"والآن أنا متأكد من أن لا شخص حولي يمكن أن يفهمني"
(خليبنيكوف)
في كلمته الوداعية قال مايكوفسكي: "إن سيرة خليبنيكوف نموذج للشعراء ومذمّة لممتهني الشعر... اعتبرناه (باسترناك، كروتشونيخ وبرليوك وأنا) ولا نزال نعتبره معلمنا في الشعر والفارس الأروع والأصدق في معركتنا الشعرية... إنه كولومبوس القارات الشعرية الجديدة". في الحقيقة أن خليبنيكوف يكاد يكون هو المستقبلاني الذي سينتفض كالعنقاء من رماد النسيان واللامبالاة؛ بل سيكون الشاعر الروسي الأكثر تساؤلا من بين المستقبليين الروس. وليس من غرابة الصدف أنه كتب هذه القصيدة وهو في أوج شبابه:
"وسينسى البشرُ كلَّ شيء
عندما يصلون إلى أرض المستقبلية
أما أنا، فلشجاعتي،
سأكرَّم بنصب غريب".
ولد فكتور خليبنيكوف في الثامن من عام 1885، في سهوب خنسكايا الموطن الاول للمنغول الرحل، في قرية تندنوف في مقاطعة استراخان. استبدلَ، فيما بعد، اسمَه الأول "فكتور" باسم من نحته هو "فيليمير". درس الرياضيات والعلوم الطبيعية. وكحال الشبيبة الروسية، ساهم في الاحتجاجات الثورية فتم اعتقاله لمدة شهر. وتعتبر الفترة ما بين 1905 و1910، حالة تلقن وتمرس، أشبه بمصفاة تصفّي من كل ما كان مطروحا من تعاليم شعرية وفكرية وإبداعية، خلاصةً فكرية وأساسا لغويا متينا لما سيقوم به من دور الشاعر المستقبلاني الأصيل. فقد أصدر بحثين علميين، ومحاولات شعرية ونثرية على الطريقة الرمزية، التيار الشعري السائـد آنذاك؛ محاولات تكشف عن أصالة حقيقية وميل إلى التمرد. وكانت تتميز بميل نحو الاشتقاق وتوليدات شعرية أكثر مما هي اصطلاحية. وذروة هذا الميل الى الاشتقالق تجلى أولا في قصيدة "تعويذة بواسطة الضحك"، وثانيا في عمله المسرحي الضخم "زانغيزي"؛ بطل أسطوري يفهم لغة الطير؛ بل يفهم سلطان اللفظ، وفي خططه يفهرس اللغات الممكنة التي تربط الكون: لغة الآلهة، لغة ماوراء الادراك ولغة النجوم. وقد شغلته "قوانين الزمن" فراح يستقصي الرابط بين الرياضيات والتاريخ.
كان يقضي معظم أوقاته في المكتبات إلى حد انه غالبا ما كان ينسى وجباته الغذائية، مما سيكون لهذا النسيان نتائج فتاكة. فكان منكبا على قراءة الأدب الفرنسي وكتب التاريخ والملاحم الوثنية والدراسات اللغوية ومن الناحية الأخرى متابعة تطورات الرسم الفرنسي الذي وجد تماثلا بين نظام هذا الرسم وبين متابعته هو، الشكلية في مجال اللغة الشعرية. ففي إحدى رسائله كتب "نريد من الكلمة أن تتابع بجرأة الرسم". وفي رسالة عام 1910 الى كامنسكي، تكلم "عن الحق في استخدام كلمات مبتكرة من جديد، والكتابة بكلمات من جذر واحد... والرسم بالصوت.. فنحن نوع جديد من أناس إشعاعيين الذين جاؤوا لإنارة العالم. نحن ذو عزيمة لا تذلل".
