غوزو – يوشيماس | |
كورا روميكو | |
شونتاروا – تانياكاوا | |
ريوسيه – هاسيغاوا | |
كوئتشي – ايجميا | |
ماساكو- تاكيغوتشي | |
ايتسو – ايشيكاغوا | |
تامورا – يوئتشي | |
كازوئي – شينكاوا | |
تاميكي – هارا | |
ماكوتو – أووكا | |
ريني – يوشيوكي | |
نوريكو – إيباراغي | |
شيبو ساوا – تاكاسوكي | |
رين – إيشيكاكي | |
تارو – كيتامورا | |
نوبؤو – أيوكاورا | |
تشيماكو – تادا | |
يوشينو – هيروشي | |
موتسوؤو – تاكاهاشي | |
مينورو – يوشيوكا | |
كاتسومي – سوكاوارا | |
تاكا آكي – يوشيموتو | |
كيو – ناغاسي | |
هيروشي – أوسادا | |
ياسؤو – ايريساوا | |
هيرومي أيتو | |
تايجيرو – أماساوا | |
ريوغين – ساي | |
تاكاشي – تسوجي | |
هيروشي – سيكيني | |
يوريئيكا – سوزوكي | |
كيؤو – كورودا | |
تائيكو – توميوكا | |
كونيوؤ – هاما غوتشي | |
ميكيوؤ – ساساكي | |
كورودا – سابورو | |
سابورو – كورودا | |
تاكايوكي – كيؤوكا | |
تاكايوكي – كيؤوكا | |
يوشيرو – ايشيهارا | |
يوتاكا – أكيا | |
هيتوشي – آنزاي | |
غان – تانيغاوا | |
يوجي – أراكاوا | |
ميتشكو – ياماموتو | |
كازوكو- شيرايشي | |
مينورو – ناكامورا | |
أكيرا – شيميزو | |
ساتشيكو – يوشيهارا | |
تيرو – اينويه | |
تشيشو – هامادا | |
آكيو – كيتسوكاوا | |
يوشيرو إيشيهارا | |
هيروشي نوما | |
تويومي – آرائي | |
يوشينو – هيروشي | |
(إلى يوكو - أراكي)
راقدةً في مغارة الخبز الذهبي، نظرت إلى السماء الرمادية
-هبط عنكبوت وتمتم "هذه نجمة رائعة أيضاً"
كيف كانت الدرب التي سرت فوقها عند الغروب؟
-لا أحد يعرف ذلك، ولا أنت.
فوق حصير زلّقتها الأمطار، تستلقي حالمة بالأمطار فوق عنقها
-يقول "البحر" إنّه اشتمّ رائحة المكياج العجيبة.
تصير سفينة الموت دون أن تدري
-ترفع ذراعها، ثم تفتح الكفَّ تارةً وتطويها
موجٌ حنون أسود جرحت عينه، عين بيضاء لها شكل السفينة
-كان لرفيفها شكل السفينة أيضاً، درب الصيف البيضاء
ودّعت هذا الفضاء وحزن "البحر"
-كنت أريد أن أكتب أكثر واستفزَّ "الموج العجيب"
مكان السفينة الفينيقة التي لم تعد تلهو
-كانت هناك زهرة بروميثوس الصفراء
تحت تلّ وعند ساحلٍ مقفرٍ "ميناء أبيض"
-خليج لامع كان يعوم في السماء، ثم أغمضت عيني، الحيوان الضعيف.
أحياناً كنّا نهزُّ الفضاء مثل فراشة
-وحين انتبهت رأيت أوراقاً حنونة تقرفص وراء النّافذة.
تصير سفينة الموت دون أن تدري
-ترفع ذراعها، تفتح الكفَّ تارة وتطويها
ولكن كنت أحسّ بقدرة الدخول إلى مكان ما
-وأن منحدراً غير موجود في أي مكان يبدأ من هناك عند الغروب.
وأنّ شيئاً ما غير موجود في أي مكان يبدأ بهدوء
-"الأمطار" و"الحصير" و"الشرشف" هكذا تعمل.
إنها ظلّ ضعيف لا يعرف "المداعبة". من حين إلى حين، كانت الشمس الغاربة تتوهج إلى جانب السطح.
نجمة ثابتة رفعت الستار بهدوء، عندئذ دخلت الرياح ودعتني،
نزلت ثلث المنحدر وأنا أيضاً، كانت الشمس تغرب، وفجأة
-شممت رائحة الدرب الرملية.
سنكون نهراً خفياً يستلقي هناك
-سمعنا صوتاً عنيفاً إنه الذكريات أيضاً
كي تردّ الوفاء أثناء حلم عابر
-لا تكفّ عن تمشيط شعرها الأسود
مكان السفينة الفينيقية التي لم تعد تلهو
-كانت هناك زهرة بروميثوس الصفراء
قلبُ التوت الفضي والبطيخ والزيتونة رفيع أبيض، يحك بانهماك
طريق رياح هذا المدى السماوية
صامتة تهبط روحنا تلك الدرجات الصخرية
-كلّما هبطت، اشتدّ أريج (الطريق السماوية) العذب.
تصير سفينة الموت دون أن تدري
-ترفع ذراعها تفتح الكفّ تارة وتطويها
راقدة في مغارة الخبز الذهبي، نظرت إلى "السماء الرمادية"
-هبط عنكبوت وتمتم "هذه نجمة رائعة أيضاً"
تصير سفينة الموت دون أن تدري
-ترفع نظرها إلى "لون عجيب" "غير ثقيل" وغير "خفيف".
مارّاً بالمكان الذي يُدعى شِعبُ "أنا موشي" وحتى جبل "نيجو"، كنت أفكر، والأسنان تصطك
إنها جُثوات قديمة، بعض تلالٍ، قطار كان يعبر الحدود بين أوساكا ونارا.
إنه قبر، هكذا اعتقدت، ثم، ظهر، مصريان، قديمان، زوجان عجوزان كنت قد رأيتهما في فلم، وكلّماني. ما حدث في الفلم، اليوم، الآن، هناك، كان قد نهض.
الزوجان العجوزان تكلّما معي، طفلنا، ابننا الوحيد، ولد مسرف ضال، إذن، هل تسمع، وفي رهان، انتهى إلى بيع القبر حيث كنّا سنذهب بعد الموت..
انتبهت، كنت في المقطورة، والأسنان تصطك. انتبهت، لأنّ القطار بدأ بنزول الجبل، وبدأت سرعته.
إلى محطة "نيجوزان" لا يوجد أكثر من عشرة ثوان أو خمس عشرة ثانية، وأنا، مدركاً أن حدوداً أخرى تدخل من النافذة، وبسرعة تركت العنان لقلمي الناشف. كنت أترك العنان لقلمي الناشف.
عندما نخرج من المحطة ذات الموظّف الوحيد وننعطف إلى اليمين، في الواجهة يوجد جبل "نيجو".
إنه جبل مزدوج - أخضر، خدود آخذة بالإحمرار، هذا الجبل الناعم المدوّر: - لا أدري من وشوش بهذا، الزوجان المصريان، أم أنا، أوزيريس، أوزيريس، المرأة (؟)، ما تسميه أوزيريس، الإله، كان على جانب الطريق.
شيء غريب، الوالدان، اللذان باع ابنهما الضال والمسرف مقامهما لما بعد الموت لم يكونا حزينين.
أنْ لا يكون لنا مكان نذهب إليه بعد الموت، لا أهمية لذلك. ثمّ، مشيا، إلى جانب الجرف الصخري، فوق طريق في داخلي.
على طرف الشارع، شابةٌ، ربّما تنتظر سيارة تكسي، لكن، أعتقد أن ذلك كان، بلوزة ذات لون بنفسجي خفيف، امرأة، ذلك الجبل ذو الأجفان المزدوجة هل هو جبل نيجو.. سألتها، وضحكت ثم تكلّمنا، قليلاً، ومن هناك، عدت إلى المحطة.
طيب، لا أهمية لذلك.
لستُ من هنا.
أوزيريس.
كانت بلوزة ذات لون بنفسجي خفيف.
جبل جميل.
هابطاً الزقاق الضيق، مشيت إلى المحطة. ثلاثون دقيقة تقريباً قبل مجيء القطار المقبل. إلى امرأة يبدو أنها من الجوار، يتكلّم الموظف الوحيد عن النقود، عن البيت الذي بناه. مصغياً إليه، أنا، هبطت إلى المزلقان، ومتخفياً، التقطت حصاتين، ثمّ، التقطت، وضعتهما بسرعة في حقيبتي.
عبرتً الرصيف إلى الجهة الأخرى، و، على مقعد خشبي، مقعد ذي مظلة، جلست بدأت الكتابة، والجبل الجميل أخضر ووديع، وكان يسترق النظر إليّ. جالساً هناك مرّة أخرى، أيضاً، وبتركيز، بدأت الكتابة.
انتبهتُ، ربّما لأن القطار الذي بدأ هبوط الجبل، وسرعته تزداد، كان يدخل؛ مضطرباً، أمسكت بأشيائي، حاولت الدخول إلى المقطورة، لكن المقعد الخشبي لا يترك، فعلاقة حقيبة سترتي دخلت فرجةً في المقعد الخشبي، وبقيت هناك عالقة
عاد، الانتباه، والخشب، مكسور، وواقف. وبقوة، أسرعت إلى داخل المقطورة، ومن وراء النافذة كان خشب المقعد الخشبي واقفاً. الخشب، انكسر، وقد وقف.
مأخوذ بإحساس يشبه الغضب، ولذلك ترك منظر المحطة ذات السيّد الموظف الوحيد ضوءاً (منظراً؟) كمنطقة وهم تحت الماء.
الذي كان يكتب، والأسنان تصطك، كان أنا؛ الخشب، مكسور كان يقف.
مرة أخرى، مصريان قديمان، صوت الزوجين العجوزين كان قد بدأ يُسمع، من جديد.
لا أهمية لذلك، أبننا المسرف الضال..
كانت بلوزة ذات لون بنفسجي خفيف..
جبل جميل..
هل أنا راوٍ؛ جالس على الكرسي، (على مقعد محطة نيجوزان الخشبي، جالس)، أنا؟
(أم أحد ما) الهامة الجالسة، من؟
كان الخشب مكسوراً، واقفاً.
حوله كان يطوف ثعبان. مع، حصاتين، مبلوعتين، داخل البطن، كان ثعبان يطوف بهدوء.
آب ملتهب، على عيني انعكس جدار أحمر من جهة النهر الأخرى لا يعبر أي جسر معدني. كيف نُخَمَن الوزن؟ نظري يأخذ بالارتفاع. من الطرف الآخر للنهر، وإلى الجدار الأحمر العالي إلى أغواره، تسرَّب نحتُ، يرسل ضوءاً مرئياً.
يُرى الضوء
عرض النَّهر في الجبل، حوالي خمسين متراً، قاع النّهر ثلاثة أمتار تحت الضفة؟ أنا مسّاح، على طول النّهر، أنا مسّاح. في أعماق النّهر مدّ الطوفان، أكان ذلك الليلة الماضية؟ أكان صباح أوّل أمس؟ تكلّمت مع النباتات الملطّخة بالرّمل والوحل، والتي تتوهّج محنية في اتجاه مهبط النهر.
أنا، عامل هاتف؟ أأكون عامل هاتف؟
غاضب مثل الأَصَلَة؟ بأبهة؟ قيس ارتفاع الطوفان الذي مرّ مساء أمس أو صباح أمس: أنتِ [الطوفان] التي طولها متر وخمس وسبعون سنتميتراً. أشعر بنفسك الحارّ، فوق ظهري، ساقاي، وعلى المفرع فوق صدري سيسائي. كأنّك تجري، ترفع جسدك، وفوق الضفة رميت جسدك.
هل أنا حارس السابحين في الأنهار؟ حارس السابحين؟ لا أعلم. بالقرب يرتفع برج احتفال بسكينة أرواح سمك التروتة، وصوته يفاجئني..
نقترب، أصواتنا تصبح وديعة مثل الوشوشة..
نقترب منها، أصوات الأسماك والأسماء الصغيرة ذات اللمعانات الصغيرة جداً جاءت، وسمعناها. كنّا نلامس صورة جدولٍ صاف، ونمسك بها.
شيء رملي؟ شيء رملي؟
أطرقت آنذاك، صرت تلّة، صرت صوتاً صغيراً، إصبعاً فوق سمكة تروتة، فوق وجنة سمكة تروتة، صرت رملاً، جريتُ؟
و، استدرت، الجدار الأحمر الكبير على الشاطئ الآخر انحنى متراً أو مترينن نحو هذا الشاطئ شرارات من الصوان، وجه من اللهيب، وفي الأعماق عدد من الفضاءات، مذنّبات ودببة، و، الحجر المشحوذ الذي فوق راحة يدي، كانت جميعاً تقفز في ساحة الجدار الأحمر.
في منبع نهر كوزا، مكان غريب ينتصب فيه جدار كبير.
سمكة صغيرة، سمكة صغـ ـ
ـ ـيرة، هناك سمكة سمكة صغيرة.
الحادي عشر من آب
كنت أدخل في الجدار الأحمر.
* * *
في وليمة الاحتفال،
ويوم ولدت المجموعة الشمسية
التفَّ شعري بحدةِ إعصارٍ
ولطم ضفة الفضاء بعنفٍ
لطمها رفقةَ الطغاة.
أفتتح شَعري كلَّ شيء التهم كلَّ شيء
فيما كانت شهواتي جميعاً لهباً يترنح.
في الفضاء.
وفي بركة من الدم، كان النور والظلام يلهجان بالرقص.
الآن،
تبقت لشعري جذوره.
التي تتذكر الرياح الحارّة بهدوء.
رياحَ العصور القديمة.
قَطَعَ شعري كلَّ شيء.
* * *
التمثال الذهبي الباهت قُطعت ذراعاه
وخصري يعرق مثل غزال
أحقن غضب الانجراف في جسدي
وأستعيد الذكريات:
أين ذهبت عضلاتي.
التي اقتلعت رئة النمر وأخضعت الطبيعة،
تلك العضلات التي نشأت كالعاصفة
وخرّبت الجنة.
ألبسُ عيني أرنب وأقابل الآلهة
انظر إلى البعيد.
غير أن العالم صامت..
ذلك الصمتَ الهائل..
* * *
يا قلبي البرونزي الذي يرسم قوساً فوق القارّة
مثل هذا الحصى الملقي تحت قدميَّ
لماذا أراك تسجل الزمن حزيناً هكذا؟
تقيأ النابضَ اللولبي الذي ابتلعته.
فالمستقبل صامت كالبحيرة
و شبيه بحوض الغسيل الكبير
وقت الظهيرة
آثارُ الجراح والوديان
والمسافات اللزجة
في كلِّ مكان.
مرعب
مرعب.
أنا.. إنسانٌ ينفخ اليوم الذي يسبق يوم الهلاك
أعيش،
مكسِّراً زجاجات الكوكاكولا
طوال الليل.
لماذا أنتما هناك؟
لماذا تقفان هناك
في مهب الرياح؟
داخل شجرة الأقاقي؟
تعصف الريح بالأوراق
وحولكما
يغير الليل لون خيانته بالتدريج.
* * *
لماذا تقفان هناك
لماذا تقفان هناك
في مهب الرياح،
تحت شجرة البلوط؟
تعصف الريح بالأوراق
وحولكما
يغير الليل بريق همومه بالتدريج
* * *
آه، لماذا أنتما هناك؟
لماذا تقفان هناك متعانقان
في مهب الرياح؟
داخل شجرة الخيزران؟
تعصف الريح بالأوراق
وحولكما
يغير الليل عمق آماله بالتدريج.
* * *
للمزهرية النحاسية شكل
البرعم،
ومع أن زهرة واحدة لا تطلُّ منها
فحمرتُها الشفافة
لونُ الغسق
لون شفتين منفحتين بخفة
وقدُّها الرشيق
قامة عارية تشتعل.
* * *
(آه،
لماذا ينتظر الإنسان
الغد المسدود
كأمل شديد
مشتتاً روحه السليمة
على جميع الأزهار؟)
* * *
مزهرية نحاسية تسرَّب
إليها لون الفجر،
وفي داخلها يشتد الظلام
ليحتضن الأوهام والخرابات-
* * *
في شجرة واحدة
توجد أخرى لم تولد بعد
وفروعها
ترتعش الآن في الرياح.
* * *
في سماء زرقاء واحدة
توجد سماء زرقاء أخرى لم تولد بعد
ويقطع أفقها
الآن طير.
* * *
في جسم واحد
يوجد جسم آخر لم يولد بعد
ورحمه
يدخِّر الآن دماءٌ جديدة.
* * *
في مدينة واحدة
توجد أخرى لم تولد بعد
وساحتها
تترنح الآن أمامي.
حين أجلس على كرسي العالم،
ذلك الكرسي المحجوز،
أختفي فجأة، ثم أصرخ
وحدها تبقى الكلمة حية.
* * *
على السماء سكب الإله أصبغه النفاق
وكلّما حاولنا تقليد لون السماء
تموت اللّوحة والإنسان.
وحدها الأشجار قوية في وجه السماء.
* * *
أريد أن أكون شاهداً في المهرجان
وكلّما تابعت الغناء
جاءت السعادة كي تقيس طولي
* * *
أقرأ كتاب الزمن
لا شيء مكتوب، لآن الكلّ مكتوب،
فأهجم على الأمس بالأسئلة.
* * *
عندما أشاهد زرقة السماء
أحس أن هناك مكاناً أعود إليه
لكنَّ الضوء الذي جاءني عبر الغيوم
لن يعود إلى السماء ثانية.
* * *
باستمرار تقدّم الشمس ما لديها كريمة
ونُشغَل بجمعه حتى في الليل.
لا يستطيع النّاس الاستراحة خصبين كالأشجار:
لأنهم لم يولدوا نبلاء.
* * *
النافذة تقطّع الأشياء التي تفيض عبرها
أرغب بغرفة الفضاء فقط
ولذا ساءت علاقتي بالبشر.
* * *
الوجود جرح الزمان والمكان.
بل والألم يعاتبني
لو غادرتُ المكانَ لعادت صحتي إليه.
* * *
من يعرف موتي في الحب!
كي أستلب حب العالم من جديد
سوف أربي الرغبات اللطيفة (كما هي)
* * *
عندما أحدّق في النّاس
تعيدني قامة الحياة إلى العالم
وتتوحد في داخلي الأشجار الشابة وقامة الإنسان.
* * *
دون أن أعطي للقلب اسماً
يخطف الصمت ما أعرفه من الأشياء
لامساً فمي المغلق.
* * *
لكن عندها أنا ذلك الصمت أيضاً
أستلب حبَّ العالم
مثل الأشجار.
* * *
أليس العالم نجمة صغيرة في الغياب
عند الغروب...
يقف في حيرة
وكأنه يخجل من نفسه.
* * *
في مثل ذلك الوقت
أجمع الأسماء الصغيرة
ثمّ
لا أتكلم إلاّ قليلاً.
* * *
أحياناً الأصواتُ تنادي العالم
تناديه بوضوح أكثر من أغنياتي:
الصفير البعيد، نباحُ كلب، صوتُ
أبوابِ المطرِ وصوتُ تقطيع السكاكين.
* * *
يصغي العالم إلى هذه الأصوات
خفية مثل عتمة الغروب
وكأنه من صوت إلى صوت
يريد التأكد من وجوده.
* * *
لأن العالم يحبني
(بشكل قاس
وأحياناً بشكل لطيف)
أستطيع البقاء وحدي إلى الأبد.
* * *
حين منحت إحداهن نفسها لي للمرة الأولى
كنت أصغي إلى أصوات العالم فقط.
ولأنني جزء من العالم باستمرار
أفهم الحزن البسيط والفرح البسيط فقط.
* * *
في حضن السماء، الأشجار، الناس
أصبُّ نفسي،
كي أكون خصوبة العالم ذاتها
* * *
… أنادي النّاس
فيلتفت الكون
وعندها أختفي.
- 1-
سريع الدموع
آه، سريع الدموع أنا.
تسيل الدموع
عندما أسير في طريق
أو أركب القطار
أو عندما أتمدد وحيداً على مقعد.
ملك الرعب
آه، لماذا.
ساذج، متوحش، قاتل دون أجرة،
أقتل
من يمرُّ بجانبي على الطريق ليلاً
ومن يقف بين مقطورتين
ومن يعيش بسيطاً وعاديّاً
أقتلهم جميعاً.
- 2-
يركض النمر
يركض النمر
أيام الشتاء في سهل حيث جميع الأحياء ضعاف
ويموتون جميعاً
يركض النمر
من طرف الصحراء حيث تنتهي الأسلاك الكهربائية
إلى طرف الأرض البوار حيث تنتهي سكك الحديد
يركض من اجل ابعد فريسة
وراء ذيول الرياح الهائجة
يركض ومخالبه ترجُّ العالم
يعبر قصراً، يغوص في قاع بحيرة
يمتطي جبلاً أجرد، وينزل
يركض النمر
يركض النمر
- 3-
ليتني انتحرت
في ربيع شبابي
حيث لم أكن أميز شيئاً.
