منذ عنوان مجموعتها الشعرية الجديدة "لا وصف لما أنا فيه"، تبدو الشاعرة نجوم الغانم ذاهبة إلى خصوصيات الذات وتفاصيلها ويومياتها الحميمة والباردة في آن. تبدو ذاهبة لنبش يوميات المرأة في علاقتها مع الرجل ومع الأشياء اليومية منها والجوهرية، وفي رحلتها مع هذه العلاقات تتدثر الشاعرة/ امرأة القصيدة بقوتها وضعفها، بحبها وخساراتها، بذكرياتها وأحلامها وآلامها العميقة. وهي تدخل هذا العالم بلغة شفيفة وقاموس غني بمفردات وثنائيات الحياة/ الموت، اللقاء/ الفراق، البدايات/ النهايات.. كما أنه غني بمفردات كتاب الطبيعة والغناء والموسيقا وسواها.
في مجموعتها الخامسة هذه، والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والتي تقع في 171 صفحة، وقد رسمت الشاعرة نفسها غلافها، قسمت الشاعرة قصائدها إلى ست مجموعات كل منها تحت عنوان رئيسي وهي "في الهجرات وتلاويحها" و"مرادفات الحكمة" و"خزام البساتين المجاورة - لنا وليس لنا" و"العابر كالنهارات القصيرة" و"الحرير الملطخ بأدمع الليل" و"احتدامات الصمت الطويل". وفي داخل هذه العناوين نقرأ ما يقارب 98 قصيدة تراوح بين الطول والقِصر.
تتنوع فصول المجموعة وقصائدها ومناخاتها بتعدد الأمكنة والأزمنة التي تذهب الشاعرة إليها، فهي تتنقل بين أمكنة حميمة وأخرى غريبة، وبين ماض بعيد أو قريب وبين حاضر قائم وراهن ومستقبل مجهول. هذه الرحلات المتعمقة في الزمان والمكان تأتي لتمنح النصوص تعددية في وعي الشاعرة للعالم من حولها، ووعيها لتجاربها بكل زخمها وتوتراتها. فنحن هنا حيال تجربة في الترحال والعشق والهزائم تفصح عنها لغة ذات مستويات متعددة، لغة شرسة ومواجهة ل"الآخر" حينا، وهامسة بنعومة تكاد تقارب الصمت حينا آخر. لغة بوح وعتاب واعتراف في كثير من الأحيان.
القصيدة الأولى "في الهجرات وتلاويحها"، تكتب الشاعرة إن نصوص هذه القصيدة كتبت "ما بين الموت.. والموت"، وفي المقطع الأول تبدأ الشاعرة بسؤال "لمَ تنتحب الجنادب ليلاً/ وتزرقّ عيون العصافير/ قبل أن يأتيها الموت؟"، فيحضر الموت منذ البداية في صور مختلفة ومتنوعة، موت العصافير إحالة على حالات الموت الكثيرة التي سنواجهها في هذه المجموعة، وفي المقطع الأول نفسه تقول الشاعرة:
لمرة نسيت أن الأنجم أسماؤنا
وأننا حضورها في الحلكة
وتختم المقطع بتأكيد في صيغة المشكوك به:
ظننتُ أن البيوت أوطاننا
الأحلامَ أشجارها
ونحن الفصولْ
هكذا تبدأ القصيدة الأولى رحلة الكشف عن عالم يتهدم، أو هو قد تهدم فعلا، عالم يحتشد بعناوين الموت المتفرقة، ففي المقطع الثاني تبدو الشاعرة/ امرأة القصيدة "كأنها الفراشة/ حين تحترق أطرافها/ لمجرد التحليق قرب الموقد"، أو "كأنها ورقة سقطت/ في يوم خريفي عادي"، وتتتابع الحركة بأفعال تراوح بين الماضي والحاضر، خالقة ما يقارب المشهد السينمائي، أو اللوحة التشكيلية، وهما نوعان من الفن سبق للشاعرة وخاضت تجربتهما على نحو ما. فمن الفعل "تحترق" إلى "سقطت" حتى "تنطفئين" يبدو النص حالة متحركة ومتعددة الحركات بما يخلق مناخا حركيا يجدد لغة النص وصوره.
ومن حالة الموت المادي تنقلنا الشاعرة بنصوصها إلى الموت المعنوي الذي يحتل حيزا كبيرا من قصائد المجموعة. يتمثل هذا الموت في صور كثيرة تتوالد في النصوص على نحو شديد الحيوية، فالهاتف الساكن منذ زمن يحيل إلى الموات، والغرف التي تضيق كل ليلة هي إحالة أخرى على موت ما، وكذلك المتاهة التي تتسع، والخريف الذي تبدأ معه جراح الأشجار وآلام العصافير، والقلب الذي "يترجل في الحزن" بلا أي بارقة للنجاة، والأساطيل المكتظة في "خليجنا"..الخ.
