ولد الشاعر الإسباني روسيندو تِيّو في مدينة سرقسطة عام 1931، وحصل على الدكتوراه في الأدب الإسباني بعد أن أحيل على التقاعد. له إسهامات عديدة في النقد الأدبي، لكن عمله الأساسي يتركز في الشعر. حصل على «جائزة الآداب الأراجونية» عن مجمل أعماله عام 2005. يمكن تمييز ثلاث مراحل أساسية في عمله الشعري، ففي فترة البدايات في العقد الذي يمتد من عام 1959 إلى 1969 والتي تغطيها دواوينه الثلاثة الأولى «ذلك الجدار السري، ذلك الصمت»، «مرثية الحجر»، «خرافة الزمن»، يمكننا أن نلمح انشغالاً سوريالياً وميتافيزيقياً، وفي فترة النضج بين 1970 و1990 التي نذكر فيها من بين دواوينه: «تأملات منتصف الليل»، و«فصول الشمس»، تتحول الفردانية إلى الصوت الجماعي، وإذا كانت ثمة سمة مميزة لهذه المرحلة، فهي رمزية الأرض كمركز مثالي حيث يسيل الكون كله. ثمة تأثيرات واضحة أيضاً في تلك الحقبة قادمة من فلسفة كيركيجارد.
أما المرحلة الثالثة والتي تبدأ بديوانه: «فيما وراء الخرافة» وتتواصل في ديوانه «تكهنات وأساطير لزمن يمضي» الصادر عام 2000، يمكننا أن نرى شعراً أكثر كونية، ممتداً في الزمان والمكان على السواء.
هنا قصائد من ديوانه «تكهنات وأساطير لزمن يمضي»:
*حكاية من الطفولة
كان طفلاً يأخذ أبقار أبويه
لترعى في المرج.
كان الشوك ينضج
عبر المنحدرات الشقراء.
الجبال كانت من القطيفة
والضوء من الساتان.
في عنق الغيمات معلقة أجراس
وفي وديان النهر تصرخ الفتيات.
كان أبوه يقول له:
«لا تنزع أحجار الأسيجة،
ميز الجمبري المخادع،
احذر من العقارب والآبار،
راقب مقالع الحجارة حين تغني
الثعابين الذهبية تحت الشمس».
أيام الصيف واسعة مثل البحر،
عصافير شجية تصفر في الأماكن الظليلة،
قوارب ساطعة تعبر الأغصان الملتفة
وبجلود الغرقى تشتبك نباتات السعد.
عالم صامت يمتد تحت قدميه
كحصيرة خضراء.
تزعق خشخاشة الفجر مع حصوات النهر،
تزعق نايات الغروب
مع حصوات النهر التي تشتعل وتذهب
إذا قامت الأسماك بلعن الغيوم الشريدة.
كان أبوه يقول له:
إذا أصخت السمع إلى
هذه الأحجار البيضاء،
فسوف تسمع صوت البحر حين يرتفع فوق الروابي.
وكان يذهب إلى الحجارة حيث يئن،
مع ضجيج البحر، ضوء الأحجار.
سكينة الصيف واسعة ورهيبة
كبحيرة أشعلها القمر.
غيوم بيضاء تدخن وتنقسم،
الأشجار تطلق سهامها السامة،
العاصفة تنزع الصَّوّان اللامع
للسماوات المحروثة، كان أبوه يقول له.
عندما يقوم طفل بأخذ أبقار أبويه
إلى الأحجار الخضراء المبذورة بالياقوت.
*كالماء يخرقه القمر
لا أعرف من أين أتت، لكنها
كانت جميلة وفطنة
كحلم حبي المراهق الأول.
كيف كانت تناديني لا أذكر
فقط اللمعة الهادئة لعينيها
والصدى الخامد لخطواتها
في الماء الذي يخرقه القمر.
ذات يوم سمعت صوتها
يقول لي من خلف الأشجار:
"روسيندو"
في عمق بعض الروابي:
«ألا تسمعني؟»،
كما في الأحلام:
«روسيندو، ألا تسمعني؟»،
واختفت في فرجة مظللة من الغابة
عند بزوغ الفجر.
