بيار أبي صعب
(لبنان)

حكواتي بدائي يجيد نقل الأساطيرإنّه كاتب التّيه بامتياز. منذ روايته الأولى «المحضر» اختار أن يمضي إلى الأقاصي ويغوص في الحضارات البعيدة، حيث الصفاء والحقيقة الكامنة في أعماق الإنسان... كتب وعاش بعيداً عن «أدغال المدن». جان - ماري غوستاف لو كليزيو فاز أمس بجائزة نوبل للآداب

كان في السادسة من عمره حين صعد إلى السفينة مع أمّه في الميناء الفرنسي المتوسّطي. مثل بطله فينتان في رواية «أونيتشا» (1991)، كان الصّبيّ متوجّهاً، في ذلك اليوم من عام 1946، إلى أفريقيا للقاء والد لا يعرفه، يعمل في إحدى الجزر البعيدة على الضفاف الغربية للقارّة السمراء. يروي الكاتب تلك الواقعة في نصّ ضمّنه «قاموس الكتّاب المعاصرين بأقلامهم». على متن Nigerstrom، وهي باخرة مختلطة للشحن والركاب، تملكها شركة «هولاند أفريكا لاين»، راح يكتشف الأفق البعيد، من ذلك العالم العائم المقسوم إلى «علوي» يشغله أسيادٌ بقبّعاتهم وبذلاتهم وأناقتهم الاستعماريّة، و«سفلي» خاص بالعبيد ذوي الأجساد العارية الملألئة بالعرق. منذ ذلك اليوم، صار كاتباً. أدمن الرحيل إلى الأقاصي، بحثاً عن ذلك الشيء المفقود. الأب؟ السعادة؟ الصفاء؟ الجذور؟ ربّما كلّها مجتمعة. فهو سيبقى مسكوناً بذلك الغياب، ساعياً خلف السراب الجميل الذي اسمه المجهول. المهم أن الصغير كتب على متن الباخرة روايته الأولى التي لن تنشر طبعاً. وأمضى، كما يقول، بقيّة حياته يبحث عن تلك الحالة، حين تنزلق المدن على السفينة التي تؤرجها الأمواج. حالة السفر والرحيل والإبحار نجو المجهول التي تولّد الكتابة.

إنّه جان  - ماري غوستاف لو كليزيو (1940)، الكاتب «الفرنسي» في النهاية - رغم اختلاط ثقافاته وهويّاته وأصوله - -صاحب «الحلم المكسيكي» (1988) و«صحراء» (1980) و«الأفريقي» (2004) و«الباحث عن الذهب» (1985) و«ناس الغيوم» (1997)، الذي فاز أمس بـ«جائزة نوبل للآداب»، بصفته «كاتب القطيعة، والمغامرة الشعريّة، والنشوة الحسّيّة، ومكتشف إنسانيّة كامنة تحت الحضارة السائدة وما وراءها». حياته كلّها ستكون سعياً وراء الذات، من خلال الغوص في الحضارات والثقافات والهويّات. أول سؤال طرح عليه بعد الفوز بجائزة نوبل، كان هل أنت فرنسيّ أم فرنكوفونيّ؟ فرنسيّ أم بريطانيّ؟ بريطانيّ أم موريسيّ؟ نسبة إلى تلك الجزيرة المستكينة على المحيط الهادئ التي انطلق منها كلّ شيء...

