الشعر يطفو فوق 'سِتّْ' في الدورة الثالثة لمهرجان 'أصوات حية'

مازن معروف

تحوَّل الشعر في مهرجان الشعر الدولي 'أصوات حية' (استمرت فعالياته بين 20 و28 تموز) في مدينة 'سِتّْ'، عن معناه المجازي وامتداداته اللغوية والصورية. في المدينة الصغيرة التي كانت في السابق بركاناً صغيراً، يحتشد الشعراء كل سنة ضمن المهرجان الدولي للشعر المتوسطي.
أكثر من مائة شاعر وشاعرة (بينهم ثلاثون عربياً)، يهبطون على المكان ليعيدوا صياغة إيقاعه الاجتماعي والثقافي ومذكراته اليومية. يكون على الأصابع الخفية التي تكتب يوميات 'ست' في المفكرة، أن تُسرع طوال فترة المهرجان. أن تسجل بايقاع أكثر توتراً وانتباهاً لكل ما يدور. فما يحدث هو أن المدينة لا تتحول إلى مكان فاضل، بل إلى حيز يتفضل فيه الشعر على باقي مظاهر الحياة. نتساءل مثلا على سبيل الدعابة، هل من المفيد أن يتحول الكوكب إلى مجتمع شعري؟ أو إلى مجتمع من الشعراء؟ او، كم هو حسن للتاريخ البشري أن يتنازل الساسة والقضاة والعسكريون وكتاب العدل ومدراء المصانع والمعامل وجامعو الطوابع، عن مهامهم لكتبة الشعر؟ ما الذي سيحدث؟ في أي اتجاه سينحرف العالم؟ وتحت أي حجر ستوضع الطبيعة العنيفة بالفطرة للبشرية؟ هل سيخرج العالم من شفاه الجميع كما يخرج أيام المهرجان على شكل ابتسامات سريعة ونقمات بطيئة وثقيلة ومتلاحقة، على الطغاة؟ هل سيفضي بنا الأمر الى عالم متخفف من ضريبة الحرب والمجزرة والتاريخ، متشبث فقط بالمخيلة؟

قد يكون بعض هذه الاسئلة متطرفا، محض شعري ولا واقعيا، وقد نعترف، ونعترف (وإن مرغمين) بحقيقة أن الشعر لا يمكنه أن يسخِّن رغيف خبز بائت، لكنها أسئلة، لا تنتج فعلياً إلا وفق هذا التفاعل المكثف بين شعراء وشعراء آخرين، وبين قصيدة وقصيدة، وقصيدة ورأي، ورأي ورأي. تنسحب القصيدة في المهرجان خارج هدوئها المعهود وعزلتها على الورقة. إنها ترمى بين أيدي الجمهور، الذي لا يتوانى بدوره في الحكم عليها، قبولها أو رفضها، بل وحتى إضفاء تعليقات عميقة احيانا عليها. تغلف القصيدة بالرأي، سواء كان الرأي هذا منصفاً أم لا، فإن الناس يغادرون المهرجان بعد انتهائه، حاملين 'فكرة' شاعر ما، أو 'فكرة' عن شاعر ما، أو حتى حاملين شاعرا ما بـ'فكرة'. سؤال في ضفة أخرى، يهبط هنا: ما الذي يدفع كائناً بشرياً لقضاء عطلته الصيفية، أو جزء من عطلته، مع الشعر؟ هل لأن ثمة من يعتقدون مشكورين بأن الشعر حاجة، وأن صخب الشعر أجمل بأشواط من صخب نشرة الأخبار؟ وأن الشعر، في مختبر المجاز والاستعارة، لا يزال أكثر ضرورة للروح من نسبة الواحد والعشرين بالمائة (تقريباً) لغاز الاوكسجين في الهواء؟ وأمام هذا التلاقي النشيط بين الناس والشعراء، هل يستطيع أحد تجنب الحديث عن فعالية التنظيم الجيد لهذا الحدث؟
لا يمكن غض النظر عن حقيقة أن هذا المهرجان، اكتسب بعد سنوات على إنشائه في المدينة المتوسطية الجميلة، سمعة عالمية، واستطاع بتأمينه ممثلين بالشعر عن حوض المتوسط قاطبة، أن يقدم الفرصة لأصوات شعرية يتعرف إليها الجمهور لأول مرة. واقع يلتمسه الزائر، ويسلّم به نتيجة ما يظفر به. نلتفت أن من بين أولئك الوافدين إلى المهرجان، من غير الشعراء المدعوين، شعراء 'هواة'، يحملون قصائد مشغولة بخط اليد، مستغلين أقرب نشاط ليقرأوها بدورهم.

