يتقصد الشاعر فيديل سبيتي عدم تصنيف كتابه الجديد الصادر لدى دار "مختارات"، فهو أعلن في حوار صحافي مع الشاعرة عناية جابر ("السفير") أن كتابه إنتاج هجين لزواج الشعر بالقصة القصيرة، معتبراً هذا التصنيف أكاديمياً، مغلّباً في الوقت نفسه الشعر على القصة القصيرة. بيد أن "سيرة عاطفية لرجل آلي" يمكن ببساطة أن يكون نصوصاً شعرية، حتى ولو كُتبت بأسلوب القصة القصيرة، أو حتى الطويلة، ولو كُتبت أيضاً كرواية، أو أياً يكن. الشعر يشير بسبابته إلى نفسه أينما كان. يعلن: ها أنذا، أنظروا إليّ، اقرأوني. وهذا ما تفعله بعض النصوص في كتاب فيديل سبيتي. ثمة بينها ما يمسك بقارئها بيد قاسية تهزّه من جذعه، وتجعله يفكر طويلاً في اللحظة التي كتبت فيها، والتي تبدو طازجة دائماً حتى مع مرور وقت طويل. هو شعر يعيش بيننا، يتربص بنا، هو التلفزيون وقد تخرج منه عارضة أزياء "نحيفة وممتلئة الصدر" في يوم ما. هو شعر يصرخ، لأن "سدّ الكلمات" لم ينفتح.
شعر يخرج من ثقوب صغيرة في السدّ، يكابد كي يخرج حتى لا ينفجر صاحبه، الذي "يمشي من السرير إلى النافذة. يرفع الستائر. يسدلها. من النافذة إلى الأكواريوم يلقي طعاماً إلى السمكات الحزينات، قبل أن يبصق عليها". يدور الشعر في حلقة مفرغة. في جغرافيا واحدة. ينتقل في البيت، في الشارع، في المدينة، يدخل إلى التلفزيون ويخرج منه. لكنه لا يجد مخرجاً من الدوامة الأوسع. مثل عارضة الأزياء تماماً "تصل إلى حافة الشاشة، ثم تعود إلى الكواليس".
لكن ما يجري في الكواليس أكثر إغراءً مما يحدث أمامنا على الشاشة. ما يضمره شعر فيديل سبيتي أكثر شعرية مما يعلنه. فهو حين يكتب مثلاً عن الفتاة الشقراء، يقول إنها تزداد اصفراراً "حتى تكاد لا تميّزها عن سوسنة"، وحين يكتب راسماً لوحته بريشته، يستطيع أن يستخدم الممحاة ليمحو عينيه ويغفو.
هي سيرة عاطفية لرجل لم تنفع العاطفة في اخراجه من رتابته ومن ضجره القاتل، الذي جعل عتبة المنزل والسرير والأرض تطرده ليقف "على كرسيّ المرحاض منتظراً بزوغ الفجر". يُشعرنا فيديل بهذه الرتابة في وقع قصائده البطيء المسترسل في الوصف والتنقّل بين التفاصيل، وإن يكن بأدوات بسيطة وقليلة. فهو بكلام قليل يستطيع أن يُشعرنا بثقل القصيدة أحياناً، وبقدرتها على رمينا في الهبوط الحرّ في البئر التي لا تنتهي. لكنه ينجح في الوصول إلى هدفه من القصيدة. يطبعها كمن يعزف البيانو. كمن يسمعنا موسيقى كلاسيكية، قد يحبّها بعضنا وقد يملّ منها بعضنا الآخر. "كروبوت من أفلام (حرب النجوم) يمشي. رِجل بطيئة إلى الأمام، تليها الثانية في موقع الأولى. اليدان ثابتتان. رأسه جامد نحو الأعلى. ينظر إلى السماء وشرفات الأبنية... يمدّ لمن يلتقيهم يداً كيد الروبوت، ويمنحهم وجهاً كوجه الروبوت، وفي داخله عاطفة روبوت. وحدها موسيقى لموزارت تدور في رأسه. بيانو، تروح وتجيء عليه الاصابع كما لو أنها تكتب النص على لوحة مفاتيح هذا الكومبيوتر".
بهذه البساطة يجعل فيديل نصّه مقطوعة موسيقية من دون لحن. الصورة هي التي تصنع اللحن. يبرز قدرة تلقائية على التصوير والوصف الدقيق حدّ التجسيد الحيّ، لكنه أحياناً يصوّر مشاهد لا تقول شيئاً. أو ربما تقول أشياء بلغة لا نفهمها. أشياء قد تبدو عادية جداً كأن يكتب: "تذكر أن لا سجائر لديه. فتّش كيس الزبالة باحثاً عن سجائر غير مدخّنة بالكامل. وجد اثنتين. أشعل الأولى متنهداً، ثم أشعل الثانية شاتماً جدته لأمه". ما يقوله هنا أنه يشبه جدته في عادتها تدخين السجائر بعد استعادتها من الزبالة. لا شيء غير ذلك. لا يمكن أن نجد تأويلات أخرى لقصيدة مماثلة، على عكس قصيدة أخرى تفتح المخيلة على احتمالات لا تنتهي: "فمكِ المليء بالأسنان، يشقيني في أكله"
النهار الثقافي
يناير 2010