاً بعد انتهاء خمسينات الحرب، فقد شعر بأن أبناءه قد عانوا كثيرا في تلك التجربة، الأمر الذي جعل لياليهم مشحونة بالكوابيس، خشية أن تسقط عليهم القذائف، أو يداهمهم جندٌ غير مرئيين. وبسبب ذلك غادر خلقٌ كثير من سكنة الجبل قراهم نازحين نحو المدن فيما بعد، ولم يبق معه إلا عدد نادر من المريدين، هؤلاء الذين راح الجبل يحنو عليهم ويكافئهم بالحب والماء الطاهر الذي ينبت الصخر ويغسل الطريق.
كانت عيون الأطفال الذين لوحوا لنا لحظة المغادرة ترسل بريقاً غامضاً يشع بذكاء شفيف، ولم أدرك تماماً ما إذا كانت الابتسامة التي تزهر على شفاههم لحظتها تشي بالحزن أو بالحلم. لقد اختلط على روحي الأمر، وأنا أترك أطفال الجبل الأخضر هناك، هل كنت قد رسمتُ الجبل أم أنه رسمني مجدداً ؟
لقد سمعتهم يهمسون لي: (لا تخف علينا، نحن هنا في قلب الله).
وقبل أن أدخل غرفتي بفندق المدينة، بعد منتصف الليل، سمعته على مبعدة، يروى حكاية جديدة لتهويدة أطفال يذهبون إلى الأمل، ومكاشفة رجال ونساء يذهبون إلى العمل. فتمنيتُ لو أن لي جبلاً يحبني بهذا الشكل.
****
الزمان : أوائل الستينات (يجب أن يكون الفصل صيفاً، حيث كنت أقضي ردحاً من عطلة الصيف عند ابنة عمي في القطيف).
المكان : على مشارف القطيف.
ثمة من تبرع بأخذنا في نزهة إلى الإحساء.
(أبو فيصل) زوج ابنة عمي الكبرى قائد الرحلة، و(علوي) زوج ابنة عمي الصغرى، قائد العربة. لم يكن مثل هذا الأمر مزحة آنذاك، فرحلة كهذه، في ذلك الزمن، تشكل سفراً كامل المواصفات، بما فيه عامل المغامرة. فقد قلتُ لهم ذات يوم، بعد أن جلتُ معهم (أكثر من صيف) مناطق القطيف وما جاورها:
- أليس هناك مكان أبعد من هذه النواحي؟.
في ذلك العمر، كنت مولعاً بالاستحمام في الحمامات العامة والعيون الطبيعية، التي كانت تزخرف بها حقول القطيف والعوامية وصفوة والقديح وغيرها. كان يحلو لنا الذهاب إلى ذلك الماء الدافئ في الهزيع الأخير من الليل. ذات ليلة، وأجسادنا الغضة مغمورة في إحدى الينابيع الدامسة، هتف بي شخصٌ من العائلة، لا تتبينه الذاكرة الآن، يجيبني على سؤالي اللجوج:
- نعم، هناك العين الحارة .
العين الحارة! راق لي الاسم. حسبتُ أنها في الجانب الثاني من البساتين كالعادة. صرختُ به (نذهب إليها في الليلة التالية). ضج الماء الذي نتقمصه بالضحك، لكي يتبرع الجميع بالشرح كيف أن (العين الحارة) تبعد أميالاً عن القطيف، فهي في الإحساء وليست في القطيف.
وبما أنني كنت الضيف المدلل لدى الأهل في القطيف، فقد عزّ عليهم أن تنال مني تلك الخيبة الفادحة التي عدت أجرجرها عائداً إلى الدار، قبل انبلاج الفجر بقليل. ويومها عزفت عن الذهاب معهم، كالعادة، إلى خباز الحي لكي نجلب خبز الصباح. ونمت ذلك اليوم حتى وقت الغداء، كمداً على تلك المسافة التي تفصلني عن (العين الحارة).