من هنا، يمتد المهرجان مثلا ليأخذ بعداً يتمثل في التلاقي بين أولئك الشعراء بصورة 'رسمية'، ونظرائهم وأنداد بعضهم من الشعراء غير 'الرسميين'. لا تحتاج المدينة أكثر من ساعات قليلة حتى يتغير مظهرها الاجتماعي ونشاطها الحياتي وإيقاع استهلاكها واكتشافها وعيشها. يتم ذلك، طبعاً، على أيدي الشعراء. بعيد وصولهم، يعبئون الشوارع بصورتهم وأصواتهم، أو بنسخ عنها. يصيغون مجتمعاً يُصنَّف في إحدى صوره في ثلاث طبقات: الشعراء والشعراء، الشعراء والجمهور، والجمهور والجمهور. الشعراء يحرفون الحياة الاجتماعية عن إيقاعها المعتاد طوال فترة المهرجان. يعيدون تلوين المظهر الاجتماعي، والبنية السوسيولوجية بكل تفاصيلها وديناميكياتها. يتبادلون الأحاديث والآراء مع الجمهور، يتعرفون إليه، ويقيمون صداقات سريعة وأحياناً عميقة ومؤلمة نظراً لواقع أن المهرجان حدث مؤقت، وإن تكرر سنوياً.
وإذا وضعتَ الشعراء ودور النشر القادمة من جميع أنحاء فرنسا، مقابل بعضهم البعض، أو في أي ترتيب جيومتري أردت، فإن مما لا شك فيه، أن الناس، الشغوفين بالشعر، لا يمكن أن يقفوا عند طرف دون أن تستبد بهم رغبة بوجوب زيارة الآخر. 'ست'، المدينة التي لا تعرف الراحة نظراً لموقعها السياحي على البحر المتوسط، ووجود القناة المائية فيها، والبرك المالحة التي يتم فيها استيلاد المحار بشكل أساسي، وعبور السفن التجارية والسياحية منها إلى المغرب العربي، ونظراً لقربها من برشلونة في إسبانيا، ومونبيلييه المدينة المهمة في الجنوب الفرنسي، يستعد كل شارع وزقاق وزاوية ونافذة فيها لهذا الحدث. كل بيت ومكتبة ومتحف وغاليري وحانة ومطعم ومتجر. حتى الحديقة والقوارب وضفاف القناة المائية. يقرأ الشعراء للناس في الحديقة والزورق الخشبي والنزلة وفي عرض البحر.
لعشرة أيام، يطفو الشعر فوق 'ست' وتطفو 'ست' فوق سطح البحر فيما يكمل البحر طوفه في قلب الشاعر ومخيلته.