ثلاثون عاماً
واشعر الآن وكأني خرجت من الرّحم أمس.
أشعر الآن وكأني خرجت من الرّحم منذ ملايين السنين.
ربما أحيا أيضاً
ومهما أحيا أيضاً
ومهما حييت يحيا هذا الشعور معي.
الموت الطبيعي بائس
والخراب سخيف والانهدام سخيف
وانهيار الكون في المادية الجدلية سخيف أيضاً
إذن، فلأنتحر
وأنا القاتل والمقتول
صراع. تحديق.
نقطة.
- 4-
أيُّها النمر
أيُّها البطل الوحيد
بين رسل ملك الرعب
ومِكبَسَ اسطوانة الروح.
من كبد مخدوش، من أمعاء متراخية
من وسط صدر تغمره خيوط عنكبوت
ينقذف خفيفاً جسدّلينَ مُخَطَّط بسواد
وتطلق حنجرته زئيراً مريحاً
يهتز لحم صدره، ويسري الاهتزاز إلى حبيبات الهواء
وفي ضوء القمر يتماوج ذنبه
وينتصب إلى الأعلى.
يُرى النمر
يًرى، يُرى.
لا يُرى، لا يُرى
ولكنه يَرى.
- 5-
أتشمس برفقة ابني
على سطح متجر.
يا بن الشاعر الفقير
اذهب واركب دولاباً قلاّباً
كلا. يا بن مَن لا صفة له غير الفقر
اذهب واشتر بوظة.
ينظر إلينا نظرةً حادةً صقرٌ من
داخلَ قفصه.
لا تظن السجن شقاء
فالسجين رومانسي.
يا بن الشاعر الفقير
تحت الأقمار الصناعية والصواريخ ذات السرعة الضوئية
نقف، نحن الاثنين، ونتأمل صقراً على سطح متجر
وفي جيوبنا عشرون يناً بقطعتين.
كلا. لست فقيراً ولست ابن شاعر
اذهب واركب القطار
اذهب واركب الأرجوحة
مع الأطفال العاديين.
يا بني،
عندما تصبح كبيراً
ثم لا تجد ما تفعله
فتذهب بابنك إلى سطح متجر
أرجوك ألا تشعر هذا الشعور البائس.
أيها الصقر، لا تنس
أن دماءٌ تتناثر في الفضاء
وتتجلّد هكذا
متتابعة.
لا تنسَ
أن صراعاً لا نهائياً يدور في الفضاء.
- 6-
من ايفوكو تشيو إلى شيبويا
أذهب مع ابني إلى المتجر
مشياً
نركب المصعد إلى السطح ثم يهبط طابقاً طابقاً
على مهلنا
إنسان رمته الرأسمالية خارجها
يذهب إلى مخزن البضائع كي يتفرج.
يوم الأحد هو العواطف
ولكن لِمَ عليّ أن أفكّر هكذا:
العواطف؟
يا بني،
تعبنا، تعبنا كثيراً
فقط لأن أباك أنكر العاطفة.
- 7-
أيّها النمر
أيّها البطل الوحيد
بين رسل ملك الرعب
يا نمر الأشعة تحت- الحمراء.
ذلك القلب الإنطوائي الذي كان نائماً بحياء
والجلدُ العَدَمَي الذي كان مغطى بحصيرة وسخة
ونبلُ تعذيب النفس الذي كان يشحذ الأنياب فقط
ذلك النمر يمزقني الآن من الداخل منطلقاً
يركض فوق طريق تؤدي إلى الشمس من أجل فريسة
يركض النمر
يركض النمر
في عالم الفرائس حيث كلَ شيء باهت
يركض النمر.
من قاع البحر
تجيء تمتمة مهمومة
ومن بين تجاعيد الماء
يظهر حصان كفيف العينين لم يعد يذكر أنه حمل إنساناً.
حصان أزرق يمشي في قاع البحر.
منذ متى يسكن الحصان البحر؟
بقع الدم التي تعلو ظهره
هل هي منه
أم من غيره؟
يسير دون خُيَلاء،
وينفض الأعشاب الملتفة على رجله.
إلى عينيه الكفيفتين ينضاف خلسة لونٌ نيليٌ
حزين وموحش أكثر من لون البحر
من أضلاعه المجروحة ينزف الدم
يغتسل الدم بماء البحر
ويسير من موج إلى موج.
عندما يأتي الخرف
ويتلبَّد ضباب بارد فوق البحر
يتربع الحصان وحيداً خلف صخرة في قاع البحر
صامداً في وجه البرد
صابراً على الانتظار.
* * *
شاب
بمؤخرة مدورة مشدودة
لو أكلناها مع الخل
لطقطقت لذيذة.
* * *
شاب
خلف كلماته تلمع شعيراته الناعمة
ومن بين حاجبيه يتصاعد بخار أزرق.
* * *
شاب
مثل جدول يبدو صافياً لا ترسو فيه
حتى حصاة
لكن تسكنه مئات الأسماك التي تتوهج حراشفها
وفي اليوم يُنَارُ ويُظَلَّلُ مرات كثيرة.
* * *
يهمُّ بالحديث مع أحد
وفجأة يصاب بالصمت والشحوب
عادت الطيور،
لتنقر شقوق الأرض السوداء؛
وفوق سقوفٍ غريبة
تصعد، وتهبط:
تبدو حائرة.
* * *
تمسكُ السماءُ رأسَها كمن ضُرِب بحجرٍ
غارقةً في التفكير والتأمل.
ولأنَّ الدمَ توقف عن النزيف
راح يتجول في السماء
كأنه شخصي آخر.
* * *
فوق الخدود تنقَّط الشمس
وسلوكنا لا يزال
سلوك مشرّدين.
ما يليق بنا الآن:
أفواه عطشى وعيون جائعة
هناك عطشى وتحت سماء بعيدة
يتلاشى طيف مصنع الأسلحة
تنكسر طيوف مدينة المستقبل
وتظهر هذه الصورة كما تظهر رسوم بطريقة
سحرية فوق ورقة بيضاء.
حتى الآن لا نعرف
تكريم الموتى ولا نفهم الخوف
ولا نقدر أن نقيس
حجم الفضاء الذي يقيمه الكلام.
لا ذكرى لغير الخرابات
والكلام لا يقول غير الشظايا.
رؤانا مرآة لا تعكس شيئا
تسافر فقط الى سهول مليئة
بجثث الحشرات.
هل حركة القلب للبحث عن مكان أو
عن دائرة مغناطيسية
حيث نجمع صوراً مبعثرة
هي الروح؟
نظرات مئات المشردين
تطبع أثاراً
والأبراج الفلكية للمئات.
عيون المشرّدين تعمّد هذا القرن.
الكلام!
ليس للكلام راية.
وعندما نعكس أنفسنا عليه
لا تنعكس سماء الفجر المرتعشة عليه
ولا مدينة المستقبل المترنحة أيضاً.
هذا الذي يقرفص صامتاً
ثم متربعاً،
هل هو نفاية أحلام أجدادنا
التي تُرى
خلف المحاجر والسواعد
أم هو دماؤنا الهادئة؟
هل نحن ممن جاءوا أخيراً أم أولاً؟
لعلَّ الكلام الجريء الصريح
اشتراك في الفراغ
واتهام لمن يتقدم الآن.
سننقش الكلام في سماء تاهيشتي
سماء الأرض الجافة
وفوق الأمواج المزبدة أيضاً.
والنّاس تابعوا السير
حاملين أعباءهم، باحثين عن
فريسة عند المياه.
نحن الذين جعلنا الأشجار خياماً
سننضم إلى ذلك الطابور.
فهل ترفرف الطيور؟
وهل يتفجر الينبوع داخل الإنسان؟
وهل يبحث الشلال عن البداية؟
من هنا تبدأ أغانينا البريئة
لتقود خطانا
فننقش الكلام في السماء
الكلام الذي يشبه قطعة من سماء غائمة.
"وُلِدَ!"
صاح البحر،
وأنزل القاتل يديه من حول عنق الرجل
ثم التفت..
أخذ السلطعون الصغير يمشي متعثراً
والبحر يشتعل من جديد.
شكراً أيّها الصغير
وفرَّ الرجل الذي كان سيخنقُ
آخذاً بالبكاء الشديد.
* * *
بدأ الصغير الغناء
فتوقف البحر والطير وقوارب الصيد عن الثرثرة
ليصغوا إليه بسكون.
والى مدينتنا.
وصل صوته الصافي
* * *
استحوا جميعاً فتظاهروا بعدّ النقود.
***
يشفق الإنسان
على ما يجري بعيداً منه.
(أنا الرياح العابرة
وأعرف ذلك).
* * *
يصمت الإنسان
على ما يجري بالقرب منه.
(أنا الرياح العابرة
وأعرف ذلك)
* * *
يغضب الإنسان غضباً جميلاً
مما يجري بعيداً منه.
(أنا الرياح العابرة
وأعرف لماذا)
* * *
يصوّت الإنسان كما تصوّت الجرائد
لما يجري بالقرب منه.
(أنا الرياح العابرة
وأعرف لماذا)
* * *
ثم صرخنا بأصواتنا
على ما يجري بالقرب منا
(أنا الرياح العابرة
وسمعت ذلك الصوت)
* * *
يخاف الإنسان
مما يجري بالقرب منه،
ارتجفنا مثل قارب صغير.
(الرياح العابرة)
* * *
من يواجه ما يجري بعيداً
هو الإنسان البعيد.
ونحن القريبين
نواجه ما يجري بالقرب منا.
(أصغت الرياح
إلى الأغنية العادية ثم تلاشت
أصغت الرياح
إلى العذاب العادي ثم تلاشت)
***
هيروشي- كاواساكي
م(26-1-1930)
في صباح مضيء
تجيء فتاة راكضة،
وفي أشعة الشمس
يذوب شعرها الناعم الوديع
ثم يلتمع.
* * *
يداها،
تنورتها، حذاؤها، جسدها
جميع هذه
يذوب في الشمس،
فتغدو شفافة
وتُقبل راكضة وحدها فقط
* * *
إلى غابة صباحية
تدلف الشمس
والفتاة تصير خضراء اللون.
تتحافُّ الأوراق والأغصان فتفاجئنا
مثلما تفاجئنا اللغة الأم صباحاً.
في بلد أجنبي
* * *
تخرج الفتاة
إلى مرعى صباحي،
حيث الحصان ذو اللون القشدي
يقضم الأعشاب المندّاة
برفقة حصان آخر،
وهي الآن تفكر
بكيف صارت
الأعشاب الخضراء
في بطن الحصان ذي اللون القشدي.
* * *
تصل الفتاة إلى حقل الفواكه
حيث التفاح فوق أشجاره
يكاد ينضج
تحت الأشعة الصباحية.
وأريجه يغمر
الغرفة البيضاء
مثل غازٍ، ثم يبقى هناك،
وتمتلئ الفتاة برائحته.
من أين ومتى
جاءت حُمرته
وطراوة بشرته القانية
لا أحد يعرف ذلك.
في الأشعة الصباحية
يصبر التفاح في الحقول
على اقتراب انفجاره المحتمل.
تتابع الفتاة جريها
* * *
يتشقق الجليدُ
تُوْلَدُ الرياح
ويستيقظ السنجاب.
* * *
إلى تلك الغرفة حيث أنام
تدخل الفتاة بهدوء،
فتلوِّن الأشعةُ الصباحيةُ
قلبي بألوان عديدة.
مثل ألوان المنشفة،
وأحياناً على شكل خطوط.
الفتاة ثمَّ أنا
والحلم على مسافة بسيطة منّا.
* * *
أهو صوت الينبوع الذي يتدفق؟
أم إشارة لمرور الزمن؟
* * *
الفتاة ثمَّ أنا
نتجاوز الحلم بمسافة صغيرة.
* * *
هي تتلاشى بالتدريج
وأنا امتلئ شيئاً فشيئاً
ثم
بعد قليل..
ها هناك الشمس..
* * *
أقبل الصوت
"فلنتحدث"،
* * *
كان صوتاً أخضر
* * *
إذاً
* * *
أقبل الصوت
"فلنتحدث"
* * *
كان صوتاً أحمر.
* * *
الصوت الأرجواني
* * *
وصوت بلون بيضةٍ
* * *
والأصوات الأخرى
* * *
كانت تتحدث
عن أرض جديدة
مبللة بضباب الصباح
* * *
كانت تغير موضوع الحديث
كلما اشتدّ هبوب الريح
* * *
وأحياناً تتناثر قهقهاتها
كالأمواج.
* * *
يبدو أنها كانت سعيدة حقاً
* * *
وعبر السماء
يحدّث بعضها بعضاً
من هنا إلى هناك.
من بعيد جاء ذلك الصوت
ذلك الصوت جاء من بعيد جداً
خفيفاً أكثر من أي همس
وأقوى من صراخ.
في اللغة بحرٌ
أعمق من هاوية "إمدين" التي عمقها 10830 متراً
يخترق الصوت ذلك البحر المفقود اللا يكتشفه غير شاعر
فقط
ويمزق أبرد هواء في العالم
وفي قاع البحر يُغرق أشدّ أساطيل العالم حساسية
يحكم ملوكنا ومدن عواطفنا
ويبعث من القبر ملاحينا الأموات وضجرنا.
من بعيد جاء ذلك الصوت
ذلك الصوت جاء من بعيد جداً
* * *
آه لأننا لا نقدر على ارتكاب الآثام
فنحن إحصاء رعب
إحصاءُ رعب
وبيان شهوة جنسية
وبيان الشهوة الجنسية
ولا نقدر على ارتكاب الآثام
آه لأننا
لسنا أفراداً
فنحن قطيع وجماعة
جماعة لا غير.
عبر دمعة جاء ذلك الصوت
جاء عبر دمعة واحدة
أفقر من جميع الفقراء
وأعزَّ من جميع الأعزاء.
في اللغة حبٌّ
أشد من تأجج قلبٍ تأكله النيران
أشدُّ من فجيعة رجل مات وحيداً قبل ألفي عام
يخترق الصوت ذلك الحبًَّّ المفقود اللا يكتشفه غير شاعر فقط
ويتلألأ فوق أشد شلالات العالم غلياناً
ثم ينسكب في أكثر حناجر العالم جفافاً، يغزو طاقتنا وبشرتنا
يحطم الإيمان والقبل.
عبر دمعة جاء ذلك الصوت
جاء عبر دمعة واحدة
* * *
آه لأننا
لا نقدر على الانهيار حباً
فنحن بدعة الهيام
بدعة الهيام
وأخبار الأزمة
أخبار الأزمة
ولا نقدر على الانهيار حباً .
آه لأننا
لسنا وحيدين
فنحن قطيع وجماعة
جماعة لا غير.
عبر "الزمان" جاء ذلك الصوت
جاء عبر "الزمان" الوحيد
حاملاً المستقبل الأشد ظلماً من أي ماضٍٍٍ
والماضي الأشد توهجاً من أي مستقبل
في اللغة "زمان"
أحدّ من رحمّة إله
أحدّ من ضوء فلك العنّاز الذي يجتاز خط زوال شهر شباط
الساعة الثامنة ظهراً بتوقيت طوكيو القياسي
يخترق الصوت ذلك "الزمان" المفقود اللا يكتشفه غير شاعر فقط
ويُقّبْلُ أشدَّ وجنات العالم شحوباً.
ثم يُلقي بشمس الغروب فوق أشدّ آفاق العالم خراباً.
يغتصب جثثنا وكراجاتنا الموحشة المقفرة
يشهد على علومنا ودمائنا شهادة كاذبة.
عبر "الزمان" جاء ذلك الصوت
جاء عبر "الزمان" الوحيد.
* * *
آه لأننا
لا نقدر أن نموت
فنحن دعاوة الخلود
دعاوة الخلود
وسياسة الاستنفاذ
سياسة الاستنفاذ
ولا نقدر أن نموت.
آه لأننا
لسنا أفراداً
نحن قطيع وجماعة
جماعة لا غير.
عندما سأسمع ذلك الصوت
سوف أنجب أماً في النهاية.
عندما ستسمع جثثنا ذلك الصوت
سوف تفترس نسوراً.
عندما ستسمع الأم ذلك الصوت
سوف تنجب موتاً.
* * *
كي تولد قصيدة واحدة
لا بدَّ أن نقتل...
أن نقتل أشياء كثيرة نحبّها
نقتلها بالرصاص نقتلها. نقتلها بالسُّم
* * *
انظر،
فقط لأنه أردنا من السماءِ أربعة آلاف نهار بلياليها
لسانَ عصفور مرتجفاً
قتلنا بالرصاص
صمتَ أربعة آلاف ليل والضوءَ الخلفي لأربعة آلاف نهار.
* * *
اسمع،
فقط لأنه احتجنا من كلَّ مدينة تمطر السماءُ فوقها
ومن الأفران المعدنية، من أرصفةِ الموانئ في الصيف ومن
المناجم
احتجنا إلى دموع طفل جائع،
قتلنا
حبَّ أربعة آلاف نهار وشفقة أربعة آلاف ليل.
* * *
احفظ جيداً،
فقط لأنه تمنينا رعبَ كلب مشّرد
يرى ما لا نراه
ويسمع مالا تسمع آذاننا
قتلنا بالسم
مخيلة أربعة آلاف ليل والذكريات الباردة لأربعة آلاف نهار
* * *
كي نكتب قصيدة واحدة
لا بدَّ أن نقتل شيئاً ثميناً.
إنّها الطريقة الوحيدة لإحياء الموتى
ولا بدَّ من هذه الطريق.
*******
لا تربطني كما تربط
باقة الورد،
أو باقة البصل الأبيض.
لا تربطني، أنا سنابلُ الأرزَ،
الذهبية المنشورةُ
في المدى،
والتي تشتهيها الأرض في الخريف.
* * *
لا تعلّقني بدبوس كما تعلَّق
حشرة في صندوق،
أو كما تعلّق بدبوس بطاقةٌ جاءت من الجبال.
لا تعلّقني، فأنا رفيف الجناح،
أنا صوت الجناح الخفي
الذي يفتش باستمرار
عن فسحةِ السماء،
* * *
لا تصبّني
كما تصبُّ الخمر الفاتر
أو كما تصبُ الحليب الذي تخففه الحياة اليومية.
لا تصبني، أنا البحرُ
أنا التيار المرُّ والماء المفلوش
الذي يعلو... ويعلو ليلاً بلا حدود.
* * *
لا تسّمني،
ابنتاً أو زوجة.
لا تُجلسني فوق كرسي الأم الوقور
أنا الرياح التي تعرف أين الينابيع
وأين شجرة التفاح.
* * *
لا تقطّعني،
كما تقطع فقرات الرسالة
وتضع الفواصل والنقاط
ثم تختمها بالقول: "إلى اللقاء".
لا تُنهني مثل جملة قصيرة،
فأنا الكتابة اللامتناهية،
وأنا بيت شِعر يسيل ويتسع
مثل نهر بلا نهاية.
حول القنبلة الذرية
* * *
أعيدوا لنا آباءنا، أعيدوا لنا أمهاتنا
أعيدوا العجائز
أعيدوا لنا أطفالنا
* * *
أعيدوا لي النَّفس
أعيدوا لي ناسي
* * *
أعيدو السلام إلينا
ذاك السلام اللاينهار
ما بقي عالم الإنسان.
***********
أعطني ماءً
آه، أعطني ماءً،
اسقني، أفضّل الموت،
الموت...
آخ...
انقذوني، انقذوني
ماء
ماء
أتوسل إليكم...
من فضلكم
آ آ آ آخ...
آ آ آ آخ...
تنشق السماء
تختفي المدينة،
والنهر يجري...
آ آ آ آخ...
آ آ آ آخ...
قادم هو الليل، قادم هو الليل
ليغطي العيون التي جفّت
والشفاه الملتهبة.
وجوه محترقة، مشوهة،
ويئن الإنسان الإنسان...
* * *
تنبشين الربيع الغافي على رمال الشاطئ
تزينين به شعرك ثم تضحكين،
تزيد القهقهات، تتلاشى في السماء، كالمويجات الصغيرة.
وبهدوء يُقدِّم البحر دفئه للشمس الخضراء
آهٍ! ضفي يدك في يدي
واقذفي الحصى في سمائي
ففي قاع سماء هذا اليوم
تسيل ظلال التويجات.
فوق أيدينا ينبت برعم جديد
وتدور الشمس الذهبية وَسَطَ
أمدائنا مرشوشةً كالماء
نحن البحيرة، نحن الشجرة
وأشعة الشمس التي تخترق الغصون.
في اتجاه الأعشاب.
نحن تموجات شعرك التي يتراقص فوقها نور الشمس.
وَسَطَ رياح جديدة ينفتح الباب
والأيدي اللا تحصى تستدعينا مع الظلال الخضراء.
طازحة الطريق فوق الأرض الناعمة
ويداك تلمعان في ماء الينبوع
تحت أهدابنا يأخذ البحر والثمار بالنضوج
ويستحمان بنور الشمس
هادئين.
* * *
كثرة الأحلام المتسكعة أفرغت حباً من الأحلام. بزاوية
قلب مغرور شقٌ كجرح على جبين فتاة. ومنه يتدفق حزن
عصيُّ لا يُدرك لكنه طازج مثل دم يتدفق من عنق
سمكةِ طونٍٍ مرميةٍٍ تحت حاجز مياه.