لا أتذكر الآن جيداً ذلك الهوى الغريب الذي يستحوذ على خيالي عندما يتعلق الأمر بعيون الماء الطبيعية المبذولة للاستحمام. ويبدو لي، الآن، إن في الأمر شيئا من المفارقة، خصوصاً وأنني لم أكن أحسن السباحة في ماء أعمق من كعب القدم، (وتلك حكاية طويلة تستحق الفضح). هل كانت المسألة ضرباً من التعويض غير الواعي عن عقدة السباحة. أم أنه ذلك الانسحار المبكر بالماء؟
على الغداء، همس لي زوج ابنة عمي، (ما رأيك أن تستحم هذه الليلة في العين الحارة؟). أدركتُ الأمر. ثمة مغامرة تنتظرني هذه المرة. انتفضت لفرط المفاجأة. وانتعشت العائلة، خصوصاً ابنتا عمي، فقد كانتا تلحان على زوجيهما منذ زمن أن يأخذاهما إلى الإحساء. ولم يبق إلا أن أتلقى عدداً من الاحتضانات الحميمة من العائلة، لأنني تسببت في تحقيق هذا المشروع. لأول وهلة، لم أكن أتصور أن تلك النزهة على هذه الدرجة من الندرة، لفرط مداعبتها أحلام الجميع. إنها (العين الحارة) ليس غير. وكان عليّ أن أتخيل أسطورية تلك النزهة مسبقاً، لكي أتهيأ للمغامرة.
لمَ كل هذا الادعاء الطفولي بشهوة اكتشاف الماء؟ ماذا ستفعل لو أنك تجيد السباحة؟ ضحكتُ في داخلي على هذه النفس الأمارة بالماء. وفجأة تخيلت الأمر : ماذا لو اكتشف الجميع أنك لا تحسن العوم، وأنت القادم من بلد يحيط به الماء من كل جانب؟! طردت الفكرة سريعاً لئلا ينكشف السر وتفسد الرحلة، فالإحساء في سواد النخل، حيث (عين نجم) تسهر لك، تستحوذ على لبّك وتستدعيك. وأنت إليها كمن يذهب إلى حلم يمتلك الجمع.
علينا أن نتحرك قبل منتصف الليل بقليل، لكي نصل إلى هناك في الوقت الذي اعتدنا أن نذهب فيه إلى ماء القطيف. ستبدأ الرحلة من (القديح) حيث دار (السيد علوي). وهذا يعني أن العشاء سيكون في (القديح). أعدت ابنتا العم لوازم الرحلة من الزاد والماء. مثل قافلة صغيرة من البدو (المبتدئين) يتدربون على صحراء حميمة، أجمل من الحلم وأكبر قليلاً من النوم. ولم يبق إلا أن نتخيل قافلة صغيرة تتزود قبل الربع الخالي بقطرة ماء (كما سيقول مظفر النواب بعد ذلك بسنوات) تقودها طفولة ماثلة نحو الماء الحار في فجر صيفي رطب.
أذكر أنني، عندما كنت أقف على ساحل القطيف، أتخيل ذلك الماء الكبير بركة لا متناهية من الماء الغامض، أقفز إليه وأبدأ العوم حتى الجانب المقابل من ذلك الساحل. وكثيراً ما رأيت أسماكاً كثيرة متفاوتة الأحجام ترافقني السباحة لكي توصلني للساحل مثل حرس يعرف أنني أفتعل العوم، مستعدة دوماً لإنقاذي في الوقت المناسب. وربما يأخذني الخيال أحياناً لكي أقرر ساعتها الإقامة في الأعماق صديقاً دائماً لكائنات الماء. ولكن سرعان ما ينتشلني من تلك الأحلام اندفاع الأصدقاء نحوي، في مداعبة ثقيلة، يريدون القذف بي في متاهة الأعماق. ساعتها أتيقن من خطورة الأوهام التي تستحوذ عليّ.
الطريف في الأمر، أن للأهل تفسيرا غريبا لشهوة السباحة في البرك الطبيعية آنذاك. حيث يقال إن لماء تلك العيون مفعولاً صحياً على أجسادهم، إذ تزيل أثر البعوض الذي يتولى أجسادنا طوال الليل أثناء نومنا. فقد كنا في صيف ذلك الوقت ننام على سطوح الدور (حيث لم يكن قد طالنا اختراع المكيفات بعد). وبسبب من انتشار المستنقعات الآسنة في تلك النواحي من البلاد، وهي مياه تفيض على حاجة الزرع لفرط تفجرها الذي يغمر الأرض)، لتتكون أسراب كثيفة من البعوض، أصبحت آنذاك واحدة من مظاهر الحياة اليومية في القطيف وضواحيها. الأمر الذي يجعل الليل (خصوصاً بالنسبة للزائر الذي لم يعتد جسمه على ذلك) عذاباً مقيماً. وأذكر أنني في كل صباح أبدو مثل شخص خرج تواً من معركة دامية مع خصوم غير مرئيين. بذلك التفسير الفسيولوجي الطريف لفعالية ماء العيون الطبيعية، يخفف الأهل عني بعض الشيء بالحمام الدافئ المبكر. وكنت أستهوي ذلك التفسير، لكي أتفادى الظهور أمام الآخرين بجسد مضرج بالندوب الملتهبة في النهار. والغريب أنني سرعان ما أنسى معاناة الليل بعد أن أعود إلى المنزل من الماء، كما لو أن الطبيعة قادرة على خلق تلك المعادلة الساذجة، بين حشرات تخرج من الماء الفاسد لتعطب بالجسد البشري، وذلك الماء الطازج الذي يصبح دواءً ناجعاً لخراب تلك الحشرات، كأننا نعيد كلام شاعر قال ذات نشوة (وداوني بالتي كانت هي الداء).
