ترجمة عبـد القادر الجـنابي
(العراق/ باريس)

1

بوريس باسترناكعندما أتكلّم عن التصوف، أو الرسم أو المسرح، فإني أتحدث على السجية وبشكل منطلق كهاو يناقش مواضيع بلا أحكام سابقة. لكن حين يتعلق الأمر بصدد الأدب، فأن تفكيري كله ينصب على الكتاب وأفقد القدرة على ايصال فكري. بحيث يجب تحريكي وانتزاعي بالقوة، كما لو من إغماءة، من حالة الاستغراق الفعلي في الكتاب، وعندها فقط، وعلى مضض، وبنفور خفيف، أساهم في النقاش حول أي موضوع ادبي لا علاقة له بالكتاب، اقصد أي شيء آخر، سواء كان عن الإنشاد، أو عن الشعراء، المدارس، الفن المعاصر... الخ.
لكن يستحيل على الإطلاق أن اترك، من دون إكراه، وبإرادتي، عالمَ اهتمامي إلى عالمِ الهاوي الخالي البال.

2

ظنّ أرباب التيارات المعاصرة أنَّ الفنَّ نافورةٌ، بينما هو اسفنجة. وقد قرروا أن الفن ينبغي له أن يتدفّق، بينما عليه أن يمتص ويتشرّب. لقد ظنّوا أن بإمكانه التفكك إلى وسائل تَمَثّلٍ، بينما هو يتركّب من أعضاء الإدراك الشعوري.
إن مهمته اللائقة به هو أن يكون وسط المشاهدين وأن يُشاهِد على نحو أكثر تجردا، وإحساسا وإخلاصا من الآخرين، لكنه، في عصرنا، تعلّم على المساحيق ومستحضرات التجميل وأن يظهر نفسه من المقصورة كما لو أن هناك فنين في العالم، أحدهما يبيح لنفسه، على حساب الآخر، ترف التشويه الذاتي الذي يُماثل الانتحار. فها هو يستعري، بينما عليه أن يختفي في ظلمة الصالة، مجهولا من الآخرين، دون ان يعلم أن العالم ينظر إليه، وإنّه، قابعا في عزلته، مصاب بالشفافية والوميض الفوسفوري كما بمرض غريب.

3

الكِتاب ما هو سوى مكعبِ ضميرٍ حارقٍ داخن. نداءات الديك الإغرائية في الربيع (موسم اتصال الحيوانات الجنسي) هي الرعاية التي تتولاها الطبيعة للحفاظ على جنس الطير. الكِتاب، كالديك في موسم الاتصال هذا. لا يسمع احدا ولا أيَّ شيء، فنداءاته، المُستغرق فيها، تصمّه. من دون الكتاب لما كان للجنس الروحاني استمرار، بل لأنقَرَض. القردة ليس لهم كتب.
لقد كُتِبَ. نما. فكبر. أصبح ذكيا. طاف الدنيا، وصار كبيرا – ثُمّ... راح! لكن، إذا تمكنّا من الرؤيا عبره، فينبغي لنا ألا نلومه. فالكون الروحي هكذا تمّ تنسيقه. على أن الناس راحوا، منذ وقت قريب، يعتقدون أن المشاهد في كِتاب هي مجرد تمثيليات. يا له من خطأ! لماذا كان في حاجة الى هذه المشاهد؟ فات عليهم ان الشيء الوحيد في قدرتنا هو ان نعرف كيف ألا نشوّه صوت الحياة الذي يُحدث ضوضاء في داخلنا. إن العجز عن العثور على الحقيقة وقولها، لهو قصور لا يمكن تغطيته بأي كم من القدرة على قول الأكاذيب. كِتابٌ ما، لهو كائن حيٌّ. واع كلّياً وعلى ما يرام. صوره ومشاهده هي ما آتى بها من الماضي، واحتفظ بها في ذاكرته وليس مستعدا لنسيانها.