عَبَرَت وجوهُ أيام الطفولة بمشاهد المدينة المهتزة. وجوه النّاس
الذين سيدخلون الجدران دونما جفن، لم يعد لأقدامهم وقع.
وحدها آذانهم كبرت وتهتز الآن في الرياح.
طحلباً وليس دوّار الشمس رَبَّت رطوبة المدينة في قلب
النّاس. يتناثر الزجاج على الطحالب.
يسيل الدم. وفي اللّيل
الساكن يفور الماء من أنبوب قارورة فيبلل الطحالب يربّي
الطحلب. إنه زبدة الدم.
سماء تنتفخ. ماء ينتفخ. شجر ينتفخ. بطن ينتفخ. جفن
ينتفخ. شفة تنتفخ. يد تنحف. بقرة تنحف. سماء تنحف. ماء
ينحف. أرض تنحف. جدار يسمن. قيود تسمن. من الذي يسمن؟ من؟ من الذي ينحف؟ ينحف الدم. السماء هي
الخلاص. السماء عقاب.
إنه زبدة الدم. السماء زبدة الدم.
كثرة أحلام متسكعة أفرغت حبي من الأحلام.
* * *
أجلسُ في غرفة زرقاء
والنقفات التي تدق باب المطر
لم تكن زخات المطر
بل صياحُ عجوزٍ مجنونة:
((أعيدي لي ابني، أعيديه))
ولأنَّ الصياح كان يرتطم بجداري
أحكمت إغلاق باب المطر
وأنا في غرفة زرقاء.
* * *
فعض القمر الأزرق ألا يعود الابن؟
لكني لستُ التي خَبأتُهُ
لأن الغرفة زرقاء ولا تتسع إلا لواحد
وهنا زرقة بلا حدود
لا تابوتَ، لا مخبأ.
كان الابن يعشق اللَون الأزرق
ويحب أن ينظر إلى القمر الأزرق
ثم صارا عشيقين.
ولكن عطش الابن ليلةً
ولهذا لم يعد قمرة الأزرق يخرج إلى السماء
* * *
تلقيتُ أخباراًً حول
تفتح زهرة الهندباء
وحول الرياح...
ولهذا فتحت باب المطر قليلاً
كانت العجوز المجنونة واقفة
في الخارج
كي تراني.
* * *
أجلس في غرفة زرقاء
وتلك التي كانت تدق سابقاً على البيانو بأصابعها البيضاء
تدق عليَّ بابَ غرفتي:
"أعيدي لي ابني أعيديه".
* * *
وأنا أحمل السلّة على عتبة دكان
مضيء،
كيف أميز بين
التفاح الحي والتفاح الميت..
* * *
في مطاعم قمم الجبال وبالقرب من الموقد
كيف أمّيز بين طعم
الأكل الحي وطعم
الأكل الميت..
* * *
الروح الحي والروح الميت
كيف لسمعي أن يدرك
سيماء رفيفهما، سيماءَ الصمت والعتمة
التي لا تظن..
* * *
الروح الحي والروح الميت
كيف نعرف أنهما
يسكان معاً، يتعانقان.
* * *
الآن ولكثرة المذابح المتشابهة
كيف أميز بين
البلد الحي والبلد الميت..
الشيء الحي والشيء الميت
يتساندان، يقفان معاً.
في أي وقت وفي أي مكان
يخبئان نفسيهما، يخبئان نفسيهما..
-1-
آذار: تتفتح أزهار الدراق
أيار: تتزاحم أزهار "هوجي" دفعة واحدة وبلا انتظام
أيلول: يصير العنب فوق الدوالي ثقيلاً
تشرين الثاني: يأخذ البرتقال الأزرق بالنضوج...!
* * *
يبدو أن تحت الأرض
سعاةَ بريدٍ حمقى
يلبسون قبعاتهم معكوسة
يركبون دراجاتهم
وينقلون من جذر إلى آخر
روح الفصول التي سرعان ما تتلاشى...
* * *
إلى جميع أشجار الدراق في العالم
إلى جميع أشجار الليمون في العالم
إلى جميع النباتات
تزداد الرسائل والأوامر
لا سيما في الربيع والخريف
ولذلك يحتار سعاة البريد...
* * *
لا بدَّ أن هذا هو السبب
في اختلاف موسم تفتّح أزهار الفول
أو موسم سقوط البلّوط
اختلافاً بسيطاً بين الشمال والجنوب...
* * *
في أحد الصباحات حيث كان
الخريف يزداد خرفاً
وفيما كنت أقطف التين
أحسست بوجود سعاة مؤقتين، غافلين
يزجرهم ساعي البريد المحنك...
-2-
آذار: نفتح الكعكة احتفالاً بعيد الفتيات
أيار: يسيل في طرقات الدنيا نشيد العمال
أيلول: بأطراف العيون ننظر إلى سنابل الرز والتيفون
تشرين الثاني: فتيان يتبادلون الأنخاب مع فتيات...
* * *
فوق الأرض أيضاً يوجد بريد
مجهول الهوية والجنسية
وسعاة غير مرئيين يركضون بصدق
ينقلون إلى النّاس
روح العصر التي سرعان ما تتلاشى...
* * *
إلى شبابيك العالم جميعاً
إلى أبواب العالم جميعاً
إلى صباحات وليالي الشعوب جميعاً
تتكاثر الرموز والإنذارات
بعد الحرب أو عند الخراب
ولذا يحتار سعاة البريد أيضاً...
لا بدَّ أن هذا هو السبب
في اختلاف موسم ازدهار النهضة
أو موسم أثمار الثورة
اختلافاً بسيطاً بين الشمال والجنوب...
* * *
في صباح رأس السنة المجهولة
أغمضت عيني
فوجدت أزهار النّاس هناك أيضاً
كادت تتفتح والعدم سمادها الوحيد.
* * *
عندما كنت أجمل
انهارت مدنٌ كثيرة
وظهرت السماء الزرقاء
في مكان غير منتظر..
* * *
عندما كنت أجمل
لم يعطني أحد هدية حنونة
ولم يكن الرجال يعرفون غير التحية العسكرية
يرحلون تاركين نظرات جميلة
* * *
عندما كنت أجمل
كان الرأس فارغاً
والقلب صليباً
ووحدها أعضاء جسدي
لمعت سمرة.
* * *
عندما كنت أجمل
انهزمت بلادي في الحرب.
شيء لا يُصدَّق!
وتجولت بالمدينة الذليلة
مشمّرة أكمام القميص...
* * *
عندما كنت أجمل
فاض المذياع بموسيقى الجاز التي
التهمتها!
تلك الموسيقة الجميلة الغريبة
فدخت كما لو أنني عدت
إلى التدخين بعد انقطاع طويل.
* * *
عندما كنت أجمل
كنت تعيسة حمقاء
وكئيبة جداً...
لذا قررت أن أعيش طويلاً (إن استطعت)
مثل الجد الفرنسي (روؤ)
الذي رسم لوحات رائعة
بعدما بلغ سنَّ الشيخوخة.
إن الناظر في مسار الرواية العربية منذ بدايات تشكلّها الأولي إلي اليوم يلاحظ أن الممارسات الروائية ظلت تتشكلّ مسكونة بهاجسين: تملّك الفنّ الروائي وتأصيله. فلقد حاولت العديد من الكتابات السردية منذ مطلع القرن أن تستلهم الأنساق السرديّة والقصصيّة التي ابتدعها العرب القدامى. حاول المويلحي مثلاً في حديث عيسي بن هشام أن يستدرج القديم العربي إلي منطقة التمزّقات الراهنة فاستلهم طريقة السرد العربيّة التي تعتمد علي حكاية أمّ مولِّدة من حولها تنتظم حشود من الحكايات الفرعيّة وفق نسق بموجبه تضطلع الحكاية الأمّ بدور السلك الناظم. وتأتي الحكايات الفرعيّة لتثري الحكاية الأمّ وتمدّ الكتابة بامتداداتها. وعلي هذا جريان ألف ليلة وليلة و رسالة الغفران مثلاً.
إن حكاية الباشا وما كان من أمره هي الحكاية الأمّ المولِّدة مثلها في ذلك مثل حكاية شهرزاد وشهريار وحكاية ابن القارح وتجواله في دار النعيم وفي سقر. أما حكاية المكاري والعمدة والمحامي الشرعي وعلماء الدين، فإنها حكايات فرعية تضطلع بالدور البنائي الذي تضطلع به الحكايات الفرعيّة في ألف ليلة وليلة (حكاية السندباد/قمر الزمان/ علي بابا..) وفي رسالة الغفران (أبو بصير وما كان أمره/ آدم وقصّة نظمه الشعر/ بشّار وويلاته في غياهب الجحيم..). ذلك أن الحكاية الأمّ المولّدة هي التي تفتتح فعل القصّ وتضمن تناسقه وترابط أجزائه وتفرّعاته والتواءاته. وتأتي الحكايات الفرعيّة لتمنح فعل القصّ امتداداته وتمكّنه من التقاط الواقع ومزج الغرائبي بالعاديّ وتنويع الأزمنة والأصوات والشخصيات وما تأتيه من أفعال.
لم تكتف كتابة المويلحي باستلهام هذا النسق السردي، بل وسّعت من دائرة عنادها ومغالبتها للتاريخ فاستدرجت فنّ المقامة وأدب الظرف والظرفاء وما حفلت به المتون القديمة من أخبار المكدّين والحمقى والممرورين، إلي منطقة التمزّقات الرّاهنة. لذلك جاءت الشخصيات مرحة محببّة تواجه واقعها المرير بنوع من الغفلة التي تسمح بتعريّة تناقضاته وفضح ويلاته، من ذلك مثلاً شخصيّة العمدة وشخصيّة المحامي. وكثيراً ما تنفتح شخصيّة الباشا نفسها علي هذه الأبعاد المستلهمة من القديم العربي. وهي تعمد أيضاً إلي توظيف القوانين التي ارجع إليها العرب القدامى أدبيّة النصوص فتوظّف قانون التخييل (1) وما ينبني عليه من إمتاع ومؤانسة ومن مزج بين الجدّ والهزل، ومزج بين الواقعيّ المتعارف والغرائبي الذي يجعل الكلام متّصفاً بما سمّاه القدامى التّعجيب وإليه أرجعوا جانباً مهمّاً من أدبيّة النصوص.
لهذا كلّه لن يكون الحلّ الذي تفصح عنه الكتابة علي لسان الحكيم في آخر النص حين يدعو معشر الشرقيين إلي التمسّك بتراثهم (2) سوي نوع من التصريح بالحلّ الذي كرّسته الكتابة نفسها في كيفيّات تشكيلها لنسقها السردي الخاصّ فيما هي تستلهم ذاكرتها وتستدرج الأنساق السرديّة التي حفل بها القديم العربي. إن نسق الكتابة يمثّل، في حدّ ذاته، خروجاً من مستوي المقترحات والحلول النظريّة لأزمة الهويّة ومحاولة جريئة للشروع في إنجاز المقترح عمليّاً في الواقع.
هذا التوجّه الإجرائي الذي بموجبه تصبح الكتابة، في حدّ ذاتها، خروجاً من مستوي الحلول والمقترحات النظريّة المتصوّرة إلي مستوي تجسيد المقترح في نسق الكتابة ذاتها باعتبارها إنما تمثّل جزءاً من الواقع المعيش ومن القيم الجماليّة هو الذي مدّ نص المويلحي بمكانته في تاريخ الرواية العربيّة. لذلك ستظلّ محاولة المويلحي، علي ما تحمله في تلاوينها من مآزق، بمثابة نقطة مرجعيّة في تاريخ الرواية العربيّة المعاصرة. وهي لا تستمدّ أهمّيتها في مسار الرواية العربيّة ممّا تمكنّت من إنجازه، بل ممّا أشارت إليه من دروب ومحتملات. فكثيراً ما أدّي بها حرصها علي مغالبة التاريخ إلي جعل الماضي ينطق بلغة الحاضر وجعل الحاضر يتكلّم لغة الماضي. وبذلك حوّلت الجدل الممكن أو المحتمل بين الزّمنين إلي مصالحة وهميّة تجري في النص ولا تجري في التاريخ.
لهذا كلّه لن يتحوّل هذا النمط من أنماط الكتابة إلي نسق خصوصيّ يضمن للرواية العربيّة بعضاً من فرادة تقيها من محاكاة الأنساق الغربية. ورغماً عن أن الحنين إلي الدروب والآفاق التي أشار إليها المويلحي سيظل يفتن العديد من الروائيين العرب ويغويهم فيمضون علي درب المحاولة من جديد وهذا ما فعله إميل حبيبي وجمال الغيطاني مثلاً، فإن الرواية العربيّة ستعدل، مع ذلك، لا سيّما بدءاً بنجيب محفوظ، عن هذا الخيار وتتشكّل منشغلة بالمنجز الروائي الغربي.
لم يأت الحرص علي استبدال البحث عن السبل المؤديّة إلي إمكانيّة استرداد القديم العربي بالبحث عن الدروب المؤدِّية إلي تملّك منجزات الرواية الغربية وإدراجها في الذات من قبيل المثاقفة القصدية الواعيّة في اغلب الأحيان. لذلك أعلن عن نفسه في شكل حركة تستعجل استقدام أنماط الكتابة والأنساق السردية والمفاهيم المبتدعة في الثقافات الغربية طيلة مجمل تاريخها المعاصر. وبذلك صار حدث الاستقدام نفسه محواً للأزمنة وللشروط التاريخيّة التي حفّت بتلك المفاهيم والأنماط والأنساق في مواطنها. حتى أن تجربة كاتب عربي واحد مثل نجيب محفوظ اختزلت في تلاوينها أحقاباً متباعدة من تاريخ الرواية الغربية وصهرت في محارقها مدارس وأنماطاً ينتمي كلّ واحد منها إلي زمن محدّد في مسار تلك الرواية. التقت الواقعيّة بالوجوديّة. وتعايشت الرواية الذهنية مع الرواية النفسيّة والرواية التاريخية. تعايشت الأقصوصة مع الرواية. وجاء الخطاب النقدي الذي اهتم بالرواية ومنجزها، هو الآخر، مسرحاً لأشتات وأخلاط من النظريّات والمفاهيم والأزمنة.
لم تكن عمليّة استقدام تلك الأنماط والأنساق والمفاهيم التي تنتمي إلي أزمنة محددّة وشروط تاريخيّة متولّدة من مسار الثقافات الغربيّة، نتاجاً لما بين أسئلة الراهن العربي ومنجزات الآخر الغربي من تكامل ممكن أو محتمل بموجبه يلبّي التيار الواقعي مثلاً أو التيّار الوجودي حاجات داخليّة في لحظة معينّة من اللحظات. وهذا يعني أن تفسير التيارات والأنساق المستقدمة بكونها إنما جاءت تلبي حاجات داخليّة محددّة بموجبها يستقدم تيار الواقعيّة الاشتراكيّة والدعوة إلي الالتزام مثلاً ليخدم المدّ الوطني التحررّي، تفسير قاصر لأنه إنما يستند إلي تمثّل آلي للعلاقة المعقّدة بين الإنسان وشروطه التاريخيّة.
ففي الوقت الذي تمّ فيه استقدام تيّار الواقعيّة الاشتراكيّة وما نتج عنه من دعوات إلي الالتزام كان التيّار الوجودي يستقدم هو الآخر. والتيار النفسي يستدعي. هذا الاستقدام الذي تديره الرغبات والأهواء والميولات الفرديّة هو نفسه الذي جعل كتابات نجيب محفوظ غير قابلة للتّصنيف والتحقيب وفق نسق بموجبه يمكن للمرء أن يتمثّل ما بين النصّ وشرطه التاريخيّ من تنافذ أو تلازم. وهذا أيضاً ما يجعل مجردّ التفكير في تبينّ الظروف التاريخيّة التي ساد فيها التيّار الواقعي وتلك التي أصبحت الكتابة فيها ذات منحي وجوديّ أو منحي ذهني أو نفسيّ، إدلاجاً علي درب المتاهات. بل إن البحث عن الشروط التاريخيّة التي حفّت بعمليّة استقدام كل صنف من تلك الأنماط والأنساق، في مثل هذه الحال، إنما يصبح هو الآخر، فعل استقدام لتصوّرات يمكن أن تجد لها مكاناً في الثقافات التي أنتجتها. لكنّها لا يمكن أن تؤدّي إلي نتيجة في واقع ثقافي يحيا في مهبّ التمزّقات. بل إن مجرّد البحث عن شروط موضوعيّة يفترض أنها حددّت ما تمّ استقدامه موقف يتغاضى عن نوعيّة العلاقة التي تربط أسئلة الراهن الثقافي العربي بالثقافات الغربية وبالقديم العربي، لا سيمّا أن عمليات الاستقدام توهم في الظاهر بأنها نوع من المثاقفة القصديّة التي تتمّ عبر وسيط أو دون وسيط، بالترجمة أو بالإطلاع المباشر، لكنّها ليست مثاقفة وليست نقلاً. إنها ملاحقة للزمن ومغالبة للتاريخ ومكره. وهي انفتاح للداخل علي الخارج. لكنّه انفتاح استباقيّ بموجبه يحاول الدّاخل أن يعتصر ما تمّ إنجازه في الغرب طيلة قرون ويدرجه في الذات هنا و الآن. وعلي اللحظة العربيّة الراهنة أن توسعّ من مداها حتى يتسنى لها أن تستوعب تاريخاً يمتدّ من عصر الأنوار إلي اليوم. إنها المفارقة.
من هنا استمدّت عمليّات استقدام المدارس الأدبيّة والأنساق الفلسفية والمفاهيم النقديّة طابعها المتاهيّ. فصارت توهم بأنها تترجم حرص الذات علي محو زمنها الخاصّ كي يتسنى لها الانخراط في زمن آخرها المتخيّل عن طريق استقدام ما أمكنها استقدامه من منجزاته. ولمّا كان محو الزمن الخاص مجرّد توهمّ من التوهمّات المضللّة فإن المحو لم يتحققّ. وبدله تمّت عمليّة بعثرة ذلك الزمن وتشظيته وخرقه من الداخل بأزمنة مستقدمة عمّقت تاريخ اليتم وأزمة الهويّة. ورغم ما انبنت عليه المقترحات النقديّة من بحث ممضّ عات عن الآفاق والسّبل التي تضمن للممارسات الإبداعية أن تسهم في تحديث الرواية العربيّة وتجديد أسئلتها، فإن الممارسات النقديّة كثيراً ما مهدّت الطريق التي ستعمقّ مآزق الكتابة الإبداعية.
هذا المسار المليء بالتصدّعات، بالطموحات والانكسارات، إنما يمثّل السّمة البارزة في تاريخ اليتم الذي تحياه الذات المنتجة للفعل الثقافي. للتاريخ مكره. لكن للذات المبدعة مكائدها أيضاً. فمن هذا التاريخ نفسه، تاريخ اليتم والانكسار ستطلع العديد من المحاولات الروائية مفتتحة آفاقاً جديدة. ثمة نصوص بدأت تتشكّل مسكونة بهاجس تجديد أسئلة الممارسات الروائية والخروج بالسرد من مستوي الإنشاء باعتباره نوعاً من القصّ ينهض علي التخييل ومحاكاة الواقع، إلي مستوي الكتابة من جهة كونها فعل وجود. ثمّة تغيير طال وظيفة الحكي وعلاقة النصّ الروائي بمتلّقيه المفترض . وثمّة داخل هذا كلّه، تغيير مماثل طال الصورة الحاصلة للمؤلف عن نفسه. غير أن هذه التبدّلات والتحوّلات إنما ترد مندسّة في صميم النسق الروائي لا تكاد تري، وبالكاد تدرك، لأنها لا تشغل من النصوص جانبها البنائي فحسب، بل ترد متخفيّة في تلاوين الكتابة وامتداداتها وكيفيات ابتنائها لحركاتها واندفاعاتها، وكيفيات حضور المؤلّف في نتاجه وتعامله مع نصّه ومع متلّقيه المفترض. وهي متسترّة علي نفسها أيضاً في العلاقة التي يقيمها النصّ مع التاريخ ومع أفانين السرد التي ابتدعها العرب القدامى في رحلة بحثهم عما يمدّ حدث السرد لديهم بالمعني ويجعل من الكتابة موضعاً تتراءى فيه الذات بكل نزواتها ورغائبها وأحلامها متخطّية سلطة الممنوع والمحرّم في ثقافة ضاقت بالممنوعات والمحرمات وأرغمت علي أن تحلم نفسها بطريقة ممعنة في المداورة والتخفّي والمواربة.
لذلك يكفي أن ننظر في تلاوين هذه النصوص حتى ندرك أن الكتابة الروائية كما أرسي دعائمها نجيب محفوظ وجيله من الروائيين العرب قد زحزحت عن مواضعها. وليست الزحزحة مجرد تغيير طال كيفيات التعامل مع الأنساق الروائية الغربية التي برع نجيب محفوظ وجيله في محاكاتها والإقتداء بمنجزها قصد توطينها في الثقافة العربية. إن التغيير قد طال مفهوم الكتابة ومفهوم النص ومفهوم الواقع والخيال ومفهوم التلقّي. هذا ما سأحاول أن أتبيّنه بالنظر في بعض النصوص من بينها خاصّة رواية باب الشمس لإلباس خوري (3) و طيور الحذر لإبراهيم نصر الله (4).