ترى هل كنا نرى الأمر وقتها بمثل هذا الوضوح الفانتازي، لو أننا كشفنا أسرارنا الحميمة، التي تستحوذ على خيالنا في ذلك الليل قليل النوم، ونكابر بها أمام شغف الفتيان طوال النهار، مستحوذين على ما تبقى منها لئلا تفتك بنا الأوهام؟! لا أحد الآن يتذكر تماماً كيف كانت الطبيعة تتحكم في حياتنا، كما لو أننا الجانب الخفي منها، بحيث لا نعرف، هل كان الماء هو السر، أم أن السر يكمن في أرواحنا التي تفيض على الأجساد. ولم تزل الإحساء هي مربط خيلنا الليلية التي تستعد للضرب في الظلمة الكثيفة.
قال أبو فيصل، بفصاحة القائد وشكيمة الخبير: (ستجلس مع ابنتي عمك والأولاد في الخلف، وسوف أكون أنا في المقدمة لكي أدل علوي على الطريق). وعندما يقول أبو فيصل هذا فإنه يعني أنه سيكون قائد الرحلة.
منذ وعيت كنت أرى في زوج ابنة عمي الكبرى شخصاً يجمع خصالاً متنوعة ومتناقضة في نفس الوقت. فبالإضافة إلى خفة الروح والقدرة غير المتناهية على الهزل والميل إلى المرح، فهو من المكابرة بحيث يمكن أن يحسن عمل كل المهمات التي يعجز عنها الآخرون، وهو أيضاً يتميز بروح المبادرة والقيادة بحيث لا يحتمل وجود كائن على الكرة الأرضية يفرض عليه رأياً. وكرمه الفائض لا حدود له، ولا يقبل أن يبدو أقل من رجل ميسور الحال كأن بين يديه أموال قارون، التي يملك أن يخسرها إذا هو أراد ذلك. يمكنني الآن أن أتميز فيه رجلاً يمتلك طبيعة الفارس، كما لو أنه آخر فرسان القرون الوسطى، لكن دون أن يصل إلى حدود الدون كيشوت، لأنه سوف لن يضع نفسه في موقف المغامرة غير المحسوبة. إلى ذلك كله فإن سلمان سيكون عرضة دائماً لهزائم صغيرة لن يعترف بها على الإطلاق، لأن الآخرين هم الذين يقعون في الخطأ دوماً لعدم تقديرهم لمواهبه الباهرة.
بهذه الصفات المتقاطعة سوف يمثل سلمان شخصية متميزة بمحبة جميع أفراد العائلة في المحرق والقطيف. وهو بالمناسبة، كان في السنوات الخوالي، موجوداً في البحرين بنفس حضوره في القطيف، ربما لأنه يجد نفسه على سجيته أكثر في البيت الكبير الحيوي الأجواء، وكانت الأيام التي يقضيها بيننا في البحرين تعد من أبهج أيامنا على الإطلاق، فالجو المرح الذي يشيعه في العائلة سيجعلنا ننتظر زياراته مثل المناسبات التي تضاهي الأعياد، حتى إننا نكاد نشهق فرحاً حين نسمع أن (أبا فيصل) سيصل غداً، وربما لن ننام ليلتها في انتظار الغد.
لم يكن لأحد أن يناقش (أبو فيصل) في الأمر الذي أصدره، ونحن نقف أمام نصف الشاحنة التي يمتلكها (علوي). فالجميع يعرف من هو القائد دائماً.
ساعدنا على الصعود إلى خلف الشاحنة المغطاة بالقماش السميك، المفتوح المؤخرة، فرش لنا بساطاً خفيفاً، ونهرني بأسلوبه المحبب: (أنت مسئول عن مؤخرة القافلة. إياك أن تنام. تستطيع أن تطرق زجاج قمرة القيادة إذا رأيت ضرورة لذلك). والتفت نحو (علوي): (توكّل على الله يا سيد).
