مارينا تسفيتاييفا
(لبنان)

ترجمة: جمانة حداد

مارينا تسفيتاييفا أنا مارينا إيفانوفا تسفيتاييفا. كائنةٌ من نار وعواصف وجموح وجنون. "المياه نفسها، ولا موجة تشبه موجة"، أقول. أبكي كثيرا وغزيرا وسريعا، في الوجع كما في اللذة. أنا الشاعرة الملعونة والعاشقة الملتهبة والأم الرقيقة، ولدتُ في موسكو عام 1892. والدتي ماريا كانت تفضّل شقيقتي أناستازيا. أرادتني أن اكرّس حياتي للموسيقى، فيما أنا عروس الشعر. كانت تسخر من كتاباتي وتمزّق أوراقي وتحرق قصائدي. ذهبتُ إلى باريس عندما بلغتُ السادسة عشرة، وهناك أصدرت ديواني الأول "ألبوم المساء". تزوجتُ في العشرين رجلا لا أشبهه ولا يشبهني، لا أعرفه ولا أريد أن يعرفني. ثم كان لي عشّاق، وكانت لي عشيقات. عرفتُ الجوع والفقر والوحدة واليأس، عرفتُ الحب وموت الذين أحبّ. ابنتي ايرينا قضت جوعا بين ذراعيّ عام 1920، وكانت لما تبلغ بعد الثالثة من العمر. حبيباي نيكولاي وستاخوفيتش، حبيبتاي صوفيا وسونيا، صديقاي ريلكه وماياكوفسكي، كلّهم غادروا قبلي. لم أحتمل الانتظار أكثر فشنقتُ نفسي عام 1941. اختبأتُ في الموت مثلما يخبئ الآخرون رؤوسهم تحت وسادة. الأوساط الثقافية تجاهلتني وازدرتني، كثرٌ لعنوا جرأتي وذاكرتي وأحلامي، لكنّ الجميع اليوم أكثر موتا مني. مستقلة ومتطرفة ومنفعلة، عشتُ في موسكو وباريس وبرلين وبراغ، وكتبتُ "الفانوس السحري" و"الأرق" و"قصيدة الجبل، قصيدة النهاية".
أنا مارينا إيفانوفا تسفيتاييفا. الليل نفسه، أقول، ولا عتمة تشبه عتمتي.

ج.ح.

***

مختارات (ترجمة جمانة حداد)

كم وقعوا في هذه الهاوية...

كم وقعوا في هذه الهاوية الفاغرة في البعيد؟
أنا أيضا بدوري سوف أختفي يوما من العالم،
بلا قافية، هذا أكيد،
وسيجمد كل ما كان فيّ يغنّي ويكافح ويلمع ويتوق،
ومثله أخضر عينيّ، وصوتي الحنون، وذهب شعري.
أما الحياة فستظلّ هنا، بخبزها وملحها ونسيان النهارات،
وسيكون كل شيء كما لو أني لم أكن يوما تحت السماء،
أنا التي تتغيّر ملامحي كطفلة، أنا الشريرة للحظة فحسب،
والتي أعشق ساعة يثور الحطب عندما يأخذه الرماد،
وأحبّ الفيولونسيل، والنزهات، والأجراس إذ تُقرع،
أنا الحيّة والحقيقية بإفراط فوق الأرض المداعبة!

أنتم جميعا، لا فرق، أنتم يا أعزائي وغربائي على السواء،
أطلب منكم ثقة راسخة، وأرجوكم ان تحبوني
نهارا وليلا، كتابة أو شفهيا،
من اجل كل "نعم" لاذعة أقولها ومن اجل كل "لا"،
من اجل أني حزينة عميقا وغالبا، وبالكاد بلغتُ العشرين،
من اجل غفراني اللامفرّ منه لإساءاتكم الماضية،
من أجل كل حناني الجامح وملامحي الأنوفة،
من اجل السرعة المجنونة للحظات الصاعقة، ومن أجل لعبي وصدقي،
اسمعوني،
ويجب أن تحبوني أيضا لأني سوف أموت.