كان يفضل أن يرسل محاولاته الشعرية الأولى الى اسماء معروفة آخذا وجهة نظرهم في ما يكتبه، ومن بين هذه الأسماء غوركي وبالأخص فياسلاف ايفانوف من كبار أساتذة الشعر الرمزي الذي كان يدير حلقة كل أسبوعين لمناقشة آخر الأعمال الشعرية وفي هذه الحلقة تعرف على مايكوفسكي، وبلوك. وقد استفاد من تجارب هذه الفترة بتعميق نظرته الشعرية الفردية التي ستتمرد كليا على الرمزية وأتباعها وعلى مد التأثيرات الغربية الشعرية التي كانت سائدة، متجها نحو شعرية روسية محضة مطعمة باللغة السلافية. واعتبارا من هذه المرحلة، انصب اهتمامه بشكل حاد في قضية الأعداد؛ مستبدلا العلامة اللسانية بعلامة تلغرافية أو رياضية. وذروة هذا الاهتمام بالأعداد تجسد، أواخر حياته، في عمل شعري جبار عنوانه "ألواح المصير" محاولا فيه استنطاق الأعداد لكي تشرح السلوك البشري وتؤثر فيه مثلما تقوم به اللغة البشرية. انتقل الى بطرسبورغ عام 1908 متابعا دراسته في العلوم الطبيعية مكتشفا أهمية كتاب داروين "أصل ألأنواع" للشعر، بحيث كتب "على البيت الشعري أن يستند على نظرية داروين".
فالشعر كان جوهر حياته بحيث سرعان ما وجد، في الأسبوع الأول من خدمته العسكرية في منتصف عام 1916، بأنه غير قادر على أن يكون جنديا وشاعرا في آن، فتوسل مساعدة أصدقائه لتسريحه من الخدمة ولم يستطع أحد مساعدته وإنما ثورة شباط 1917، أنقذته وخلصته من الخدمة العسكرية. وقد كتب مجموعة قصائد قصيرة تحت عنوان ضام "حرب في مصيدة فأر"، تعتبر من أعظم الأعمال المنددة بالحروب، استعمل فيها كل التقنيات الشعرية الطليعية المختلفة: "إن الشبان الذين يرسلون إلى الحرب، باتوا أرخص من الأرض، من برميل ماء، من عربة مليئة بالفحم...".
كان يعشق الترحال عبر أراضي روسيا وجواراتها عرضا وطولا، وكما لو كان يعيش في المحطات؛ ينزل من قطار ليركب قطارا آخر. وآخر رحلاته كانت إلى الى إيران حيث تعرف على الفرق الصوفية ولقب بملّة ورد، وأيضا بـ"الدرويش الروسي"، وكان جدا مبتهجا بهذين اللقبين، وحتى تكتمل صورته كدرويش حقيقي اتخذ كلبا ضالا كمرافق له، يجوبان الطرق والأزقة معا وينامان في الأماكن المعزولة كأي شحاذين. وقد كتب قصيدة رائعة عن تجربته عنوانها "طغيان بلا حرف الطاء". وفي الأشهر الأخيرة من حياته، عاش قرب موسكو. توفي عام 1922 عن عمر يناهز السابعة والثلاثين عاما، بمرض سوء التغذية.
كان فيليمير خليبنيكوف أشبه بملاك هائم في فضاء الشعر ومصير البشر الشعري، وكأنه جاء إلى هذا العالم من أجل مهمة واحدة ألا وهي البحث عن المعاني الحقيقية للكلمات؛ المعاني التي ضاعت بسبب الاستعمال. وما شعره سوى طرق في باب اللغة لكي اصحو الكلمة صحوة شعرية من غيبوبة الاستعمال، فتجلي معان واضحة يفهما جميع البشر.
كان غالبا ما يبدو شاردا بحيث عندما كان يُدعى لقراءة شعرية، كان يقرأ بصوت جد منخفض بالكاد يسمع ويتوقف قبل نهاية القصيدة قائلا: "الخ... الخ.." ويترك القراءة، لم يعرف الاستقرار على شكل واحد، فهو كان يتنقل بين النثر الفني والمقالة؛ القصيدة القصيرة والمطولات السردية التي تدل على عمق إطلاعه على الأدب العربي والإيراني، ففي نظره، بتوحد الثقافة السلافية مع الثقافة الإسلامية والهندوسية والبوذية، يمكننا بناء أساس متين لكوكب جديد له لغته الكونية.