وإلى أن تحركت الشاحنة، كان (علوي) يؤكد أن كل شيء تمام، فهو الذي سيقود شاحنته. ولفرط هدوئه، لن تشعر بوجوده في المكان حين يكون موجوداً.، فهو من الدماثة بحيث يستطيع أن يشعرك بأنك على صواب طوال الوقت. قليل الكلام، ويثق كثيراً في مواهب (أبي فيصل) التي لا تحصى.لا يتردد في ثقته بالآخرين واستعداده لخدمتهم، تفادياً لأية ضرورة للمناقشة، حتى إنني لا أكاد أذكر موقفاً استدعاه للاعتراض. إلا أنه بلا شك كان يجيد قيادة شاحنته أكثر من (أبو فيصل).
كان معنا في مؤخرة الشاحنة طفلا بنت عمي الكبرى، (فيصل) أكبر سناً من شقيقه (محمد)، وهما لم يتجاوزا العاشرة إلا عندما انطلقت بنا الشاحنة، في ليل كثيف الظلام، نحو الإحساء.
تستطيع أن تشعر (بحواسك المختلفة) بشخصية الطريق المترب الذي لم تطله بعد معطيات النفط السوداء الكثيفة، فسوف يتقطع بك المرصوف، لكي تتسلل إلى مسامك ريحٌ من الغبار غير المرئي، لفرط الليل وانفعال النزهة. ويمكن أن نطلق على ذلك الطريق، الذي أستحضره الآن بطاقة المخيلة، طريقاً زراعياً بامتياز. ويمكن أن أتذكر أيضاً تلك المسافات المغلفة بالعتمة من الصحراء المزخرفة بما يشبه الأحراش والغابة والتلال، حتى ظننت أنني على شفير الندم، لأنني وضعت نفسي (مع هذه الكائنات المتشبثة بتلابيب الأحلام) في هذه المغامرة. فعندما اجتازت العربة المكابرة ظاهرَ القطيف وضواحيها، تيقنت أنني ذاهب إلى ماءٍ نادرٍ لفرط الوحشة التي كانت تخفر توغلنا في الرحلة.
الآن، يتوجب أن أبذل استحضاراً ذهنياً مضاعفاً للذاكرة (تعضدها مخيلة نشطة) لكي أرى ابنة عمي (أم فيصل) التي لم تعد بيننا الآن (رحمها الله). فما إن شعرتْ بما ينتابنا من وحشة، حتى بَسَطَتْ لنا عباءتها الرحيمة لنجد أنفسنا متكورين، مثل صغار الطير، تحت أجنحة كأنها سقيفة الرحمة. وربما كانت تلك العباءة السوداء أكثر رأفة وطمأنينة لنا من عتمة الليل خارج الشاحنة.
كانت الشاحنة تموج بنا مثل سفينة الأساطير، في سحابة من غبار الليل، ونحن نحملق في مؤخرة العربة، لنرى ما يشبه الأشباح ترافقنا بصمت غامض، دون أن ندرك هل كانت ترصدنا أم تخفر خطواتنا. فلم تصادفنا عربات أخرى ولا علامات بشرية تشير إلى الكوكب الذي نتحرك فيه. و(أم فيصل) تفتح كيس المكسرات وتوزع علينا بكفها ما يشغلنا عن الأشباح، ثم تسكب لنا قليلاً من الماء لكي نبلّ ريقنا الناشف.
وإذا بنا نسمع من مقدمة الشاحنة، حيث قمرة القيادة (حسب تعبير أبو فيصل) صوت المغني السعودي عبد الله محمد، يشدو بأغنيته الجديدة آنذاك (إيه ذنبي ليه بس يا أسمر). فأطلقت ابنة عمي الصغرى ضحكتها المجلجلة في رد فعل لا شعوري على الأغنية، فانتقلت لنا عدوى الضحك مثل كهرباء. تفجرت العربة بصخب وفوضى محببة، كأننا كنا بحاجة لانفعال جامح يصدّ عنا شعور الوحشة الذي يطبق على الموقف. كانت الأغنية تكسر وجومنا وتخلق مفارقة تجعل الموقف يتخبط بالمشاعر. فأطلقتْ (أم فيصل) تعليقها الطريف:
(في هذا الظلام لابد أن يكون الحبيب أسود وليس أسمر).
فتصاعدت درجة الانفعال الجماعي، فقد شَعَرَ الجميع أنه وجد صوتاً رفيقاً يحاول إضفاء بهجة لازمة على مسيرة الرحلة. لكن هذا لم يدم طويلاً، فعندما نهضتُ محاولاً الوقوف ممسكاً القضبان الجانبية لتفادي الوقوع بفعل اهتزاز العربة، تناهى إلينا صوتٌ نقيض لصوت الأغنية. ثمة الأشباح تأخذ طبيعة الحيوان، وتطلق أصواتا مترصدة. وكأنني لمحتُ قطيعاً غامضاً يتبعنا.