تنهض الكتابة في هذين النصيّن علي ما يمكن أن أسميّه قانون التراصّ النصّي. وهو، في حد ذاته، طريقة في تشكيل الخطاب بموجبها تتعددّ مستويات الرواية، وتتعددّ الأصوات ومستويات السرد، وتتعددّ الأزمنة، وتقع تشظية الكلام وتفكيكه بالتعويل علي توليد حشود من الحكايات الصغرى التي تتعالق فيما بينها وتتشابك، فتوهم بأن الرواية تشهد تصدّعات داخليّة فتفتّت أو تتحوّل إلي لعثمة في بعض الأحيان، أو تتخذّ طابعاً هذيانياً واضحاً. يتولد هذا الطابع الهذياني من إستراتيجية الكتابة واقترابها من أنساق السرد المتعارفة في المتون العربية القديمة وتباعدها عنها في الآن نفسه. لذلك توهم بنية الحكاية في هذين النصين بأنها إنما تنهض علي إيراد حكاية أمٍّ مولّدة تتعالق من حولها حكايات فرعية يديرها قانون التداعي أو التجاور والتتالي كما في ألف ليلة وليلة مثلاً وفي رسالة الغفران وكتب السير. فحكاية الصغير الصيّاد الذي آلي علي نفسه ان يعلّم العصافير الحذر من الفخاخ في طيور الحذر أو حكاية الدكتور خليل مع يونس الذي يعاني من حالة موت سريري في باب الشمس قد توهم بأنها عبارة عن حكاية أمٍّ مولّدة ومن حول كل حكاية من هاتين الحكايتين تتعالق حكايات غزيرة تتوالد لا تكلّ، هي حكايات الهجرة واللجوء وانتظار العودة التي لا تأتي. لا سيما أن النصين إنما يكتبان محنة الفلسطيني وتغريبته المدوّخة.
في طيور الحذر : تتشابك حكاية الصغير مع العصافير، بحكايته مع حنون.. وحكاية الزوبعة.. وحكاية أم حنون، وحكاية مريم الشقراء، وحكاية أم خليل وما جري في المخيّم وحكايات التطوع والحرب ومعسكرات التدريب.. وغيرها.
في باب الشمس : تتشابك حكاية يونس ونهيلة، وحكاية أم سليمان، وحكاية أم حسن، وحكاية أبو عارف وجواميسه، وحكاية شمس ومصرعها، وحكاية أم أحمد وابنتها دنيا، وحكاية الدكتور أمجد وزينب.. وغيرها.
غير أن طرائق انتظام هذه الحكايات هي التي تكشف عن حجم التباعد عن النسق التراثي. فلا وجود لحكاية يمكن أن تنعت بكونها حكاية أمٍّا مولّدة وحكايات أخري يمكن أن تنعت بكونها فرعية. ذلك أن الكتابة إنما تتشكّل وتفتتح مجراها كما لو أنها إضاءات أو إيماءات متزامنة إلي حشد من الأطوار والأحوال والأحداث، بموجبها تتمّ عملية بعثرة الحكايات جميعها وتوليف أقسامها توليفات متعدّدة إذ يشرع الراوي في سرد حكاية ما، ثم يقوم بإرجائها أو ينتقل مباشرة إلي غيرها.
نقرأ في باب الشمس ص76 مثلاً:
ضحكت شمس وأخبرتني عن ابنتها دلال، في الأردن، وكيف تشعر بالاشتياق إليها وكأنها تخرج من أحشائها. وحين سألت يونس عن موت ابنه أخبرني عن نهيلة / المرأة كادت تجنّ كلّ أهل دير الأسد. قالوا إن المرأة فقدت عقلها.
نقرأ في طيور الحذر ص 297 :
قالت أمه الحكاية التي يعرفها قبل أن تقولها : كنا نسير تلاحقنا الطائرات.. تلتقي الكيازين فتحرق الشجر
والحجر ثم ينتقل الكلام إلي حكاية أخري: امتلأت المدارس عن آخرها
إذا رأيت جدك قل لي. أو جدتك. فاهم ؟
ووصلت طلائع الجيوش علي العاصمة.
هكذا تصبح الكتابة محكومة بقانونين متضادّين: التشظية والتّوليف. تتولّد التشظية والتوليف عن رصف الحكايات في شكل طبقات وسراديب متراكبة ومتنافذة في الآن نفسه. وهي حكايات تنهض بمهمّة توسيع دائرة الإضاءة ودائرة الرؤية، إذ تشمل أحداثاً ووقائع تتزامن في أماكن مختلفة. حكاية الصغير مع العصافير التي علّمها الحذر أو حكايته مع حنون التي هام بحبها وحكاية موكب دفن الساق مثلاً، وحكاية خالته الشقراء التي تنتظر دون بارقة أمل عودة عشيقها مظفّراً من فلسطين في طيور الحذر أو حكاية أم حسن وخروجها من فلسطين وزيارتها الى بيتها الذي سكنته عائلة صهيونية وعودتها كسيرة النفس الى بيروت، حكاية شمس وموتها المروع، حكاية سقوط القرى الفلسطينية الواحدة تلو الاخري، ولكل قرية حكاية وحكايات سقوط المخيمات، وحكاية حرب المخيمات، والقناصة... الخ.
إن الجامع بين هذه الحكايات في النصين معاً هو كونها إنما تمثّل شظايا ومزقاً من حيوات يتعالى عليها التاريخ. حتى لكأن هذه الحكايات إنما ترد لتكتب تاريخاً موازياً يقول حقيقة ما جري. وهذا الذي جري ليس مجرّد احتلال لوطن يسمي فلسطين وتشريد شعب في الجهات. إن كلمة احتلال واستيطان وتشريد جميعها كلمات مدانة وقاصرة لأنها تحجب أكثر مما تكشف. فالوطن ليس خارطة وليس بقعة. إنه ناس وأمكنة وبيوت وأشجار وأحجار وهضاب ولكل فرد وبيت قصّة، لكّل شجرة قصة، لكلّ مكان حكايته الخاصة، ولكّل بقعة تغريبتها الخاصة.
بعيداً عن الشعارات والأمجاد وإعلاء البطولات الوهمية ينهض الحكي ويضطلع بأشدّ أدواره خطورة فيلملم الحكايات ويصهرها والرواية تنهض وتكون. وسواء كانت الحكايات تروي قصّة حبّ بين حنّون ومعلّم العصافير (طيور الحَذَر) أو بين نهيلة ويونس (باب الشمس) أو كانت تروي الموت ضارياً متوحشّاً فإنها تظلّ بمثابة مجمع للذاكرة. هذا ما تنهض الكتابة الروائية، في هذين النصين، لتحقّقه. لذلك تتشبث بالتاريخ (أحداث 36 و48 وأيلول الأسود، وصبرا وشاتيلا وحرب المخيّمات.. الخ ) لا لتسايره بل لترغمه علي أن يفصح عما يتكتم عليه من وجع بشريّ تجسّده الحكايات الصغيرة التي تتوالد. إن الحدث التاريخي يُستدعي ويتحوّل إلي قادح يفجّر حشوداً من الحكايات. حتى ليكاد فعل القصّ نفسه يتحولّ إلي طقس جماعي تشترك فيه الشخصيات والموجودات جميعها. البشر يحدّثون والأماكن تُحدّث والأشجار، تُحدّث وتنهض الحكاية لمقاومة النسيان.
نقرأ مثلاً:
حكاية مريم مثلاً في طيور الحذر :
لم تعد مريم الشقراء ذات الجديلتين الذهبيتين تظهر في أي مكان اختف من الأعراس، من المآتم، من الطرق، لم يعد أحد يراها، لم تعد تزور أحداً.. ظل البيت حولها يضيق وهي تحشر نفسها في زوايا نفسها.
ونقرأ في باب الشمس :
ص 214 215 مشينا أنا وبناتي وابني مع الناس، ولا أعرف كيف صرنا مع تلك المجموعة المرعبة. كنا خائفين ولكن ليس مثلهم. كانوا يوشوشون حين يتكلّمون.. وابتدأ ذلك الطفل يبكي من الجوع، طفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، يبكي بصوت مرتفع قائلاً أنه جوعان، والناس ينظرون إلي أمه شزراً، ويطلبون منها إسكاته، والمرأة محتارة في أمرها. حملته وصارت تهدهده لكن بكاءه لم يتوقّف . قالت جدتي إنها أعطت الأم الرغيف الوحيد الذي كانت تخبئه في عبّها، قالت إنها خافت من الكهل لأنه كان مصممّاً علي قتل الولد إذا استمرّ في البكاء. وكانت المرأة تحاول إسكات ابنها، تمسك به من يده، ترفعه إلي الأعلى، تحمله، تعيده إلي الأرض، وتتركه يمشي بين قدميها. والولد يبكي. أخذت المرأة الرغيف المدورّ من جدّتي وقسمته إلي نصفين، أعطت ابنها نصفه، وردّت النصف الثاني لجدّتي. لكن الولد رفض، كان يريد رغيفاً كاملاً، وعاد إلي البكاء. اقترب الكهل منه، وأمسكه من صدره وبدأ يهزّه. هرعت جدتي وأعطت نصف رغيفها إلي الأم، التي أعطته لابنها. لكن الولد كان يريد رغيفاً كاملاً، وليس نصف رغيف. جمعت المرأة النصفين، واستلّت إبرة وخيطاً من عبّها، أدخلت الخيط في ثقب الإبرة، وبدأت تخيط الرغيف.. خاطت المرأة الرغيف، وأعطته للولد، فسكت. امسك الرغيف فرحاً قبل أن يكتشف أنه ليس رغيفاً. فالمرأة خاطت الرغيف بسرعة في الظلام ولم تنتبه إلي ضرورة شدّ الخيطان. أمسك الولد رغيفه، فبدأت الخيطان تستطيل، والفجوة تتسع بين نصفيه. ورجع إلي البكاء. رفع الرغيف كي يردّه إلي أمه وبكي. هنا تقدّم الكهل، خطف الرغيف، ووضعه في فمه وبدأ يلتهمه. ابتلع أكثر من نصف الرغيف مع الخيطان وتقدّم من المرأة: أقتليه همس صارخاً أخذت الأم حراماً صوفياً لفّت به ابنها وحملته. وضعت رأسه علي كتفها اليمني وصارت تشدّه إلي كتفها.. وفي ترشيحا، وضعت الأم ابنها علي الأرض، وكشفت الحرام وصارت تبكي.
تنشأ بين الرواية والتاريخ من جهة كونه جماع الوقائع والأحداث علاقات تجاور وتناوب، أو تشابك وتماهٍ. فتضعنا الكتابة الروائية في حضرة الغرائبيّ المتكتّم علي نفسه في صميم التاريخي. ويسلّمنا التاريخي (الوقائع والأحداث المتعارفة) إلي المنسيّ من الوجع البشري وفق نسق، بموجبه، تصبح علاقات التشابك والتناوب والتجاور التي تتوالي بشكل دوري بمثابة قانون إيقاعيّ لا يخلو من الدلالة : إن التاريخي مجرد غلالة تتستّر علي محنة الكائن المحجبّة في أقاصيه وتلاوينه. والغرائبيّ هو البعد المنسيّ ممّا نحسبه أليفاً ونخاله معاداًَ متعارفاً مكروراً. وبذلك تصبح الكتابة حدث ترحال في ذلك الحيّز الدقيق الممتد في المابين.
لا تنهض الرواية لتنقد التاريخ أو تعترض عليه إذن. وهي لا تتشكّل لتصف ما حدث. إن الكتابة لا تصف واقعاً، بل تلحّ علي أن الواقع نفسه ليس سوي مجرّد انطباع، ووهم ففي باب الشمس : المستشفي شبه مستشفي، والطبيب شبه طبيب، ويونس جثة حيّة، و في طيور الحذر : حرية العصافير وهم حرية، والبيوت شبه بيوت : مغاور وأوجار، (بيوت كثيرة متباعدة ظهرت في البعيد، أناس يتسلّقون حافة الجبل، ويندسوّن في ثقوب صخرية، عرفت في ما بعد أنها مغاور، وأنهم يسكنونها، مغاور كانت موحوشة بالذئاب والضباع والثعالب ) ص20 والحرب شبه حرب، والسلاح وهم سلاح والجيوش تنسحب قبل المعارك. ولذلك أيضاً، تصبح الأمكنة في النصين (بيروت/عمان/ المخيمات/المستشفي) نوعاً من الإيهام بالواقع حتى لكأن المكان مؤثثّ بالفراغ وليس مليئاً.
إن الكتابة لا تصف واقعاً بل تتحوّل هي نفسها إلي واقع. إنها عبارة عن لملمة لمزق من حيوات مخافة أن يطالها النسيان. لذلك تتمرّد الرواية علي نفسها من جهة كونها حكاية متخيّلة وتنشدّ إلي الواقع حتى لتكاد تعلن عن نفسها لا باعتبارها حكاية مبتدعة علي سبيل التوهمّ ومن قبيل التخيّل بل باعتبارها تدويناً وإشهاداً أو ابتناء لذاكرة المستقبل.
التاريخ يكتبه المنتصر كما يعبرّ غرامشي. والشخصيات جميعها في طيور الحذر و باب الشمس مهزومة تحيا الرعب والخوف وتلقي أقدارها بشكل فاجع. فالصغير في طيور الحذر يملأ الدنيا ويشغل المخيمّ. من رحم الأم يشرع في تهجيّ العالم ويكاد ينجح في قلب نظام الكون إذ يعلّم الطيور الحذر ويهبها طبعاً ثانياً.. لكنه يسقط في عتمة الغياب ولا يبقي منه غير قميصه شاهداً علي أن الغدر الذي أودي بيوسف في بدء الزمان هو سيد الموقف : حين وصلوا لم يجدوا غير قميصي في المكان. ص332.
ويونس الفدائي، ذئب الجليل، الذي دوّخ الصهاينة ينتهي أفظع النهايات : يسقط فريسة لموت سريري في شبه مستشفي لا أنيس له إلا شبه طبيب ويقع تغيير اسمه فيشار إليه بالجثة.
إن التاريخ يكتبه المنتصر.
ولا خيار قدّام الذي لم ينتصر بعدُ إلا أن يحتمي بالسرد حتى يدوّن الحكاية كي لا تُنسي. لا سيما أن الذاكرة ليست
مجرّد إدراك يحفظ الوقائع. إنها مَلَكَة مقاومة لسطوة الموت وسلطانه.
هكذا يتبيّن أن توسيع الكتابة لدائرة احتضانها للحكايات والحيوات، هو ما يمنحها هويتها من جهة كونها حركة لا وجود لها خارج امتداداتها. لكن تلك الامتدادات لا تتم بواسطة قانون التداعي أو قانون التضادّ. وما اعنيه بقانون التداعي إنما هو محاكاة الكتابة للكيفيّة التي تطرح حسبها الذاكرة مخزونها في شكل تداعيات أو ومضات. ذلك أن الامتدادات عبارة عن حشود من الحركات والحكايات التي تتوالد غزيرة لا تكلّ ولا يدركها التوقّف. فتصبح حركات الكتابة ولوحاتها ومشاهدها وصورها كما لو أنها تتراءى علي أديم مرايا مهشّمة. أو لكأن الكتابة محكومة من الدّاخل بنوع من الفيض الدّائم. ذلك أنها قائمة علي نوع من التراكب بين مستويات الخطاب هو الذي يجعل من الحكي حدث تفكيك للتاريخ. لا يعلن حدث التفكيك عن نفسه صريحاً، بل يتخّذ لنفسه مسارب ملتوية مواربة. ويرد في شكل إيهام بأن الكتابة تتعمدّ خلق نوع من التوازي بين الواقعة التاريخيّة والسيرة الذاتية، فيما السيرة الذاتية إنما ترد لتخترق الوقائع التاريخية وتفضح ما يتخفى وراءها. وهذا الذي يتخفى وراءها إنما هو الحكاية كما جرت فعلاً، حكاية الفلسطيني كما يجب أن تدوّن وتحفظ وتؤثث ذاكرة المستقبل.
لذلك تكفّ السيرة في الروايتين، عن كونها سيرة فرد، وتصبح نوعاً من الاستحضار لثقافة تمضي قدماً إلي خرابها، وتاريخاً لأفراد يمضون لملاقاة أقدارهم المروّعة ومصائرهم الفاجعة كأنصاف الآلهة، دون مواربة ودون دهاء. هذا أيضاً ما تنهض الكتابة لتقوله فتتشكّل لا باعتبارها مجرّد حكي وإنشاء وتخيّل، بل تنهض باعتبارها جسداً مأهولاً بالفقد. والفقد هو ما يجعل منها خطاب إدانة وإشهاد. لذلك تبتني حشوداً من المشاهد تجسدّ الحيوات والأزمنة التي طالها الفقد وطواها الغياب. إن الكتابة تتشكّل مسكونة بهذا البرق:
قول الحكاية، إشهارها، غرسها في الذاكرة، ذاكرة المستقبل... تهريبها من سطوة النسيان. وتهريبها لا يتسنى إلا بتدوينها. لذلك تطفح بالإدانة والفضح والتشفّي:
نقرأ في طيور الحذر ص 296:
فتح باب التطوّع، أعلنت ذلك الحكومة، هبّ الناس بحثاً عن المراكز التي حددها البيان، لم يجدوها.
وقالت الحكومة: الأسلحة وُزعت علي الأهالي.
حدّق الأهالي في أيديهم، وجدوا أيديهم فقط، وتأكّد لهم أن نظرهم لم يخدعهم.
ونقرأ في باب الشمس ص 891:
صحيح يا أبي أن البروة سقطت ودمّرت لأنكم صدقتم مهدي وجاسم ومجموعة جيش الانتفاضة.
(نقد الثورة: وضائعها وفعالها : انتصرنا يا جماعة وصار عندنا مضرة 249
لا بطولة ولا أبطال. لا شعارات ولا أوهام. إن الرواية تنهض لتقول ارتباكات بني البشر وضعفهم وهشاشتهم من جهة
كونهم مجرّد بشر.
الثابت أن هذه الطرائق في تشكيل الكلام وتوليد الحكايات وتوزيعها هو الذي يوهم بأن الكتابة الروائية في هذين النصين قد تحولت إلي فوضي عارمة بلغت ذري لا يمكن لها أن تنتظم بعدها أبداً. لكنّ هذه الفوضى ليست سوي خدعة متأتيّة عن رغبة المؤلّف في إخفاء كنوز النصّ وتعتيم دلالاته حدّ اللّبس والتعمية أحياناً. لكأن المؤلّف ينطلق من تسليم مضمر بأن الفصل بين الحكايات والأزمنة والأماكن واعتماد خطية السرد هي صنو الدليل أو هي مثيل خارطة الكنز . وهو يحرم متلقّيه المفترض من التنعمّ بأنس الدليل والسير علي خطاه دون خشية من خاطر التَّيْه ومزالق الطريق. لذلك لا يمدّه بخارطة ترسم له السبل المؤدّية.
من هنا تتجلّي صورة المتلقّي المفترض التي يطفح بها الخطاب. فلا يمكن للمتلقّي الذي يقبل علي النصّ باعتباره حكاية أن ينجو من التّيه والضياع. فما هكذا يكون الحكي عادة. ولا يمكن للمتلقّي الذي يؤمن بضرورة وجود مسافة فاصلة بين الأجناس الأدبية أن يخطو خطوة واحدة داخل هذه المتاهة. فالشعر يتعالق مع السرد، والسرد كثيراً ما يتّخذ طابعاً درامياً. وليس الأشخاص هم الفعلة الرئيسيون في حدث القص وفي جسد الحكاية بل الحكايات المتوالدة التي تبتني قاع الحكاية وتضمن تقدّمها والتواءها وكيفيات تعالقها وتشابكها وانتظامها داخل النسق الروائي هي التي تنهض بإنجاز الفعل الدرامي.
