شيسواف ميلوش

ترجمة: جمانة حداد

شيسواف ميلوشليس لأنه توفيّ منذ بضعة أيام أكتبُ عنه،
ليس لأنه أحد أعظم شعراء القرن العشرين أكتبُ عنه،
ليس لأنه حائز جائزة نوبل للآداب عام 1980 أكتبُ عنه،
ليس لأنه أعطى 93 عاما للشعر والأدب ولبولونيا والعالم أكتبُ عنه،
ليس لأنه عاش معاناة أرضه وشعبه حتى العظم أكتبُ عنه،
ليس لأنه لم يتخل لحظة واحدة عن مبادئه واقتناعاته وأخلاقه وضميره أكتبُ عنه،
ليس لأنه جميلٌ أكتبُ عنه،
ليس لأنه جميل وشاهق وغريق ونادر وحرّ ونبيل أكتبُ عنه،
ليس لأننا في حاجة إليه وإلى أمثاله وسط هذه الظلمة أكتبُ عنه،
ليس لأنه في حاجة الى أن نكتب عنه أكتبُ عنه،
ليس لأن الشعر يخلّص أكتبُ عنه،
ليس لأن الشعر يُـهلك كي يخلّص أكتبُ عنه،
ليس لأننا لا نستحق أكتبُ عنه،
ليس لأننا نستحقه وخسرناه أكتبُ عنه،
ليس لأنه أزعج وصدم وصفع واحتقر وحارب ورفض أكتبُ عنه،
ليس لأنه قال إنّ "الشاعر يتذكّر" أكتبُ عنه...

بل كي ربما إذا كتبتُ
إذا كتبنا
لا يفوت الأوان.

ج.ح.

******

كان ما قلتُـه قليلاً
ونهاراتي كانت قصيرة.
قصيرةً كانت النهارات
ومثلها الليالي
والأعوام.

قليلاً كان ما قلتُـه:
لم أستطع اللحاق بالآخرين.
فقد تعب قلبي
من فرط الفرح
واليأس
والحماسة
والأمل.

فكّا لوياثان
أطبقتا عليّ
فتمددتُ عاريا على شواطئ
جزرٍ خالية.
لكنّ حوت العالم الأبيض
سحبني الى جوفه
والآن عدتُ لا ادري
ما كان حقيقياً في ما عشته
وما أكذوبـة كان.

***

الحب يعني أن تتعلّم النظر الى ذاتكَ
مثلما ينظر المرء الى أشياء بعيدة،
أن تعرف أنكَ لست سوى واحدٍ
من بين كثر.
كل من يستطيع النظر بهذه الطريقة
سيداوي قلبه
بلا علمٍ منه
من أمراض لا تحصى.
العصفور والشجرة سيناديانه: "أيها الصديق".
وآنذاك سوف يود أن يستخدم نفسه وما حوله
على نحو يشـعّ نضجا.

ليس مهماً أن يعلم المرء أي شيء يخدم:
أفضل خادم هو ذاك الذي لا يفهم الأمور دائما.

***

كنا مسافرَيْن في عربةٍ عند الفجر
نعبر حقولا يكسوها الجليد
حين لمع جناحٌ أحمر في العتمة.
فجأة اجتاز أرنبٌ برّي الدرب،
فدلّ أحدنا عليه بإصبعه.
حصل ذلك منذ وقت طويل.
اليوم لم يبق أي منهما حيّا:
لا الأرنب البريّ، ولا الرجل الذي دلّ عليه.

آه يا حبيبتي، أين هي، أين تختفي
التماعة اليد وبريق الحركة وحفيف الحصى؟
لا حزناً أسأل
بل ذهولاً.

***

أردنا أن نعترف بأخطائنا ولكن لم يكن هناك سامعون:
الغيوم البيض رفضت استقبالنا،
الريح كانت منهمكة في زيارة بحرٍ وراء بحر،
ولم ننجح في إثارة اهتمام الحيوانات.
خابت آمال الكلاب التي كانت تتوقّع تلقي الأوامر،
أما الهرة، الوقحة على عادتها،
فقد غرقت أمامنا في النوم.