واقترب الصوتُ، إنه مزيج من النباح والعواء. فسقط جسدي مثل صخرة على سطح العربة، وأطلقتُ بشارتي: (الذئاب.. الذئاب).
هكذا بدأت علاقتي بالذئب بوصفه كائناً ميثولوجيا.
لا أتذكر تماماً كيف تطورت هذه العلاقة فيما بعد، لكن من المؤكد أن أسطورة الذئب الكائن الغامض المكتنز بالأسرار. ذئب في ليل. ليس الأمر هيناً بالنسبة لصبي مثلي، كثير المزاعم، يحمي مؤخرة قافلة تبحث عن ماء الإحساء، جاف الحلق واجب الفؤاد.
فما إن رأيت، أو خُيّل لي، أن قطيعاً من الذئاب تلهث بعوائها الكثيف خلف العربة، حتى سقط الجسد مرتعشاً على سطح العربة الحديدي الساخن. مطلقاً الإنذار كأنه الوصية الأخيرة: الذئاب خلفنا.
ولم يكن ينقص النساء والأطفال إلا شخص يحمي حماهم مذعوراً مثلي.
جرتني أم فيصل بقوة نحوها في قاع الشاحنة، محاولة تهدئتي. مؤكدة أنها ليست سوى كلاب ضالة لا تخلو منها مثل هذه النواحي. لكن الذعر كان قد انتاب البقية بسرعة جنونية وأخذ منهم مأخذاً. قلت لهم مؤكداً مثل اليقين، إنها أصوات غريبة تقترب من الشاحنة. بدت بعيدة مترددة أول الأمر، وسرعان ما اتضحت وتجلّت منبثقة مثل شعل شاحبة في كهف الليل. وأخذ الجميع يتبينها، بل أنهم صاحوا مؤكدين إنها ذئاب فعلاً. ولذنا جميعاً بأبعد زاوية في عباءة (أم فيصل) التي رأيت لحظتها أنها القلعة التي يتوجب عليها حمايتنا من التهلكة. والتصقنا جميعاً بقاع الشاحنة، وجوهنا ملتصقة بزجاج قمرة القيادة. وصرختُ بالقيادة، التي كانت لحظتها سادرةً في صوت عبد الله محمد، الذي لا يزال يزجي عتبه على حبيبه الأسمر. وبدأت أطرق بالقبضتين على الزجاج طالباً أن يضاعفوا السرعة خشية مهاجمة الذئاب. وعندما استنكرتْ القيادة ذلك الصخب المشتعل في المؤخرة، أخذت تهدئ السرعة كمن يريد أن يقف على جانب الطريق لاستطلاع الأمر. وإذا بجميع من معي يهجم على النافذة الزجاجية التي بدت مثل جدار بين قمرة القيادة والمؤخرة المذعورة، طالبين عدم التوقف ومواصلة السير ومضاعفة السرعة، مطلقين صراخهم: (الذئاب خلفنا أسرعوا أسرعوا).
لقد تيقن الجميع الآن أننا في معركة غير متكافئة، ولابد من الفرار بأسرع ما يمكن. فالعدو الماثل على بعد خطوة منا يوشك على الفتك بنا، فيما القيادة تجهل ما تتعرض له القافلة كلها. وأخذ العواء يقترب، وكنا نسمع اللهاث المسعور يكاد يقفز على طرف الشاحنة. إنها خلفنا، وأصبحنا نرى بوضوح بريق الأعين الملتهبة مثل جمرات في الريح. وفي لحظات تحول الموقف إلى حدود الأسطورة. كمن مسّ الشاحنة سحر العفاريت. وأخيراً أدركت القيادة أن ثمة خطراً داهماً يهدد الجميع. وعندما أخرج (أبو فيصل) رأسه من النافذة محاولاً التهدئة زاعماً (بثقته المعهودة) أنها كلاب فحسب، ظاناً (بتفائله الظريف) أننا يمكن أن نأمن، في تلك اللحظات، لمجرد الأرانب الأليفة.
