تقدّم سعدية مفرّح في ديوانها الجديد، "ليل مشغول بالفتنة" (الدار العربية للعلوم) تجربة خاصة، عبر قصيدة واحدة تمتد بامتداد الديوان كله، تمزج فيها صورا فريدة مقتنصة بالمخيلة الخصبة مع معان ومضامين، تبدو كالحقائق والاكتشافات التي تنبثق من أسئلة عميقة، لكنها أشبه ما تكون بغيمة كثيفة محملة مطراً لا يسقط بسهولة، بينما المعنى العميق لجوهر المياه مخفيّ خلف رماديتها المحيرة.
نعم، كل تأويل في هذا الديوان سيكون مفرطا، لأن المعنى في جب الشعر العميق. فهو معنى لا يمكن تأويله بقدر ما يمكن أن يشعر به الوجدان. وكل معنى يشكل حالة شعورية تبرق في الروح فجأة، مغلفة بإطار شفيف من روح الديوان- الشاعرة التي تسيطر عليه حالة من الرهافة القاتمة.
لكن هناك مفاتيح، من صور للأنثى، أو للأنا الفردية، أو الأنا الشاعرة، تبتعثها مفرّح من بئر الخيال: "تجيئين (..) / مثل خيمة في اقصى حدود الريح/ تغني من أجل أن يعود الغائبون/ في غياهب الأسئلة السافرة/ مثل غيمة مثقلة/ بدموع لا تسقط/ إلا في حضن جبل شاهق/ يتدثر بصفرة اعشابه/ أواخر آذار".
الأنا تعاني الوحدة، وحدة امرأة "في ليلها المشغول بالفتنة والأحلام الكبرى"، ولا تمتلك سوى ذاكرتها، التي تسافر في الزمن إلى ماض عاطفي، إلى البدايات الأولى، التي تستدعيها الذاكرة، "البدايات الغامضة"، بدايات العشق، ليس بين الأنثى ورجلها المعاصرين فقط، وإنما في الجذور الأولى للعاطفة البشرية بين كل رجل وامرأة.
مقاربة الخذلان في العلاقة على مدى تاريخها، وبين آثاره على امرأة يخذلها رجلها هربا، أو لأسباب لا يعرفها سواه، مقارنة بخذلان الموت للامهات الثكالى اللائي يرحل رجالهن تاركين الوحدة لرفيقاتهن واليتم للأبناء.
ما بين البدايات والنهايات، تدور الذاكرة في تفاصيل العشق، الأرق والسهاد، والحب، واللقاءات، والأغنيات الكلثومية، وعبق القهوة، ونقرات الأصابع الرشيقة على الطاولة بلحن يمثل ذكرى شاعرية لروحين عاشقتين، مرورا بالذاكرة الشعرية للعشيقة، المبنية على رسائل الهاتف: "تدسين الهاتف الصغير المكتنز بلذائذ الكلام المكتوب/ تحت مخدتك/ تتوهجين/ تضيئين ولم تمسسك نار/ تتراكمين على ذاتك نورا على نور/ تستحلبين اللذائذ المخبوءة في بوتقة التكنولوجيا/ شبقا سورياليا". كما تدور الذاكرة أيضا بين معنى محاولة انثى عاشقة للاكتمال، أولا في توحدها بالحبيب، ثم في محاولاتها الدؤوبة للبحث عن ذاتها، بعيدا عن سراب أوهام حققها النأي.
هكذا تخلق سعدية مفرّح صورا عديدة، فريدة، تطفو بها على أمواج الذاكرة إلى الماضي العاطفي للانثى الذي جسّد، بين ما جسّد من تفاصيل، رومنطيقية، وحسية، وسوريالية، حلم الائتلاف بالرجل العشيق، وبكل ما يعنيه ذلك من تبديد للوحدة، والاستئناس بتفاصيل الحياة مقسومة اثنين، ثم العودة الى واقع قاس، تتكشف تفاصيله، ويقطر يأسا، وألما ودمعا، لا يبدده سوى اكتشاف الأنا، بأن حقيقتها في فرديتها، وفي الجسد.
"معلقة على حافة الدهشة/ وفي غمرة التوحد بالآخر/ يذهب هذا الجسد ذهابه الأول/ نحو الجسد الآخر/ لا ليكتشفه في تفاصيله الخفية فحسب/ ولكن ليكتشف قدرته الذاتية/ على تنفس هواء الآخر والموت اختناقا به/ جسدكَ هو أنت إذا/ وفي خريطته يبدو تاريخك كله/ مدوّنا بالندوب الصغيرة".