ثمّة زحزحة طالت العقد المتعارف بين المؤلف والمتلقّي إذن. وطال التبديل الصورة الحاصلة للمؤلّف عن نفسه وعن متلقيه المفترض. إن الخطاب موجّه إلي متلقّ مفترض يتغاير بالكلّ مع ذاك الذي حددت الرواية العربية ملامحه وتوجهّت إليه بالخطاب منذ بدايات تشكّل الرواية العربية حتى نجيب محفوظ. بل إن الصورة الحاصلة للمؤلّف عن نفسه قد طالها التبديل في الصميم. يكفي هنا مثلاً أن ننظر في نص ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ ونرصد ما هي الصورة الحاصلة للمؤلف عن نفسه وعن متلقّيه المفترض كما تتراءى من خلال النسيج الروائي وسيتبيّن لنا حجم التبديل الذي أنجز في هذا النسق الروائي الجديد. لا سيما أن رواية ثرثرة فوق النيل تعني بموضوع شبيه بهذا الذي تتناوله طيور الحذر و باب الشمس اعني محنة الإنسان العربي وإحباطاته وتغريبته في الوجود. وهذا ما يجعل المقارنة أمراً ممكناً. توهم الرواية بأنها تحدّث عن أنيس زكي وصحْبه المحبطين الذين يختارون اللجوء إلي العوّامة احتماء بالمخدّرات والجنس من نكد الواقع اليومي المعيش وويلاته. لكنّها سرعان ما تبتني في الكلام تغريبة الإنسان العربي الذي لا يملك في مواجهة مِحَنِه ونكد أيّامه غير التلفّت بين الحين والآخر إلي الوراء، إلي تاريخ أفل وأمعن في المضيّ. فيمعن فعل التلفّت نفسه في تعميق إحساسه بتفاهة حاضر يسحق الذات ويسدّ في وجهها السبّل كلّها إلا تلك السّبيل المؤدية إلي الهاوية.
إن الرواية لا تقول محنة رجل محدد، أنيس زكي، أو محنة صحبه، سمارة بهجت وليلي زيدان وخالد عزوز، بل تضعنا في حضرة الفاجعة، فاجعة حضارة تقف علي الشّفا الخطير حتى لتكاد تشرع في افتتاح تاريخ تلاشيها وغروبها. حضارة إنسانُها صار يقيم علي الأرض منفصماً، مشطوراً في الصميم، يستبدل الفعل والمواجهة بالارتداد إلي الذات والاحتماء بجراحاتها. والنص يلحّ علي أن العالم الخارجي فظيع مخيف عدائيّ. إنه فزّاعات وأشلاء.
لذلك تختار الشخصيات جميعها الهروب إلي العوّامة حيث تحتمي بالجنس والمخدّرات. فيختزل وجودها النهاريّ. يلغي أو يكاد. إنها تنهض ليلاً. ولا تشرع في الحياة إلا حين الظلمة تدهم الكون. حتى لكأنها أشباح أرغمت علي الاحتماء بالعتمة والظلمات. تصبح القراءة، تبعاً لذلك، نوعاً من الهبوط يتمّ، علي مهل، نحو عالم جحيمي لا شيء فيه غير السّقوط والفجائع والمرارات. هناك حيث يتفسّخ الحب ويُفقر الكائن. هناك حيث يستبدل الحبّ بالجنس، بالبهيميّ، بالغريزيّ. وتصبح العلاقة بين الرجال والمرأة علاقة تداول. ولكلّ دوره ووقته. يذكّر أنيس زكي ليلي زيدان بهذه السنّة وهما في حضرة خالد عزوز صديقها. فبعد أن رحل الأصدقاء ولم يبق منهم في العوامة إلا خالد عزوز وليلي زيدان . ودون أي تمهيد قبض علي ساعدها وقال أنت الليلة لي أنا. لماذا خالد دائماً؟ وخالد نفسه ورثك بعد هجر رجب لك (5).
لا يكشف النصّ عن أسباب الخراب والإحباط والسقوط الفاجع الذي تحياه الشخصيات، بل يتكتّم علي ذلك تكتّماً تاماً. وتوكل مهمّة الإخبار إلي بنية النص نفسها وكيفيات ابتناء السرد لأزمنته وأمكنته وفضاءاته، وكيفيات انتقاله من الواقع إلي الخيال. ولا يأتي الانتقال متولّداً عن منطق الأحداث وتسلسلها الداخليّ فحسب، بل يرد فجائياً سريعاً فيما يظلّ النسق الروائي مترابطاً والنسيج محكماً. ذلك أن الكتابة ليست في حاجة إلي تبرير الخلط الذي تدخله علي الأزمنة والأمكنة والفضاءات. فأنيس زكي شخص مسطول يري رؤى تحت تأثير الأفيون. وهي تتخذ من شخصيتّه وحالاته ورؤاه وسيلة تمكّنها من فتح اللحظة التي يحياها أنيس زكي وصحبه علي الأزمنة كلّها. وبطريقة انسيابيّة يتمّ الانتقال من اللحظة الحاضرة إلي زمن هارون الرشيد مثلاً. ولا يتمّ استدعاء الماضي فحسب، بل يتمّ إدراج الحاضر في الماضي فيصبح طرفاً فاعلاً فيه.
هكذا يظلّ الماضي يتعقّب الراهن ويتهددّه بالويلات جميعها. وهذا يعني أن مآزق الإنسان العربي ليست وليدة راهنه، بل هي قادمة من بعيد. وجميع محنه ومآسيه وخرابه كلّها نتاج لتاريخ من الطغيان والاستبداد والقهر. هذا ما تلحّ عليه الكتابة وتظلّ تومئ إليه إيماء ولمحاً متّخذة من تداعيات ذاكرة أنيس زكي التي عصف الأفيون بضوابطها وسيلة لتمعن في محاسبة ذلك التاريخ وتفتح اللحظة الحاضرة علي أسباب خرابها. حتى أن الكتابة تتحوّل إلي بحث في الماضي عمّا جعل من مقام الإنسان العربي الحاضر محنة وجحيماً.
لكنّ شهوة التسلّط سرعان ما تستبدّ بالمؤلف فيشرع في ممارسة أبوّة قاهرة لا حاجة للقارئ بها، فيما هو يمارس علي النص وصاية عاتية تعصف بشروط الفنّ. فجأة، يُستبدَل الراوي بالمؤلف ويتوقف السرد. فيصبح مدار النص الإخبار عن مشروع مسرحيّة تنوي إحدي الشخصيات كتابتها. لكن مخطّط المسرحيّة ينقل المتلّقي إلي ما أنجز من الرواية وإذا بشخصية سمارة بهجت مجرّد قناع للمؤلف، وقد استبدّت به شهوة الأبوّة والوصاية، فشرع في تفسير ما يعتقد أنه ظل غامضاً غير بيِّنٍ يصعب علي القارئ تمثّله.
إن مخطط المسرحيّة المدرج في الرواية، إسقاطاً وعنوة، يأتي ليلخّص الرواية ويفسّر الوقائع والأحداث والشخصيات، تفسيراً يفي بمقاصد المؤلف وحاجته إلي الإبانة والإيضاح. لكن الإيضاح علي هذا النحو، إنما يمثّل صنيعاً يدخل علي الرواية من الضيّم ما يكاد يعصف بأدبيتها، ويخلّ بشروط الفنّ وشروط الجنس الأدبيّ، فيما هو يفضح الصورة الدونيّة التي يرسمها المؤلف لمتلقّيه : إنه متلقّ قاصر محدود الملَكَات، بل إنه عاجز عن التأوّل والتمثّل ما لم يكرّر المؤلف الكلام باطلاً. وبذلك يحرم هذا المتلقّي القاصر من الاندماج بالكلّ في عالم متخيَّل لأن المؤلف يأخذ بيده ويتأوّل النص في مكانه ممعناً في تبيان مقاصده. حتى لكأن النصّ نفسه يُنْهَب ولا يُمَنح فرصة أن يكون قائماً بذاته ؛ فتهدر جميع أسراره ويلغي غموضه. والحال أنه إنما يستمد جماليّته من كونه لا يكشف من أسراره إلا بالقدر الذي يحجب. ذلك أن استمراره مشروط بمدي قدرته علي المواربة والتخفّي والتكتّم علي أسراره وكنوزه.
إن المؤلّف يكرر الكلام باطلاً كي يرسم للقارئ حدود القراءة وضفاف التّأويل لأنه إنما ينطلق من تسليم مضمر بأنه متلقّ علي درجة من الغفلة لا تسمح له بتبيّن مغالق الكلام ومقاصد واضعه. هذا ما تأتي الكتابة في طيور الحذر و باب الشمس لتعترض عليه لأنها كتابة تبتعد عن التقدّم الخطي المفترض في فعل السرد والإخبار لتصبح قائمة علي التقدّم والعود، والاستباق والتلفّت نتيجة ما ينشأ من تداخل بين الحكايات والأصوات والأمكنة.
من هنا تزداد ملامح المتلقّي المفترض الذي يمكن أن يطرح النصّ قدّامه معانيه ودلالاته (كنوزه) وضوحاً وتبلوراً. إنه متلقّ يفترض فيه أن لا يتهّيب الصّعاب وإن عظمت. إنه متلقّ ينشد المغامرة بحثاً عن كلّ ما هو جديد ومغاير ومختلف. فلا يمكن للمتلقيّ الذي يقترب من النصّ محملاً بمعارفه عن الأجناس الأدبيّة وتباينها واستقلال بعضها عن البعض الآخر أن ينجو من التباس المعاني والضياع داخل متاهة الحكي المدوّخة. لا سيّما أن الطابع الهذياني الذي عليه جريان الكتابة وكيفيّات إسهامه في توليد الحكايات يتضافر مع ظاهرة التراصّ النصّي وتبدّلاتها المستمرّة ويتمّ إيهام المتلقّي بأن الفوضى واللعب المجاني بالأزمنة والحكايات هي المحرّك الذي عليه جريان حدث السرد.
لكن حالما يقع تملّي طرائق الكلام في التشكّل والتقدّم والتّعالق ينكشف النظام الصارم الذي لا يترك أيّ شيء للصدفة أو للاتّفاق والبخت. فداخل هذه الفوضى ثمّة نسق يستند إلي عقل مدبّر يمتلك مقدرة فائقة علي استلال الحكاية من معدنها الأساسي أعني الحياة، حياة الناس البسطاء الذين أرغموا علي الإقامة في هجرة لا تنتهي قصد تدوينها وتأثيث الذاكرة لا بما يقوله التاريخ الرسمي، بل بما يتكتّم عليه ويحجبه. ومن هنا بالضبط، تستمدّ الكتابة شرف الاسم. إن الكتابة لا تصف ولا تنقل بل تبتني الحقيقة التي تعلن عنها. وهو ما يحوّلها إلي مدوّنة لحكاية تكشف عظمة الكائن حين يحاول أن يكون سيّد سؤاله وسيّد مصيره داخل تاريخ مسيّج بالويلات والمظالم والدياجير.
هذا هو الدرس إذن : إن الواقع العربي أكثر خياليّة من الخيال ذاته. يكفي أن ينصت الكاتب إلي الحياة من حوله، يكفي أن يصيخ السمع وستهبّ الحكايات من مراقدها وتمدّه بالمادّة التي يمكن أن تضمن للرواية العربية أن تجد الطريق إلي نفسها وتجد الطريق إلي ناسها وتتحوّل إلي فعل جماليّ مقاوم.
* ناقد من تونس ،وهذا نص المحاضرة التي قدمها في دارة الفنون بعمان الأردن ضمن محور أفق التحولات في الرواية العربية مؤخرا.
القدس العربي
05/11/2001
كيف تشعر
وأنت تسير فوق طريق خريفية
ملساء بلون جلد الفيل...
تسير
تجرَّ رأساً مقطوعاً مدحرجاً
(إنه رأسك)
مجروراً ينظر إليك
(هذا رأسك)
وبعين ساخرة
يقيس اتساع حياتك.
وراء ذلك الاتساع
توجد طريق خريفية ملساء
بلون جلد الفيل،
طريق خريفية ملساء بلون جلد الفيل
* * *
في الغبار ورائي
طريق لولبية لا يمكن الرجوع
عليها
تختفي بالتدريج وتصير،
ماضياً وذكريات لا تهمني.
وفي قلبي التائه
تبدو الطريق اللولبية اللا يمكن الخروج منها
متعرجة.
لا بدَّ من فعل شيء
وإلاّ أصبحت مرضاً قاتلاً وأوهاماً.
مع ذلك،
تجتازني دون رحمة غريبة متعرجةً
في اتجاه عتمة
في اتجاه آتٍ.
* * *
لأني وحيد هنا أيضاً
سألقي بنفسي وحيداً
فوق جميع الطرقات الخالية.
****
في دارٍ قديمة
تسكن الأم الميتة
* * *
لكل أسرة جديدة
أمٌّ واحدة
* * *
شاطرة
تعشق الطبخ والتنظيف
وتحبُّ الغسيل
* * *
تبسط الأم الميتة
أصابع الرضيع مثلاً
بالقرب من زوجة ابنها الشابة التي
تقوم بإعداد الحساء
* * *
رايتها
وهي تعصر أحشاء الإنسان
كي تمسح الممرات بها.
* * *
تصبح بشرة الصبي
صفراء،
حين تغسله الأم الميتة
* * *
عندما أكون شاردة
ترتِّب كلَّ شيء
ويبدو المكان نظيفاً.
* * *
الأم المسيئة
حنونة وقاسية،
إنّها،
أمُّ جميع الأمهات الحية
* * *
جميع البيوت عتيقة جداً.
* * *
استيقظت منتصفَ الليل
والقواقع التي اشتريتها مساءَ أمس
كانت لا تزال مفتوحة الأفواه
بزاوية المطبخ
* * *
"عندما يأتي الصباح
سآكلكن
واحدة بعد الأخرى"
* * *
ابتسمت ابتسامةَ
عجوزٍ شيطانية
ثم،
لم يبق لي إلاّ أن أنام الليل
مفتوحة الفم فتحةٌ صغيرةٌ
* * *
فوق جميع النوافذ الثقيلة الكئيبة
يعكس الربيع ظلال المدينة.
بلا توقف تمطر السماء في المدينة
والمكان الذي يجيء منه موتنا
مليء بالبخار.
المقبرة العامة هناك فوق تلة
حيث القبور تطبع الصليب داخل الأعين جميعاً،
وتحاول قياس شهواتنا جميعاً.
أمطار تلفُّ المدينة الصغيرة المزينة
بنبات الـ "زيرا نيومو"…
تلّفها وتجعلها داكنة
بين المقبرة والنافذة.
في الأمطار الخفيفة يتلاشى
صوت الدواليب
وتتلاشى الأمطار في الدواليب التي تئن.
ننظر إلى المقبرة
ونبحث تحت الحجارة عن نداء الموت المبحوح.
كل شيء هناك،
وفجأة يربطنا كل الفرح، كل العذاب
بهناك:
حيث المقبرة العامة فوق التلة.
من أفران الخبز الآجرية
تتصاعد رائحة الحريق
كي تخفف من ذلنا
وتملأ المدينة بطيوف هادئة.
لكن ماذا يتيح لنا طيفٌ،
بماذا،
ولم نحن كائنات مثل الأنابيب؟
تحت الجسر تجري المياه البرونزية
وكل شيء يجري
حتى الموت في أمعائنا يجري.
إنها الساعة الحادية عشرة صباحاً:
الأمطار تتلاشى في الدواليب التي تئن
وصوت الدواليب يتلاشى في الأمطار
الخفيفة،
في المدينة تمطر السماء بلا توقف
فيما نحن وراء زجاج ثقيل كئيب
نحرك أعضاءنا الملقية فوق الأرض.
* * *
من وسط ضباب مثلاً
أو من وقع أقدام على الدرج،
يأتي رويداً رويداً
منفِّذ الوصية،
هكذا كانت بداية كلِّ شيء.
* * *
بالأمس البعيد..
فوق كراسي حانة مظلمة
ودون أن تعرف ما تفعل بوجهينا المشوهين
كنا نقتل الوقت
بتقليب ظروف الرسائل أحياناً.
"هل هناك شكلٌ أو ظلٌّ فعلاً؟"
هذا صحيح،
لأنني فشلت في الموت.
* * *
آه يا M!
سماء البارحة الزرقاء الباردة
لا تزال أبداً فوق حدّ شفرة!
لكن لم أعد أذكر متى وأين
ضيعتك عيناي
عصر ذهبي قصير
كنا نلعب بتغيير أمكنة الحروف
والكلمات،
ونلعب أدوار الآلهة،
كنا نتمتم:
"آه، يا علاجاتنا، يا وصفاتنا
الطبية القديمة".
* * *
كان الفصل خريفاً، البارحةَ واليومَ أيضاً
"وفي شعور من العزلة تتساقط الأوراق ميتة".
على طريق الرصاص الأسود
بقي ذلك الصوت يمشي
في اتجاه المدن وصوب أشباح البشر.
* * *
لا كلمة ولا حضور
يومَ الجنازة،
لم يكن هناك غضب ولا حزن
ولا حتى كرسي الشكوى الهزاز.
رقدتَ وحدكَ بهدوءٍ
عيناك نحو المساء
قدماك غارقتان في الحذاء الأسود الثقيل.
"وداعاً! الشمس والبحر لا يستحقان الصدق"
آه يا M!
أنت أيها الراقد تحت التراب،
ألا يزال جرحك المفتوح في صدرك مؤلماً؟
* * *
-1-
ابتسامة
مثل أرنب
تعشعشين يا ماري الصغيرة
تحت الكرسي،
ومثل سنجاب خفيف
تتسلقيني كأنني شجرة
بمحبة ليست عندي...
وتصعد ماري فوق ركبتي
تطالبني بالحكايات.
ما أعرفه أشياء حدثت قبل
أن تولدي،
وبعد أن ولدت حدثت أشياء
تعرفينها أكثر مني:
سماء لا متناهية، حقول قمح، مدن
أشجار و بيوت و أراض
كيف لهذه الأشياء
أن تقيم بيننا حدوداً غير مرئية
نحن من لا يفرقنا شيء
كلُّ شيء كما تعرفين،
ثم أعمال النّاس
وحياتي الفوضوية،
أشياء تروى ولا تروى،
وكلها كما تعرفين،
كيف لها وقد أدارت ظهرها للشمس
أن تلقي ظلالها الكالحة فوق أرضنا.
أريد يا ماري الصغيرة
أن أواجهكِ صامتاً باستمرار
لأن ابتسامتك
نور الشمس ببلاد جنوبية
دافئة،
تذيب ثلجاً يوصد نافذتي
تذيب يديَّ، قدمي اللّتين ترتجفان
فوق الكرسي.
-2-
داخل قلبي
وبيديك الصغيرتين
تشيدين أحلاماً ليست أحلامي:
هذ جبل، هذا نهر
ثم ترسمين باصبعك دائرة كبيرة وتقولين:
هنا بحر،
هذا بيت، هذه حديقة، هذه شجرة
وهنا كلب مربوط بحبل.
هكذا تنادين الطبيعة إليك
جزءاً فجزءاً
ثم تقولين أنك سوف
تعيشين معي.
ليس في عالمك
يا أحلام ماري البريئة
حجرٌ يصغي إلى الصمت
أغصانٌ لا تغني
سماءٌ لا تتكلم
فرح يتلاشى، حزن يبقى طويلاً
هذه زبدية، هذا صحن
وماري التي تدير مقلاة كبيرة
تقول أنها سوف
تعيش معي.
-3-
مهما كانت الأحزان يا ماري الصغيرة
سنظل نحكي حكايتنا
للعابسين،
ومنذ البداية، مرة بعد أخرى
أعانقك، أرفعك
يا ماري الصغيرة،
فَهيَّا نتبادل قبلة
أحلى من قبلة أي حبيبين.
تقولين: "آخ... ذقنك تؤلمني"
أجيب: "لتؤلمك أكثر"؛
لا بأس لنعد، لنبتدئ قدرنا
من جديد.
* * *
يحبو الطفلُ إلى
هذا العالم غير المتجعد بعد
مبللاً بخيوط
ماءِ لامعةً
* * *
يتدحرج الطفل
فتنقلب ساعةٌ رملية
ويبدأ وقت جديد
* * *
يلتقط الطفل نجوماً ثم يرميها
تضحك سمكة أثرية وترفرف زعانفها
فيتناثر الرذاذ ليبلل قدم الإله
* * *
…
بعدها يكبر الطفل
وتثقله الذكريات
يمتلىء العالم بآثار الخطوات،
يتثاءب الطفل
ويمشي في اتجاه مكان بعيد
واضعاً الشمس الميتة في جيبه
* * *
أنا قصبة
وسط الزحام
وتعبرني الرياح فيخرج
صوت
من البوق المغمض العين
ليجتاز المدينة
هادئاً.
* * *
يمتطي الفتى الظهر الذهبي
ظهر الخروف
أو ظهر الدلفين
وينطلق صوت مزماره.
ميروس،
يذوّب شعره الكتاني الملتف
يذيب عينيه الجميلتين البعيدتين
ويصير موجاً خفيفاً
تشق ثناياه السفينة آركو
بهدوء ثم تختفي
في "الحب قديماً" مثل الغروب.
***********
في عاصفة ثلجية
رأيت البحر بعيداً
رأيته، كان هائجاً، وعرفت
لماذا يهيج البحر.
* * *
كان ينادي بصوتٍ عالٍ
شيئاً ما، يقول:
إنه البحر فقط
إنه البحر ولا غير.
* * *
كي لا يضيع في الرحمة
وحنان الإنقاذ،
يجنُّ البحر
يركض البحر،
كان ضخماً رفض الآخر
هائلاً.
* * *
في العاصفة الثلجية بعيداً
رأيت البحر يركض
وعرفت عرفت لماذا
يركض البحر.
قال:
"هل تعطيني تلك الحمامةَ؟"
أجبت:
"ممكن"
* * *
أَخَذَها:
"آه كم هي لطيفة!"