وماذا لو كان لو كليزيو كلّ تلك الهويّات مجتمعة؟ هناك ما يذكّر بإلحاح بأسئلة عربيّة راهنة عبّر عنها أمين معلوف في كتاب شهير (الهويات القاتلة). فالكاتب المولود في نيس، هو في الحقيقة من جزر الموريس، أي بريطاني بحكم استعمار الإنكليز لها. والده الطبيب الريفي، جاء أجداده إلى الجزيرة قبل قرنين ونيّف من فرنسا، من منطقة «بروتاني» تحديداً التي تتمتّع بخصوصيّاتها اللغويّة والألسنيّة والثقافيّة والحضاريّة، رغم انتمائها الكامل اليوم إلى جسد الجمهوريّة. أمّه أيضاً فرنسيّة، من بروتاني. هو وُلِد وعاش متأرجحاً بين الهويّة المتوسّطيّة في مدينة نيس، والهويّة السلتيّة في Bretagne، من دون أن ننسى الثقافة الأوقيانيّة التي يحملها في الدم. من هذه التركيبة المعقّدة نبتت عنده تلك الحاجة إلى السفر، ذلك البحث الدائم عن الهويّات والجذور. ابن الثقافة المزدوجة، يجمع بين التربية الأنكلو ــــ ساكسونيّة واللغة الإنكليزيّة من جهة، والثقافة الفرنسيّة التي سترجّح كفّتها في نهاية الأمر (أطروحته كانت عن شعر هنري ميشو). لقد تردد لو كليزيو في بداياته، أراد أن يكتب في لغة شكسبير، هو الذي يعشق ستيفنسون وكونراد وديكنز وكيبلينغ، قبل أن يحسم أمره: لنقل إن اللغة الفرنسيّة صارت هويّته الحقيقية، وطنه النهائيّ. أليست تلك أيضاً علاقة كثيرين بيننا باللغة العربيّة؟
هكذا سيتعامل جان  - ماري لو كليزيو مع هويّته، كمشروع دائم التطوّر، عبر الكتابة والسفر. من خلال حياته المهنيّة والأكاديميّة، والخدمة العسكريّة قبلها، سيذهب الأشقر الطويل ذو العينين الزرقاوين إلى الأقاصي والأطراف، ولن «يعود» منها تماماً، علماً بأنّه يعيش اليوم بشكل أساسي، ويدرّس، في الولايات المتحدة (نيو مكسيكو). سيصبح روائيّ الوحدة والتّيه بالنسبة إلى بعضهم، الكاتب البدوي بالنسبة إلى البعض الآخر. من جامعتي بريستول ولندن إلى بنما والمكسيك، حيث سيكتشف الهنود ويعيش بينهم مطلع السبعينيات، وينبهر بالحضارات البدائيّة: «هذه التجربة غيّرت حياتي، أفكاري عن العالم والفنّ، أسلوب التعاطي مع الآخرين، طريقتي في المشي والأكل والنوم والحبّ، وصولاً إلى أحلامي». من هنود أميركا الذين نقل أساطيرهم، وتقمّص حكمتهم... إلى الصحراء، أرض الصفاء والنقاء والحكمة والإنسانيّة الضائعة: تلك المقاربة تذكّر بأدب إبراهيم الكوني. سيقترب لو كليزيو من الحضارة العربيّة والإسلاميّة، والأفريقيّة بشكل أشمل. سيكتب عن الطوارق، «الرجال الزرق»، ويتخذ من ذلك الفضاء وأهله وعذاباتهم إطاراً لروايات عديدة. من «للا» بطلة «صحراء» إلى ليلى بطلة «السمكة الذهبية» (1996)، ثم أهل ساقية الحمرا الصحراويين الذين خلّدهم في «ناس الغيوم» (1997) مع زوجته جمعة المتحدرة من ذلك المكان... قبل أن يصل إلى فلسطين ليصف تلك الرحلة المتقاطعة لأستير الآتية إلى «أرض الميعاد»، ونجمة الخارجة من أرضها وأرض أجدادها إلى رحلة التّيه. (نجمة تائهة» ــــ 1992)

كان عالمه يتّسع ويغنى ويتلوّن، ويبتعد أكثر عن «الحضارة المركزيّة» التي يحكمها «العمالقة» (1973)، ويحاصرها «الـطوفان» (1966)، وتقوم على كل أشكال «الحرب» (1970): أي المجتمعات الغربيّة القائمة على الإنتاجيّة والاستهلاك والاستغلال والماديّة المسطّحة. هكذا ستغلب على لو كليزيو في المرحلة الأولى، صورة الكاتب الغاضب والرافض والمتمرّد، كما تماهى أسلوبه لوهلة مع تيّار «الرواية الجديدة»، قبل أن يذهب إلى مزيد من الهدوء الشكلي، ومن العمق الميتافيزيقي في الثمانينيات. الثورة ستصبح مستبطنة مضمرة مستترة (سيحكي عن الطفولة والسعادة والأقليات المستضعفة). فيما سيهدأ الأسلوب، ليتخذ منحى كلاسيكياً في الظاهر، محتضناً كالبراكين الراكدة كل قوّة لو كليزو وعبقريّته الأدبيّة. إنّه الكاتب الذي حقّق انتشاراً في المكتبات من دون أن يقدّم أدنى تنازل على مستوى النوعيّة.

تلك البساطة الخادعة، الأنيقة، المترفة، المحمّلة بالمعنى والألوان والحرارة والجمال والانفعالات، هي ما يميّز أدب لو كليزيو. يدعو القارئ، من خلال مراقبة العالم، إلى التأمّل في أعماقه، بعيداً عن الموضة الباطلة. بكلمات متقشّفة يأخذه من يده كما يفعل الحكواتي البدائي الذي يجيد نقل الأساطير بشكل مادي ومحسوس، ليجعله يغوص في الطمأنينة والسلام والشعر، في حالة من النشوة التأمليّة... يصيخ السمع إلى تلك الأصوات الصامتة... علّه يدرك أخيراً ـــ مثل بطل «الباحث عن الذهب»  - أن السعادة الحقيقيّة هي في أعماقنا التي تعكس جمال العالم.

***

أبعد من «الرواية الجديدة»

سناء الخوري

تقف فرادة كتابة لو كليزيو حجر عثرة أمام أيّ نزعة نقديّة، أو أكاديميّة، لتصنيفها ضمن تيّار أدبيّ معيّن. بدأ الأديب يشقّ طريقه في أوائل الستينيات عندما فاز بجائزة Renaudot الفرنسيّة عن «المحضر» (1963)، في وقت كان فيه تيّار «الرواية الجديدة» بقيادة ألان روب غرييه في أوج مجده في الأروقة الأكاديميّة، إلى جانب الكتّاب الملتزمين بنقل فلسفتهم الوجوديّة من خلال الرواية والمسرح وعلى رأسهم جان بول سارتر وألبير كامو. في هذا السياق الزمني، لا يمكن فصل بدايات لو كليزيو عن الجوّ الأدبيّ السائد حينها. إذ كان على تماس مباشر مع قضايا هذه التيّارات وعلاقتها مع اللغة، لكنّه احتفظ في الوقت عينه بنبرةٍ خاصّة بدأت تتكرّس في رواياته اللاحقة.

