ترجمة جمانة حداد
(لبنان)

النمسوييسمّونه الشاعر الذي قتلته وردة. من أصدقائه الكثيرين الله والربيع والطفولة والريح. ولد هذا الشفاف النمسوي في براغ عام 1875 لعائلة مفككة. كان طفلا منعزلا وصموتا. مواجهته مع العالم الواقعي جاءت سلسلة من المخاوف والأوجاع والخيبات. أحبّ الوحدة لأنها صعبة، ولأن الصعوبة جميلة، قال، فلم يسرف في الانغماس في الأوساط الأدبية والاجتماعية، وظل مسكوناً بهاجس الموت طوال حياته. كأن ولادته كانت بداية موته.
عندما تعرّف ريلكه إلى قدره لو سالومي، التي كانت حبيبة نيتشه لخمسة عشر عاما خلت، كان هو في الثانية والعشرين من العمر وهي في السادسة والثلاثين. أغرم فيها حتى الاحتراق رغم فارق السنّ بينهما، وصارت له العشيقة - الأم التي حرم منها في صغره. رغم ذلك كانت علاقته معها قصيرة الأمد، ومثلها كل قصصه العاطفية، بما فيها زواجه بالنحاتة كلارا وستهوف. اكتشافه باريس عام 1902 شكل منعطفا حاسما في حياته وكتابته على السواء، وهي المدينة التي شغف بها إلى أقصى الحدود.
رجل مفرط الحساسية، بلا بوصلة، ممحو، يضحك كطفل وكطفل يبكي. يداه مرهفتان ناعمتان كيدي عازف بيانو، وجسده سفينة تغرق. كانت كتابة الشعر بالنسبة إليه فعلا دينيا، داخليا وسريا وتأمليا، كأنها صلاة موجهة إلى اللامرئي. انتقل من الرومنطيقية الرقيقة إلى الشعر الميتافيزيكي، وبينهما تعلّم كيف ينظر الواقع في عينيه. كتب في حياته ما يزيد على عشرة آلاف رسالة، أهمها "رسائل إلى شاعر شاب". سافر كثيرا وترجم عددا من الكتّاب الفرنسيين إلى الألمانية، بينهم بول فاليري واندره جيد. عندما انتحرت صديقته الشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا، كتب لها قصيدة يقول فيها: "نحن الأمواج، مارينا، والبحر! نحن الأعماق العائدة إلى السماء!".
في أحد صباحات تشرين الأول من عام 1926، خرج ريلكه إلى حديقة مقرّه السويسري لكي يقطف كعادته بعض ورودها. لم يكترث عندما جرح يده بإحدى الأشواك، ولم يخف حين ظهرت لديه في المرحلة نفسها بوادر اللوكيميا. استسلم بعد اقل من
شهرين، وعاد العابرُ كالشهب إلى سمائه.

ج.ح.

***

أنتِ التي لم تصلي
أنتِ، يا محبوبتي التي تهتِ
قبل أن تذهبي، التي لم تصلي قطّ
إلى ذراعيّ،
لا اعلم أي موسيقى تسعدكِ.
لقد عدلتُ عن محاولة التعرّف إليك
كلما علت موجة لحظة جديدة آتية.
كل الصور الشاسعة فيّ -
المشاهد البعيدة المحسوسة بعمق،
المدن والأبراج والجسور
والمنعطفات غير المتوقعة في الدرب،
وحيوية الأراضي التي كانت يوما
تنبض بحياة الآلهة -
كل هذا ينهض معكِ ليعثر على معناه فيّ،
أنت التي تتملصّين مني إلى الأبد.

أنتِ، يا محبوبتي التي
كل الجنائن التي نظرتها يوماً بتوق.
عبر نافذة مفتوحة في بيت ريفي
رأيتكِ -
كنت تهمّين بالخروج، حالمة، لملاقاتي.
في شوارع وجدتها بالمصادفة
حدستُ بكِ -
كنتِ قد عبرتها للتو واختفيتِ.
وأحيانا، في متجر صغير، كانت المرايا
لا تزال دائخة من حضورك، عندما عكستْ لي،
مذعورة، صورتي التي فاجأتها.
من يعرف؟
ربما العصفور نفسه أرسل صداه عبرنا نحن الاثنين
أمس، إذ كنا مفترقين عند المساء...

***

مثل يد
أطفئي عينيّ، سأظل أراكِ.
صمّي اذنيّ، سأظل أسمعكِ.
حتى بلا قدمين سأشقّ دربي إليكِ
وبلا فم سأذكر اسمكِ.

أكسري ذراعيّ وسأضمّكِ
بقلبي، مثل يد.
أوقفي قلبي وسيخفق دماغي
وإن أضرمتِ في دماغي النار
سأشعر بكِ تحترقين في كل نقطة من دمي.

