باتريك دوبوست

ترجمة: جمانة حدّاد

جمانة حدّادعندما نهض الشاعر في تلك الليلة واعتلى خشبة المسرح وقرأ- صرخ- قصيدته هذه أمام الجمهور المبعثر في ساحة البلدة المتوسطية المسكونة بالشعر، أدرك الحاضرون أمورا كثيرة ما كانوا متنبّهين لها من قبل، وإن كانوا يعرفونها جيدا في قرارة أنفسهم. أدركت صديقتي الشقراء مثلا أنها تعيش معلّقةً بتوازن على سارية مركبٍ جانح كي لا تموت. وأدرك جاري الرسّام الوسيم أنه يروي آلاف الترّهات غير المؤذية كل يوم كي لا يموت. وأدركت جارتنا المغنية السمينة المتقدّمة في السنّ والتي لا تفارقها الابتسامة قطّ أنها تحلم بجنازة جميلة كي لا تموت.
أستاذ الرياضيات هذا، المولود عام 1957 في مدينة ليون الفرنسية، يكتب الشعر والمسرح. نصوصه متحرّكة ومهندسة بإتقان منطقي مذهل يفضح عقله الماتيماتيكي. باتريك دوبوست ينشر أحيانا بأسماء مستعارة، منها إسم "أرمان الشاعر"، ويعمل منذ وقت طويل على تجارب تجمع بين الكتابة والصوت، بين المقروء والمسموع، وهو من أبرز شعراء تيار ال erne في فرنسا اليوم.
نسيتُ أن أقول: عندما نهض شاعر الجمع والطرح والقسمة والضرب في تلك الليلة واعتلى خشبة المسرح الجنوبي وصوّب سهامه المحيية علينا، أدركتُ أمرا بدوري.
أدركتُ أني أجنّ- ولكن ليس كثيرا- كي لا أموت.

ج.ح.

***

نرى الى العالم سنة بعد سنة بمزيد من الرقّة
كي لا نموت

نسأل "كم الساعة" ونهرب من دون أن ننتظر الجواب
كي لا نموت

ندرز كلمة "حبّ" على بطانة السترة بخيوط رفيعة جدا
كي لا نموت

نراقب الأرض من كواليسها
نرسل قنينة (فارغة) في البحر
نمشّط شعرنا كل صباح
كي لا نموت

نتخلّص في شكل منهجي من الذكريات ونتمسّك بالحاضر حتى المستحيل. نكفّ عن التنفسّ، وحتى عن العيش
كي لا نموت

نرمي بأنفسنا في الموج ثم نصرخ "النجدة، غريق!"
كي لا نموت

نكسر مصابيح الشارع كي نمارس الحبّ في سلام، تحت ضوء عادل،
وكي لا نموت

نستيقظ كلّ يوم في كلّ لحظة
ننزع الساعات عن الجدران، نفكّك المنبّهات والأجراس
نغرز القلم في عينينا
ننوّم الساهرين ونوقظ النيام
ننسى. ننسى اكثر. لا نكفّ برهة عن النسيان
نعمل لا من أجل المال، ولا من أجل الشهرة
بل كي لا نموت

نجلس على ضفة نهر، تحت شجرة حور، مع عدّة الصيد. نمتنع عن الحركة، وحتى عن الصيد
كي لا نموت

نجمع، نضيف، نراكم: لوائح من أشياء، لوائح من كلمات، لوائح من كتب. كيلومترات وكيلومترات من الكتابة
كي لا نموت

نرمي المال من النافذة كي لا نموت، ثم نهرول السلالم نزولا الى الشارع كي نستعيد مالنا
وكي لا نموت

نعيش معلّقين بتوازن على سارية مركب جانح
نكلّم أنفسنا متربّعين في الحاضر
ننسج على مر الأعوام معطفا خارقا ضد الوحدة
نضمّن الصمت المكوّنات كلّها
نخيط طوال الحياة كفناً من ضوء، من فضاء وزمن
ننتظر الموت واثقين وقانعين، متبجحين وساخرين
كي لا نموت

نستلقي على حافة الكون مع كل الباقين، مع الأحياء والأموات وأولئك الذين لم يولدوا بعد
كي لا نموت

نتفرّج على أطفال يلعبون بصخب فوق أرجوحة طوال بعد الظهر
كي لا نموت

نعيد قراءة أنفسنا سنة 2007 وسنة 2070 وسنة 2700 وحتى آخر نقطة دم من شمسنا المتحوّلة عملاقةً حمراء
كي لا نموت

نبقي الآلهة مضائين فوق
نروي آلاف الترّهات غير المؤذية
نتوقّع الموت عند كل منعطف من منعطفات الحياة
نكتب نتوقّف عن الكتابة نواصل
نحلم بجنازة جميلة
ننتظر الباص في المحطة، واقفين بلا حراك
كي لا نموت

نؤوب الى البيت، نقفل الباب مرّتين، ننسلّ تحت الغطاء، نشعر بأضلعنا تسحقنا، نتقيأ من كل مسامنا، نبلع ألسنتنا ونبصق أعيننا ونفعل ما يُفعل وما لا يُفعل
كي لا نموت

نحدّق في صورة رجل نائم بالأبيض والأسود، متخيّلين ألوانها من داخل
كي لا نموت

نحاول ان نفهم عندما ليس هناك ما نفهمه ولا نحاول ان نفهم عندما يجب ان نفهم
كي لا نموت
نعتني بحديقة أخطائنا
نتخيّل حشد ذريتنا وحشد أسلافنا فنغمض أعيننا حتى الاختناق
نصفّق بصمت
نصنع باقات من ميتات صغيرة أكيدة جدا
نموت فعلا، في أحد صباحات المستقبل، من دون أن ننظر الى الوراء
نجمع الطوابع والقطع النقدية والبطاقات الهاتفية والتحف والتذكارات والقصص المضحكة واللحظات المؤثرة والشكوك والتمتمات واجتياحات الجراد الأفريقي
كي لا نموت

نقرأ بصوت عال ومن دون ان نلتقط أنفاسنا كما لو أن هناك مخرجاً أو ربما مفتاحاً أو ربما حلاً أو ربما عائقاً سنتجاوزه
كي لا نموت

نولد خمسين ألف مرّة في اليوم وندّخر أنفسنا كل يوم
كي لا نموت

في الصباح، عندما تمطر، نيأس من الجنس البشري
كي لا نموت

نعتاد الضوء منذ الطفولة
نصرخ لنصرخ ثم نصرخ أكثر حتى نتلف حنجرتنا
نتبع منطقا غير سليم
نقول للمرأة التي نحبّها أننا نقع في حبّها من جديد كل مئة مترٍ
نسعى الى أن نكون أكثر الرجال نسيانا على وجه الأرض
نعرف أن كلّ ما يقع يقع
كي لا نموت

نعطي الصمت مجموع جزيئات نجمةٍ نوترونيّة
كي لا نموت

نستهلك قدرا هائلا من الطاقة كي نحافظ على حرارتنا عند 37 درجة
وكي لا نموت

نحسب زاوية انحراف مجموع الدروب الممكنة
كي لا نموت

نلهو بالعابر كما لو أنه أداة موسيقية
نجنّ- ولكن ليس كثيرا
نركض أسرع من الشعر
ونتوّهم كلّ نهار أن هذا هو النهار المثالي
كي
لا
نموت.

النهار الثقافي
الأحد 22 آب 2004