لم يقتل لو كليزيو الأبطال بالكامل كما فعل روّاد «الرواية الجديدة». ولم يذهب إلى حيث ذهبوا في اختباراتهم على اللغة والجملة والحوارات، وفي تحطيمهم الكامل لكلّ ما قامت عليه أسس الرواية التقليديّة. أسلوب لو كليزيو في الكتابة يتقاطع مع أصحاب «الرواية الجديدة» في بحثه عن لغةٍ جديدة، لكنّه عوض أن يقول العالم بلغة مِن اختراعه قد تُحطّم الواقع الحقيقي، قرّر أن يكون ناقلاً لهذا الواقع، وهو لهذه الناحية أديب يرى إشاراتٍ لغويّة في كلّ ما يحيط به. نظرة لو كليزيو الأديب إلى الوجود لا يمكن أن تنفصل عن النصّ المكتوب، فهو يرى النصّ (واللغة) كائناً قائماً بحدّ ذاته، بغضّ النظر عن الحبكة والشخصيّات، وهذا ما يميّز لغته التي يصفها بعض النقاد بـ«الأفلاطونيّة» لناحية اعتبار الكلمة والجملة، الرمز الحقيقي والفعلي للأشياء الواقعيّة، ولناحية اعتبار الكلمات كائنات شفافة.
في هذا الإطار، يرى صاحب «صحراء» العالم كلّه نصّاً، واللغة سياقاً مسبقاً لعَيش الإنسان للواقع، وطريقه الوحيد إلى الحقيقة. تحوِّل لغة لو كليزيو الرمزيّة انطباعات الأبطال عن الأمكنة والأحداث إلى كائنات لغويّة، إذ قال في أحد حواراته الصحافيّة: «كلّ شيء في المدينة يبدو لي مكتوباً، كأنّها هندسة للكتابة». في الوقت نفسه، تبقى اللغة التي حاول أن يحرّرها من وظيفتها التقليديّة أداة للتعبير والتواصل. هنا، قد تكون وظيفة اللغة التواصلية التيمة الجوهريّة لكلّ أعمال لو كليزيو. يخرج التواصل عنده من إطار اللغة والإفهام إلى بعد فلسفيّ آخر، استقاه من الأساطير الهنديّة والمكسيكيّة التي تأثّر بها كثيراً لناحية الرغبة في تواصل الإنسان مع العناصر، والتواصل بين المجتمع البشريّ والكون.

لكنّ هذه الرغبة بالتواصل تحوّلت إلى رغبة أخرى في تحويل الكلمات إلى سحر، والنصّ إلى وسيلة للبحث عن أوتوبيا تترجمها الموسيقى اللغويّة وشخصيّات الأطفال والنساء الحاضرة بقوّة في كلّ رواياته (معظم أبطاله نساء). في هذه النقطة تحديداً تتحوّل اللغة إلى أداة للتعبير عن مكنونات هذه الشخصيات وصراعها الوجودي. رغبة في التواصل لكنّها تنتقد مسببات الصراع الذي تعيشه شخصيّاته في رحلة البحث عن وسيلة لفهم العالم، ما يبدو محاولة مستحيلة لأنّها قبل كلّ شيء ذاتيّة. من هنا يأخذ الوصف مساحةً كبيرة في السرد الروائي، وذلك بحسب رؤية الشخصيات أنفسها للأماكن المحيطة وانطباعاتها عنها، ما يعمّق أسلوبيّاً تيمة الوحدة، وتيمة النظرات التي يلقيها الأبطال على محيطهم أو يتبادلونها. رغم هذا التركيز على تجربة الشخصيّات الداخليّة في النظرة إلى الكون، تبقى لغة لو كليزيو خالية من أيّ رسالة «مفيدة». الأديب نفسه يرى أنّ الأدب ليس مفيداً بالمعنى العملي للكلمة، لكنّه يتناول أكثر مواقف الإنسان المعاصر الجدليّة لناحية وحدته، وبحثه عن مكانٍ لاختلافه، وعلاقته بالمال، ونظرة الفقراء وشعوب الجنوب إلى العالم الغربي، وهي نظرة تبحث عن وسيلة لتفهم فيها عالماً يفتقر إلى السعادة الفطريّة. هكذا، يمكن أن تكون كتابة لو كليزيو هي المثال للكتابة المعاصرة، بانفتاحها على التأويلات المختلفة التي تجعل حكم القارئ المرجع الأخير لأي تأويل، وخصوصاً أنّ محاولة نقل الحقيقة من خلال نظرة الشخصيّات واللغة الشفافة الرمزيّة تبقى بكلّ الحالات غير مكتمل، حتّى ولو فاز لو كليزيو بجائزة نوبل.