وانطلقت الشاحنة بأقصى سرعتها، محاولاً (علوي) إثبات خبرته في فن القيادة، في حين كان يثبت للجميع شطارته في فن الهروب كالغزال. وأخذت العربة تجتاز ظلاماً مضاعفاً، ظلاما أصبح الآن أكثر خرافة متوغلاً في المجاهيل. لقد انتقل الرعب إلى القيادة، برغم مكابرة (أبو فيصل). وتبرعتْ ابنة عمي الصغرى بفكرة كفيلة بتمزيق كيان الجميع، فقد صرخت بأن الذئاب يمكن أن تقفز علينا في الشاحنة لو أن الشاحنة خففت السرعة قليلاً. وشعرنا أن القيادة قد اتصلت سريعاً بهذه الفكرة الجهنمية، فقد شعرنا
فجأة أن السيارة تكاد تخفّ من أرض الطريق طائرةً لفرط السرعة التي دفعها (علوي) لعربته. تخيلنا العربة المغطاة من الجوانب المفتوحة المؤخرة فوهةَ الجحيم، وربما بقفزة جريئة، لا تنقص تلك الكائنات المسعورة، يستطيع حيوان واحد فقط أن يكون بيننا في الداخل. وفيما كانت الشاحنة منطلقة تهرب من قطيع الذئاب (من يستطيع الآن أن يشك أنها ذئابٌ بالفعل) بدرت عن (أم فيصل) حركة خلناها أنها ضربٌ من الحكمة وسحر الخائف في آن واحد. فقد أخذت تبحث في ظلام المؤخرة بيدين مضطربتين عن صندوق الزاد الذي أشرفت بنفسها على إعداده، وأخرجت كيساً (عرفنا فيما بعد أنه يحتوي على قطع دجاج مبهّرة ومحمرة) وراحت تفرغه وتقذف بمحتواه خلف الشاحنة. وفجأة شعرنا بابتعاد لهاث الحيوان وعوائه وخفت الأصوات دفعة واحدة كأنها وقعت في هاوية، تخاذلت تلك الكائنات منشغلة بوليمة غير متوقعة.
ووَجَمنا متقلصين على بعضنا البعض نكاد نسمع خفق قلوبنا بوضوح برغم هدير الشاحنة التي لم يخفّ انطلاقها. ولم يجرؤ أحد منا على كسر الصمت. كل ما استطعنا أن نفعله أننا تشبثنا (بأم فيصل) بحرارة المتضرع، معبرين لها عن امتنان عميق على هذه اللفتة، التي تعد بحق عملية إنقاذ حاسمة، سوف يحسدها عليها طوال الوقت (أبو فيصل)، الذي لا يتخيل أن أحداً يمكن أن يفعل المعجزات سواه.
انهارت الأجساد المرتعشة وهدأت غارقةً في عرق خفيف. وتماسكت (أم فيصل) لكي تصبّ لنا شيئاً من الماء، تسقينا وهي تهمهم بكلمات مقدسة تسبغ بها سلاماً بارداً على القلوب الصغيرة، التي كانت موشكة على الخطر. لم تتوقف السيارة. ولم نتبادل كلمة. فما أن ارتخت عضلاتنا كلها حتى وجدنا أنفسنا نغرق في شيء يشبه الفرح اللذيذ والنوم، لكوننا نجونا من ذلك القطيع المتوحش الذي رأيناه رأي العين. ويمكن الزعم ليلتها أننا كنا ننام بأعين مفتوحة تقريباً، كما لو أننا اكتسبنا من الذئاب أسطورة النوم بعين واحدة. ولن نستطيع بعد تلك التجربة أن نحب الكلاب أبداً. ولا زلتُ أعتقد بأن في هذه الحيوانات جزءاً كامناً من الوحش يمكن أن يستيقظ ويستدير نحوي، فلا يتوجب الغفلة عنه أو الثقة به. غير أن علاقتي بالذئب، ككائن ميثولوجي، سوف تتحول بأشكال شتى، في كتابتي، كما لو أنه المخلوق الغامض الذي يمكن أن يتقمّص الكائنات الأخرى دون أن يتجاوزها. وربما كان ولعي بالذئب، بوصفه الدلالةً حمالةَ الأوْجه، هو ضربٌ من محاولة محو ذاكرة الذعر المبكر الذي تجرعته في لقائي الأول بالذئب. سوف يحضر الذئب كثيراً في كتاباتي بشكل أو بآخر.
صَعَدَتْ الشاحنة بكائناتها المرتخية إلى الطريق المرصوف، فَدبَّتْ فينا حياة جديدة. ولمحنا على مبعدة قناديل صغيرة تشير إلى المدينة. فانتعشت الأرواح، وأخذت الأجساد تتمطى مستعيدة طبيعتها.
هاهي الإحساء إذن.
ولم تتوقف العربة، وإن كانت قد خفّت سرعتها كثيراً. وكنا في الهزيع الأخير من الليل. ورأينا كأن الإحساء تهتف لنا مباركة لنا هذه النجاة، باذلة لنا ماءها الحنون.