4

ليست الحياة بحديثة العهد. لم يكن للفن بداية أبداً. إذ كان حاضرا بإطراد قبل أن يتشكل. إنه لا متناه. هنا، في هذه اللحظة، وخلفي، وفيّ. بحيث إني أشعر – كما لو من قاعة اجتماع شرِّعَت فجأة – أنَّ عذوبة وتوثب حضوره الطاغي ودوامه تغمراني. كما لو أن هذه اللحظة تم تحديدها لتأدية اليمين.
ما من كتاب حقيقي له صفحة أولى. ألله أعلم أين يولد. وينمو، كحفيف غابة، ويتدحرج موقظا وحوش الغابة الخفية، وفي اللحظة المصّمة الأكثر ظلمة وذعرا، يتدحرج حتى نهايته ويبدأ الكلام بكل قممه هذه في آن.

6

ثمّة سوء فهم. عليهم تفاديه. فهناك مجال لاطراء الملل. فالناس تقول كاتب... شاعر...
إنّ علم الجمال لا وجود له. ويبدو لي أنّ علم الجمال لا يوجد كمعاقبة لكذبه، تساهله، تواضعه... لمضارباته، دون أن يعرف أي شيء عن الكائن البشري، في التخصصات. رسّام صور، رسّام مناظر، رسّام طبيعة ميتة؟ رمزي، ذُرووي، مُستقبلي؟ يا لها من رطانة قاتلة.
من الواضح أن هذا عِلمٌ لتصنيف المناطيد الهوائية... أين وكيف تُوضع الثقوبُ التي تمنعها من التحليق.
بصورة متلازمة، الشعر والنثر قطبان. فمن خلال حاسة سمعه الموروثة، يبحث الشعر، وسط ضوضاء القاموس، عن لحن الطبيعة، ثم يلتقطه مثلما يلتقط نغمة، ويستسلم لابتداه الثيمة تلك. أما النثر، فإنه يبحث، من خلال حاسة شمّه، ووفق غريزته الطبيعية، عن الكائن البشري واجدا إياه في فصيلة الكلام. وإذا كان العصر محروما من هذا الكائن، فإن النثر يعيد خلقه من الذاكرة ويسرّبه، متظاهرا، لخير البشرية، أنه قد وجد الكائن وسط العالم المعاصر.
هذه مبادئ لا توجد معزولة.
مستسلما الى تخيلاته، يصادف الشعرُ الطبيعةَ.، إن العالم الحي والحقيقي لهو مخطط المخيلة الوحيد الذي نجح ذات يوم ويستمر، حتى النهاية، في نجاح دائم. انظر اليه مستمرا من لحظة الى لحظة في النجاح. لا يزال حقيقيا، عميقا، مشدود الانتباه كليا. ليس هو الذي يصيبك بخيبة امل في صباح اليوم التالي. انه يخدم الشاعر كمثال بل حتى اكثر من نموذج لاعادة انتاجه.

***

الرمزية والخلود: "يُنذر الشاعر ثراء حياته المرئي لمعنى لا يحدّه زمان. إن النفس الحيّة المنقطعة الصلة بالشخصية من أجل ذاتية حرة لهي خلود. والخلود هي الشاعر، والشاعر ليس كيانا وإنما هو شرط للنوعية...
الشعر جنون بلا مجنون. الجنون خلود طبيعي. الشعر خلود سمحت به الثقافة...
إن معنى رمز الموسيقى الوحيد – الإيقاع- لهو موجود في الشعر. إن مضمون الشعر لهو الشاعر كخلود. الإيقاع يرمز إلى الشاعر.
الالهام هو نحو الشعر، إنه ملموس – عرضا – في الجِناس.
إن الواقع السهل المأتى للشخصية يخترقه البحث عن ذاتية حرة تنتمي إلى النوعية. ومعالم هذا البحث المستمدة من الواقع نفسه ومتركزة فيه، يراها الشاعر كمعالم الواقع نفسه. الشاعر يَخضع لاتجاه هذا البحث، يحل محله، ويتصرف كالأشياء التي حوله. ويسمى هذا مشاهدة واقتراب من الطبيعة".