***

عن الهويات المتصدّعة و«النشيد الكوني»

حسين بن حمزة

بمنحها «نوبل» للو كليزيو، لا تكافئ الأكاديمية السويدية موهبة هذا الروائي فقط، بل تكافئ أيضاً روح الترحال والمغامرة التي تسري في أعماله. الاحتكاك بحضارات وجغرافيات غريبة هي سمة نصوصه وحياته الشخصية أيضاً. في أعماله، يصعب الفصل بين خياراته الأسلوبية والمادة الواقعية التي كُتبت وفق تلك الخيارات. لكن هذا المزج والترابط بين عالمه الروائي ومواد هذا العالم، لا يحدثان بمفهوم الرحلة السياحية. الرحلات قادته إلى الاصطدام بقضايا تخصّ البيئات التي ذهبت إليها رواياته. أبطاله طالعون من الحيوات الخلفية والسفلية والمعدومة لمجتمعاتهم. البيئات التي احتكّ بها حفرت شقوقاً في هويته الفرنسية المتصدّعة أصلاً بين والد إنكليزي وأم فرنسية. الترحال ـــــ على أي حال ـــــ لم يكن خياراً ذاتياً له، بل نوعاً من الوراثة في عائلة موسومة بالترحال. والده كان طبيباً يمارس المهنة في الأماكن النائية والصعبة. كان «طبيباً بلا حدود» قبل ولادة المنظمة، كما يقول لو كليزيو نفسه الذي التحق به في نيجيريا وهو في السابعة. استمر الترحال كنوع من القدر والرغبة معاً. وهو ما يتضح عبر سعيه شاباً للتطوّع في البحرية، لكنه لم يُقبَل.

ولعل فشله هذا يبرر لاحقاً إنجازه رواية «مصادفة» التي تدور أحداثها على سطح سفينة تمخر البحار. ثمة عامل آخر، وهو الحرب التي عاشها وأصابته بتصدّعٍ إضافي. إذْ وُلد في السنة الثانية للحرب العالمية الثانية، ثم ترعرع في حقبة الحروب الاستعمارية. فمن جهة الأب: كان البريطانيون يحاربون في ماليزيا، بينما كانت حروب فرنسا في الهند الصينية ولاحقاً في الجزائر، تُخاض من جهة الأم. الحرب - كسمة مرافقة لحداثة الغرب وسياساته - حضرت مبكراً في أعماله. بعدها لم يكن غريباً أن تحضر السمات الغربية الأخرى: العنصرية، التوحش الرأسمالي، كراهية الأجانب والقادمين من المستعمرات والمهاجرين.

عوالم عدة، إذاً، تسرّبت إلى هذه الهوية الضيقة، وجعلتها على تماس حيوي وصدامي مع العالم. في بانكوك أثناء خدمته العسكرية، سبّب مقالٌ كتبه عن دعارة الأطفال، في تايلاند، طرده. ثم أُرسل إلى المكسيك، حيث كان منعطف حاد بانتظاره. عاش هناك 20 سنة (1967- 1995). اشتغل على تراث الهنود الحمر، وكرّس لهم عدداً من كتبه. انحيازه للقضايا العادلة كتَّبه «نجمة تائهة» التي روى فيها مأساة الفلسطينيين بعد النكبة، وأكسبته عداء الأوساط الصهيونية في فرنسا واتُّهم باللاسامية.
كتب الحياة اليومية للبشر الذين اختلط بهم. لم يكتب عنهم بل كتبهم. لا نجد في أعماله وصفاً برّانياً، أو ترجمة ذهنية لأفكار مسبقة. الأسلوب المباشر والوقائعي لرواياته أعطاها نكهة إثنوغرافية ممزوجة بلغة السرد عند الرحالة والمستكشفين الأوائل. لعلّ هذا يُذكّرنا بروائي آخر هو ف. س. نايبول، صاحب نوبل - 2001، لكن في الاتجاه المعاكس! إذ إنّ نايبول بدا كارهاً لأصوله كابن للمستعمرات. وحين ذهب إلى إيران ومصر وإندونيسيا وباكستان، لم ينقل إلى كتبه عن تلك الرحلات سوى الاشمئزاز من التقاليد السائدة في الإسلام. لكنّ إيجابية لو كليزيو تجاه الشعوب التي كتب عنها لا تُوقعه في باب التعاطف السطحي. وعلينا ألا نقع في الهستيريا التقليدية التي تدفعنا إلى النبش في سيرة أي صاحب «نوبل»، والتأكد مما إذا كان معنا أم ضدنا، متناسين أنّ الأدب لا يُحاكم بهذه الطريقة الساذجة. رغم ذلك، سيجد العرب شيئاً يدغدغ مشاعرهم في فوز لو كليزيو: إضافة إلى الضجة التي أثارها «نجمة تائهة»، هناك زوجته ذات الأصول الصحراوية المغربية. ولعلّ روايته «سمكة من ذهب» التي نُقلت إلى العربية (ترجمة عماد موعد)، هي محاكاة غير مباشرة لتغريبة زوجته كواحدة من أفراد الجيل الشمال أفريقي الذي هاجر إلى فرنسا وتجرّع مرارة الاندماج. علاقة لو كليزيو بالعالم العربي هي - في النهاية - جزء من سيرته المرتحلة بين عوالم وحضارات عديدة. إنّها السيرة التي قادته ذات يوم من 2001 إلى بيروت، لنكتشف وقتها أنّه يعرف الأدب العربي جيداً.