أضفتُ:
"تهدل... كُرْكُرْ"
* * *
لَمَسَها:
"عيناها جميلتان"
لمستها:
"منقارها أيضاً"
* * *
نظر إليَّ:
"لكن"
نظرت إليه:
"ولكن ماذا؟"
* * *
قال:
"أنت أجمل"
طأطأت رأسي:
"لا، لا، هذا ممنوع؟
* * *
أطلق الحمامة:
"أحبكِ"
همستُ:
"هربتِ الحمامةُ"
بين ذراعيه.
* * *
أريد الآن أن أبني بيتاً مستطيلاً
حيث أربي رضيع الأسطوانة الميت.
وكي أصادف معركة لا أنتصر فيها
أوقظ زوجتي من نومها الخفيف وأعذبها
وكي أجعل الجسم اللّديني طيناً دائم التغير
أعجنه في اللّيل والنّهار تحت قماشة خشنة رطبة
عند امتداد القضيب وانحسار الأثير.
أركع فوق الأرض الباردة لحد تثلج الفحم
وأتابع الحلب من أجل رضيع ميت.
المأساة التي تنافس المجد هي:
ما يرفض الإسراف والحبَّ ولا ينمو
ورضيع ميت يابس خارج طاقتي
لا يكشف عن هويته الحقيقية.
منظر القصر الذي تغرق فيه روحي يحتله الرضيع
ويرتفع مثل نصب تذكاري جميل
وبالتدريج تملأ أسطوانةُ الرضيعِ الميتِ
فضاءً يُديره الآخرون وتنهضُ من الأرض
ملساًء أدور حولها دون أن يخرج
مني صوت الأب
والأم راقدة لا تريد طعاماً
ثم يأتي صراخ رضيع الأسطوانة الميت.
حين يغطيني الغبار وخيوط العنكبوت
كسيّدٍ البيت.
هل ينهار نظام عائلتي؟
نحن الوالدين
قد نسكن في ظلام مدفأة
ونثير جثث فئران عجوزة
إلى أن يُغطى رضيعُ الأسطوانة الميت بثوب الحداد.
* * *
في عتمةٍ خفيفةٍ داخل قَنٍ
تغمره الثلوج المتساقطة
هناك وحيث صور الأحياء
وخجل الأشياء الحية...
هناك تسبح رائحة روث حزينة.
وراء الصمت
وعندما يختفي الحدّ الفاصل
بين الخارج والداخل
تبدأ دجاجة بوضع بيضة
توهّجت أكثر من الثلج
ويزداد وزنها الآن
من مكان بعيد ومظلم لا يُضاء
تنزلق البيضة وهي تشعّ إرادة قويةً
يختلّ توازن الفضاء الحساس
باستضافة حياة العذاب
فوق القشّ الذهبي.
لو لم ينحنِ القش للبيضة
هل كانت الأرض هي التي ستنحني؟
أمام هذا الجسم الغريب
الذي يستقرّ ويأخذ بالتوهج
يخاف النّاس، يزعلون ويصرخون:
شيء لا يُرى، شيء لا يُفهم
ولا بدّ أن هناك مثل هؤلاء البشر.
قطعان مشلولة مثل الغربان
وراء هذا الثلج الشديد
تحتار قليلاً ثم تعود.
في جوّ شاحب
خارج السياج، توجد
أشجار
ومجتمع يُدفن من الأسفل شيئاً فشيئاً
كتمثال.
****
أشبعونا ضرباً
وصارت أجسادنا شفّافة
* * *
عندما حاولنا أن نرى
فوقع السوط فوق أجسادنا
* * *
وينا الراية جيداً
ثم لففناها حول أعناقنا
* *
انحنينا قليلاً
وأطفأنا نار الشمس
* * *
نا سهاماً
تشق الهواء
* * *
ونبحنا في مكان لا أحد فيه
لحد احتراق الهواء:
- يا عالم
- يا أخوة
* * *
م جاء الجوع
لمدة طويلة.
* * *
كان يا ما كان،
قاربٌ صغيرٌ، عَبَر البحر
فصادف جزيرة
يُطرّز أطرافها الموج
وليس فيها غير السهول والغابات.
إنها إنكلترا.
* * *
ان يا ما كان،
قارب صغير، عبر البحر
وعاد من الجزيرة الصغيرة
على ظهره صبية
رافقتني إلى بيتي
لتسكن معي ربع قرن تقريباً
* * *
"هل تشك بالأمر، إذن تعال ورَ"
لي زوجة إنكليزية
وُلِدَت بين أشجار الخَلَنْجِ وأشجار
البهشيّة
تلبس تنورة اسكتلندية
وشحاطة سميكة
ويحدث لها أن تبكي
لكثرة ما تقطع البصل. تعيش معي،
وتغني أغنية، إنكليزية
منذ ربع قرن تقريباً
* * *
ين هي إنكلترا؟
الرياح هي التي تئن والأمواج هي التي نراها.
غابات سوداء وسهول
تختلط الشعرات الفضية
في رأس زوجتي.
أين هي إنكترا؟
أغنية قديمة فقط
تعبرني،
تعبرني مثل الرياح.
* * *
إلى أحد الأوراسيين
يوجين، أيها المجهول
نحن الآن في الخريف والمناظر تشتعل قاتمة
ودقات قلبك تعرف ذلك.
هاأنت تعبر الحضارة الأوراسية بعيني جثّة حية
تتوقف في جميع الأمكنة وتركز مؤخرة البندقية في الأرض
إنك واحد من الجنود الذين قد ينهزمون.
* * *
أليس داكناً وقع قدميك؟
والمشاهد التي تحملها، أليست قاسية؟
ما تراه يعبر السماء ليست طيوراً مهاجرة
وما يمشي على الرصيف ليس إنساناً فقط.
يوجين،
لكونك آخر إنسان بأرض سدوم
ولا بدّ أن تبقى كي ترى جميع المناظر
وألاّ تنسى شؤم أرض غومرا
لا بدّ أن تولّد زوجتك ما رأته عيناك.
سيريحك الموت
لكن سيؤلمني عندما يأتيني خبراً أسود.
الخبر، يا يويجن، عبء ثقيل ثقيل
فافترضْ أنني سوف أمشي
بموازاة قناة ضاربة إلى السواد
أو في زقاق خلف بناء أنيق
كي أرمي به هناك.
كل ذلك في الخريف
الذي حملته المناظر المشتعلة.
لقد ضَيّعتُ شظايا الحبّ جميعاً
فهل ينبغي أن أسير خطوة خطو؟
* * *
يوجين، أّجبني،
أجب قبل أن تفتح ذراعيك للموت البائس
بالأرض الخراب.
هاهو العالم سيحترق ويسكت
مثل كازينو بعد انتهاء القمار
وأنت،
ستموت من أجل ما اعتقدته سخيفاً.
تتعلّق عيناك بشوكة صغيرة فتجف،
عيناك ترفضان الشمس ونورها
ولن تناما أبداً.
هذه حكايتي، يا يوجين
حكاية خريف النار.
*************
في بلاد الحزن
يتساقط الثلج،
يتساقط قائلاً: عشْ واجعل الأحزان رزقاًً.
يتساقط الثلج على بلاد فقدت كل شيء
على جبالها وأنهارها
على قمصانها الرقيقة
وفوق شعور أيتامها الشعثاء،
يتساقط الثلج ويعلو هدير البحر المحيطِ.
في الليل وفي النهار
ومثل موسيقى الحزن الطويلة
يتساقط الثلج قائلاً: هدَّئ نفسك الباكية
يتساقط الثلج قائلاًك -انطوِ في أحزانك
مثلما ينطوي ثعلب أو طائر في عشه
-تحمَّل الشتاءَ
مثلما تتحمله أعشاب الأرض القويةُ
-وفي الربيع انهض من تحته...
فوق بلاد الحزن
يتساقط الثلج من سماء عتيقة لا نهائية
يتساقط بهدوء وحنان شديد
***********
فوق جرح كبير يستريح طائر التَمِ الكبير
والغضب البريئ أملي الآن.
يتلوّن جوعي، يتلوى عذاباً.
أثناء عناق شديد مع حبيبتي
آه يا حبيبتي، فقير لهذا الحد أنا.
* * *
الأمواج تبلّل الجواب الصامت
فيسيل تحت النجم القطبي الشمالي.
ومشاعرُ الزمن تحتضن بشكل هائل
الموت والرعب.
... وها نحن الآن
نغير موضعنا من جديد مع طائر التّمِ
لنبحث عن معنى الفعل ومسافته.
* * *
نطرد الموت من القرية
فنوزع الصيف الأصفر على جميع المنازل
ثم نفك عقد ثلاث حبال
عند عتبات البيوت
لنعلّق بها دجاجات.
إنها طقوس عبثية بالتأكيد
لكن ما إن علمنا باختفاء ذلك الرجل حتى
انطبق غطاء سلّة المناظر القديمة
وصعدت من حبنا، نحن الثلاثة، رائحة الجلد والحديد
اللذين حرقتهما شمس الغروب،
فيما كان رنين أساور معصميك يا زوجتي البيضاء
يتصاعد بلا وعي منك.
* * *
إنه شهر الخطف
شهر ينطَّ فيه الحقد مثل جّدي في آخر الحقل
شهر تُطْلِقُ فيه الخمور اللّزجة
أصواتها كلّما انسكبت في مطرة خيزرانية.
شهر
تتلاقح فيه الكلاب وألف شيطان
شهر الحب السريع والسفر
شهر الرقابة والعقوبة.
على طريق أمام الجبل
يسير موكب غريقٍ مشيّعاً بالأغاني الكثيرة
والأضواء فوق الأشجار مثل عيون الأفاعي
وفوق الأوتاد
ستر زرقاء مبللة
* * *
إنه شهر الخطف
شهر التوابيت الفارغة
شهر تُطْلِقُ فيه الخمور أصواتها
المخنوق كلّما انسكبت في مطرة خيزرانية،
شهر الحب السريع والفراق.
من جوف الخزانة المظلم، نرمي الأكياس وصحن الزبدة
ونستقبل جهاز النفط في سماء ترابية.
ضوء أصفر تغليه الرياح
يصبغ قميص الصوف، قميص الرجل الذي مات.
فوق الأشجار تتأرجح ثمار التمر،
وعلى الأوتاد الإسمنتية تتأرجح الستر الزرقاء المبللة
إنه شهر الطرد والمراقبة.
* * *
لكن الموت يسبح في المياه
يركب الموج
يعارض أغانينا والعيون التي تراقب
يصعد النهرَ ليوسخ النبع.
عندما اسكب فيكِ الحبَّ البارد
يا زوجتي البيضاء
تعبر الجنازات الكثيرة جميع الفصول بسرعة
وبسرعة أيضاً تُسّدُّ الكُوى في جدار البيوت
كأنّ في كلَّ شيء خفي
قطعةً مرَّة من الحقيقة.
"15 كانون الثاني جريد مانيتشي" المسائية"
مضت ستة أشهر
منذ أن غادرتني ذراعه من ناريتا إلى وارسو
ذراعه التي كنت أمسك بها دوماً غادرتني
"انقطع الاتصال فجأة"
"إغلاق الجامعة إلى إشعار آخر" يعني قد يعود
"إطلاق النّار في ثلاثة مواقع بالعاصمة".. إنه سيعود
"الجيش يحتل جامعة وارسو".. سيعود
"الهدوء يعمّ وارسو".. إذن لن يعود
"خروج موظفي السفارة اليابانية" "الهدوء يعمّ وارسو".. لن يعود
"مقاوقة دموية فوق جميع أراضي بولونيا".
"استمرار الاشتباكات والتوتر في العاصمة".. سيعود
"عودة الاستقرار بأسرع ممّا كان متوقعاً"
"لم ينجح الإضراب العام في اليوم التاسع عشر"
"الخارجية الأمريكية تنصح رعاياها بالخروج".. سيعود
"لا نصيحة بخروج اليابانيين" لن يعود
"جندي سوفيتي يرتدي بدلة بولونية" سيعود
"سباسونسكي يطلب اللجوء السياسي"
"لوراش يطلب اللجوء السياسي" سيعود.
ظننت أنه سيعود في التاسع عشر
ثم ظننت أنه سيعود في الخامس والعشرين
لكن مرَّ ثلاثون وما يليه..
أمسك بذراعه فأجدها في مكان عالٍ
تُرى هل تعود لمسة اليد التي أمسكت بالذراع؟
*********
فوق صدري تنوء
الطريق التي تعبر أرضاً معشوشبة
فأشعر أن الغيوم خانقة.
بيت موحش يشدني إليه من بعيد
فأتلمس طرقاً متفرعة متداخلة
وأخرج إلى شارع صامت مثل وادٍ.
لكن الرياح لا تهب على شجرة الحور
والبيوت مصفوفة مثل آلات موسيقية مرمية.
أليس هناك من يراني؟
وراء الأشجار يصمت تقاطع مثل المقبرة
النهار قاحل، مقفر
لا تطير فيه حتى ولو قبرة
هذا ما أراه وحدي
ولذا لا أحد هنا
* * *
تهزُّ ذاكرتي سماء غائمة خانقة
ولافتات الطريق يغطيها صدأ أزرق باستمرار.
* * *
على حصان مبرنطّ
وعبر الصحراء الإسمنتية
جئت إلى مدينة قاسية، عندها..
اختفى المصورون بسرعة بعدما استخدموا فلاشاتهم. وسيارة إذاعية تدخل كي تخرج فقط. الصالة باردة وهادئة. هناك خمسة أولياء بلا حراك، لا ندري هل هم أموات أم لا. الثامن والآخرون جميعاً محبوسي الألسن. أجسادهم شفافة تقريباً ما عدا الأعضاء الدامية. أمرر يدي وأمسهم مساً خفيفاً. كانت ليلتي ليلتي أنا، جائعة، لكن لم يكن ذلك نوعاً من المسؤولية التي تأخذ بيدي،
"ولدت - يقول الأول - فوق مدينة حيث
لا نرى غير الأكياس.
دار جذري وحيداً حول قمر اصطناعي، واستحم
في ثمانية كؤوس، الواحد بعد الآخر،
لحد أن صعد إلى السماء بسرعة مذهلة.
مذاك نقلت إلى المشفى ومخبول تماماً.
المشفى أثقل من الهواء، أخف من الماء.
ممرضات مشعرات يتجولن في الأسفل.
والإبر تأتي من نفسها لتضربني من حين إلى لآخر.
عملي اللا شرعي تغذيه المقل.
لِمَ؟ كي آكل طبعاً. فوق ظهر المجرّة.
تركتُ جميع مطاعمي مفتوحةً.
حمقى! سفلة يأخذون المواعيد هناك!
سنرميهم بغائط العيون!"
وبسرعة ابتلع ريقه الهائج.
* * *
هذا كذاب، فجذره يستشيط وينقط باستمرار
كلَّ صباح، من رطوبة سريره.
أشاهد فتاة صغيرة ذات قوام رشيق تلحس النصل الرشيق لعجوز.
تحكي أمها، المرأة الأولى، تقول:
"تستطيع ساقاي ليَّ هذه القاعة إلى ظلام،
لا أركض أبداً،
والقهوة التي أسكبها.
سوف تقتل الرّجل ذا الساقين النحيفتين كساقيك
من المألوف تبادل أنصاف الآخرين الفوقية داخل المياه.
أولاً، بحثت عن أسلحة مذهلة في جميع الحوانيت.
لكن ما أريده هو كرة سائلة كبيرة
بالنسبة إلى صغيرتي، سوف تكفيها لعبة براقة.
بلا تردد أتخلى عما لا يتحرك.
لا أحتمل أن تهددني ألواحٌ خشبية ناعمة
تسألني كيف أعيش ألا ترى هذه المسننات حول فمي؟
من الأحسن أن تهرب قبل الندم.
عندها، حملقت عينيها اللتين رأيت فيهن
مدينة مجهولة تقرقر بعنف!
أي جنون الا ترى موتك يفرُّ من إستك على الدوام؟"
ضحك المراهق الثالث وقال لي:
"من ستقتل؟
خطواتي تغني للاتقياء:
من يفعل ذا، من يفعل ذا
من يفعل ذا، من يفعل ذا
هذه فاتحة مألوفة، ومن ثم..
ربما ها هو قد ذاب
ها هو قد ذاب
وهنا أقصاه
سأسرق كأس الإمبراطور
وأشتري مكتباً بمنافعه
حيث أدمع كلُّ شيء مع صديقتي
ويموت الناس جميعاً
وحالما انتهى الصبي من هذا الغناء
تعكَّر مزاجه،
وصار حبلاً رفيعاً منصوباً في المكان.
* * *
لا بدَّ أن أتساءل
إن كان هذا المدُّ من النّاس سيجري بشكل مستقيم
أو سيرسم دائرة عالية
موكب الشتاء، مرّ ملتهباً من هناك
حيث يُرى بريق قضبان الأمهات الحديدية
الملصوقة بشكل أفقي على الجدار المقابل.
والآن لا أجد سوى قطعة
من خوذة فولاذية فوق بقايا الدماء.
جراح الشعب باردة اليوم وسوداء
كنتم تذوقون السماء الرخوة بأخمص أقدامكم
والفم على القفل
عندما كان على هؤلاء النّاس أن يراوحوا
وهم يلحسون القعر المليء بأشياء حادة
بعد أن أكلوا في الخارج حجارة حمراء
فلتحفظوا ذكرى أنوفهم الوطيئة
والدائرة التي تُدْمغ فوق جباههم كلَّ ليلة سوف تتسع.
ذاب منجم قلمي وأخذ يستشيط.
هو ذا، فلنسأل هذا الرجل الضخم.
ولنستمع إلى ما يقول
* * *
لكن هذا العملاق، الرابع، لم يقل شيئاً
كانت كرافاته المعقودة على عنقه الاسمنتي تصطك قليلاً
والرائحة التي تجعِّد خدودنا كانت داخل سترته؛ ورقتان من مدن متصلة.
لا بدَّ أن نسخر من هذا الشخص،
بودي أن أتسكع في رواقه الداخلي.
لا شيء في يديه
سوى جلودٍ صغيرة
متعفنة وعالقة بالأظافر
ويُرى من الوراء على ظهره المحّدب قليلاً
-يحمل شيئاً ضخماً ولزجاً.
عدلت أخيراً عن السؤال
ولم أخف عنكم سوى طرف سرواله المائع كالسكر
عفواً أيها السادة القراء!
أما صورته؟ فهي في جيوبكم أيضاً.
"كان الطريق طويلاً هذا اليوم، يقول السابع، فتاة مولودة في أيلول وضوء هذا اليوم متجعد منذ البداية. لعابي شديد جداً كي يسيل. سأبلع هذه النجمة أيضاً. وما إن ألمس طفلي الذي يخرج الآن من ثقب في ظهري، حيث حشوت طريق اليوم، حتى تكون جميع الغرف قد غسلت على أفضل ما أريد. أشعر بالبرد. هذا الغول العملاق يحجب الضوء عني كي أبلغ نفسي. لا بدَّ من قتله. بحيث لا ينبغي علي بعدها الذهاب للبحث عن فانوس فوق طريق محفرة. رقبتي صلبة جداً. وغداً سوف آتي من الأبعد". بصمت تلمع رقائق معدنية صغيرة تغطي جسد الفتاة كاملاً. ولا يكاد يسمع صرير أصابعها المتدلية بين فخذيها. "أية مياه مجارير موجتها ريشتك في الشوارع؟ واللافتة المعدنية التي ركبتها كم من العصير حبلت به؟ فجأة أكتشف أن الوشوشة كانت موجهة لي، تماماً عندما رأيت أحدهم يرفع دولاباً فظيعاً بين الفتاة وبيني.
* * *
أدرت رأسك يا جبان؟
الضوء ثقيل جداً آه؟ ها، ها، ها؟
قالت مدلكة مساء الأمس،
وقد استندت بنصفها المقدود تحت نهديها
على طبق ضخم بدواليب:
"الفتاة التي رأيتها وأنا توأمان سياميان سابقان.
تركتها أثناء الكسوف المعاكس،
كان ذلك من أجل تطير والدينا فقط.
ومن حينها، لا شيء سوى التقلبات،
كنت ملكة الصحراء،
وهذه التجربة تساعدني على قص الصبّار عند الحلاق،
ثم جاءت خمس سنوات متتاليات من الضرب على الآلة الكاتبة.
وفي الليل مهن شيقة: الشرمطة والتدرّيس.
أعرف أنني تعلمت فوائد الانتقال.
أعجبتك خدماتي بالأمس، آه، ها ها!
أما هذا المساء فسوف أدليك من السقف كالشمس.
إلى اللقاء، يا صغيري، إلى اللقاء! ها ها ها.
منهك! ومع ذلك.
أية أفخاذ ضخمة مساء البارحة!
فوق الأرضية صورة دولاب لا يزل يتدحرج.
إلى أين هذه الليلة؟ قالت، إلى أية محطة؟
بالأعلى، وعبر كوة في السقف،
قطعة سماء زرقاء.
سيتأخر اللّيل بالمجيء.
وها هو دفتري الصغير مسودّاً كمنتصف اللّيل
ليت الضوءَ يتسرب إليَّ!