وقفتْ الشاحنة بقرب حرش متصل بالأشجار والنخيل، وأطلقتْ الافئدة زفيراً كثيفاً، كمن يتنفس الصعداء بعد رحلة طويلة.
هل كانت الطريق إلى الماء غامضة مثل الماء الذي نقف بين يديه الآن؟
أطلق (أبو فيصل) النداء المنتظر: انزلوا.
كأن للماء الدافئ نكهة لا تخطئها الحواس. ليست رائحةً، لكنها ضربٌ من مزيج الطبيعة، يتصاعد في هيئة الوصيفات وهنَّ يستقبلن هودج العرس. قيل لنا إنها بكاء المعادن، يتفصّد ويتحول إلى سائل رهيف، ما عليك إلا أن تقبل عليه لكي يحتضنك.
تحدّرت القافلة الصغيرة مندفعة نحو العين. لم يمنعنا الظلام الذي يلفّ المكان من رؤية صفحة الماء المسوّرة بفوران غريب. صرنا نتحرك دون أن يتبين بعضنا البعض تماماً. راح (أبو فيصل) يوجهنا نحو حافة العين. فوضعنا أسمالنا على صخور متناثرة. لم يكن سهلاً معرفة حدود الأرض من حدود الماء من حدود الهواء، لولا تلك الصخور المصقولة بأجساد البشر وحرير الماء. كنا نحن والماء فقط في كوكب مفقود. ولم نشعر بالوحشة التي كانت، قبل قليل، تهددنا بالمجاهيل.
انشغل الرجلان بإنزال ما نحتاجه. لا أتذكر تماماً من الذي حاول أن يفسد جمال ذلك الظلام بشمعة قديمة، تعثّر بها على إحدى الصخور. وسرعان ما نهره الجميع برد فعل لا شعوري، كأن الجميع قد وجد في الظلام صديقاً أليفاً حنوناً يحمي ويستر، ولا يجوز خدشه بالضوء. الجميع رفض النور في تلك اللحظة. النساء لأنهن كذلك، والرجال لأنهم منحازون لعتمة غامضة. أما أنا فقد كان لي سببي السري. أذكر، الآن، أنني كرهت فكرة اشعال الشمعة، فيما أبدأ في ترك جسدي في الماء. الضوء سيفضح جلوسي الصامت متشبثاً بصخرة في طرف العين، بعيداً عن عرض الماء حيث الأعماق.
هل كان الماء فضيحتي الدائمة؟
كان الجميع سيعرف أنني لا أحسن السباحة، وأن كل مزاعمي بشهوة الماء ليست سوى تعويض لا شعوري عن قصوري عن ماء جميل بهذا الشكل.
أتخيل الآن كيف كان صوت انغماس أعضائنا في ماء العين الساخن، كمن يرمي بسبائك الذهب المتعب في بحيرة من الجليد. بهدوء وحذر تقدمنا في الماء، كل على طريقته. (أبو فيصل) انصرف لمساعدة طفليه على التوغل داخل العين. ابنتا عمي كانتا قد غمرتهما المياه حتى الكتفين. (علوي) كان آخر من طرح ملابسه، و شدّ الإزار الأبيض على وسطه وتمتم بكلمات شبه مسموعة كأنه يذهب إلى الوضوء.
هذا هو الطقس الذي انتظره الجميع طويلاً.
أذكر إن الهدير المكتوم الذي يصدر من مكان مجهول في العين، كان يضفي على الموقف رهبة غامضة، احترمها الجميع، وبالغ في تبجيلها.
من أين يأتي كل هذا الماء، وإلى أين يذهب.
شعرنا بأن ذلك الماء يفيض على أطراف العين، لكأن الأرض تضيق به وتقصر عن كرمه واتساعه. وفيما راح (أبو فيصل) يروي لنا قصصاً وحكايات (تتراوح بين الحقيقة والخيال) عن عين نجم. كنت أتساءل عن سر هذه الكثرة الملحوظة للعيون الطبيعية الممتدة من الإحساء حتى القطيف. وكيف أنها تكاد تغمر الأرض من حولها (انها كانت تفعل ذلك حقاً). واستعدت، مما يحضر في ذاكرة الصبي، من درس الجغرافيا المبكر، الذي يقول عن تلك البحيرة الغزيرة من الماء القديم المنسرب تحت الأرض على امتداد المنطقة الشرقية، مغذياً، لفرط غزارته وعمقه، مناطقَ بعيدة في الخليج تصل إلى البحرين. وكأن (أبا فيصل) كان يصغي للتداعي الذي استغرقني، فهتف مؤكداً أن البحرين تشرب من الماء الذي ينبع من الإحساء، بل إنه أكد (لأطفالٍ تطيبُ لهم المبالغة أحياناً) بأن الأهل في المحرق ربما يشربون من نفس الماء الذي يغمرنا الآن. راقت لي الفكرة.