***

"ما الشعر، أيّها الرفاق، إذا رأيناه يولد هكذا أمام أعيننا؟ الشعر هو النثر، النثر ليس بمعنى المجموع الكلي لأعمال هذا الكاتب او ذاك النثرية، وإنما هو النثرُ عينُه، صوتُ النثر، النثرُ في حالةِ من الفاعليّة، وليس في حالة الجَزالة. الشعر هو لغةُ الواقعةِ العضويةِ، أي الواقعة التي لها تبعات حياتيّة. وبالطبع، كأي شيء آخر في العالم، فإنه قد يكون جيدا أو سيئا، وهذا متوقف على احتفاظنا به دون تشويه، أو على سعينا لإفساده. وأيّا كان الأمر، فإن الشعر هو هذا بالضبط، أي نثر نقي في توتّره التحوّلي. هذا هو الشعر!" (في خطابه الذي القاه في المؤتمر الأول للكتاب السوفييت، 1934)

***

إنسان سيء لا يمكن أن يكون شاعرا جيدا.

***

الإنسان يولد ليحيا وليس لكي يتأهَّب ليحيا
***

الكاتب هو فاوست العصر الحديث، إنه الفردي الوحيد الباقي حيا في عصر جماهيري. ويبدو، في نظر معاصريه الأصوليين، شِبهَ مجنون.
***

"مُحالٌ أنْ تعبرَ الطريقَ
دون أنْ تدوسَ الكَونَ كُلّه"
***

"أيّها الصّمتُ إنك أفضل
من كلِّ ما سمعت"
***

الأدب هو فنُ اكتشافِ شيءٍ خارقِ العادة حول أناس عاديين، وقولُ، بكلمات عاديّة، شيءٍ خارق العادة.
***

الشعر:
"إنه صفيرٌ متهورُ الارتفاع
كُتَلٌ جليدية تتكسر وتطقطق
إنّه الليلُ يجثم صقيعه على الأغصان
إنّه صراعٌ بين عندليبين يغردان.
(...)
إنه كلُّ ما يأمل الليلُ أن يضبَطَه
في أغوار الاستحمام العميقة
ليحمل براحتين مبللتين، مرتجفتين
النجمةَ إلى البستان".

***

يجب أن يكون ديواني المقبل جديدا كمطر الصيف، حيث كلُّ صفحةٍ فيه عليها أن تنذر القارئ بقُشَعْريرة... هكذا يجب ان يكون ديوانٌ. وإلا فمن الأفضل أن لا يكون.
***

"إن ما يخلقه الكاتب، لهو نصٌ، بُعدٌ ثالث – عمقٌ يثير ما قد قيل ومعروض عمودياً فوق الصفحة، و، الأكثر أهمية، يفصل الكِتاب عن الكاتب". (من رسالة الى تسفتاييفا)
***

"أنا ضوءٌ معروفٌ بحقيقة أني استطيع القاءَ ظلٍّ"
***

"خَجِلٌ أنا وكل يوم أزداد خزيا وعارا
من أن مرضنا السامي
لا يزال تطلق عليه
في عصرنا عصر الظلال
تسمية الغناء".

***

"لم تدمّر الثورة (ثورة اكتوبر) كلَّ شيء.. الزمان يوجد من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الزمان".
***

"تهْ بلا أثر، عُدْ منهوكَ القوى"
***

سيبقى الشعر تلك القمة الذائعة الصيت، أعلى من جبال الألب، يلزِمَ العشب الذي تحت الأقدام، وكل ما على المرء أن يفعل هو ان ينحني ويراه ثم يلتقطه من الأرض، إنه شيء سيكون دائما جد بسيط لكي يُناقش في الاجتماعات، سيبقى دائما الوظيفة العضوية لسعادة الكائن البشري المليء بهبة الكلام العقلاني المباركة، ولذلك كلما كثرت السعادة على الأرض كلما سيصبح من السهل أن تكون فنانا.
***

"مُراد العمل الإبداعي هو التفاني
وليس الهتاف والشهرة...
كم مخز أنْ تكونَ على كلِّ لسان
وأنتَ لم تبلغ شيئا."
***

"لو كنت أعلم، عند بداياتي
أنَّ هذا ما سيحدث؛
أنَّ أبياتاً قادرة على أن تقتل
أن تخنقك بالدم حتّى الموت
لرفضتُ رفضاً قاطعاً المشاركة
في مهزلة مُورّطة إلى هذا الحد."
***

"على أننا لن نُترك هنا
فبعدَ خمسين عاماً ونيف
سنُبعَث ونُكتَشَف
كغُصنٍ ينمو "

إيلاف- 7 يوليو 2014