أوزدمير إينجه

ترجمة : جمانة حداد

أوزدمير إينجهيعجز أوزدمير إينجه عن النوم في فنلندا وأسوج: هذا أوّل ما بادرني به عندما سألتُهُ عن يومياته. شأن الفلاحين، يستيقظ مع طلوع الشمس، قال، وللشمس في بلاد الشمال مزاجٌ نزق لا يُحتمَل. لكنّه لا يحزن كثيرا لأجل ذلك، لأنه كائن ليليّ لا تغريه المنامات البيضاء. منذ ولادته عام 1936 في مرسين- إبنة خال بيروت التركية، بحسب وصفه -  وهو يتوهّم أنه خالد. لكنّ مترجم رامبو وريتسوس وكفافي اكتشف الحقيقة منذ عامين، عندما شرع يعتني ببستانٍ صغير في محاذاة بيته، فارتاح وتنفّس الصعداء، لأنه بات في وسعه، وإن متأخرا، أن يحبّ الحياة.  
يعيش هذا “القروي المتوسطي”، الذي يحبّ كلّ أنواع البوظة والنبيذ الأحمر، خمسة أشهر في اسطنبول وسبعةً وراء نافذة منزلٍ عند حافة جبلٍ مطلّ على البحر: منزلٌ يحلو له غالبا أن يتأمّله من أسفل وهو يسبح بين الموج. أوزدمير الذي أصدر مئات الكتب بين شعر ومحاولة وترجمات، كثير السفر عاشقه، ويخجل لأنه لم ير بيروت حتى الآن. متزوج بالمرأة نفسها منذ عام 1961، كتب يخبرني أيضا، فقرأتُ وراء المعلومة تنهيدةً لم أعرف هل هي من لوعة أم من اعتزاز.
يحب أوزدمير تركيا. يحبّ تلك التي تعانقها البحار بجشع، واسفلتها حارّ تحت قدميه الحافيتين، ومذاقها من حامض ونعناع، وقشور أسماكها وأحزانها تعلق في لحيته البيضاء.
يحبّها لأن جبالها قطيع من أيائل.  
يحبّها لأنها مثله، جسدها اعتاد النزيف.         
ج.ح.

أعرف أسراركِ كلّها غيباً
مثلما تعرف وردة الريح أسرار النسمة.
 
أعرف اسمكِ: إسم الخبز، اسم العطش والجوع،
وأعرفه الدوار الذي ينضج قممكِ
ويكثّف عري جسدك.
 
ذراعاكِ الطويلتان، الشاهدتان على الطوفان الكبير،
أعرفهما،
ومثلهما وحشة الأرض بين فخذيكِ،
ووحشة الولادة والموت.
 
أعرف أنّكِ ترقدين مثل قصّة مؤلمة
في الثنايا الملحمية للعصور الذهبية،
بين الحصى الساخنة والرمال الملتهبة،
وأنّ جلستكِ هي حقيقة العصيان.
 
حياتكِ مرجٌ يتّسع،
أعرف،
وكلّ ليلة تنزلين على العتمة
لتغطّيها بشفافية ستارةٍ من تول.
 
يا امرأة متكئة على شاطئ البحر،
يا محبوبتي البعيدة،
وجّهي أنظاركِ صوبي كي أنتِ تعرفي
كيف تشرق الشمس
على منصّة الإعدام.

***

في حياتي حيواتٌ أخرى:
الفجر المقموع
بقعٌ من شمس
وجمعٌ من القديسين نفد صبرهم.
 
حيواتٌ أخرى في حياتي:
مرارة الأرض والمياه العفنة،
أصابع مكسورة وأعشابٌ يتيمة،
ومياه البحر ممتزجةً بالدم.
 
أينما أنظر أشهد دمار النار
وأبوابا موسومة: “حذار، وباء!”
أينما أنظر ظلّ نعش على مدخل المنزل،
والبحر ذارفاً دموعا ناشفة...
 
في حيواتي حيواتٌ أخرى،
أعني كسرةً من كل حياة.
أوراق مبعثرة حياتي، مرمية في الريح:
كم من المرات في اليوم أحيا في نشرات الأخبار
وتشرب جذوري حبر المطابع!
 
حيواتٌ أخرى في حياتي،
وعلى رأس لساني
طعم الموت المالح.