بالنسبة إلى لو كليزيو، لا حدود جغرافية للكتابة. وعلينا أن نصدّقه حين يسمّي سفره - الكتابي والجسدي - بين العوالم بـ«النشيد الكوني».

***

أكبر كاتب فرنسي على قيد الحياة

عثمان تزغارت

أحد أكثر الكُتّاب الأوروبيين معاداةً لـ«ثقافة الهيمنة» الغربية. انتُخب في استفتاء أجرته مجلة Lire عام 1994 كـ«أكبر كاتب فرنسي على قيد الحياة». ويُعد أوّل فرنسي ينال «نوبل» منذ 1985، حين منحت الجائزة إلى رائد «الرواية الجديدة» كلود سيمون. وإن كان الأدب الفرنسي كوفئ ـ بصورة غير مباشرة ـ عبر منح «نوبل» 2000 إلى الروائي الصيني غاو غزينغ ـ جيان الذي يقيم في فرنسا ويكتب بلغتها. حاز جان ـ ماري غوستاف لو كليزيو الشهرة والنجاح دفعةً واحدةً فور صدور «المحضر». لكنّه اختار التغريد خارج السرب، فابتعد عن الإستبليشمنت الثقافي الرسمي الفرنسي، وخالف التيارات السائدة في الأدب الفرنسي المعاصر، وانتقد إغراقها في المحلية، ووقوعها في شرك النرجسية المتعالية عن الآداب واللغات الأخرى، واتخذ من السفر والانفتاح على الثقافات والشعوب المهشّمة مادة أعماله، ليبدع 50 عملاً بين الرواية والقصة والأبحاث الأنتروبولوجية المخصّصة للثقافات الهندية واللاتينية المجهولة والمهدّدة بالانقراض.

في بداياته، كان متأثراً بالمنحى التجريبي لـ «الرواية الجديدة» الفرنسية. وحملت أعماله حتى منتصف السبعينيات تأثيرات واضحة لاثنين من رواد هذا التوجّه: ميشال بيتور وجورج بيريك. ومن أشهر أعماله في تلك المرحلة: «الحمى» (1965)، «النشوة المادية» (1967)، «كتاب الهروب» (1969)، و«دروب الإبداع» (1971). في منتصف السبعينيات، ابتعد عن المنحى التجريبي إلى أسلوب أكثر سلاسة وبساطة، مغلّباً تيمات الدفاع عن الأقليات والثقافات المجهولة على هاجس الاشتغال على اللغة الذي طغى على أعمال مرحلته الأولى.

هذا التحوّل سمح له بالوصول إلى جمهور أوسع، عبر أعمال مستوحاة من عوالم ثقافية متعددة، ومن أشهرها «رحلات إلى الطرف الآخر» (1975)، «المجهول على الأرض» (1978)، «رحلة إلى بلد الأشجار» (1978).. ووصولاً إلى رائعته «صحراء» (1980) التي نال عنها جائزة «بول موران» التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية. خلال السنة ذاتها، نشر «ثلاث مدن مقدّسة»، ثم أتبعها بـ«الرحلة التفقّدية وجرائم أخرى» (1982)، و«الباحث عن الذهب» (1985). وفي التسعينيات، نشر «نجمة تائهة» (1992)، «السمكة الذهبية» (1997) (صدرت بالعربية «سمكة من ذهب» عن وزارة الثقافة السورية). ومن آخر أعماله «الإفريقي» (2004)، «راجا: القارة المنسيّة» (2006)، و«موّال الجوع» (2008).

***

سيرة

لا الشهرة كانت تنقص جان - ماري غوستاف لو كليزيو، ولا الجوائز. في الـ23، فازت باكورته الروائية «المحضر» (1963) بجائزة «رونودو» الفرنسية... ثم نال عام 1980 جائزة «بول موران» عن مجمل أعماله، وخصوصاً «صحراء». وبعد حوالى 50 عملاً بين رواية وقصّة وكتابات نقديّة، ونصوص مختلفة، وأعمال جماعية، وترجمات للميثولوجيا الهندية والحضارات القديمة، عدّ معظمها نقداً للغرب المادي وتعاطفاً عضويّاً مع الأقليات والضعفاء والمهمّشين، ها هو يتوّج هذه المسيرة الغنيّة بجائزة «نوبل» (حوالى مليون يورو) التي منحتها الأكاديمية السويدية أمس إلى «كاتب القطيعة».

بدأت علاقته بعالم الكتابة حين كان في السادسة، يوم اصطحبته والدته إلى نيجيريا لملاقاة والده. هكذا، كتب عن البحر... وبعد سنوات، اختار اللغة الفرنسية وطناً نهائيّاً. صحيح أنّ انتماءه هذا جاء أوّل الأمر كردّ فعل، واحتجاج على الاستعمار البريطاني لجزر موريس التي هاجر اليها أجداده في القرن الثامن عشر. إلا أنّه سرعان ما اكتشف في تلك اللغة «موطناً انصهرت في بوتقته الحضارات القديمة».