لابد أنه زمن
كانت فيه النجوم
تغير جلدها والعالم يوقف روحنا
للأبد ويغيرنا من الداخل،
سارقاً منا زهرة القلب.
ذات يوم ظهرت: «لا بد
أن تهجر بيتك وأقاربك وعائلتك وحبك،
أن تتخلى عن أصدقاء طفولتك
وأن ترتاد أراضي أخرى
وشموساً أخرى
عبر السياجات العالية للصمت».
لا أعرف إن كانت عذراء أو إلهة،
أجهل إذا ما كانت حقيقية
أو مرضاً للمخيلة. ورغم معرفتي
أنني أبداً لن أصل إليها، ككلب بلا صاحب
مضيت وراءها، وحدنا، منزلقاً عبر جبال وضفاف،
عبر حصون وحدود.
دون أن أجد من خطواتها أية علامة إلا الهواء
أي وجه إلا الضوء فوق الجليد،
في عذاب حفلات الصيد.
*هلوسات ساعة الغروب
البيت تحت الماء
وحزام الذهب.
زمردات زرقاء.
كل ما نتذكره:
السرو والعين
العمياء للبومة الصيّاحة.
القناع الساخر في البعيد،
هلع المياه
والجبل الأبيض
بالذئاب الجائعة
حيوانات الدخان
(ليست أشباهي)،
كائنات سوداء تقفز من أتون
داخل المستنقعات.
البيت، أحزمة الأسماك اللامعة،
الأملاح والخل.
دائرة النار والطبول
في الحدائق العليا،
بيضاء،
متلألئة.
*ورود ميتة
يأتي الزملاء ويذهبون
مغنين نحو حديقة الورود الميتة.
يبدو هذا علامة الأرض:
أن ترى السقوط والانتظار
أن ترى كيف ينام جميع الخفراء.
صاحب البيت الذي ورثته
يضع جلوده لتجف في الصيف
وتمر الأشباح
عبر تسويات الأرض السفلى حاملة مشاعل.
يحيك وضوح المجرى
وتلك الوجوه التي تبصق في الخرائب
حيث يبكي الأطفال.
مغنين نحو حديقة الورود الميتة.
*ريح في الأدغال
الحراس ناموا حتى الفجر
مع الأبواب مفتوحة على مصراعيها، عراة
فوق شبكات الذهب.
القلعة البيضاء
فكت أسوارها ودخل الفرسان
بالقمر صامتاً بين أذرعهم.
ليالٍ وليالٍ معاً، يتعلمون الغناء
وتحريك سيوفهم أمام الينابيع،
دون عمل آخر سوى
ضبط عنان الخيول في مناهل الألم والدم،
دون آلات أخرى سوى أفخاذهم المتذبذبة
في أغطية العراء.
تسقط التروس من أعلى الوهاد،
تتبرم محاور عربات الحرب
والحراب تلمع كمستنقعات القصب.
الزمن لم يكن له لون آخر سوى نيران
عيونهم الناعسة.
تتوقف الراقصات،
يضبطن حراب بكراتهن الجلدية
ودائما نتذكر ريح الشمال تلك
التي لا تزال تهبط
حتى الآن مشتعلة
فوق الأجمات.
*لا يأتي أحد
لن يأتي أحد ليقول لي:
«كيف حالك، ماذا تفعل هناك مستلقياً بجانب سور اللبلاب،
معتمراً قبعة من الحرير والفضة الداكنة؟
لماذا تغني بلزاجة كحشرة الزيز، لماذا تنبش، ملقىً على الأرض، البذور؟»
قد يتذكر أحدهم لحظة من حياتي ويقول: «ألا يزال يعيش ذلك السيد
الذي رأيناه ذات مساء يعبر الشارع المقفر ويتقدم داخل أحد المقاهي؟
نعم، من يكتب أشعاراً. ألم يكن...؟»
نعم، ميت، ميت، قلها، ألم يكن هذا؟
كالصمت الثقيل، كما يؤلم الضوء
ويا للتعب اليومي كي أحفظ نفسي واقفاً
وأن أفقد الحاضر الذي يهرب، واضعاً
القطع التي تبقت دون صيد
في لعبة الحياة.
