للشاعر الأميركي كينيث ركسروث
أجراس المساء تُقرع من معبد إلى معبد
كينيث ركسروث ( 1905 - 1982): شاعر وناقد ومترجم أميركي. ولد في إنديانا، ونشأ في شيكاغو حيث علّم نفسه بنفسه بعد طرده من المدرسة الثانوية، متردداً على الصالونات والنوادي الأدبية والمكتبات العامة. زاول مهناً تنوّعتْ بين مصانع الصودا ونوادي الملاكمة والصحافة، وأمضى عامين في السجن بتهمة اشتراكه في إدارة أحد المواخير. سافر كثيراً عبر أرجاء أمريكا وأوروبا والشرق الأقصى. انضمّ إلى الحزب الشيوعي الأمريكي مناصراً لجون ريد، ومراسلاً عدداً من الشعراء اليساريين البارزين كجورج أوبن ولويس زوكوفسكي، محاولاً مثلهم أن يخلّص الشعر من نبرته الوجدانية الانطباعية. تأثر بالسريالية في بداياته، كما أولى اهتماماً خاصاً بكتابات المتصوف الألماني جاكوب بوهم. كانت معارضته شديدة للحرب العالمية الثانية وانخراط الولايات المتحدة فيها، وخلالها مارس البوذية والتاوية، وعمل ممرضاً ميدانياً في مجال الطب النفسي، وصادق المدافعين عن البيئة والجمعيات المناهضة للحرب والمطالبين بالحقوق المدنية. أواخر الأربعينيات، أسس صالوناً لمناقشة الفلسفة والشعر تردّدَ عليه شعراء جيل البيتس الذين عاشرهم وروّجَ لكتاباتهم مثل غاري شنايدر وألن غينسبرغ ولورنس فيرلينيتي، واستمر كأبٍ روحي خلال الخمسينات يعرض قصائدهم المصحوبة بالجاز في برامج إذاعية عديدة. كما كتب آنذاك قصيدة عن موت الشاعر الويلزي ديلان توماس لاقت رواجاً كبيراً، إلى جانب ديوانيه الشهيرين: «السلحفاة والفينيق»، «التنين ووحيد القرن». ترجم إلى الإنكليزية بيير ريفردي والكثير من الشعر الصيني القديم.
إذا ظننتُ أن بوسعي التسلُّلُ
كي أجيءَ إليك
فستكونُ عشرةُ آلاف ميل ميلاً واحداً.
لكننا في المدينةِ نفسها
ولا أجرؤُ أن أراك،
وإنّ ميلاً واحداً لأطولُ من مليون ميل.
آه، يا لوجعِ هذه اللقاءات السرية
في عزّ الليل،
أنتظرُ وبابُ الشوجي مفتوح.
متأخراً تأتي، فأرى ظلّك
يتحرّكُ بين الأوراق
في أقصى الحديقة.
نتعانقُ ـ خفيةً عن عائلتي.
أبكي ووجهي بين يدي.
تبتلُّ أكمامي.
نمارسُ الحبّ، وبغتةً
يلوّحُ السادن
بالفانوسِ والأجراس.
يا لوقاحةِ ظهورهم
في مثلِ هذه اللحظة.
متبرّمةً بأشباحهم،
أهذرُ بالترهات
ولا أستطيعُ أن أتوقّف
عن الثرثرة
بكلماتٍ لا رابطَ بينها.
تسألني عما كنتُ أفكّرُ به
قبل أن نمسي، أنا و أنت، عاشقين.
الجوابُ سهل.
قبل أن ألتقي بك،
لم يكنْ لديّ ما أفكّرُ به.
لا أحدَ سوانا
في بيتنا الصغير،
بعيداً عن الناس،
بعيداً عن العالم،
لا شيءَ سوى هسيس الماء فوق الحجر.
ثم أقولُ لك،
«أنصتْ. اسمعِ الريحَ تعبرُ بين الأشجار».
الصقيعُ يكسو قصبَ المستنقع.
ضبابٌ ناعم يهبُّ عبره،
مخشخشاً الأوراقَ الطويلة.
قلبي المفعمُ يفيضُ خفقانهُ بالنعمى.
تعالَ إليّ، مثلما تجيءُ خفيفاً
إلى سريرِ الجمر المتورّد
في موقدي
متوهّجاً عبر الغابةِ المسكونة بالليل.
مستلقيةً في المرج، مشرَّعةً أمامك
تحت شمسِ الظهيرة،
دخانٌ رقيق يخفي
نصفَ تويجاتي الوردية.
ممارسةُ الحبِّ معك
تشبهُ شربَ ماءِ البحر.
كلما شربتُ
ازددتُ عطشاً،
إلى أن لا يستطيع شيءٌ إروائي
غيرُ شربِ البحرِ بأسره.
فوق الجسور،
وعلى امتدادِ ضفاف نهر كامو،
يشاهدُ المتجمهرون
رمز َ»العظيم»
يتفجّرُ نيراناً حُمراً فوق الجبل
ليخبو في النهاية.
تلفُّني ذراعك،
أتأجّجُ عشقاً.
بغتةً أدركُ ـ
إن ما يُلهبني هو الحياة.
تلتهبُ اليدان.