من الباب الخلفي يدلف الرجل الثامن،
يبدو أن امرأة فوق رأسه، إنها السابقة.
رائحة المعدن الخانقة.
لا يزال هناك عشر سنتمرات جيدة بين الباب
وبين القدم اليمنى للرجل الأوّل الذي رفعه منذ قليل
أحد الحمقى يزَمِّر لا عرف أين،
لكن سيكون غباءً
أن نخاف من أن يسرع النّاس أكثر.
* * *
من أجل سنبلة نحيلة
من أجل أيدٍ مقيدة ومربوطة
من أجل طفل نحيل وجائع
أنشد الطير الذي يحلّق فوقنا:
أريد أن أعيش
كي لا تفقد الطيور أجنحتها
وكي لا يتوقف نبض المياه الجميل
لدى المخلوقات جميعاً
وفي قلوب ناس يرتدون أقنعة متغيرة
* * *
أنشد الطير الذي يحلّق فوق مدينة انحدرت وصارت
تحت ذنب كلب أعرج:
أريد أن أغني
من أجل ناس يقفون مع الخاسرين
ومن أجل أصواتهم المخنوقة بالتدريج
ستظل السماء تتسع إلى اللا نهاية
أريد أن أعيش
كي أمجّد حياة وحيدة تكبر
في قلوب الحيوانات الأبدية الخالدة
تلك الحياة التي تخترق كل الوجود
أريد أن أعيش من أجل براءتها
من أجل قمح حصد قبل آوانه
من أجل ينبوع جاف
من أجل روح نحيلة
أضع غاية وجودي علامة على جبين الشمس
وأنا في مرج مليئ بأصوات حشرات أو إلى جانب نهر
أنشد الطير الذي يحلّق فوق قارة يوراسيا
وهو ينقر بذور أزهار الطلع:
لا تلوثوا السماء برماد الموت
لا تفرغوا البحر
لا تتركوا الأطفال بوجه نار المدافع
فصدور الأمهات منفوخة بالحليب مثل شراع
لا ترسموا الموت البائس فوق الأعشاب
والحجارة والجدران
بدماء بالية لا متناهية،
آه. أريد أن أكون رياحاً تمرُّ
على درب سليمة.
أنشد الطير الذي يحلَّق فوق جميع الأراضي:
أريد أن أعيش
كي لا يفقد الإنسان جناحيه
كي لا يتوقف نبض المياه الجميل
لدى المخلوقات جميعاً
ومن أجل الأشجار والورود المجروحة
من أجل مساكن الزيزان والأسماك المهددة بالخراب.
************
في يديّ
وبعد الغضب والحزن
بقيت حفنة ملح أبيض.
* * *
الملح الأبيض الذي له صوتُ أوكارديون
قديم
وله رائحة الأسماك
هو حفيد الموج الأزرق.
فيه ذكريات الصيف الشهير
وأحياناً يشع منه لون القواقع.
هذا الملح الأبيض مرّ.
* * *
عندما أصرّه بثوب: "حزن الدنيا" كما يقولون
وارميه إلى وادٍ
يكون: "حريّة"
* * *
أقف على أرض مشققة
والتقط ملحاً أبيض
لأتذوق طعمه المرّ
* * *
"تفقد شجرة الصحراء جذورها. تتدحرج مثل كرة.
تعيش في الرياح".
يبتلع الخَبَثُ( )، البحرَ
ويتحجر على شكل تجاعيد الدماغ
وفوقه ينتشر خَبَثُ لساناً نارياً مقلوعاً
رياح لاهبة
تتراءى دون أية شمس
والشاحنة اللا تخلو من القيء
تركوها
ولم يبق أحد هناك.
لكن هناك أيضاً ذاتي التي خرجت مني
وأقامت باستمرار
خلف معامل الفولاذ.
يوم تهبُّ رياح صفراء
يتحول فرن الصهر إلى أبي هول.
وعندما أُهزُّ رأسي
تركض شجرة الصحراء.
الأشجار
من وجوه النّاس جميعاً
اختفى لون الدم
لكن اللهيب منحها ذلك اللّون
عندما حرق الأخشاب والأشجار
والدموع أيضاً.
اشتعلت الأوراق دفعةً واحدة
وتماوجت خفيفة
لكن وحدها الجذوع الثابتة بقيت
سوداء في اللهيب.
* * *
ذلك اليوم
كنت أقف مثل شجرة
بين بحيرات النّار وبين أمواج
نهر في طريقه إلى البحر
أمضُغ الرّمال
وأحملق بعينيّ المتألمتين.
* * *
عندما أسير بين الأشجار
ولو نهاراً
لا أستطيع إلاّ أن أتخيلها
وهي تكاد تبدأ الصراخ فجأة
* * *
هادئاً يتساقط مطر حزيران
يزخُّ على الأسطحة وفي أزقة المدينة
أريد أن أقف
تحت هذا المطر الذي يرتجف
خيوطاً نقية رفيعة
كي يدلف إلى قلبي بلا واسطة
فتُطلق أحاسيسي براعمها الشابة من الأعماق
* * *
أريد أن تكون نظرتي للأشياء
مستقيمة وصحيحة
أريد أن أكون شيئاً يستخدم كلَّ يوم
مثل إبريق يشرب الماء بانتشاء وجمال.
ثم أبدأ اليوم حياتي
من جديد.
* * *
مشيت أياماً عديدة
والبندقية معلّقة في كتفي.
طريق متعرجة
تصل بين قرى لا أعرفها
ترى خلفها قرية أليفة
قد أعود إليها
نعم.. لا بدَّ من العودة إليها.
أغفو فأتذكرها بلمحة واحدة وأتذكر:
شكل الغابة
والدروبَ التي تعبر الحقول
زينةَ الأسطحة
وطريقةَ صنع المخلل
الأقرباء
والحقول المقشوطة بعضها عن بعض
التقاليد البسيطة والحيطان البيضاء الأبدية،
والمجرفة الـ": بدون مقبض
ارض الآخرين.
أيّها الآباء الذين ماتوا مثل الشحاذين
أيّتها الأمهات اللواتي طُرِدن
سوف أعود إلى هناك
وأمشي في الأزقة التي ألفتها عيناي.
واجتاز المنعطف باندفاع.
والبندقية جاهزة بين يدي
فالآن قد جاء فصل الانتقام من
الحقد الأزلي.
القرية هناك
وطريق تصل بين قرى لا أعرفها.
ومع أني مشيت طويلاً
كما أمشي في حلم
فالمناظر لم تكن أليفة
لا أحد يمرّ
لا أصادف أحداً
أقترب من بيت وأسأل عن الطريق
فإذا البيت أخرس
له حيطان وليست له نافذة أو باب
أتجه إلى بيت آخر
دون نافذة أو باب أيضاً.
ورأيت الطريق تختفي في قرية ذات لون غريب
لا حسَّ فيها ولا صوت.
أين هنا
والى أين تصل الطريق.
علموني، أجيبوني،
وأدنوا استجوب القرية الصامتة
أنزل البندقية
لكنها خفيفة
آه، ربّما أخطأت
ألست أمسك بعصىً فقط؟
* * *
انتهت حكايتكَ
قل لي ماذا تعصديتَ؟
أمس، قالت أمك:
"أريد أن أموت"
فأمسكتَ بيدها
وخرجتما من البيت تمشيان بلا هدف.
ثم تفرَجت على نهر رملي
وعلى منظرٍ يجتازه النهر.
بفرنسا، يسمون الصفصاف: شجر الدموع،
هكذا قالت امرأة بونار.
بالأمس سألتَ:
متى أنجبتني يا أمي؟
أجابت الوالدة:
"لم أنجب شيئاً حياً".
* * *
منتصف الليل! ويدوي صوت بندقية
إنها من عيار 38
ومن فوهتها تنطلق النار لتشق الظلام
ينتصب الميت واقفاً
في جوف العتمة المحروقة
يصرخ والدم يسيل من جروحه الصفراء:
"قَتَلْتَني"
"أعدني أنا الذي أعيش الآن في صدرك
أعدني إلى بلادي الصين"
يدوي صوت بندقية ذات عيارة 38.
في عتمة صدري
يرتجف رقيب المشاة
***
رأس الطابور
يعض ماضي الطابور
وثغر الطابور
يرتل مستقبل الطابور
ليس للطابور عين ولا أنف
وفي الليل يذوب ثوب الطابور.
لا ينحل قلق الطابور
ولا ينحلُّ زنّار الطابور
حتى ولو اشتعلت النّار في مؤخرة الطابور
لا سبب لطول الطابور
وبين طرفي الطابور
يجري كاهن الطابور
لا صوت للطابور.
لا يوجد خوف للطابور
حتى وفي وسط الطابور
حيث شفافية الطابور
وبين عتمة الطابور
تتطاير الحُباحب.
* * *
فقيرُ
ماذا لو أجد زوجة
ومعها مهرها500 مليون يناً:
سأشتري بيانو، سأشرب خمراً
سأقبِّلها خلف الستار،
هذا كلّ ما سيحدث..
* * *
سكيرٌ
ماذا لو أجد زوجةً
جميلة، ذكية وصادقة
سأمسك بها مثل قبعة جديدة
وأحتار،
هذا كلُّ ما سيحدث..
* * *
عندها ، آهٍ.. صَمَتَ العالم
إذ رأيتُ في الطابق الثاني
من تلك البناية البيضاء،
فقيرةً، متغيرةً، عنيدةُ وغبيّة مثلي
رأيتها،
كان في عروتها وردة يعقربية
وفي عينيها حزن كافر
وكانت تبصق الشتائم
مثلما تبصق بذور العنب
وعلى طرفي شفتيها غمازتان
عميقتان
رأيت فتاة
بماذا كان يجب أن أقامر
من أجل هذه المباراة الحاسمة؟
أقلبُ جيوبي لأخرج كلَّ ما فيها - الزواجَ والمهر
إكليلَ الشاعر
الفواتير غير المدفوعة،
الأزرارََ الضائعة،
ثمَّ أنفض محفظتي
لكن لم أجد ما اقامر به
ولهذا قامرت بنهايتي.
وفي صمت هذا العالم
فتحت عيني المغمضتين
كمقامر مبتدئ..
* * *
نصف ساعة عند الغروب
انزلُ طنجرة الرز عن النّار
أكسرُ بيضة، أخفقها
وبين حين وآخر
أشرب جرعة ويسكي،
أصنع من الورق طائر الكركي الأحمر.
* * *
أقطّع البصل واقفاً
في مطبع ضيق
خلال نصف ساعة عند
الغروب.
* * *
طباخ ماهر وسكَير
و "بابا" أيضاً
لا بدَّ أن ألاطف يوري الصغيرة
لأنّها قضت نصف نهار في بيت غريب.
تتحدث عن الأشياء دفعة واحدة..
* * *
"إقرأ الكتابَ، بابا
فك هذا الحبل، بابا
اقطع هنا بالمقصّ، بابا"
وعندما انتبه إلى البيضة المقلية
تهرول يوري إليَّ مسرعة:
"سأبول، بابا"
أنزعج شيئاً فشيئاً
أضيف ملعقة من المطيب الكيماوي،
أرفع المقلاة، أهزُّها
أشرب جرعة كبيرة من الويسكي،
وشيئاً فشيئاً تنزعج يوري أيضاً
"اقطع هنا، بسرعة.. بسرعة..
* * *
يصرخ الأب غاضباً:
"افعلي ذلك وحدك!"
تردُّ الابنة بغضب هي الأخرى:
"سكران، بليد، عجوز"
يغضب الأب أكثر، يضربها على كَفَلِها،
تبكي يوري الصغيرة
تبكي بصوت عالٍ..
* * *
ثم، يجيء وقت هادئ وجميل
يلين الأب، يحنُّ
يوري الصغيرة هي الأخرى
تلين، تحنُّ
ويجلسان على المائدة وجهاً لوجه..
وأخيراً،
اللون الأزرق يكسو
السماءً الخريفية وقت العصر
بعد أن تلاشت السحابة الرمادية
في اتجاه البحر الشرقي
وبعد أن أمطرت طويلاً على المدينة
الكبيرة، على أوراقها ونفاياتها الدقيقة
* * *
أقف في الشارع
أرفع عيني نحو المساء وبلا وعي
لأنظف داخلهما
بتلك الزرقة العميقة الداكنة
التي تتسلل إليهما لحد الألم
* * *
هناك ارتسمت سحابة بيضاء
رقيقة
ماذا يشبه شكلُها المرقط
البعيد،
الذي تتراءى من خلفه السماء الزرقاء؟
* * *
يبدو أن هناك حزناً عائماً
يردد صوت البيانو.. الذي يجتاز
عتبة دكان الموسيقى مثل الأنين،
يردده أصداءَ بعيدة خفيفة..
* * *
لعلَّ تلك الأسطوانة
هي قطعة موسيقية معروفة
"بالفرس العسكري"
يعزفها شاب بحماس،
شاب هجر بلاده من أجل فتاة أجنبية؛
إنها موسيقى وطنه القديمة..
* * *
إلى الزبائن أتجه بخطىً سريعةٍ
غير أنَّ سحابةَ الخروف لا تزال في السماء
الخريفية الصافية
ومع أني لم أهاجر:
فحنيني البعيد
لوطني
***
في موسم ذوبان جليد ينتعش
بقارة ما
يبدأ طابورٍ من معتقل العائدين
سيره وئيداً في اتجاه بحر بعيد
ويبدأ العودة فوق طريق الخطيئة.
____ لماذا كنتِ هناك؟
بأيديهم اللا تحصى يلوحون
لبلاد غريبة تحت سماء ليلية متنقلة
وبعيونهم اللا تحصى يشاهدون الماضي
في تيارات الماء حول السفينة
عائمون فوق البحر
مثل سراب لا يتحركون متكدسين
بانتظار أن يذهب البحر
بانتظار أن يعود الكلام.
____ لماذا أنجبتِ الرضيع وقتها؟
مع أن البحر لا يسير بل النائمون فوقه
فإن ما ينقلونه دوماً من حياتهم
الطويلة المستعمرة
إلى خرائب مجهولة في حياة غدٍ
والى حفرتها الخفية
قد يكون الموت فقط
____ لماذا كنتٍ عارية وجسدك لا يزال لامعاً؟
مرآة مظلمة، صامتة، هائجة تحيط
بعائدين سرق زمانهم
وأيامهم المتباهية الضائعة لا تزال
تتبدل من حين إلى حين
في ذلك البحر وتحت تلك السماء.
آفاق مجهولة الجنسية تهاجم
فجأة من جميع الجهات
لأجل أناس منسيين، فارغين، ومحتشدين.
_____ لماذا صرت الشمس تشرقين فوق البحر؟
***
في داخلي
من يريد البكاء أكثر مني
مقرفصاً ويداه فوق كاحليه.
في داخلي
من يريد البكاء أكثر مني
لكن الدموع تسيل دائماً من عيني،
لا معنى لبكائي
لأن من يريد البكاء أكثر مني
يبكي
أتقلب فوق الحصير
لأجعل من يريد البكاء أكثر مني
يبكي،
لكن أنا الذي أبكي دائماً
غابت الشمس، وصل الظلام إلى
أطراف السقوف،
يضيق المكان بي، أسقط
من على العتبة باكياً:
أرجوك أن تبكي
أرجوك أن تبكي
***
جناح الطائر البني
الذي تدحرج من الشجرة المشتعلة
ارتطم بعكازي
وتعثر العكاز به،
فهل، يا تٌرى، أَرَسَلَ روحه
إلى هذه التربة القاسية؟
ظهره المحترق المتخشب
تغمره دماء المساء الأسود ثقيلةُ.
ومن كبد شمس غاربة في
يوم ممتلئ جروحاً
انجرف فاقداً لون
السماء.
أه، كم هو ثقيل وحزين.
* * *
قليلاً من الوقت
وتأتيني يدُ باردة تهزُّ عزلتي.
هناك وراء العكاز بندقية
وفي أحراش موساشينو ورائي
تتساقط الأوراق.
***
فوق ورقة بيضاء
يسقط ظل شجرة الحديقة
والى طرف غصن يجيئ عصفور.
* * *
ليقول شيئاً
بصوته الجميل.
أختبئ وراءه
وأفتح تويجاً أبيض.
* * *
آنذاك وخلف الأشياء
سوف تبدأ ذاتي الأخرى بالسير
ثقيلة مثل الوجود،
وتحت أشعة النّهار الساطعة
تحملُ سويقة زرقاء.
***
عندما أرفع سماعة الهاتف في الموعد
لا أسمع إلا هدير البحر الحار فقط.
والصوت هو نفسه صوت البحر الهائج
حيث مات أخي فوق سارية البارجة.
* * *
عندما أرفع سماعة الهاتف في الموعد
لا أسمع إلا صوت الزيزان فقط.
والصوت هو نفسه صوت الزيزان المسعور
عندما وجدت رفيقي ميتاً في الخندق.
بعد وقف إطلاق النّار
* * *
عندما أرفع سماعة الهاتف في الموعد
لا أسمع أي صوت.
ألا يزال غائباً
ألن يعود أبداً
ذاك الذي أضاع صوته مثل إله؟
***
عرفت قرى وعرفت دروباً
عرفت وقتاً رمادياً،
وفي ضوء غير ساطع ولا داكن
مثل مساء تثلج سماؤه
عرفت أن أحاكم نفسي وأعدمها.
مثلما يوجد في اللهيب
خيط لا يحترق والنار منه،
هكذا كدّست جميع مشاعري المختلفة
وأحرقتها حول غريزتي التي كانت تهمُّ بتدمير نفسها.
عندما اشتعلت جميع
ألوان الدنيا
وجميع عيون أذكرها
وصارت بلون الهموم
ارخيت ذراعي الطويلتين
أبدأ السير وعلامة زمن الجهل تتصبب
على الجبين
تُرى هل يتبعني
مجد غريب
وأنا أتابع السير؟
***
آه، أيتها الشمس الغاربة
أجتاز طريقاً
وأدوس الأعشاب العادية
عمودي الفقري الرملي الذي خاطرت به
وقناع الموت
ثم حماقة العشرينات
جميع هذه الأشياء يتدحرج إلى قاع الوادي؛
ودفعة واحدة
اشاهد ارتفاع الجبل وأعماق الوادي
وإن لم تخطئ عيناي أعتقد
أن الحرية
شبيهة بهذا
منذ اليوم الذي انتقمت فيه مما طعنني
وتلك الحرية تسكن صدري
كمخزن بارود قديم.
***
أمرُّ بالخضرة الممتدة
إلى كايتايماتشي في إيدو
والنظر الأزرق منخفض.
* * *
ميتسوَكيه في الربيع.
لأنه الصباح
لا أطاردك حتى الأعماق
أيتها الخضرة.
الأعشاب تتمايل من الأعلى
فقط.
إلى دّغيلةٍ ظاهرة
بالقرب من خندقٍ
تعدو أختي الصغيرة
وهناك تخفي فخذها الأبيض.
عندما تتوقف الريح عن هزّ أطراف الوريقات،
صوتُ رذاذ تبولها الذي صبرت عليه
والذي ازداد لطافة
يلطم الآن
الأوراق التي تضج.
عندما تعود راكضة
لا تجدني،
يا للغرابة، -
جاء الظلام
وتوقفت مياه الخندق عن التموج.
من الدرب الصغيرة التي شقتها البشرة الآخذة في الأنوثة
يبقى في الأعشاب
أثر خفيف
* * *
نستطيع أن نلعب ثانية في الحلم لعبة التخبئة
ولكن أنتهى عصر إيدو يا أختي،
ومنذ ذلك الحين عبرتُ
مسافات طويلة جداً.
* * *
والآن، أمشي، تحت الأشعة الفضية التي تعكسها بناية فرع مصرف سايتاما بشينجوكو. يأتي هدير تحطم البناء، ويأتي زبده السريع التلاشي. بارد عصر اللغة الدارجة. فلأخرج مرّة إلى ميتسوَكيه كي أطارد ذلك الدفء خلف الأوراق.
***
ذكريات البكاء الدائم
لها رائحة الشمس..
لا أريد المخالفة
لِمَ لا يجفُّ لحدَ الآن.
يتغطى الزمن بقطعة قماش بيضاء
ويتمدد فوق جدار أمام عيني
لا أريد المخالفة مهما يكن
لأن البقع ستسقط فوق الجدار.
ثمة شيء
يتسع بلا نهاية داخ الغرفة
إنه مرج
ظلال خضراء تبكي دوماً
وتغمر جميع أفكاري..
اقترب الغروب
أيَها الشيء الذي يمتد بلا نهاية داخل الغرفة
هيا نجزُّ الأعشاب. نبحث عن طريق العودة.
* * *
هو ذا الطفل يبكي
فلنأخذه مع الأمتعة
* * *
لنأخذ الطيور والحيوانات أيضاً
فالجوُّ سيكون بارداً عندما يهبط اللَيل
كل شيء يتحول في اللّيل:
المرج يصير بحراً
والطير إنساناً
والمنقار ذراعاً طويلة طويلة.
______
لم لا يجفُّ لحد الآن
* * *
ستظلُّ غرفتي مبللَة.
فلترفرف العصافير البريّة
كما تشاء.