ويا للجنون وسخاء الجلود وشبكية العيون
ويا لكثافة الصرخات والطبول خلف ظهري.
لا بد أن أمشي أبعد مني
حتى ظلي نفسه يبدو لي غريباً،
جد قريب من ظلي حتى أنني لا أتمكن من إعطاء الساعة المضبوطة،
هائماً عبر صحراء مظلمة، غريب الأطوار
عبر أبدية من الأشباح،
في شفافية حزينة لروح تصرّ على لا أعرف ماذا.
وأي عمل من الأبواب والنوافذ المفتوحة
على الليل الصرير،
في شروق بحدود مقفلة أمام فجر بلا مخرج.
في هذه العزلة غير المحتملة
لا أعرف أنا لِمَ لا يأتي أحد ليقول لي:
«مرحباً، صديقي، هل أنت موجود، موجود؟ أما زلت تحيا؟».
*الكشف عن غلام السهم
(أسبوع الآلام في آراجون 1994)
1
ساهراً، وهو نائم، تحت قبة رحيمة، القبلة المترنحة
للأنوار التي تختصر مرمر حياته. دون شفرات ولا تدوينات
ودون جروٍ تحت الأقدام يحرس الظلال.
بصمم ينبض في النور الخفيف للزجاج المعشق المركز
في منتصف النهار على وجهه الهادئ.
كان شاباً لا يزال حين عبر جسور الحياة، بحثاً عن، لا أحد يعرف،
عن حب أو مجد وعدته به الأسلحة، فكل شيء واحد ومتعدد داخل صدر شاب.
على الأقل هذا ما تقوله الأخبار المتعبة من اقتفاء أثره.
إذا كان من الحب مرضه فلا أحد يعرف،
أو الولع بإيجاد مُلك وشهرة عن طريق اسمه، خيانة السهم، تلك التي
تستعر في صدره، ناكئة جرحاً من معدن صدئ،
حملته هنا للنوم في مرمدة مشتعلة.
تمثيل صورته، من فرط ما كان مخلصاً
ومن تجريب الخبرة اللذيذة للصانع،
لديه شيء جنائزي يجذب الزائر ولكونه واقعياً فإنه يخلب ويعبر
كل الخيالات وكل الأوهام.
لكنه مرمر عذب ما يتصنعه جسده،
منحوت في اللحظة الأخيرة من مغامرته، عند لمسه نشعر بانتفاضة
الخفقان الهائج لروحه، هادئة في النهاية، لكنها تسهر في أحشائه المتصلبة.
خارج الضوء الذي، عند حبس نبضات أنفاسه، يذهب هاجراً
اللحم وطاوياً العينين نحو النار الداخلية لنظرته.
ولديه ما لا أعرف من ضيق أو سعادة،
تراكم دم متورد، هو جمال وصلابة موسيقية لمن يتأمل ذلك.
2
دائماً ما يكون الأمر مبكراً بالنسبة إلى من يتوغلون
في نهايات الضوء. مرحة هي أشجار السرو،
الذهبية من جرّاء الشمس التي تفتن الدروب،
في نشوة تحفظ إذلال الزمن
شاحذة في النبع قمماً شبابية
دائماً ما يكون الوقت متأخراً لمن يتعبون من انتظار أن يكون عمرهم،
وفقاً للسماوات التي أحبوها، يجد فوق الأرض انسجام المياه والزهور.
لهذا فإن العندليب الذي يبكي في الظل
يجيبه الباز على المشارف اللامعة.
لكن هناك من يحتمل هنا في الحياة وأبعد من الحياة،
في هذا المركز التراجيدي الذي نصارع فيه الحب والموت.
أرواح لا تستسلم،
أجساد لا تنحني أمام عاصفة الهواء
عندما يحجر ظل مثلج زهرة المرمر.
رغم سقوط الصمت ونحن نعبر،
من أجلهم نغني كذلك أو نبقى معلقين حول المركز، جلد غنم مدمى
من الطبل المعتم.
بين الأزرق المبلور والبحر الأخضر
الذي يقبل هذه القمرة الساهرة.
في ليل موخوز بياقوت قرمزي
كلمات الاخبار- العدد ٢٩٧٠ السبت ٢٧ آب ٢٠١٦