قلتُ:
- ترى لو أنني غرقت في (عين نجم) الآن، بسبب حماقة ما، هل ستنقذني الكائنات المائية (صديقتي في الحلم)، وتأخذني إلى واحدة من عيون البحرين، ويعثر علىَّ الأهل هناك؟).
ولئلا يبالغ الآخرون بالسخرية من هذه الخاطرة، تذكرتُ لهم قرائنَ كثيرة، من تشابه أسماء العيون في المنطقة الشرقية بعيون في البحرين، (مثل قصاري وأم نخيلة والرحاة والبديعة والصالحية وأم رحى والعين العودة)، وهي قرائن كفيلة بتحقيق مثل هذا الحلم، لو أن المصادفات الأسطورية تسعفنا.
ولم تكن الطبيعة غافلة عنا. ففي ذلك الصمت المعتم، ومن بين هسهساتنا المتقطعة، كانت كائنات الطبيعة ترصدنا بدماثة. كنا نسمع كل شيء بوضوح باهر. حفيف أغصان تتحرك في هواء ساكن، أصوات مختلفة من الحشرات الكثيرة، مكونة جوقة ليلية لا توقظ النائم ولا تتركه وحيداً. تثاؤب الخضرة الداكنة في الأوراق، وربما سمعنا أيضاً (مثل السياب)، الجذورَ وهي تشرب الماء تحت الأرض. أما الضفادع فقد كانت هي قائدة الجوقة الرئيسية في ذلك المشهد. لم أكن (حتى ذلك الوقت) قد سمعت ضفادع بهذه الكثرة، حتى إنني كدت أموت فزعاًً، عندما قفز حولي ضفدع بمحض الصدفة وأنا أنتقل من صخرة إلى أخرى على حدود العين، الأمر الذي دفع (أبو فيصل) لأن يقود حملة السخرية المستحبة مني، بوصفي كائناً تقتله الضفادع وهي تداعبه بأطرافها الطرية اللزجة. لقد كان طقس الاستحمام، أحد أكثر المواقف متعةً، بعد ذلك السفر النادر.
هذه هي (عين نجم) إذن.
لم يشعر الجميع بالوقت. ولم ننتبه لغياب ابنة عمي (أم فيصل)، إلا بعد أن سمعناها تدعونا للأكل. لحظتها فقط شعر الجميع بالجوع. فنحن لم نتناول شيئا، تقريباً، منذ غادرنا القطيف. خرج الجميع، بملابس تتقاطر برحيق المعدن، واقتعدنا أطراف الصخور نتعرف على الأكل. شاي بالحليب، الخبز المتأخر، المربى، لكي يلسع حناجرنا بحلاوته، والجبن، الذي ستجرح علبته المعدنية أصابعي فيما كنت أتلمس الطريق إليه في العتمة، خليط من الفاصوليا الخضراء المطبوخة سلفاً منذ الظهر. ثم ذلك الطبق الذي سيفاجئنا جميعاً، ويدفعني إلى منتهى البهجة كأي طفل. فقد كنتُ في ذلك الزمان أحد المذهولين بالاختراع الخارق الذي يسمى (معكرونة)، وكانت المرحومة (أم فيصل) تحسن إعداد ذلك الاختراع، كما لو أنها تعيد ابتكاره في كل مرة. الأمر الذي جعلها تهيئ ذلك الطبق كمفاجأة لي. قالت إنها مكافأة إضافية، لأنني كنت صاحب فكرة الذهاب إلى ماء الإحساء.
ولكي تبدو الأسطورة رفيقة لطفولتنا، وعدنا السيد (علوي) أن يأخذنا، في طريق العودة إلى سوق التمر، لنحمل معنا شيئاً مما اشتهرت به الإحساء في جميع العصور. وأظن أن الأسطورة هي ذاتها التي هيأت لي، في السنوات الأخيرة، صديقاً من الإحساء اعتاد أن يتحفني، كل عام، بسبائك التمر المطيب بعسله الكثيف.
فشكراً لأن الإحساء لا تزال قادرة على دفع الروح في ذاكرتي، لكي أسرد شيئاً يتقاطع مع الخيال متجاوزاً الواقع.
***