ولد جان - ماري غوستاف لو كليزيو في نيس (جنوب فرنسا) في 13 نيسان (أبريل) 1940. من جرّاح موريسي، نسبة إلى جزر الموريس التي هاجرت إليها عائلته في القرن الـ18 من مقاطعة Bretagne في الغرب الفرنسي. والموريسي إنكليزي حكماً بحكم سيطرة التاج البريطاني على تلك الجزر. أما أمّه، ففرنسيّة من بروتاني أيضاًً. بعدما نال جائزته الأدبية الأولى، بدأ العمل في جامعتي بريستول ولندن، مخصّصاً دبلوم الدراسات العليا للشاعر الفرنسي (من أصل بلجيكي) هنري ميشو. درّس في جامعات بانكوك ومكسيكو سيتي وبوسطن.... وفي 1967 أدى خدمته العسكرية في بانكوك من خلال نظام التعاون الذي يربط البلدين، لكنّه سرعان ما طُرد بعدما كتب عن دعارة الأطفال في تايلاند. هكذا وجد نفسه في المكسيك حيث عمل 4 سنوات في «معهد أميركا اللاتينية» مشاركاً حياة الهنود في بنما، وقد طبعت هذه المرحلة مسيرته الأدبيّة وحياته. ثم علّم لاحقاً في البوكيرك في نيو مكسيكو حيث يمضي الآن جزءاً أساسياً من وقته مع زوجته المتحدّرة من أصل صحراوي مغربي، وقد شاركته بعض تجاربه الأدبيّة. وغالباً ما يزور نيس التي أبصر فيها النور، ومنزله في دوارنيني، في منطقة بروتاني.

من أعماله التي أثارت ضجّة في الإعلام «نجمة تائهة» (1992) التي تحكي هجرة اليهود إلى فلسطين من وجهة نقديّة (إذ تناولت المأساة الفلسطينية والمراحل الأولى من تشكّل المخيم)، ما أدّى إلى حملات ضدّه في الأوساط الصهيونية في فرنسا. نذكر أيضاً: «الحمّى» (1965)، و«الطوفان» (1966)، و«النشوة المادية» (1967)، و«الحرب» (1970)، و«ثورات» (2003). وتبرز من بين رواياته كلّها «صحراء» التي يعدّها النقّاد أروع أعماله... وصولاً إلى «موّال الجوع» (2008).

على رغم بلوغه الـ68، ما زال يحتفظ بمظهر فتيّ بقامته الممشوقة وعينيه الزرقاوين، وقد لُقِّب بـ«كاتب الترحال» والـ«هندي في المدينة» و«الحلولي الرائع» نسبةً إلى المذهب الحلولي القائل بوحدة الوجود، وكلّها ألقاب تشهد على شغفه بالثقافات القديمة والفضاءات البعيدة.

الاخبار
الجمعة ١٠ تشرين أول ٢٠٠٨

*****************

في الثامنة والستين ... وله أكثر من أربعين كتاباً ... نوبل للآداب للفرنسي لوكليزيو روائي الأسفار والجغرافيا المنسية

كتب عبده وازن

لوكليزيو يتحدث في باريس أمس بعد إعلان نيله الجائزة. (رويترز)

كان اسم الكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو المعروف بـ «لوكليزيو» مرشحاً بقوة هذه السنة للفوز بجائزة نوبل للآداب، وفاز بها أمس وعن جدارة وبعيداً من أي تأويل سياسيّ. وكم أصابت الأكاديمية السويدية في وصفها إياه في براءة الجائزة بـ «كاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية ومستكشف ما وراء الحضارة السائدة». فهذا الكاتب الذي كان يحلم في طفولته أن يصبح بحاراً، خاض عالم البحر في السابعة من عمره، وكتب عنه أول نصوصه بعد رحلة قام بها مع أهله على متن سفينة أبحرت من مدينة بوردو الفرنسية الى نيجيريا. ولم يكن مستغرباً أن يجعل من الكتابة لاحقاً وجهاً آخر للسفر، السفر في اللغة وفي الحضارات المنسية، والسفر في الجغرافيا وما وراءها.

في الثامنة والستين لا يزال لوكليزيو في أوج عطائه. هذا ما تشي به روايته الصادرة حديثاً بعنوان «لازمة الجوع» وقد كان لها وقع الحدث في موسم الخريف الباريسي، وهي ليست بغربية عن عوالم لوكليزيو وآفاقه الرحبة لأنها قصة حب مستعادة من سيرته العائلية في جوّ الحرب العالمية الثانية. وإن كان لوكليزيو من أغزر الروائيين الفرنسيين فهو عرف كيف يتحاشى التكرار والرتابة، منفتحاً على الحضارات والشعوب، مضرماً في اللغة جذوة التألق. وقد كتب في الرواية مثلما كتب في الفن القصصي والحكايات وأدب الأطفال والنقد... ونجح في أن يخلق جواً فريداً في قلب العمل الروائي جاعلاً من الرواية فناً مفتوحاً على سائر الأنواع الأدبية، كالشعر والمذكّرات والشذرة أو الحكمة. وقد تكون لغته البديعة، المتدفقة والمنسابة كالماء، هي الشرك الذي سرعان ما يقع فيه القارئ فتجذبه بفتنتها وتفجراتها الجمالية. ولعلها هي التي منحته خصائص ميّزته عن الروائيين الفرنسيين السابقين والمحدثين. وكانت تبلغ به نزعته الشعرية ذروتها في أحيان فيضمّن رواياته قصائد أو ما يشبه القصائد. هذا ما حصل في «صحراء» و «كتاب المهارب» وسواهما.