والناحية الأعظم في هذا الملاك الغارق في نهر الكلمات الجارف، هي أنه كان قلما يعطى قيمة لمخطوطاته فكان غالبا ما يتركها عند هذا وذاك وكأن ثمة عملا شعريا ينتظره في أعالي هذا النهر. ومن هنا بات عمله الشعري شظايا موزعا هنا وهناك بحيث للآن لا توجد طبعة يمكن اعتبارها كاملة.
أصدر مع الكسي كروتشوينيخ بيانا عنوانه "الكلمة بصفتها كلمة"، وضحا فيه المبدأ المستقبلي الروسي المضاد لكل المبادئ التي شيدت عليها التيارات الأدبية السابقة. ففي نظرهما أن الكلمة كانت مقيدة؛ أي كان عليها أن تتكيف وفق المعنى. وأن الفكر كان يملي قوانينه على الكلمة وليس العكس". وآن أوان ظهور"لغة ماوراء الادراك" الكونية لتعيد الاعتبار إلى الكلمة ككيان مكتف بذاته. ذلك أن "الشعر"، في نظرهما، "فن لفظي"... فـ"الكلمة أوسع من المعنى" والمقصود أن الشكل المادي للكلمة له أهمية أكثر من المعنى الذي تنقله. وبالتالي يمكن كتابة الشعر من كلمة واحدة. وفي هذا المجال ابتكر خليبنيكوف مصطلحا جديدا ليميز طريقته في نحت الكلمات عن تقاليد النحت الشعبية، وسماه "الابتكار اللفظي" حيث "يصبح الحرف الأول ذا أهمية لأنه يمثل الدماغ الذي يوجّه جسد الكلمة". فـ"صوت كلمة، بالنسبة إلى خليبنيكوف، له صلة عميقة بمعناها". وكما يشرح ماركوف، "فإن الحرف الأول الصامت لجذر كلمة، في نظر خليبنيكوف، يعبر عن فكرة معينة. فمثلا، وجد ما يقارب اربعين كلمة روسية عامية وفصحى تعبر عن الإقامة وتبدأ بحرف الخاء، خالصا إلى أن الفكرة خلف الخاء ربما هو سطح خارجي لحماية الداخل من تحرك خارجي... في الحقيقة أن الصوامت ذاتها تعبر عن أفكار، وبالتالي تشكل لغة اولية أصلية.. وإن الاكتشاف هذا كان له استدلالٌ لخليبنيكوف هو البرهنة على أن اللغة حاملة حكمة باطنة يكفي فقط نزع الغطاء عنها. فكان يؤمن با اللغة تعبر عن كل شيء بوضوح وبمباشرة مما يستطيع البدائيون ان يفهم بعضهم الآخر. لكن هذا الوضوح والمباشرة ضاعا فيما بعد في الاستعمال اليومي. والمهمة إذن هو استقطار اللغة بوسائل علمية للحصول على معانيها الأصلية وبالتالي بناء أساس لغة كونية ستعمل على إيقاف الحروب، وعندها سيفهم البشر بعضهم البعض. بعبارة أخرى، وكما وضح خليبنيكوف نفسه "نزع المعنى المبتذل الذي بات أشبه بصدأ على جلد الكلمة بحيث ليس فقط لم نعد نرى عديد المعاني التي تنطوي عليها، وإنما بتنا مقتنعين بأنها لا تملك سوى هذا المعنى المبتذل المعروفة به". ففي نظر خليبنيكوف، وهنا أقتبس مقطعا طويلا من مقاله النظري عن الكلمة، "إن اللغة هي التي تحتاج إلى صوت، والابتكار اللفظي يزودها بهذا الوسيط الضروري... ذلك أن الابتكار اللفظي ما هو إلا انفجار صمت اللغة؛ انفجار شرائحها الصماء والبكماء. فما أن نضع، في كلمة قديمة، صوتا مكان صوت آخر، حتى نفتح مباشرة طريقا يؤدي من واد لغوي إلى واد آخر، و، كمهندسي الطرق والجسور، نشيّد طريق اتصال جديدة في وطن الكلمات عبر قمم صمت اللغة. اللغة الصلعاء تغطي براحا من البراعم. تنقسم الكلمة إلى