في هذا المهرجان، الشعر يركض من مكان إلى آخر، حافياً أو بجوارب أو بحفاية أو بحذاء رياضي أو رسمي للمناسبات. كذلك، يركض القارئ. يتوجب على هذا الأخير، أن ينتقي ما همّه من القراءات، ذلك لوفرة النشاطات وكثافتها، إذ يبدأ بعضها في الخامسة صباحاً مع شروق الشمس، وبعضها ينتهي عند الواحدة بعد منتصف الليل. الشعر الذي يستبدل الزمن بالقصيدة، يمحو مهمة ساعات اليد. والشعر الذي يؤرق نوم المدينة نومٌ بديل، وكيس من الأحلام والهذيانات. لكن الشعر أيضاً يد تحمل الورقة وتسمِّعُ محتواها، أو تؤدي هذا المحتوى ضمن بروفورمانس صوتي وصوري (الشعراء الفرنسيون لوسيان صول، ميشال غيرو، ليليان غيرودو، سيباستيان ليزبيناس، فريديريك سوماين وغيرهم)، أو حتى يد تؤلف الشعر بالحركة (الشاعرة الفرنسية المالية الأصل جينيبو باتيلي والتي تكتب الشعر بلغة الإشارة لفقدانها النطق).
الشعر لا يهنأ بنومه. تخترقه استفسارات ملحة وطارئة تصيب شعراء منطقة الثورات في الشرق الأوسط. الناس في 'ست' يريدون معرفة ما يجري في سوريا ولبنان وفلسطين وتونس وليبيا والبحرين. شعراء كبار يجدون أنفسهم مضطرين للتعبير عن قلقهم من مد القوى الاسلامية، كالشاعر التونسي الذي يكتب بالفرنسية عبدالوهاب المؤدب، أو الشاعر السوري الشاب أكرم القطريب الذي يعتبر أن وجوده في المهرجان هو تمثيل متواضع بالشعر لشعب بلاده الثائر. في دورته الثالثة هذه، احتفى المهرجان بالشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس، وخسر أحد أبرز عرابيه الشاعر الفرنسي برنارد مازو الذي كُتِبَ أنه توفي بذبحة صدرية وهو واقف يغمر نصف جسمه ماء البحر. وكان للشاعر الفرنسي غي غوفيت الحضور الأقوى والكندية من كيبيك دينيس بوشير الصوت الشعري البارز أيضاً.

أعاد المهرجان أيضاً التعريف بتجربة الشاعر العراقي عبدالرحمن طهمازي، الذي يعد واحدا من المؤثرين في القصيدة الحديثة، كما هو الشاعر المغربي المعروف محمد بنيس والأردني أمجد ناصر. كذلك أبرز المهرجان الشاعر عبدالسلام العجيلي الصوت الشعري القادم من ليبيا مع زميلته سعاد سالم. كما أتاح الإضاءة على تجارب شعرية مختلفة، كتجربة الشاعر المصري علاء خالد ومواطنته غادة نبيل والشاعرين اللبنانيين شارل شهوان وغسان علم الدين، والسوري صالح دياب، أو الفلسطينيين محمود أبو هشهش وعثمان حسين أو العراقيين المخضرمين صالح الحمداني وعبدالزهرة زكي والمغربية رشيدة مدني والتونسي طاهر بكري ومواطنه الشاب صلاح بن عياد، إضافة إلى الشاعر المغربي المتواري عن الانظار عبدالله زريقة. وتمثل شعراء الجزائر حضوراً بسعيد هادف وطالب لسلوس. وأضفى حضور الشاعرين الكبيرين اللبنانيين صلاح ستيتية وفينوس خوري غاتا رمزية شعرية وثقافية. أما الخليج العربي، فقد حمله إلى المهرجان الشعراء محمد الدوميني وحمد الفقيه (السعودية)، مهدي سلمان (البحرين)، ظبية خميس (الإمارات)، فاطمة الشيدي وعبد يغوث (عمان) واذ نذكر شعراء المهرجان العرب فلا بد من ذكر المترجم اللبناني انطوان جوكي الذي ترجم معظم نصوص هؤلاء الى الفرنسية، وكان له حضور كبير في الترجمات الفورية لندوات الشعراء العرب مع الجمهور الفرنسي.
واخيرا.. نذكر ان المهرجان يدأب على نشر خمسة كتب شعرية كل عام بالتعاون مع دار المنار الفرنسية ذات الطبعات الانيقة وكان احد هذه الكتب الخمسة للشاعر الاردني الزميل امجد ناصر من ترجمة انطوان جوكي.

القدس العربي- 2012-08-03