الحياة لن تتوقف
حتى وإن تداعى الجدار وازدادت بقع المخالفة
وليكن..
* * *
هيا نقطع الأعشاب ونمضي
فالجوُّ قد صار بارداً في المرج.
أيتها الظلال الخضراء، يا ثمار الشمس
قد تراكمتِ لحد أنك لا ترتجفين
هيا نبحث عن طريق العودة.
***
(باي، باي، بلاك بارد)
تطير مئات وآلاف العصافير.
كلا. ما ينطلق من داخلي باستمرار عصفور واحد
ومن منقاره تتدلى أحشائي المقرفة.
عندما أحلم بك
أيها العصفور
أصير عمياء، وعمياء أعيش العالم
بالشمّ.
لكن وقتها ينتهي قدري
وتبدأ حياة جديدة عمياء.
* * *
(باي، باي، بلاك بارد)
ما الذي يطير حقاً من هنا؟
حتى المغنى .. لا يعرف،
يغني بعمق فقط، ويشعر أنّ شيئاً
يطير الآن.
لعل زمنه الأملس هو الذي يطير
و ربما قطعة لحم طرية من روحه
و ذكريات كوكب الخطيئة
و ربما الدم الفاتر الذي
يتفجر من دماغ جالسة
في المقدمة.
* * *
(باي، باي، بلاك بارد)
ما دام مستحيلاً أن يقلع من جسدي
هذا المنقار الحادّ لا يكف عن
الالتقاط
والجناحان اللّذان يرفرفان …..
فأنا عصفور
سواء قبلت أم لا.
عصفور يصير دعاءً وينغزُّ يومياً في السماء
ثم يُدفع فيسقط من هناك
إنني أحشاء تحتضن عصفوراً ساقطاً
وفي داخلي جميع العصافير الساقطة: الكبير، والصغير،
والهزيل، والمَقْعدُ، وحتى العصفور المغرور الحنون
بعضها نصف حي يئن
أشيعُ الجثث إلى قمم الجبال لتأكلها الطيور
وكأن ذلك مهمتي اليومية.
أمنح الدفء لبيوض ستكون عصافير المستقبل
وكأن ذلك مهمتي اليومية..
***
يا بحر،
يا قطيع الثيران المجروحة
والوقت غروب
وجلودها متفتحةٌ يتدفق منها
دم أخضر غامق.
كانت تتمايل متصادمة
والأكتاف متلامسة كالأمواج.
أهٍ، أيها البحر.
* * *
يغمر الموج بارتفاعه وانفخاضه
الحوافر والقوائم الداجنة
ايتها الثيران المسرعة
كان يسوقك السوط وتسوقينه
إلى أي زقاق بحري..؟
* * *
أهٍ
وفي الليل أي زقاق كان يعرف
إن الضجيج قد اختفى
من أعلى أطراف النوافذ الممتدة الساكنة
قرب الدرج الحجري
وأن البحر كان وحده يجري
خفيضاً.
* * *
وأن البحر
كان يتحدث مع عرض البحر
بصوت خفيض
والغد لا يزال في أعماقه.
نامي أيتها الثيران المجروحة
نامي بهدوء.
***
أرض الغروب التي تنعكس شمسها على شاهدة أبي،
حيث نعيش ونموت
هي أرض القحط.
هل سأموت أنا الآخر يحرقني قلقي
صارخاً أشوِ فكر الخبز ودسَّ القمح المرَّ.
واثباً تارة ومتراجعاً تارة أخرى،
متكئاً على مقعد الاستغلال الصامت
عارضاً خدييّ النحيلين لنور الشمس الخفيف؟
تشرين الذي لا اصابع له يفقد عدوه المعروف.
ورجل له عينا أفعى يجوع
طاوياً نفسه في يباب الموتى المتوهج
فوق محاجر خائفة من هجوم الشتاء.
يا أبي الطويل القامة، جميع البيوض المظلمة تكسرت بالتتالي
نهارَ القحظ الذي سقطت فيه.
أقف فوق أرض الغروب المهجورة
واضحاً كألعاب الظلال
وخلفي سماء تدفع رياحها شموسَ الغروب الناضجة.
تشيخ السنوات والسماءتنقرض محترقةً
اطبق شفتيَّ اللتين لا تعرفان الحب
فأسمع بأذنيّ النحاسيتين الباردتين
ضجيج افاعٍ يعض بعضها بعضاً في قاع الشهوة
بأرض الدموع المبللة بندى الليل؛
واسمع لهاث أم صغيرة تزحف حبلى بحنين يتخبط،
تزحف لابسة جلد أفع
من الصباح إلى العشاء؛
أو أسمع
زعيق أخت تسقط في أعماق ليل الحب الشديد
وقد ابتلعت أفعى.
يا أبي الطويل القامة،
بأرض الغروب حيث انهارت الزهور والكرامة
سأكون أكثر مما كنت
ثم أسلم عنقي لسنوات تتراكم شيئاً فشيئاً
تاركاً أملي مفتوحاً مثل جرح
يعشعش في جسد مظلم.
***
أعبر الحبّ
وكل ما كان عابثاً
* * *
لم تعد لي رغبة بشيء ولا بالحزن حتى
لا أريد التذكر أنني حية.
* * *
أه في الحفرة القاسية،
* * *
وضعت بيضة العبث
ومن بين العبث والعبث
أيمكن أن يولد غير العبث؟
* * *
الحياة حزن
تشرق الشمس
واليوم أيضاً تهب الرياح
ثم يأتي الليل.
* * *
لم تعد لي رغبة بها،
غير أني أضع في ليلة مظلمة
بيضة سوداء مثل الدم
***
بقعة
بعيداً،
البحر والسماء يتجارحان
وسدىً تنزف الدماء شفافه.
* * *
خائن البحر
وعبثاً يكفر عن نفسه.
* * *
ضغط الهوى يدلق من الفم
بقعة العار
لن تذهب من على الوسادة
كلام سمعته الآذان
لن يذهب هو الآخر.
* * *
بقع كثيرة
جروح كثيرة
* * *
ويتلوى البحر
ترجه السماء.
يحاول جرح محو جروح
وكلام يحاول محو كلام
لكن ما سمعته الآذان
لن يتلاشى والدماء لن تتوقف.
* * *
لن يتلاشى ضحك الأشياء غير العابثة:
التراب القاسي، الشجرة الصلبة، الفواكه الناضجة
ضحك وحشي جاء به الكلام.
***
أحياناً
وفي عتمة غروب تلفُّ زهور الأُرطَنْسيَة
أشاهد عجوزاً أجنبية
تستند إلى شجرة مكوكو.
وحدها غيمةُ الغروب الحمراء تعرف
كم مرة تجاوزتها رياح الخريف
وهي شاحبة تدندن لحن حبّ منسي!
* * *
نجوم عتيقة وليلٌ كأنه قد يمزق..
أصغي إلى صرير أضلاع الليل
فأشعر أن أيدي الموتى تمسك بي.
يمدون أيديهم من بين أمواج سوداء مزرقة
ويظنون أنني طوافة إنقاذ
"نرجوك أن تغني تضحياتنا"
مع هذه الصرخة ينزلقون من يديّ ويتلاشون
ليبتلعهم قِرش الزمن
* * *
أه! كنتم فراشات تلاحق
ظلال الورود فوق تلال آخر الربيع
وطيوراً يسحرها اهتزاز الماء.
سماءٌ سارية كالعسل
اصواتُ أبواقِ وطبول العيد كانت تُسمع
من بعيد
وكنتم قد ولدتم في الضوء
* * *
نجوم عتيقة، وليل كأنه يمزق..
في زاوية فضاء يتنهد
أفكر أحياناً بدفنكم بأفضل طريقة
وفي صباح باردٍ ذي حمرة خفيفة
أفاجأ بنفسي
أحلم الحلم ذاته.
***
مثل ملكة ميتة،
ثياب عصر الجليد السمننة
تحكم حديقة دير في الوادي العقيم؛
قصيرٌ مرح الصيف والسراب يلثم
شفاه الخشخاش الطرية،
في هذه اللحظة العفيفة من السكر
تترقرق مياه جدول تحت شمس الغروب
وصوت حادٌ لرهبان يرتلون سوراً
يضغط كالجرس على أجفان الصبي.
فقط. الغروب يضع ختمه الأحمر على وجنتي
طفل انتشى رأسه بنسيم هيما ليا الأطرى من النعناع
وسقط مجزوزاً بحلم
ما أخف باب الحلم!
الحلم بالكون الجميل مضيء بشكل غريب.
يطير الصبي من فوق هاوية إلى فوق أخرى
أخف من أرواح موتى دفنتهم الطيور
لا شيء يخفيه
لا الأشباح الليلية ولا الأب السيء ،
يرفرف الطفل بجناحيه من نجمة إلى نجمة
صاعداً فوق أمواج قهقهة كبيرة
في فضاء حيث ترقص شفاه الخشخاش الأحمر.
(رغم أطرافه المثلجة والمليئة بعرف بارد).
فوق حقل حيث تتعرج الأنهار كالثعابين باكية
وخلف طريق جبلية مجهولة
آه! مدينة خالدة تدور مثل النواعير!
يتنفس حلم الآلهة وفكرة ياقوت يغمرها الضوء.
(لا تزال شفاه الخشخاش الأحمر تتماوج)
يستيقظ الطفل على نجمة تتوهج في القمة
"هي ذي عين الروح"
إنه فقدَ مبرر العودة إلى قريته.
***
عندما أُخْرِجُ
تلك الصورة التي صوِّرت آنذاك
بفيلم حسّاس جداً، ثم أنظر إليها،
شظيةٌ حادةٌ مثل
قطعة فولاذ
تطير في اتجاهي دوماً
لتفقأ عينيّ
الجاحظتين،
ومن الوراء يدفعني
الألم والعطش.
في الساحة الإسمنتية
لمعتقل Sing Sing المخصص للمحكومين بالإعدام
والموجود بمدينة ossining بولاية نيويورك
وتحت شمس لاهبة
يسير الفتى إيسيل وأخوه الصغير مايكل
عائدين لتوهما من المقابلة الأخيرة
ويدا المحامي بلوك تمسكان بيديهما.
نور خارجي فاقع
يؤلم أعينهما المنفوخة من البكاء
ويخافان أن يتلاشى عنهما بسرعة وجها والديهما
اللذين ودعاهما للتوّ.
قبلة ماما الحنونة
والشطرنج الذي لعباه مع بابا
وبطاقة عيد الميلاد التي كتبها بابا
وأشياء أخرى تكاد جميعها تغرق في هيجان أمواج
صدريهما الصغيرين
كأنها دولاب كبير يدور
في سماء الحديقة.
بوقاحة تنكشف خلفية هذه الصورة:
برج داكن شبيه بقلعةٍ من القرون الوسطى
ومن وراء قضبان حديدية فاصلة
يظهر مصباح ينير الممر الحجري الطويل.
ألا تسمع في الغرفة هناك
صوتاً بارداً قاطعاً يسبِّبُهُ
كاهن الاعترافات المعقوف الأنف
وهو يلكع بحذائه المُدّبَّبِ شيئاً بانتظام.
* * *
(نَفِّذَ حكم الإعدام بالسيّد والسيّدة AP=ossining. R)
عندما تزداد سرعة استطلاعي،
جميع القوى
وجميع مكوناتها العضوية
تتبعثر في الرياح
ثم تتسلل إلى
صمت المواد المتبعثرة الغريب
حكم الإعدام!!!
القلم الذي وقَّع هذا الحكم
وانتقل من يد الرئيس إلى سكرتيرة
ثم إلى..
أين أخفوه؟
وهل يظلَّ كما كان ذلك القلمَ
الجديدُ الذي وافق على إسقاط القنابل الهيدروجينية
فوق "لا. بيفاس" وجزيرة بيكيني المرجانية؟
في مستودع مصرف ن. بشارع وول
تركوا الآلة الكاتبة التي دقت الوثيقة بلا خطأ واحد
وبخطة دقيقة
من أجل تزوير الجنحة.
وفي بالوعة يخرج منها الضباب.
رموا
القفاز المطاطي الأبيض الذي كان يلبسه منفذ حكم الإعدام
عندما ضغط على الزر.
* * *
على ضفة "إيست سايد"
كان الولدان ينحنيان
فوق بطاقة عيد الميلاد ويتأملانها،
كانت تلمع كالزجاج
لكن هل كانت تعكس أعماق السماء الشفافة؟
وهل ابتسم من داخلها
وجه بابا ووجه ماما دفعة واحدة.؟
قال الأخ الصغير ذو الشعر المتلف
مثغثغاً ألفاظه:
تنسِّم الرياح وكلامي الحنون يسيل".
كان الزجاج يعكس الضوء الخافت في الممر الحجري الطويل الشبيه بالمغارة
انطفأ ضوء المصباح لحظة ثم اشتعل
وفجأة تكسّر الزجاج
ولاح برق خاطف.
***
عند زاوية تشرف على خليج طوكيو
ترتفع ناطحة سحاب
متمايلةً في الرياح
وفي الطابق الثلاثين على الزاوية الغربية
شبّاك وحيد،
إنّها غرفة الباشق العجوز،
لعله كان ينظر كالطير
إلى البحر الذي تمور أمواجه ذهبية وفضية كلَّ فصل.
أتصور أحياناً أن
شعوره يثقب شباكاً وحيداً في الجدار
فأكتشف عجوزاً أنانياً لا يستطيع ضبط
غروره وفضوله مثل المراهقين
* * *
عندما تهاجر أسراب الطيور
تدور في الخليج دورة وكأنها لا تريد الوداع،
وحين ينعكس نور الشفق عليها تصير شبيهة بالأزهار.
لكن الطائر الغريب لا يشبه الأزهار
والباشق العجوز ليس رئيساً بل الطائر الغريب
يريد امتلاك السماء الشاسعة والأرض الخضراء والإنسان
"إينرجي آند إينرجي" [طاقة ثم طاقة!!]
هذه سياسته
يعتقد أنَّ النفط ذهب صارته الحيوانات والنباتات
ولهذا يتأمل سفن النفط الهائلة
آتيةَ من الخليج الفارسي - العربي واحدة تلو الأخرى
* * *
قبل أن يموت الباشق - الرئيس قيل:
إنه يلمس وجوه
جميلات الارستقراطيين أياً كنَّ
"إينرجي آند إينرجي"
لا بدَّ أن حلمه الجبّار كالموج
بمحيط رهيب مستحيل
أعطاه وجه الزواحف.
بعد ظهر يومٍ شتائي مشمس
كان ظلٌّ اسودٌ لطائر كبير غريب
يعبر الخليج،
وتحت ذلك الشباك سقط الرجل الهزيل ميتاً.
من سماعة الهاتف المتدلية كانت تخرج
قهقهة امرأة فاخرة
***
أحد سجناء سيبريا في
الحرب العالمية الثانية سنة 1950
حينها، علا صوت بندقية
واستدار عبّاد الشمس ليشاهدنا
وبصمتٍ متوترٍ
كصمت ما قبيل الموت بسيف مرفوعٍ
دخل العالم في أعماق أعماقه دفعة واحدة.
فَمَنْ شاهد ليقل: شاهدتُ
منَ المكان الذي نقرفص فيه
تتجه آثار الأقدام صوب الجنوب مثل النّار
لكن في نهاية قواها
يقف رجلٌ آخر.
رمالُ أب في "ذبيكر"
تشبه ندماً فاقعاً،
والحنينُ المرتبك
يُحْصَدُ كأنه كان
مُنْتَظَراً.
أما الصمت فأشبه بصومعة
واجهتُها بالمصادفة:
نحاول الوقوف قليلاً
والإطراق قليلاً.
هل ما أسقطه الرصاص
هو حلم أوكرانيا
أم رهان كوكاسس؟
ومن بعدها،
أنزل فوهة البندقية باتجاه الأرض
رفع ذراعه ونظر إلى ساعته اليدوية
كأن شيئاً لم يحدث.
وفي منتصف النهار.
يراقبُ التجارُ ولادةَ الأتان الصعبة.
نغطي هذه الفوهة باضطراب
نغطيها،
باليد الي فشلت بالقبض على الرمل والنمل.
إسألْ: هل وُجِدَ قفا اليد
كي يُداسَ؟
ها هو الكعب الأسود
يدوسه الآن بلا رحمة.
إركعْ
وها نحن نجلد الغضب.
كما نجلد كلباً مُرقَّطاً.
ندرك الآن
نعترف الآن
ونركع الآن بلا تردد
أمام فوهة بندقية
تدلي لسانها الساخن
بعد اضطراب عنيف..
وعن الطرف الآخر
حصدت الشجاعةُ الجدباء للتو،
ابتعد "الحاضر" دفعة واحدة
واختفت هذه "الآن" أيضاً.
يا أوكرانيا
ياكوكاسَسْ
ها نحن نلقي عملة ذهبية صافية
بين بساطير ثقيلة
شبيهة بالجدار،
نتخاصر، نشبك المرافق الان
مثل سلسلة ركوع لا متناهية.
***
في قلبك الموصد افتح، أيها الإنسان، كوة طرية وعميقة
تظل داخل قلوب مصعوقة بآلام هذا العالم، واترك الرياحَ تهبُّ عليها،
الرياحَ العاصفة حول مدامعك
الرياحً المثيرة لألوان الحزن في مشاهد ربيعٍ يمضي.
بين أهدابك الساخنة
تمتد مشاهدُ حارّةٌ وملامحُ أشياءٍ مترائيةٍ هادئة؛
حيّةٌ أشحار البلوط وأوراق الكستناء، وحيَّ العذاب،
وآلام القلب تخضرُّ كلّما برعمت غصون جديدة
وتدلّت من الجذوع المقطوعة المصفوفة
آهٍ، في عينيك دفقة دمع
تبلل ألوانَ الشجر بلهب أعماق فؤادك النبيل؛
ومشيتك تحمل ثقل روح عجيب
تسيجه براعم تتراءى من خلفها السماء.
تعبر الدموع أعماق قلوب شاكية
وتعبر الآلام والاخضرارَ لتملأ جفنيك في آن معاً.
أيُّ سطلٍ سيتسع لهذه الدموع القليلة المتدفقة
غير قلب إنسان حيث يوجد سطل للدموع؟
آه، من أجل الدموع
تبرعم روحك شيئاً فشيئاً
وفي هذه المناظر التي تغمرها عذابات الناس جميعاً
تنادي على أرواحٍٍ تلتصق بها دموع بلا نهاية
رياحٌ حنونةٌ تغسل فصولاً جديدة
وتُصنِّف العذابات على مداخل القلوب.
عابرةً براعم روحك
في مناظر ربيع يتلاشى وهو يمطر دموعَ أرواح الناس فقط.
***
مرّة في الشهر،
وعبر طرقات الحياة
تجيء أمهاتنا كي يتم بيعهن،
فيما يصل صوت الماء إلى رؤوس الأغصان
حيث أسماء الأمكنة مبهمة.
* * *
بعد أن يعبرن الحيَّ الشرقي
والحيَّ المركزي
والحيِّ الشمالي
ينعطفن إلى زاوية الحي الغربي
ثم يصلن إلى عتباتٍ يسطع فوقها نور شمس مائل.
عتباتَ بأطراف حي "توكا - ماتشي".
إلى هناك نُقِلن ذات يوم من "مياكو" حيث شاطئ "ريكوتشو"
وحيث أرضية سوق الأسماك الندية؛
نُقِلْنَ برفقة الأعشاب البحرية، الأَشَنَاْتِ المجففة، والكاكي،
نادى عليها الرّجال، نادوا بأصواتهم الخشنة، وباعوها:
الأسماء الزرقاء العيون
مقابل قطعة نقدية وسخة،
أسماك مجففة تباع وتشترى هكذا،
من يد باردة إلى يد أخرى على مداخل الحوانيت.
سمكة زرقاء العينين
تلك هي أمي،
تشقُّ،
تُفتح،
ويظهر لون دم ذباب الشتاء المهروس
ذباب كلّ بيت
* * *
تسقط أمهاتنا في أعماق المكان المظلمة
في أعماق اسمه،
وما إن نلتقي بهن حتى يصرن
حنونات، صغيرات
ومثل الرزم ملفوفات بعناية.
***
يقول الإنكليزي د. هـ . لورانس في قصيدة "بلاد الغروب"
"يا أمريكا
لماذا لا تخدعني حتى روحي؟"
* * *
يسهل أن نستغل يدَ الإنسان، رجلَهُ، أو علمه
أو روحه الضعيف،
لكن يصعب أن نستخدمه بالكامل.
حزن لورانس
عندما أكتشف أن أمريكا لا تستطيع
استخدام الإنسان كاملاً.
* * *
إذاً، لمن يمكن أن نقدِّم أرواحنا بلا ندم
نحن سكان النصف الأخير من القرن العشرين؟
* * *
بهدوء وخفة تدبُّ الخضرة
في أغصان أصابعها الذبول شتاءً.
وعندما توكل الأشجار
نفسها إلى الربيع
دون تردد أو خوف
نعشق هذه الروعة، ثم نعرف:
(أن فصلنا يختلف عن فصل الأشجار اختلافاً كبيراً).