كلمة صافية وكلمة مألوفة (عادية). يمكننا تصور أن يتم فيها اختفاء التفكير الكوكبي لليل، والتفكير الشمسي للنهار. وذلك لأن أي معنى مألوف للكلمة سيخفي كل معانيها الأخرى، مثلما يخفي النهار الأجسام المضيئة لليل ذي نجوم. لكن، الشمس في نظر الفلكي، هي مجرد ذرة غبار أخرى كأي نجم آخر. وأنه لأمر عادي وبسيط ومرده الصدفة المحض، إذا وجدنا أنفسنا جوار هذه الشمس المعطاة. وشمسنا لا تختلف عن أي كوكب آخر. فالكلمة المكتفية بذاتها، بانفصالها عن اللغة اليومية، تميّز نفسها عن الكلمة المستعملة في الحياة، مثلما يتميز بالضبط دوران الأرض حول الشمس، عن الفهم العادي القائل بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض. إن الكلمة المكتفيةَ بذاتِها تصرف النظر عن أوهام وضع عادي معطى، وتقيم، مكان الكذب الواضح، غسقاً من النجوم. وهكذا تعني، وفي آن، كلمة (ziry) نجما وعينا، وكلمة (zen) عينا وأرضا. لكن ما الذي يجمع بين العين والأرض؟ إذن، هذه الكلمة لا تعني العين البشرية ولا الأرض التي يسكنها البشر. وإنما شيئا ثالثا. وهذا الشيء الثالث قد غرق في معنى الكلمة الدارج الذي هو ليس سوى معنى من معان محتملة، لكنه الأقرب إلى الإنسان. وقد تعني كلمة (zen) أداة مرآتية تعكس سطحا. أو لنأخذ كلمتي (lad’ya) أي زورق، و(ladon) أي راحةُ يدٍ. إن المعنى الكوكبي لهذه الكلمة، الذي يظهر في بصيص الغسق هو: سطح متسع يستند عليه مسار قوةٍ، كالرمح الذي يضرب الدرع. بحيث يسمح ليل التجربة العادية، رؤية المعاني الضعيفة للكلمات، معان تشبه تخيلات الليل الضعيفة. يمكننا القول أن اللغة العادية هي ظل القوانين الكبرى للكلمة الصافية، ساقطا على سطح غير متساو."
يا له من تشبيه خارق. فبالفعل في نهار مشرق عندما ننظر إلى السماء لا نرى الأجسام الضوئية والنجوم التي نراها مضيئة في ليل مشرق، مع العلم هي موجودة، لكن ضوء النهار هو الذي يحجبها. وهذا عين ما يفعل الاستعمال العام للكلمة، إذ يحجب المعاني الأخرى وراء المعنى الشائع والاستعمال السيئ للكلمات.
أما من ناحية ترجمة النصوص، فكالعادة، راجعت كل الترجمات المتوفرة بالانجليزية والفرنسية، مع الرجوع الى النص الروسي الأصلي. وكما قلت سابقا، بأن بعض الترجمات، تنقل الإيقاع الوزني على حساب الصور، وأشعار خليبنيكوف التي ترجمها الى الانجليزية، بول شميدت تعتبر من أفضل الترجمات، لكن لا يمكن الاعتماد عليها في ترجمتها الى العربية، مثلا، لأن شميدت حاول في اغلب القصائد أن يخلق، من الفكرة التي ينطوي عليها البيت، مقابلا إيقاعيا يتناسب وواقع اللغة الانجليزية، محافظا في أغلب الأحيان على قافية انجليزية ابتكرها. ويكفي مقارنتها مع الترجمة الفرنسية التي قام بها جان كلود لان، لكي نرى الاختلافات. لذا يجب الرجوع الى النص الأصلي لمعرفة تتبع البيت حرفيا، والصورة المرادة، ثم نقله الى العربية مع الاحتفاظ بإيقاع وومعنى دقيق. المعاناة ذاتها التي عشتها مع فيدنسكي، انقر هنا واقرأ ما أعنيه في نهاية المقدمة.