أردنا أن نعترف بأخطائنا ولم يكن هناك سامعون:
شخصٌ كنّا نتوهمه قريباً جدا منّا
لم يكترث للإصغاء الى أمور مضت.
أما الأحاديث مع الأصدقاء حول كأس فودكا
أو فنجان قهوة
فمن المستحسن ألا تطول بعد إشارة الملل الأولى.
وفكّرنا أنه سيكون من المهين أن ندفع بالساعة
لرجل حائز شهادة،
فقط لكي يستمع إلينا.

الكنائس؟ أجل، ربما الكنائس. ولكن لنعترف فيها بماذا؟
بأننا كنّا نظنّ أنفسنا أهل وسامة ونبلاء،
إلى أن وقف شخص تافه وبشع مكاننا يوماً،
وفتح جفنه الثقيل نصف فتحة،
فرأينا بوضوح وقلنا:
"هذا أنا".

***

أنتم الذين عجزتُ عن إنقاذكم
أصغوا إليّ.
حاولوا أن تفهوا هذا الكلام البسيط
لأنّ كل كلام آخر سيُخجلني.
أقسم أنّي لا أتلاعب بالكلمات:
أخاطبكم بصمت على غرار غيمة أو شجرة.

ما منحني القوة
هو ما قضى عليكم.
لقد مزجتم بين وداع عصرٍ وبداية عصر جديد
بين مبررات الحقد والجمال الغنائي
بين القوة العمياء والأشكال المتكاملة.

ها هنا وادي الأنهر البولونية الضحلة،
ها الجسر الضخم يبتلعه الضباب الأبيض،
ها مدينتكم المكسورة،
والريح تذرف صرخات النورس على قبوركم
فيما أكلّمكم.
ما هو الشعر الذي لا يخلّص
الأمم أو الشعوب؟
هو تواطوء مع الأكاذيب الرسمية
أغنية السكّيرين الذين سوف تقطع أعناقهم بعد لحظة
قراءاتٌ أمام فتيات الجامعة.
أنا تقتُ الى الشعر الجيد من حيث لا أدري
واكتشفتُ، متأخرا، غايته الإنقاذية:
في هذا وفي هذا فقط أجد خلاصي.

في ما مضى كانوا ينثرون البذور على المقابر
كي يطعموا الأموات الذين يجيئون متنكرين كعصافير.
أما أنا فأضع هذا الكتاب هنا من أجلكم
أيها الأحياء السابقون
الذين عجزتُ عن إنقاذهم
أضعه قوتاً أبدياً
كي لا تحتاجوا الى زيارتنا بعد الآن.

***

يوم ينتهي العالم
ستحوم النحلة حول أوراق النفل
وسيرتق الصياد شبكةً تومض.
سوف تقفز الدلافين السعيدة في البحر،
ستلعب عصافير الدوري الفتيّة قرب مزراب المياه
وجلد الحيّة سيكون ذهبيّا مثلما يجب دائما أن يظلّ.

يوم ينتهي العالم
ستتنزّه النساء عبر الحقول تحت مظلاتهنّ
سيغفو سكّير على حافة مرج
سيصرخ باعة الخضر في الشوارع
وسيزداد الزورق ذو الشراع الأصفر اقترابا من الجزيرة.
سيدوم صوت الكمان في الجوّ
كي يفضي بنا الى ليلة منجّمة.
وأولئك الذين كانوا يتوقّعون البروق والرعود
سيخيبون.
وأولئك الذين كانوا ينتظرون الإشارات وأبواق الملائكة
لن يصدقّوا ما يحصل.
فطالما الشمس والقمر فوق،
وطالما تزور النحلة الطنّانة الوردة،
وطالما يولد أطفال زهريّو البشرة،
لن يصدّق احد ما يحصل.
وحده رجل عجوز ذو شعر أشيب
سوف يصير نبيا
- لكنه ليس نبيا بعد بسبب كثرة مشاغله -
سيردّد بينما يحزم أغراس البندورة:
لقد فات الأوان
ولن تكون نهايةٌ للعالم سوى هذه
لن تكون نهايةٌ للعالم سوى هذه.

***