ومن مظاهر الموات التي تكرس الشاعرة لها صورا كثيرة، ما يبدو من صمت وخصام بين الرجل والمرأة، وهي كثيرا ما تضع الرجل في محاكمة قاسية وشديدة الوضوح في تعريتها لسلوكه تجاهها، لأن هذا الرجل يمثل صورا من الرجل ذي النزوع الذكوري في تعامله مع أنوثة المرأة وفي قسوته عليها، ولعل الأقسى ليس هو الهجر والخيانة، بقدر ما هو الصمت الذي يقع بين المرأة والرجل حتى تكاد هذه المرأة تنسى الكلام:
أكاد أنسى الكلام
الذي وقع كالنرد في حواف الأحاديث
وتيبس في مكانه
إذ لم تلتقطه شفة
وما بللته أمطار الألفة
في القصيدة الثانية "مدن تثمل قبل عشاقها"، ثمة رحلة تأخذنا الشاعرة خلالها إلى روما وفلورنسا وبيروجيه وأسيسي وفينيسيا وفيرونا، وهنا يتغير مناخ القصيدة لنرى امرأة "جاءت تقرأ مايكل أنجلو/ من السقف حتى أخمص قدمي آدم"، ونفاجأ بها "سعيدة" في مشاهدتها وتأملاتها، على العكس من الكثير من "نساء" المجموعة الشعرية التعيسات والمهجورات أو المنتحبات، وهي سعيدة لأنها "جاءت تتأمل القبة وملائكة الفردوس/ وتردد لحنا شرقيا".
وبمثل هذه السعادة نجد المرأة تتحدث بصوت الجماعة عن رحلة في ساحة ماركو حيث العشاق والشحاذون الأنيقون والمراكب الشراعية في مياه البندقية، وحيث الجمع "ملوك الأرجاء" ولذا:
تعمّدنا تجاهل مواعيد مراكبنا
وحين أردنا العودة
كان يكفي أن نتبع الحشود
فيما كانت الطرقات تطول
وأقدامنا تحترق
وتعمل الشاعرة على "أنسنة" الكثير من كائنات الطبيعة، أشجارا وطيورا وحتى حجارة، فهي تجعل من هذه "الكائنات" أقرب إليها من البشر. ففي أحد المقاطع تتحول التماثيل إلى كائنات تحرس الساحات والليالي الطويلة، ويرتجف الهواء بين تفاصيلها، وتتوق أن يرمقها المارة ولو بنظرات خاطفة، ومع هذا فهم لا يفعلون. بما يقود إلى أن التماثيل يمكن أن تعاني الغربة التي تعكس غربة الشاعرة نفسها، لذلك تنحني الشاعرة لآلام التماثيل ووقوفها الأبدي، بل ترى فيها ظلالها التي جعلتها تجد فيها شريكا لوحدتها. ما يعني التوحد بين الشاعرة والتمثال في نهاية المطاف أو في بدايته حتى.
وهي تتوحد أيضا مع الأشجار لتعكس مشاعرها وتأملاتها من خلال هذا الكائن الممتلئ حياة، فحين يطال الخريف الشجرة فإنه يكون قد تطاول على مشاعر الإنسان الذي يتأمل في هذا المشهد ويحاول استخلاص ما يقود إليه هذا الخريف بالنسبة إلى الشجر، وما يرتبط بخريف البشر، ففي مثل هذا التأمل يمكن للبشر أن يجدوا المعنى الكامن والعميق للحياة:
تعلمت انتظار الصباحات
للجلوس في الشرفة
وتأمل ما بقي من الأشجار
بعد عواصف الخريف
ويلفت انتباه قارئ المجموعة حفر الشاعرة في مناطق قديمة وحديثة بلا مواربة، ومحاولة البحث عن لغة جديدة تكتب بها بقوة وبتقنيات متعددة، ويبدو ذلك جليا في عبارتها الرشيقة ذات القدرة على الغوص في الحالات التي تكتبها، ولا أقول تكتب عنها، وهاجس اللغة المبتكرة هذا يطل علينا في صور عدة، ولكن الشاعرة تبوح به أيضا في أحد مقاطع قصيدة من قصائدها:
كقصيدة أثملتها اللغة
أخطو نحو التماثيل
وقلبي يهفّ لرذاذ الماء
باحثة عن أبجدية
لقول المعارك المصطخبة في رأسي
ثمة الكثير مما يمكن أن يقال حول مجموعة نجوم الغانم هذه، لكن المقام لا يتسع للمزيد، ويبقى أن نختم قراءتنا المستعجلة هذه بالإشارة إلى أن وراء هذا العمل، وهو الخامس للشاعرة، خبرة شعرية تمسك بلغة الكتابة وتقنياتها ذاهبة نحو معانيها بلا أي تردد، وبلا أي من التعقيدات البلاغية التي تثقل الشعر عادة، فهي قصائد مواجهة حادة وحارة مع الحياة وعناصرها وتفاصيلها.
الخليج- 2005-06-03
إقرأ إيضاً