روسيا وأنا
أعطت روسيا الحريّة لآلاف الآلاف
وهو أمرٌ رائعٌ، لن ينساه أحدٌ أبداً.
أما أنا فخلعتُ ثوبي،
وإذا من كلِّ ناطحة سحابٍ لامعةٍ من جدائل شَعري،
ومن كل مَسامٍ في مدينة جسدي،
تدلّت سجاجيدٌ وأقمشةٌ ملوّنةٌ
وهرعَ كلُّ مواطني دولة "أناي"
رجالا ونساء
إلى نوافذ خصلات شَعري الألف
لم يأمرهم أحدٌ بهذا
إذ كانوا مبتهجين بالشمس
ومحدقين من خلال مَسام جلدي.
لقد سقط سجن ثوبي!
كنت قد أعطيت الشمسَ لشعبِ "أناي"
بمجرّد خلع ثوبي!
عارياً وقفتُ عند ساحل البحر.
هكذا مَنحتُ الحُريّة للشُّعوب
وللجَماهيرِ لفحةَ الشّمسِ وحُمرتَها.
قصيدة
اليوم، سأذهب مرّة أخرى
إلى الحياة، إلى البيع والشِراء
قائداً فيلقاً من الأغاني
لمجابهة مدِّ السوق.
قصيدة
أشياء من الكيس
تناثَرت على الأرض.
لا أظنُّ العالمَ
إلا تكشيرةً
تومض -
على فم الميّت بالإعدام.
قصيدة
عندما تموت الخيول – تتنفَس
عندما يموت العشب - يذوى
عندما تموت الشموس – تنطفئ
عندما يموت الناس – يبدؤون بالغناء.
ليلة في بلاد فارس
ساحل البحر.
سماء. نجوم. مضطجعٌ أنا رخيُّ البال.
وسادتي لا من ريشٍ ولا من حَجَر
بل جزمة بحّارٍ مثقوبة
قد لبسها سامردوف، في الأيام الحمر،
حين قام بانتفاضة في البحر
وسار بسفينة البيض إلى كرازنوفودسك،
داخل المياه الحمراء.
الليلُ يرخي سدوله... أدْجَى.
"يا رفيقاً، أنجدني"!
فارسيٌّ داكنٌ، كان ينادي
رافعاً حزمةَ حطبٍ من الأرض.
شددتُ حِزامَه
وساعدتُه على وضع الحمل على كتفيه
"ساوُل" (أو "شكرا"، كما نقول).
ثم اختفى في الظلمة
وفي الظلمة، هَمستُ
اسم المهدي.
المهدي؟
طار خُنفُسٌ من خضمِّ
البحر الأسود الصاخب،
متجهاً نحوي.
دار حول رأسي مرتين
طوى جَناحَيه وحطّ في شَعري.
بقيَ صامتاً.
وفجأةً، صَرّ.
ونَطقَ بوضوحٍ كلمةً مألوفةً
وبلغةٍ يعرفها كلانا
برقّةٍ وحزمٍ نطقها.
ذلك يَكفي! وفهمَ واحدنا الآخر!
ميثاقُ الليلِ الداكنُ
تم توقيعُه بصَرير الخُنفُس.
رَفعَ جَناحَيه كشراعين
ثم طار.
مَسحَ البحرُ الصريرَ وأثرَ القبلةِ على الرمل.
نعم! جرى هذا.
وبالضبط كما وصفتُه.
قصيدة
سآتي عندكِ، في بلاد التبِت.
سأجد هناك منزلا صغيرا
له سقف مغطّى بالسماء
وجدران مُسيّجة بالرّياح
ونباتٌ يحدّق في السقف
والأزهار خضراء على الأرض.
سترتاح عظامي فيه.