***

من اجل أن تأتي يوما
هذا النَفَس، ألم أغرفه من مدّ منتصفات الليالي
من أجل حبّكِ، من أجل أن تأتي
إليّ يوما؟

وجهكِ، كنتُ آمل أن أهدّئه
بروائع لم تزل صعقاتها بكراً،
عندما سوف يرتاح قبالة وجهي
في لانهاية ما أتكهنه.

كان فضاؤك يتغلغل من دون صخب إلى قسماتي،
ودمائي كانت تبرق وتزداد عمقا
لكي تستحق النظرة العالية التي تشرق فيك.

ولمّا كان الليل يسود أقوى، بكل نجماته،
عبر التفرّع الشاحب لشجرة الزيتون،
كنتُ أنهض وأنتصب وأرتمي
إلى الوراء، واتعلّم الدرس
الذي لم أدرك يوما أنه درسٌ منكِ.

آه يا لها قوية الكلمات التي انزرعت فيّ،
كي إذا حدثت ابتسامتك
انقل إليك بنظراتي فضاء العالم.
لكنك لا تأتين، أو تأتين متأخرة.
فانقضّي، أيتها الملائكة، على حقل الكتّان الأزرق هذا
واحصدي، أحصدي!

***

نية حبّ
كيف لي أن أحمل روحي
كي لا تجرح روحكِ؟
كيف يمكنني أن ارفعها برقّة فوقكِ
وأودعها مساحات أخرى؟
كم أود لو كان في وسعي أن اطويها
بين أشياء ضائعة في العتمة،
في مكان هادئ ومجهول،
مكان يظل بلا حراك عندما تدوّي أعماقك.
ولكن كل ما يلامسنا، أنا وأنت،
يجرفنا معا كما لو بقوس وحيدة
صانعا من وترين صوتا واحدا.
ترى أوتار أي آلة نحن؟
وأي عازف كمان يحضننا بين يديه
يا أعذب الأغاني؟

***

يد
أنا وحيد في العالم، لكني لستُ وحيدا بما يكفي
لكي أجعل كل ساعة مقدّسة.
صغير أنا، لكني لست صغيرا بما يلزم
لأقف أمامك كشيء
معتم ولاذع.
أريد تصميمي، وأريد ان أكون مع تصميمي
إذ يتجه نحو الفعل،
وفي اللحظات الساكنة والمترددة
التي يقترب فيها كل بعيد،
أريد أن أكون مع ذوي الحكمة
وإلا فلأكن وحيدا.
أريد ان أكون دوما المرآة
التي تعكس كيانك
وألا أكون يوما أعمى أو مسنّا
أعجز من ان يحمل صورتك الثقيلة المترنحة.
أريد ان أنبسط وأتجلى
لا أن أظل مطويا
لأني حيث أكون محنيا ومطويا، كذبةً أكون،
وأنا أريد معناي صادقا من أجلك.
أريد ان اصف نفسي
مثل لوحة درستها
عن كثب وقتا طويلا،
مثل كلمة فهمتها أخيرا،
مثل إبريق الماء الذي استخدمه كل يوم،
مثل وجه أمي،
مثل سفينة
عبرت بي
أفظع العواصف.
نافذة
يا نافذةً نبحث عنها غالبا
لكي نضيف إلى الغرفة المحسوبة
كل الأرقام الكبيرة غير المروَّضة
التي يضاعفها الليل.
يا نافذة كانت تجلس في ما مضى عندها
تلك التي، بكل حنان،
تقوم بعمل بطيء يُحني
ويشلّ.
يا نافذة تنبت لها صورة
نُهلت من الإبريق الشفاف،
أنت زردة تغلق
حزام رؤيتنا الواسع.

***

نية المنتحر
حسنا، مهلكم لحظة،
هم دائما يسلبونني الحبل
ويقطعونه.
في الآونة الأخيرة كنتُ مستعدا حقا
وكان ثمة قليل من الأبدية
في أحشائي.

امسكوا الملعقة من اجلي،
هذه الملعقة التي آكل الحياة بها.
أريدها ولا أريدها،
فدعوني استسلم وأتقيأ.

اعرف أن الحياة كاملة وصالحة
وأن العالم يشبه طبقا مليئا،
لكنه لا ينسرب إلى دمائي
بل يصعد فورا إلى رأسي.

هو للآخرين غذاء،
أما أنا فيثير اشمئزازي فحسب:
وطوال ألف سنة على الأقل
سوف عنه أصوم.

***

حياتي
أعيش حياتي في حلقات تتسع
وتعبر الأشياء التي تحوطني.
ربما لن أكمل الحلقة الأخيرة أبدا،
لكني أنوي أن أحاول.
إني أدور حول الله، حول البرج القديم،
منذ إلف عام أدور
وحتى الآن لا أعلم
هل أنا صقر، أم عاصفة،
أم أغنية عظيمة.
راينر ماريا ريلكه -

(النهار)