ترجمة: جمانة حدّاد
لم أكن أتوقّع مجيئه في تلك الساعة المبكرة. فهو اعتاد أن يزورني، أنا الكائن غير الصباحي، في الوقت الذي نصير فيه نحن الإثنين صالحين للحياة، أي لحظة تصبح العتمة على مرمى حجرٍ من القلب. كان يحمل لي المساء تحت إبطه كلّ مساء، وينزلان عليّ معا. لا يقرع الباب، بل يحني جبينه على خشب السنديان فتنفتح له العتبة من تلقائها. يدخل من دون أن يحييني (هو يعرف أنه لم يغادر أصلا) ويروح يتلو لي قصيدة لسوبرفيال ترجمها، أو ثانية لرامبو كتبته، أو أخرى أحبّها لهنري ميشو، عشيقي المؤجّل الى الأمس. ثم يحدّثني عن الرومانية التي ولد منها والألمانية التي ولد لها والفرنسية التي ولدت فيه، وعن أميره الصغير فرنسوا الذي يمشّط له شعره رغم غيابه، وعن ظلّ جرحه المعلّق في الهواء أو عن يد الأعمى التي اجتازت كل الأسماء لتستقرّ عليه. لكنّه في ذلك اليوم النيساني من عام 1970 دخل من دون أن يقول شيئا. دخل كأنّه يخرج. كان النهار بعدُ في أوّله، ففهمت.
عندما وجدوا جثته التي لم تكن قد عبرت الخمسين شتاءً، طافية على نهر السين في وقت لاحق من اليوم نفسه، لم أقل لهم إنه لم ينتحر. هو كان يريدهم أن يصدّقوا، فأخفيتُ أنه لم يزل عندي، ملقياً رأسه على الباب الخشب إيّاه، أسقيه حليب الليل الأسود وينسج ذهب نجومه كالعنكبوت على سقف روحي.
في ينبوع عينيكِ
تعيش شباك صيّادي البحر الهاذي.
في ينبوع عينيكِ يفي البحر بوعوده.
أرمي فيه،
أنا القلب الذي أقام بين البشر،
الثياب التي كنتُ أرتديها وبريق عهدٍ:
أزداد سواداً في عمق السواد فأزداد عرياً.
لا أغدو مخلصا إلا عندما أصير مارقاً.
أكونكِ، عندما أكون نفسي.
في ينبوع عينيكِ
أهيم وأحلم بالنهب.
شبكةٌ علقت بين خرومها شبكة:
هكذا نفترق متعانقين.
في ينبوع عينيكِ
مشنوقٌ يخنق الحبل.
***
يدكِ ملأى بالساعات. هكذا جئتِ إليّ، فقلت:
شَعركِ ليس بنيّاً.
آنذاك رفعتِه ووضعتِه خفيفا على ميزان الألم: كان أثقل منّي...
يأتون إليكِ على متن سفن ويحمّلونه، شَعركِ، ثم يبيعونه في أسواق اللذة.
تبتسمين نحوي من الأعماق، أبكي نحوك من كفّة الميزان التي لا تنفكّ تظلّ خفيفة.
أبكي: شعركِ ليس بنيّاً. يمنح مياه البحر، وأنت تمنحينه التجعدات...
تهمسين: هم يملأون العالم كلّه بي وحدي، لكنّي لم أزل دربا ضيّقة في قلبك!
تقولين: إحمل معك أوراق السنين. لقد حان الوقت لكي تأتي وتقبّلني!
أوراق السنين بنيّة، أما شعركِ فلا.
***
لا تبحثي عن ثغركِ على شفتيّ
ولا عن الغريب أمام البوابة
ولا عن الدمعة في العين.
بعد سبع ليال تذهب الحمرة الى الحمرة
بعد سبعة قلوب تقرع اليد الباب
وبعد سبع ورود ينبجس النبع.
***
لتكن عينكِ في الغرفة شمعة،
نظرتكِ الفتيل،
ولأكنْ أعمى بما يكفي لأشعله.
لا.
ليكن شيء آخر.
تقدّمي أمام بيتكِ
أسرجي حلمكِ الثرثار
ودعي حافره يتكلّم
مع الثلج الذي سرقتِهِ من سقف روحي .
النهار الثقافي
الاثنين 3 أيار 2004