جاب لوكليزيو أطراف العالم والقارات، غرباً وشرقاً، ووجد في المكسيك وبعض بلدان أميركا اللاتينية فضاءات أخرى للاستيحاء والكتابة، وأقام وسط هنود باناما أشهراً وعاش حياتهم، وترجم الكثير من النصوص الميثولوجية القديمة. ولم تغب عنه جزيرة موريشيوس في ما وراء البحار، فحضرت في أعماله مثلما حضرت أمّه المتحدّرة من تلك الجزيرة ووالده البريطاني وأطياف طفولته التي امضاها متنقلاً بين مدينة وأخرى.

كان في الثالثة والعشرين عندما أصدر روايته الأولى «المحضر» التي فازت حينذاك بإحدى الجوائز المهمة وألقت عليه ضوءاً ساطعاً كروائي شاب وطليعي. ومنذ تلك الرواية لم يتوقف عن الكتابة حتى تخطت أعماله الأربعين كتاباً. فالكتابة في نظره هي الطريقة الوحيدة للبحث عن الخلاص، عن خلاص يصعب أن يتحقق، ما يجعل الكتابة فعلاً مستمراً. في ختام روايته «كتاب المهارب» يقول: «الحياة الحقيقية لا نهاية لها. الكتب الحقيقية لا نهاية لها أيضاً».

وانطلاقاً من هذه اللانهاية تبدو روايات لوكليزيو وقصصه وحكاياته كأنها حلقة متواصلة، تلتقي أجزاؤها وتنفصل لتلتقي مجدداً. فهذا الكاتب القلق إزاء متاهات العالم المعاصر والمفعم بالمآسي، سعى الى ترسيخ التناغم بين الإنسان والعالم، بين الروح والجسد، بين الفرد والجماعة، بين التاريخ والماوراء. وكان لا بدّ له من أن يواجه الحروب على اختلاف أنواعها: حرب الجماعة ضد الفرد، حرب العالم ضد الإنسان، وحرب البشر بعضهم ضد بعض.

وكتب أيضاً عن الأقليات المنسية على أطراف العالم وعن الأسفار التي خاضها وعاد أكثر من مرة الى ماضيه الشخصي والعائلي، ماضيه المشرع على البحر والغربة مستوحياً إياه في روايات وقصص عدة.
في العام 1994 اختير لوكليزيو «أكبر كاتب حيّ في فرنسا»، وهذا الاختيار كان مكافأة فرنسية يستحقها كل الاستحقاق. فهو الذي طوّر الرواية الفرنسية كما ورثها عن «الآباء» سواء في القرن التاسع عشر أو في النصف الأول من القرن العشرين، «صنع» روايته الخاصة، بعيداً من الموجات المتقلبة و «الموض» أو «الصرعات» التي ما كانت لتدوم إلا فترات قصيرة. لوكليزيو روائي نسيج وحده كما يقال، ليس في لغته الساحرة ومناخه بل أيضاً في العوالم الغريبة التي خاضها وأدخلها في صميم لعبته الروائية الفريدة.
ولئن تُرجمت أعمال لوكليزيو الى لغات شتى فهو لم يُترجم له الى العربية سوى مجموعة قصصية عنوانها «ربيع وفصول أخرى»، وقد أنجز الترجمة الكاتب محمد برادة وصدرت في القاهرة والدار البيضاء عام 2003.

الحياة
10/10/2008

***************

لوكليزيو الفرنسي الرابع عشر في لائحة نوبل للآداب آخر تحديث

1/1

بفوزه مساء أمس بالجائزة الأدبية الأرفع في العالم يصبح الكاتب الفرنسي “جان ماري جوستاف لوكليزيو” الفرنسي الرابع عشر الذي يُدرج اسمه في لائحة شرف نوبل للآداب منذ تأسيسها العام ،1901 غير أن هذا الفوز لم يكن متوقعا لكاتب فرنسي وقع عام 1988 في مواجهة مع الأوساط الصهيونية في فرنسا لمناصرته حقوق الشعب الفلسطيني وعلاقته بالبعض من مثقفيه، وكانت هذه الأوساط قد عدته مشبوهاً، على غرار جان جينيه، بعد أن نشر جزءاً من روايته “نجمة تائهة” التي كان يعمل على كتابتها في مجلة دراسات فلسطينية بطبعتها الفرنسية، متناولاً فيها مأساة اللاجئين الفلسطينيين والمراحل الأولى من تشكل المخيم الفلسطيني، أضف إلى ذلك علاقته الوطيدة بالهنود الحمر في أمريكا وأمريكا اللاتينية، بل ورواياته التي لا تتحدث إلا عن المهمشين غالبا، فهو الكاتب الذي يبحث عن صوت الآخر وليس بالكاتب الغربي والتقني والأنيق بحسب المعايير السائدة للجنة التحكيم في نوبل، بهذا المعنى فإن نوبل الآداب لهذا العام تشكل واحدة من التفاتاتها النوعية والنادرة كما هو الأمر مع بابلو نيرودا أوائل السبعينات.