***

تعالَي
نضمّ وحدتينا
لنرى مجموع ذلك:
أتكون حياةً غير قابلة للكسر
أم بئرا للثلوج؟
 
تعالَي
نطرح وحدتينا الواحدة من الأخرى
لنرى ما سوف يبقى:
أحريقُ غابة أم طوفان،
أبحارٌ سبعة
أم مياه متعطّشة الى الدماء؟

***

مستيقظاً ساعة تسلّم كلّ واحدٍ حصّته
أغمسُ خبزي في أحلامي.
مستيقظاً ساعة توزيع الحصص
ألمسُ جبيني واحترقُ في حمّاي.
مستيقظاً ساعة توزيع الحصص
أحرّك الهواء وأمتزج بالمياه والتراب.
مستيقظاً ساعة توزيع الحصص
أكتشف سرّ الملح حين ألحس الدمعة.
مستيقظاً ساعة توزيع الحصص
أقفز فوق السياج وألغي الحدود.
مستيقظاً ساعة إعطاء كلّ واحد حصّته
أفتدي الضحية الأخيرة
بروح الجلاد.

***

البنّاؤون يغنّون وهم يعملون
لكنّ أصواتهم لا تترك أصداء على الجدران.
هم لا يعرفون كيف ستُستخدم
الغرف التي يبنونها.
 
إنها العاشرة صباحا. شيئاً فشيئاً
ترتدي الشمس ثوب الحصان الخشبي في مدينة الملاهي.
أدير ظهري صوب البحر
وأنزع قشور السمك عن وجهي الملتحي.
أنا أيضا أتعلم شيئا
من فرط النظر الى حيطان البنائين الحجرية
وعفرة البحر الصموتة.
اجل، أتعلم أمورا كثيرة بدوري:
 
أنّ الإنسان ليس مخلوقاً من مياه وتراب فقط،
وأن هناك شيوخاً يراقبوننا
في عيون أطفالنا.

***

تلتقط حصاةً وترميها في البحر،
يا لها حركة سخيفة:
سيبتلعها البحر وفقا لقانون الجاذبية
وسوف تظل في القاع طالما أنك لن تذهب لاستعادتها.
وحتى إذا ذهبتَ
فسوف تعجز عن إيجاد مكانها.
لماذا تكتب الشعر إذا؟
لماذا تكتب أي شيء
إذا كنت عاجزاً عن استرجاع تلك الحصاة
واستخدامها لبناء بيت؟

***

أقول: جبال تركيا،
قطّاع الطرق الكبيرة، قطيع الأيائل.
أقول جبالها، وأتأمل غروب الخريف.
 
أقول: سهول تركيا،
أحلامٌ مندثرة، مجرّاتٌ، دروبٌ في سماء.
سهولها أقول، وأتنشّق طلوع النهار.
 
أقول: بحيرات تركيا المرّة،
شوارع مدينةٍ ضخمة من فياف،
وأفكّر في موت المياه.
 
أقول: أنهار تركيا،
الرابع والعشرون من شهر آذار،
الساعة الخامسة من حافة الفجر،
وأتذكّر المياه التي تغلي وتهمس في الإبريق.
 
أقول: البحار التي تعانق تركيا،
مرمرة المتنكّر كثور،
إيجه كاتب الرسائل،
والمتوسّط، دفيئة الربيع الخالدة.
 
أقول: سموات تركيا،
فتصبح الوردة قرنفلة، والقرنفلة تتحوّل تفاحة،
وتعشّش العصافير في خصل شعري.
 
أقول: نساء تركيا،
فأراهن على جدران غرفتي البيضاء
وفي جسدي الذي اعتاد النزيف.
 
أقول: رجال تركيا،
وأشعر بحزنهم القاسي كبئر الثلج،
وبأجسادهم التي اعتادت النزيف.
 
أقول: أطفال تركيا،
أفواههم ذات الأنفاس البرتقالية، حيطانهم المبلولة بالدمع؛
وأفكّر أنهم سيصيرون كباراً، أي جنودا وأمّهات.
 
تركيا! أمّاه، أناديكِ،
فأتذكّر زمن الكرز اللذيذ
وصمتكِ ودروبكِ الغبارية وأشجار حوركِ الشاحبة.
 
تركيا! أبتاه، أقول لنفسي،
فأتذكّر يدكِ المقطوعة، ركبتكِ المشوّهة، كتفكِ النازفة،
وصوتك المدوّي في الساحات والجادات.
 
تركيا، أهمس، يا حبيبتي ووحيدتي،
فتحلّق في قلبي العصافير بالآلاف
ومع آلاف الخطى
تمشي خطاي.