هكذا تكشف الشاعرة لذات الآخر اكتشافها عن ذاته، قبل أن تُسقط اكتشافها على ذاتها هي الأخرى:"وجسدكِ أنتِ أيضا/ هو أنتِ/ به تحتمين ويحتمي بك/ بشالك الحريري المرقّط إياه/ تنغمر فيوض الريبة الأولى/ وفي صحراوات سرية/ تنبع حمم البراكين المنتظرة/ بيأس/ منذ العصر الحجري/ للعواطف البشرية".
الديوان في مجموعه يمثل إضافة جديدة الى قصيدة النثر الحديثة، ليس فقط من حيث موضوعه، ولا لجمالياته الخاصة التي تخلقت عبر الصور التي شيدت بها الشاعرة حالة التيه الأنثوي- الإنساني، في بحث الفرد المعاصر عن ذاته، إنما أيضا في بعض التقنيات التي أبرزت وعي الشاعرة بالتطور في بناء قصيدة النثر، التي كان من بين تجليات تطورها مرحلة سادت فيها القصيدة المبنية على التفعيلة، فهي تؤكد الطابع الغنائي لقصيدة التفعيلة بالاستعانة ببعض المقاطع المتكئة على تلك القصيدة، حين توجه الأنثى خطابها إلى ذات الرجل - الشاعر، أو ترثيه، غناء.
"هو آخر الشعراء في تبرير وحدته/ وأوّلهم/ إذا احتاجوا الى قافية/ هو أجمل الشعراء في تحرير سيرته/ بأغنيتين وقافيتين/ أطولهم/ ليقطف من حقول الغيب/ نجمته".
كأنها تغنّي للعشق الذي كان رثاء، وألما ويأسا، بينما الشاعرة نفسها، ترثي، تقنيا، قصيدة التفعيلة التي كانت يوما سمة من سمات الشعر الحديث، بينما هي الآن تكاد أن تكون جزءا من تراث.
وأيضا كأن صراع الروح الحرة في مواجهة الطيور الجارحة، يقتضي ان يحافظ الفرد على توقد قلبه، شعرا، وإنسانية، وحداثة، ومعاصرة، وتوقا للتحرر.
تأتي هذه القصيدة أيضا تطويرا للتجربة التسعينية في الشعر الكويتي والتي وصفتها مفرّح نفسها في معرض تأريخها لحركة الشعر الكويتي المعاصر، في دراسة نشرت أخيرا، بأنها تجربة جيل عبّر عن "الانكفاء نحو ذاتهم بأكثر من شكل كتابي وبإصرار على الكتابة في موضوعات كانت في السابق شبه سرية أو محرمة إبداعيا، فقد لجأوا إلى التجريب الكتابي بجرأة غير مسبوقة، واهتموا بكل ما هو يومي وتفصيلي بعيدا عن كليات العقود السابقة والتي غرق في لجتها شعراء الماضي القريب، كما التفتوا إلى "الجسد" بشكل مباشر وصريح وجعلوا منه موضوعا ابداعيا كتابيا مفضلا".
لكن الشاعرة أضافت بالتفاصيل بعدا رمزيا مجازيا، يجعل قصيدتها ذات تأويلات عدة. فبالإضافة الى كل ما اجتهدت في تأويله سابقا، لا يمكنني ان استبعد بعدا، يُستبدل فيه الرجل بالوطن، تارة، وقيم المجتمع، طوراً، وارجو ألا يكون تأويلي هذا مفرطا.
هذا الديوان هو السادس لسعدية مفرّح بعد دواوينها: "آخر الحالمين كان" 1990، "تغيب فأسرج خيل ظنوني" 1994، "كتاب الآثام" 1997، "مجرد مرآة مستلقية" 1999، و"تواضعت أحلامي كثيرا" 2006، إضافة إلى كتاب أنطولوجيا عن الشعر الكويتي بعنوان "حداة الغيم والوحدة" الصادر عام 2007.
يذكر أن ديوان "ليل مشغول بالفتنة" صادر عن دار مسعى الكويتية بالتعاون مع "الدار العربية للعلوم".
الثلاثاء 06 كانون الثاني 2009