المطرقة
ضرباتُ مطرقةٍ
على ضريحِ البحر
على رُبى الحوريّات
على عمود الأحجار الفقريّ
على الأصابع والأيدي البرنزيّة
على فُوَّهات الحجر
على ظهرِ فيضانٍ جفَّ
حيث كانت الحوريات تلعب الغُمّيضة
حيث، من آلهات جامدات، كانت تهبُّ عواصفٌ ثلجيّة.
ضرباتُ مطرقةٍ
على جلدِ بحرٍ من حجر
على نباتِ الفوْقَس ومقاعدٍ من سمك مُجفَّف
على زوابع بيضاء من حوريّات متحجّراتٍ
ذوات شَعرٍ متهدّلٍ، في الريح، على الصخور
شَعرٍ مشعّثٍ وكثيرِ الأحلام
لهن فم شبيه بأوراق الأشجار
وشَعرهُنّ الباكي كان يتهدل على أكتافِهن،
ويحلّق فوق البحر المتلاطم.
سيكبر إلهُ البشَر
وستصرخ القرى المضطربة عند كلِّ دقّة أجراس.
ضرباتُ مطرقةٍ
على شلال منخري الحوت
على شفاهِ الحوريّات
على أصابعِ الأيدي السوداء
على عيونِ البحر الحديدي الوسيعة
وسيلِ الأمواج الحديدية البِكر
على الأصابعِ الهشّةِ، على أزهارٍ في الأيدي
على بحرِ عيونِ النوابغ البحريين
ذوي الرموشِ الطويلة والقاسية.
خارج مناجم الجبال
العمل المولّد،
خصره مطوّق بسمكة كبيرة
طائرةً من موت المياه الغامض.
موت أسود يتلوى ساقطاً من عارضةِ الصارية
ككتلةِ حوريّاتٍ داكنة
كقبيلةٍ بحريّة من عرائسِ البحر.
ضرباتُ مطرقةٍ
على السيول البحريّة أطفال الموت
على موتِ البحر
على رقائقِ بحرٍ جافٍّ.
الحوريّات ذوات البَشَرة السمراء يستولين
على سفينة ثقيلة
زحلقت عليها قُبلاتُ المطرقة،
شفاهَها الغليظة.
فانسحقت الشفاه الناشفة
انسحقت أغاني البحار المجفّفة
حيث كانت الحيتان فوق الموج
تطلق عاليا إلى السماء نفثات ماء خفيفة
شراب الإنذارات المرّ
وجرّة العمل بالخِفْية
التي يتقطّر منها دمع أسود
يسّاقط على المئزر
ويَدْرَجُ على الأقدام.
ومثل يدٍ داكنةٍ سابحة في نار
ظهرِ الهاوية،
طارت المطرقة كمطرقة قاسية
من صدغ هذه الأجساد السوداء، الأسمر
ملامسةً المِدقّة الثقيلة،
فوق سندانِ جسدِ الحوريّات
فوق أمواجِ سيلٍ بحريّ
وكانت تُحطّمُ عيونَ وأياديَ
نوابغ الحجر الهشّين
حتى ينمو الابن الحديدي
كما، في الحقل، نمى القمح.
عملٌ صعِبٌ هو عملُ معدِنِ الرخام
محنةٌ قاسيةٌ لونُها لونُ الدم وحِدّة الشغف.
الطفرة البطيئة، من أغصان حديدية
إلى عامود حديدي
إلى طفل رقيق وعاص
إلى عفريت صغير خبيث
ذي شَعرٍ حديدي مُعانِد
وسرّةٍ سوداءَ على بطن داكنة.
المقبض في فراشه المجبول من حديد مصبوب
يتحوّل صبيّاً وقحاً له عينان رصينتان
كان يعيشُ على سريرِ النارِ الصهباء.
كانت بطنُ الصبي داكنةً
على سريرٍ من رمادٍ وظل.
هكذا نما، ليس هو ولا هي
وإنّما "هذا"
في عُشِ أحلامِ المقبض الحديدي
في الشراشف والغطاء الحديدي
بعينين حديديتين واسعتين
بفم من حديدٍ مخزوم.
