محمد زفزاف، محمود درويش، جاك دريدا، أدونيس، إدوارد سعيد، حسين مروة... كل هؤلاء يستدعيهم الشاعر المغربي إلى طاولة ذكرياته. في «مع أصدقاء»، يسترجع هذه الوجوه التي ارتبطت بمساره، بوحاً حيناً، وشعراً أحياناً
محمد الخضيري
بعضهم عاش على بعد كيلومترات منه، وبعضهم الآخر على مسافة آلاف الكيلومترات، لكنه حفظ لهم جميعاً المسافة نفسها من التقدير والحب. الصداقة هي أقصى حالات الحب كما يعترف محمد بنيس (1948). في مقدمة كتابه الجديد «مع أصدقاء» (سلسلة «ذاكرة الحاضر» ــ دار توبقال ـ المغرب)، يكشف لنا الشاعر المغربي في نص «مني إلى نفسي» أسباب إقدامه على هذه المغامرة. إنها لحظة الموت. موت أصدقائه فجّر الرغبة في الكتابة عنهم ولهم، وخصوصاً لنفسه.
يعيد ترتيب ذاكرته الشخصية. «أغلبُ هذه النصوص التي أجمعها اليوم، جاءت على أثر الموت، بما يفجّره من صدمة الفقدان. والباقي كان استجابة لنداء الصداقة»، لكن «لا شبه بين صديق وصديق، ولا شبه بين صديق وبيني. فبقدر ما أقترب من صديق، بقدر ما أراعي المسافةَ الفاصلةَ بينه وبيني». الحفاظ على المسافة، الاقتراب ثم الابتعاد من هؤلاء الأصدقاء خلطة كافية لعامل مختبرات يضع تحت مجهر نصوصه علاقات اختمرت على مدار عقود: محمد زفزاف، محمود درويش، جمال الدين بن الشيخ، جاك دريدا، أدونيس، عبد الكبير الخطيبي، إدوارد سعيد، حسين مروة، محمد شكري وآخرون يستدعيهم النص. أسماء مثّل رحيلها ندوباً في ذاكرة الشاعر المغربي، يحاور «أثر» عبورها في حياته الشخصية ثم في الحياة الثقافية العربية والعالمية.
أحياناً يتخطف الكاتب حزن شفيف على رحيل هؤلاء، وأحياناً يكون جذلاً بهم، وبلقاءاتهم المتكررة في غرف حول كأس شاي، وفي جامعات وندوات جال عبرها أرجاء المعمورة. كل صديق يختلف عن الآخر. وكل واحد نسج معه المؤلف علاقة شعرية ومعرفية خاصة تختلف عن أصدقاء آخرين. يستعيد بنيس هذه العلاقات. يقول للشاعر المغربي عبد الله راجع في نص: «عبد الله راجع سيد الصمت»: «كنت عنيداً في مقاومة الموت. ما أبهاك! ما أبهاك ! سنتان من هذا السرير إلى ذاك. تتكلم وتضحك كأن كل شيء عابر، حتى الموت. وفي عنف الألم تستمد مخدة، تسأل عن أحبابك وعن الشعر». ينتقل بنيس من المناجاة إلى النقد، هو الذي درّس أجيالاً من النقاد في الجامعة المغربية: «حينما أفكر فيه (سركون بولص)، أستحضر قصيدة «قائمة الذات». نحتها عبر سنوات طويلة من الصبر والاستزادة من المعرفة الشعرية. قصيدته كانت تفضل المعجم اليومي، فيما هي تقترب من المتاهات ومن العذاب الأبدي». في جميع النصوص، هناك هذا الانتقال السلس بين الحميمي في علاقة بنيس بأصدقائه الأموات والأحياء، والجانب الأكاديمي في شخصيته. كأنّ الكتاب يقع في منطقة وسطى بين الشعر والنثر والنقد الأدبي.
لائحة أصدقاء صاحب «كتاب الحب» لا تتوقف عند أسماء صنعت الثقافة العربية في القرن العشرين. إنها تمتد لتطاول مثقفين غربيين، صنعوا بدورهم حداثة النقد والأدب والفلسفة بالغرب. جاك دريدا الذي اكتشفه وهو يترجم كتاب عبد الكبير الخطيبي «الاسم العربي الجريح»، يروي كيف التقاه لاحقاً، وأيّ صداقة معرفية ربطته به. وهنري ميشونيك، الذي يؤكد أنّ تعرّفه إليه، قلب فهمه للشعر وللقصيدة. وهناك أيضاً لقاؤه بإدوارد سعيد، وعشقه للموسيقى والبيانو، ومتابعة مقالاته العميقة عن الموسيقى. في الكتاب، يعجز السرد أحياناً عن تقفي الأثر، فيعود الشاعر إلى لغته الأم: القصيدة. يكتب له برنار نويل قصيدة، فيجيب هو الآخر بنص شعري، يقول فيه: «هو القادم دائماً هنا/ في ذبذبة الكلمات/ توحد أنا بأنت/ وعبر الدم هواء يمر بضع حركات». إنّه التوحد ما يريده المؤلف من نشر النصوص التي حررها على مدار سنوات، ثم جمعها في دفة الكتاب. ليس التوحد الصوفي تماماً، لكنه إدراك أنّ تجربة الصداقة تمر في أسمى لحظاتها بشيء من التواطؤ والقرب، حتى يتبين الواحد نفسه في رفيقه، ويصل إلى مرحلة يرى فيها ذاته حين ينظر إلى هذا الآخر القريب.
في «مع أصدقاء»، نكتشف أيضاً سيرة معرفية لبنيس. كل صداقة ترتبط بتجربة خاصة في مسار الشاعر. دراسته الأكاديمية بين الجامعة المغربية وباريس. رحلاته بين العواصم العربية والغربية، مرات كشاعر، وأخرى كمحاضر. بداياته في الترجمة، وتحديداً ترجمته لكتاب عبد الكبير الخطيبي «الاسم العربي الجريح» عام 1979ونشره عن «دار العودة» (بيروت ــ 1980). مغامرة مجلة «الثقافة المغربية» التي تأسست عام 1974، لتمثل بوابة لجيل جديد من الشعراء والكتاب والنقاد المغاربة. علاقته بأدونيس، وكتاباته في مجلات «مواقف» (نشرت أولى نصوصه الشعرية) و«الكرمل» وغيرهما.
في المحصّلة، فإنّ كتاب بنيس يتجاوز التأريخ للصداقات إلى شهادة عن حقبة معرفية هي القرن العشرون، وعن جغرافيا عابرة للقارات