***

أنا

ثمة من هو مصنوع من حجر، أو من طين،
أما أنا فأتفضّض وأبرق،
بالخيانات أشغلُ نفسي، اسمي مارينا،
وإنيَّ زبدُ البحر الهشّ.

ثمة من هو مصنوع من حجر، أو من لحم ودم:
من اجل هؤلاء، النعوش والأضرحة.
أما أنا التي تعمّدتُ في أعماق البحار،
فلا أنفكّ أحلّق و انكسر في تحليقي.

عبر القلوب، وعبر العقبات،
لا تلبث لذتي تشق طريقها.
هل ترون تلك الحلقات الجامحة؟
لستُ مكوّنة من ترسّبات ملحية أنا،
وإذ أنكسر على ركبكم الصوانيّة
أقوم من موتي مع كل موجة.
فليعش الزبد، الزبد الفرح،
زبد البحر الشاهق أنا.

***

من أين هذا الحنان؟

من أين هذا الحنان؟
ليست هذه الأمواج الأولى
التي ألقيها برقّة
على شفتين أخريين
تضاهيان شفتيك عتمةً.

مثلما تظهر النجوم
ثم تختفي
(من أين هذا الحنان؟)
كم من العيون ظهرت
ثم اختفت أمام عينيّ!

ما من أغنية في ظلمة
لياليّ الماضية،
(من أين هذا الحنان؟)
ما من أغنية سُمعت مثلما تُسمع هذه الآن،
طالعةً من عروق المغنّي.

من أين هذا الحنان؟
وماذا أفعل به، قل أيها المغنّي
العابر شابا ومحتالا.
للجميع رموش
بطول رموشكَ.

***

إلى بايرون

أفكّر في صباح عزّكَ،
في صباح حياتكَ،
عندما استيقظتَ شيطان نفسك
وإلهاً للآخرين.

أفكّر في حاجبيكَ
اللذين يطوّقان شعلة عينيك،
في حمم الدماء القديمة
التي تجري في عروقكَ.

أفكّر في أصابعك - الطويلة الطويلة -
في خصل شعركَ الأجعد
وفي النظرات التي تلتهمكَ
عبر الصالونات والأروقة.

أفكّر في تلك القلوب
التي لم يتسنّ لك وقت قراءتها شابا،
بينما كانت أقمار تنبجس
وتخمد على وقع أمجادكَ.

أفكّر في ذلك البهو المعتم،
في المخمل المنحني على الدانتيلا،
فيكَ تتلو عليّ قصائدك
بعد أن أتلو قصائدي عليك.

أفكّر أيضا في الغبار
الباقي من شفتيك وعينيك -
في جميع الذين يرقدون موتى...
فيهم، وفينا...

***

العينان

ضوءان أحمران - لا، مرآتان!
لا، عدوّتان!
فوّهتا بركان ملائكيتان
دائرتان سوداوان.

مفحّمتان - تدخّنان في المرايا
مثلجتان فوق الأرصفة
وداخل الصالات اللامتناهية -
دائرتان قطبيتان.

مرعبتان! نار وعتمة!
حفرتان مظلمتان.
لهذا يصرخ الأطفال المتأرقون
في المستشفيات: أمّاه!

خوف وعتاب، تنهيدة وصلاة...
لفتة نبيلة...
على الشراشف المتجمّدة -
مجدان أسودان.

إعرفوا إذاً أن الأنهار تعود،
وأن الحجار تتذكّر!
أنهما ما زالتا تشرقان
في الأشعة الفائقة الحدّ -

شمسان، فوهتان،
- لا، ماستان!
مرآتا اللجة السفلية هما:
عينا ميت.

ملحق "النهار" الثقافي

Joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com