صدر حديثاً للشاعر الأردني أمجد ناصر "فرصة ثانية"، من سلسلة إصدارات الدورة الثانية لـ "مشروع التفرغ الإبداعي" الذي ترعاه وزارة الثقافة الأردنية. الكتاب يغوص في سيرة المكان الشعرية، متحركاً على طول خط صحراوي، قارئاً العلامات المندثرة ومستنطقاً صور الماضي. الصحراء تلمع في النص كمرآة دائرية، أو كمرايا متقابلة، والجغرافيا والأنساب والعناصر يعاد رسمها.
الكتاب في 142 صفحة من القطع المتوسط، أهداه الشاعر إلى والدته فضة العوِّيد، التي لم تقتنع يوما، محقةً بالطبع، أن الكتابة يمكن أن تكون عملا، وبالطبع نجد فضة/ الأم، فضة العوِّيد، تطل باسمها في العديد من مفاصل الكتاب، كما تحضر بشخصها أو بشبحها في انتقالات الكتابة بين الشعري المكثف والسردي المركب. هناك عالم كامل تعيد الذاكرة بناءه من البقايا والعلامات والشظايا الواقعية. يحار القارئ وهو يتوغل في صفحات الكتاب أي نوع أدبي يقرأ ثم لا يلبث ان تأخذه القراءة نفسها في تحولاتها الى ما هو أبعد من مسألة التجنيس.
تذهب الناقدة الكبيرة خالدة سعيد في مقدمتها للكتاب إلى القول إنه "ساحرٌ متعدّد ومُحيِّر بما يَسِمُه من الزّوَغان والتداخل بين الرؤى الشعرية والقيم الحكائية، بين الذكريات الشخصية والإضاءات التاريخية؛ أو إنّها حكائية شعرية، رغم مراجعها المعيشة. هي شعرية، لا لأنّ العناصر الحكائية تجيء في لغة لَمْحيّة أو تنساب مشمولةً بضباب الذكرى، ولا لأنّ حضور العناصر يُفلت من التحديد والتوالي الزمني ويمتنع على الإقامة في موقع أو إطار معيّن. هي شعريّة لأنّ هناك رؤى ترفرف على مدى هذا النص السردي الذي لا يبوح باسمه ولا يبيح التصنيف، لأنّ هناك ما يترجرج في ماء الحلم بقدر ما يومض في ضوء الذكرى أو ينبثق من مدهشات الحفريات.
ومع أنّ القارئ يكتشف عبر النص تعدّد العوالم وطبقات الحضارات، فإنّ الفنّية الشعرية للسرد هي التي تبني مناخ الحلم والحنين. كل شيء هنا مُزاحٌ عن موقعه، أو يلبس خلاف دوره ويحكي بغير ضميره. كل شيء يلعب لعبة الانعكاس في المرآة: يطلع الصميميُّ الحميم من خاتم أثريّ، أو كأنّه أثَريّ. الوقائع الماضية تظهر في موكب الأخيلة. يلتبس الإخبار بالمجاز. ينهض لَعِب المرايا وتَداخلُ المواقع، وتتعدّد الأصوات التي تركت أصداءها في ذاكرة الراوي، وتتداخل أصوات العالم الذي يتموّج بين الأزمنة".
تنوّه الناقدة خالدة سعيدة: "كأنها سيرة ذاتية للمكان، تتداخل بها وتتخللها خطوط من سيرة المُخاطَب - المرويّ له. تهجم الذكريات رجراجة زائغة. والكلمات الغريبة التي رافقت المرويَّ له منذ الطفولة لا تغيب. كل شيء يتمركز حول تلك البدوية عميدة ذلك العالم، والتي تبدو أشبه بالإلهات الأثريات. كأنها فاتحة العبور إلى العوالم المتقاطعة، فاتحة رحلة إلى عتبات ماض يمتد آلاف السنين، فاتحة لاستعادة أزمنة المكان وفتح صفحاته واستجلاء صوره بدءاً من الأُسَريّ الخاص وذكريات المراهقة والخلاّن. هي استعادة ماضي مكان حائر بين البداوة والمدينة، واستحضارٌ متواترٌ للعتبات التي تفتح المدى على البدايات ورحلة التحولات".
ولكن ماذا يقول صاحب الكتاب عن كتابه؟
الشاعر أمجد ناصر نفسه وصف كتابه في لقاء صحافي سابق أجريته معه بأنه "عمل شعري سردي مرَّكب، فيه شيء من السيرة وفيه شيء من المكان وفيه شيء من الواقع وشيء من الحلم. لا أعرف كيف أصنفه". ويضيف: "أسميه، موقتاً، كتابة على أرض الشعر وفي أفقه. إنه ليس نصاً مفتوحاً ولا قصيدة نثر ولا سرداً قصصياً ولا كتابة مكان وبيئة".
كتاب مشرع على الحلم، والذكريات، طفولة وأصدقاء وطوبوغرافيا وأعشاب وكائنات حية في تلك الصحراء المزدانة بالبروق والغوامض، يلمع الشعر من شقوقه وأبوابه المواربة.
النهار
17 يوليو 2010