كُتّاب كلّ العصور
نحن كتّاب السكّين
نحن مفكّرو البطن الضخمة
علماءُ الخبزِ الأسود
والعَرقِ والسُّخام
قساوسةُ الضحكة الكبيرة
نحن تجّارُ العيون السوداء السماويّة
مبذّرو ذهب أوراق الخريف
أغنياء قطع الذهب النقدية التي على الأشجار
المتيّمون بِصَرّ كمنجةِ ألَمِ الأسنان
شغوفون بألَم الظهر
شغوفون بالزّكام
نحن تُجّار الضحك
مُغّنو الجوع
نَهمو السنة الماضيّة
سكارى السهرة
عشّاقُ أنبوبِ تصريف المياه
حكماءُ قشور الخبز
رسّامو السُّخام
محاسبو الغربان والزيغان
أثرياءُ الفجر الفاحشون -
جميعنا نحن اليوم قياصرة!
مولعون بالمَعِدة
نبيُّو سراويل النساء التحتانية الوسخة
عمّال ولائم الشتاء -
أبناءُ الله.
مرّة أخرى، وأخرى
مرّة أخرى، وأخرى
أنا نجمتُكم الهادية
ويل لبحّار
أخطأ في قياسِ المسافة
بين مركبِه والنجمة
وإلا سوف يتهشّم على الصخور
في المهاوي البحرية
ويل لكم انتم أيضا إن أخطأتم في قياس المسافة
بين قلوبكم وقلبي
وإلا سوف تتهشّمون على الصخور البحرية
وتسخرُ منكم
مثلما سخرتم مني.
رفض
أؤثر أنْ أنظرَ إلى النجوم
على أن أوقّع حكمَ إعدامِ سجين
أؤثر وأنا أتنزّه في الحديقة،
أنْ أسمعَ الأزهار
تهمسُ: "هذا هو..."
على أن أرى مسلّحاً
يقتل شخصاً
كان يُريدُ أنِ يطلقَ النارَ عليَّ.
لذا، لن أكون
أبداً حاكماً.
قصيدة
الذنْبُ ذنبُك، أيّها الرب
إنك خلقتنا فانين.
إلا أننا، بالمقابل، سنسدد صوبك
سهمَنا المسمَّمَ بالحزن.
فالقوسُ قوسُنا.
من أنتِ
من أنتِ، يا موسكو!
الساحرةُ أم المسحورة؟
أتصوغين الحريّة
أم قيَّدوك؟
أيّةُ فكرة تقطّب جبينَـك
بالتآمر العالمي؟
لعلكِ نافذةٌ تضيءُ
أزمنةً أخرى
أو لعلكِ القطّةُ المسكينة
التي قرّرَ العِلْمُ صلبَها
تحت مآبرٍ حادةٍ لعُلماءٍ
مشدوهين وسطَ تلاميذهم
حول كتاب قديم
على طاولة المختبر.
يا ابنةَ قرنٍ آخر
يا برميلَ البارود -
كَسْرُ قيودك.
النزر
لا أحتاج إلى أشياء كثيرة!
قطعة خبز،
قطرة حليب،
نعم، هذي السماء!
وتلك الغيوم!
السنين
السنين، الشعوب والأمَمُ
تفرّ دوماً
فرار الماء الحيّ.
في المرآة التي تبسطها الطبيعة،
شِباكٌ هو النجم، والصَّيْد نحن.
وفي الظل، أشباحٌ هي الآلهةُ.
الأعداد
ها أنا أبصرُ فيك أيّتها الأعداد
تبدين لابسة جلودَ الحيوان
يدٌ متكئة على بلوط مُستأصَل
مانحةً هدية الوَحْدَة
بين تفعْوِّن ظهرِ الكون ورقصة الميزان القديم
سامحةً لي اعتبار العصور
كأسنانِ ضحكةٍ خاطفة.
والآن عينيّ تتفتّح ضاربةً بالغيب
لإدراك كيف
ستكون أناي
ومقسومُها هو الوَحْدَة.
ايلاف
2011 السبت 3 سبتمبر