تلتهبُ ذراعُك التي تلفُّني،
فانظرْ إلى الآخرين،
المحتشدين بالآلاف من حولنا،
كلُّهم يشتعلون ـ
يصيرون جمراً ثم يعودون ظلاماً.
أنا مسرورة.
ما مِنْ شيءٍ بي لتشعلَهُ النيران.
مُستشاطاً بالحبّ،
يترنّمُ الزيز.
صامتاً كالحباحب،
جسدي يتلفهُ الحبّ.
لننمِ الليلةَ معاً، هنا.
فمن يدري أين سننامُ غداً؟
في غدٍ،
ربما نستلقي في الحقول،
ورؤوسنا متكئةٌ إلى الصخور.
النيران
تشتعلُ في قلبي.
لا دخانَ يتصاعد.
لا أحدَ يعرفُ ما بي.
مضطربةً أُمضي نهاري
حالمةً بك.
أسترخي جَذلى
حين أسمعُ عند حلولِ الغسق
أجراسَ المساء تُقْرَع
من معبدٍ إلى معبد.
هذا أوانُ الإوزّ البري
كي يعود.
بين غروبِ الشمس
وبزوغِ القمر
شريطٌ من إوزات برانت
يخطُّ في السماء كلمةَ «قلب».
الربيعُ، هذه السنة، أبكرَ في قدومه .
الغارُ والإجاصُ والخوخ
واللوزُ والميموزا
أزهرتْ سوياً. تحت القمر،
يعبقُ الليلُ برائحةِ جسدك.
كيف سأنسى
عطرَ الغسق
في خيمةِ شعري الأسود،
حين استيقظنا لنمارسَ الحب
بعد ليلةٍ طويلةٍ .
كلَّ صباح،
أنهضُ من النوم
وحيدةً،
أحلمُ بأن ذراعي هي جسدُك العذب
يضغط ُعلى شفتيّ.
أنا حزينةٌ هذا الصباح،
كان الضبابُ كثيفاً،
فما استطعتُ أن المحَ ظلَّك
حين عبرتَ قرب بابي.
مثلما تتبعُ العجلةُ
حافرَ الثورِ الذي يجرُّ العربة،
أسايَ يقتفي وقعَ خطاك
عندما تغادرني في الفجر.
انتظرتُ طوال الليل.
عند انتصافِ الليل كنتُ على نارٍ.
في الفجر، متأمّلةً
أن أحلمَ بك،
وضعتُ رأسي المتعب
على ذراعيّ المطويتين،
لكنّ أغاني العصافير المستيقظة
عذّبتني.
زهرتان في رسالة.
يغيبُ القمرُ وراء التلالِ القصية.
يبللُ الندى غصونَ الخيزران.
إني أنتظر.
تشدو الجداجد طوال الليل على شجرةِ الصنوبر.
في منتصف الليل،
تُقْرَعُ أجراسُ المعبد.
يصرخُ الإوزُّ البريّ في السماء.
هذا كلُّ شيء.
منذ أمدٍ مغرقٍ في القِدم،
عند جسرِ أوجي،
في قاربنا الصغير،
كنا نسبحُ عبر غماماتٍ من الحباحب.
أستيقظُ عند انبلاجِ الضوء
والبردُ يلفُّني. خارج نافذتي
تطفو بصمتٍ ورقةُ قيقب حمراء.
بمَ سأؤمن؟
عدم الاكتراث؟
الضغينة؟
أمقتُ رؤيةَ النهار وهو يتقدّم
منذ ذاك الصباح عندما
أحالتني تحديقتُكَ اللامباليةُ إلى جليد
كالقمرِ الشاحب في الفجر.
ملاحظة المؤلف:
ماريتشيكو هو الاسمُ المستعار لشابة معاصرة تعيش بالقرب من معبد ماريتشي ـ بن في كيوتو. إلهةُ الفجر ماريتشي ـ بن إلهةٌ هندية ما قبل آرية، وبودهيستافا في البوذية، وراعيةُ فتيات الغيشا والعاهرات والعاشقات والنساء في المخاض؛ وهي ـ في مقامٍ آخر ـ واحدةٌ من آلهات الساموراي. معدودةٌ هي معابدها ومزاراتها وحتى تماثيلها في اليابان، لكنّ حضورها ماثلٌ في تماثيل الخنازير البرية التي تجرُّ عربتها، وهذه التماثيل منصوبة في الطرقات العامة على غرار السفينكسات. ماريتشي ـ بن ذات رؤوس ثلاث: الوجه الأمامي طافحٌ بالحنو والشفقة؛ والجانبيُّ وجهُ خنزيرة برية؛ والثالثُ وجه امرأة منتشية بالجنس. إنها إلهة شعبية معروفة، برغم احتجابها عن الأنظار، في تاشيغاوا وشينغون. وكمثل شاكتي، شعاعِ النور؛ أو براينا، سلطةِ فاريوكانا أو حكمته (وهو بوذا الأول، داينيتشي نيوراي)؛ فإنها تجلس مغمورةً بنعمة الحب الجسدي في حضنِ ميوجو ـ نجمِ الصبح.
المستقبل
الاحد 29 آذار 2009 - العدد 3261 - نوافذ - صفحة 15