ترجمة: جمانة حداد
يقول لها: "لكِ جسد سريرٍ يطير في أرجاء العالم".
ويقول: "يدي تمتلئ بكِ لكي أكتبك". هو من التشيلي، ولد عام 1917، شعره يعبق شهوة وحسية وشغفا. نال العام الماضي جائزة ثرفانتس الأدبية، وهي أعلى تكريم في اللغة الاسبانية. ايروتيكي حتى الصميم، غاص في تيمات الحب والجنس واللذة، وفي الموت الذي لا ينفصل عنها. كان مقرّبا من سلفادور الليندي، الذي عيّنه مستشارا ثقافيا في الصين وكوبا، وبعد انقلاب بينوشيه اتُهم بأنه "خطر على الأمن القومي" وصار لاجئا سياسيا. آنذاك عاش في ألمانيا ثم في فنزويلا والولايات المتحدة والمكسيك، التي منحته جائزة اوكتافيو باث للشعر.
أحبّ غونزالو روخاس هيلدا حتى الجنون. كتب "بؤس الإنسان" و"ضد الموت" و"عتمة" و"من البرق" و"نهر عكر". هو صبور متمهل في الكتابة والنشر، قصائده مغروزة في التقليد الغنائي الخاص بأميركا اللاتينية، وتظهر نزعة وجودية وفلسفية هي الوجه الآخر من حسّيته، وتبيّن انتماءاته العميقة والغريزية وشبه اللاواعية إلى أرضه. فجّ على شفافية، خفر لكنه ذو طاقة صوتية عالية، يلعب مع الإيقاعات، وكل قصيدة من قصائده حجّ سوريالي ورحلة مقلقة إلى جذور السؤال.
يقول غونزالو لحبيبته هيلدا: "سأعضّك حتى شقائق النعمان الأخيرة"، وأيضا: "كلمة لذة تركض حرّة على جسمك".
يقول: "أنا التنين أكاد أختنق، والاختناق هو الحبّ".
ج.ح.
***
عتمة جميلة
هذه الليلة لمستكِ وأحسست بكِ
من دون أن تهرب يدي أبعد من يدي،
من دون أن يهرب جسدي، ولا سمعي:
أحسستُ بكِ
كما لو كنتِ هنا.
خافقةً
كدماء أو كغيمة شريدة
في أنحاء بيتي، عتمةً صاعدة،
عتمة نازلة،
على رؤوس أصابعك
كنت تركضين وتبرقين.
ركضتِ في أنحاء بيتي الخشبي،
شرّعت نوافذه
وأحسستُ بك تنبضين الليل كلّه
يا ابنة الهاويات،
صامتةً، مشاكسة،
مرعبة مرعبة، جميلة جميلة
حدّ أن كل ما هو موجود بالنسبة لي
من دون شعلتكِ
ما كان ليكون موجوداً.
***
لغز المشتهية
امرأة غير كاملة
تبحث عن رجل غير كامل
في الثانية والثلاثين،
تشترط منه قراءات لأوفيد،
وتقدّم:
أ - نهدين يمامتين
ب - كلّ بشرتها الناعمة للقُبَل
ت - نظرةً خضراء تتحدّى صروف الدهر؛
هي لا تذهب إلى البيوت،
ليس عندها هاتف
وتتمغنط بالفكر.
ليست ينوس...
ولكن لها نهم ينوس.
***
حروف من أجل هيلدا
تلك التي تنام هنا، المقدّسة،
التي تقبّلني وتحزرني،
الرقراقة، المترجرجة،
المجنونة حبّا،
القيثارة العالية:
أنتِ،
ولا أحد
سواكِ
يا ليّنةً
يا شاهقة
في الهواء الشاهق
لزيت الجنس الأصلي:
أنتِ
التي تنسجينني
في سرعة الأرض العمياء،
أنتِ،
وأناقة حضوركِ
الطبيعي
الهارب الشديد القرب مني،
أنتِ، يا منحدري الماسيّ،
وروعة أنّك لي،
أنتِ،
يدان عشقتهما،
قدمان حافيتان
قبّلتهما
وقبّلت إيقاعهما العاجيّ،
أنتِ
يا بركانا وبتلات
وشعلة،
أنتِ
يا لغة الحبّ الحيّة.
***
بورتريه امرأة
سيكون هناك دائما ليل، يا امرأة،
لكي أنظرك وجها لوجه،
وحيدة في مرآتك، حرّة من زوجك، عارية
عري الواقع الدقيق والرهيب
للدوار الكبير الذي يدمّرك.
وسيكون لكِ دائما عتمتك وسكّينك
وهاتفكِ النزق
لكي تصغي إلى وداعي من فتحة وحيدة.
أقسمتُ ألا أكتب إليكِ: لهذا أناديك الآن في الهواء
لئلا أقول لك شيئا، مثلما يقول الفراغ: لا شيء، لا شيء،
سوى الشيء نفسه ودائما هو نفسه،
ذلك الذي لا تسمعينه أبدا، الذي لا تفهمينه أبدا،
رغم أن عروقك كلّها تشتعل به.
ارتدي الفستان الأحمر الذي يتلاءم مع ثغرك ودمائك
واحرقيني في السيكارة الأخيرة
لخوفك من الحب الكبير
ثم اذهبي حافيةً في الهواء الذي جئت منه
بجرح جمالك الظاهر،
بحسرة من تبكي وتبكي في العاصفة.
لا تموتيني: سأرسم وجهك على البرق
مثلما هو: عينان تريان المرئي واللامرئي
أنفٌ رئيس ملائكة، وفمٌ متوحّش،
وابتسامة تغفر لي،
وشيء ما مقدس، لا سنّ له، يرفرف على جبينك
ويهزّني يا امرأة، لأن وجهك وجه الروح.
تجيئين وترحلين، تعبدين البحر الذي يخطفك بزبده،
ثم تجلسين كأنْ جامدة، تسمعينني أناديك من هاوية الليل،
وتقبّلينني مثلما قد تقبّلين موجة.
لغزاً كنت، ولغزا ستكونين
لكنك لن تحلّقي معي
فهنا، يا امرأة،
سوف أترك لك وجهك.
***
إلى الصمت
آه أيها الصوت، يا صوتا فريدا: كلّ تجاويف البحر
كلّ تجاويف البحر لا تكفي
كل تجاويف السماء
كل هاويات الجمال
لا تكفي لتحتويك،
ورغم أن الإنسان سيسكت
وسينهار هذا العالم،
فأنتَ لن تكف يوما عن الوجود في كل مكان،
لأن الوقت لك والكائن، يا صوتا أوحد،
لأنك هنا ولست هنا،
لأنك إلهي تقريبا،
ولأنك تقريبا والدي عندما أكون أشدّ عتمة.
" النهار "
العدد 688
الأحد 15 أيار 2005