يعتبر جان ماري جوستاف لوكليزيو أحد أكبر كتاب فرنسا ليس الأحياء فقط بل وفي القرن العشرين كله، ولد في مدينة نيس عام،1940 من أب بريطاني ذي أصل بريتوني وموريسي ومن أم فرنسية. قبل التحاقه بوالده عام 1948 في نيجيريا، ربته أمه وجدته، حيث كان لتلك المرحلة أكبر تأثير على اتجاهه نحو الكتابة، فقد اكتشف فيها الكتب التي كانت تملأ المنزل العائلي، إضافة إلى أن الجدة كانت تمتلك مخزوناً كبيراً من الحكايات. ووجد فيه النقاد “لوتريامون” و”ميشو” و”ارتو” معا. فقال الناقد “دي سكانو” عن لغته: “هي موسيقا تجمع أغنيات الريح والبحر والكون”. أما نصوصه فتحمل صفة القلق والخوف اللذين يطاردان الانسان في المدن الغربية بشكل لا يكاد ينتهي في كتاباته، منذ روايته المعروفة “الطوفان” التي كتبها عام 1966.

وكان عام 1967 عاماً حاسماً في حياته الشخصية والأدبية، حيث أدى خدمته العسكرية في بانكوك، غير أنه أرسل فيما بعد إلى المكسيك ليشكل ذلك بالنسبة له صدمة حقيقية، حيث يبدأ بالعمل على تراث الهنود الحمر. فقد شارك لوكليزيو، ما بين 1970-،1974 الشعوب الهندية في مقاطعة دارين البنمية حياتها، فكتب عن هذه التجربة: إنها صدمة حسية كبيرة، صعبة، كان الجو حاراً، وكان عليّ أن أمشي مسافات طويلة على الأقدام. كان عليّ أن أصبح خشناً، صلباً. منذ تلك اللحظة، اللحظة التي لامست فيها هذا العالم لم أعد كائناً عقلياً. أثرت هذه اللاعقلية فيما بعد في كلّ كتبي.

وهكذا يكرس لوكليزيو العديد من الكتب حول المكسيك والهنود الحمر منها ترجمات عن النصوص القديمة “نبوءات شيلام بالام” 1976”علاقة ميشوكان”، “الحلم المكسيكي” 1985 “أغاني العيد” 1997 ديغو وفريدا (1994).

ما بين عامي 1978 و،1979 أصدر لوكليزيو “المجهول على الأرض”، وموندو وقصص أخرى وترجمها إلى العربية الشاعر الفلسطيني عماد موعد وصدرت عن وزارة الثقافة السورية قبل أكثر من خمس سنوات وهو الكتاب الذي حقق نجاحاً كبيراً في المكتبات، وفي ذات الفترة يصبح عضواً في لجنة قراءة منشورات غاليمار. وفي عام 1980 يمنح جائزة بول موران من قبل الأكاديمية الفرنسية، وينشر “ثلاث مدن مقدسة” و”الصحراء” التي ستحوز على جائزة غونكور وتترجم إلى العربية.

يسعى لوكليزيو في أعماله، إلى رفض أساطير العالم الغربي الزائفة المدمرة والهروب من معطياتها وشروطها، يقول: “من خلال علاقتي بالهنود غيّرت الصورة التي أحملها عن الزمن. قبل ذلك، كنت مذعوراً بكثير من الأشياء التي لم تعد ترعبني: الخوف من الموت، المرض، القلق من المستقبل. ذلك لم يعد يرعبني الآن... ترعبني فكرة أن أطفالي يمكنهم أن يعرفوا المرض أو الموت، كذلك الحروب العبثية أو الوحشية مثل التي عشناها، وكذلك احتمال وقوع الكوارث البيئية. إن مسؤوليتنا أمام أجيال المستقبل مسؤولية كاملة. إذا تعلمنا العيش مثلما يعيش الهنود الأمريكيون أو مثل هؤلاء سكان الصحراء، بالتأكيد لن يكون لدينا هذا القدر من الكوارث.... هناك ضرورة ملحة لسماع أصوات أخرى، للإنصات إلى أصوات لا ندعها تجيء إلينا، أصوات أناس لا نسمعهم لأنهم استهين بهم لوقتٍ طويل، أو لأن عددهم ضئيل، ولكن لديهم الكثير من الأشياء لنتعلمها”.

ولعل معظم شخصياته الرّوائية ترحل في عالم من التيه والتطواف، التطواف الذي يؤسس وجود الشخصية ويبرهن على حريتها. وغالباً ما تكون هذه الشخصيات شخصيات مراهقين، أنقياء جداً.. وفي الوقت ذاته، قساة جداً. ينطلقون في الحياة، عليهم واجب التغلب على الصعاب لإنقاذ العالم وأنفسهم من التدمير والفساد. وكذلك فإن الحضور القوي للشخصيات النسائية يثير الاهتمام، إنهن من ينقلن الذاكرة والتجربة والنقاء.

تجدر الإشارة هنا إلى أن لوكليزيو أصدر مع زوجته ذات الأصل الصحراوي المغربي، في العام ذاته، كتاب “أناس الغمام” ليرويا فيه حكاية رحلتهما في الصحراء الغربية. يقول لوكليزيو فيه: “كنت أذهب نحو المجهول، فيما كانت جيما تعود نحو ماضيها”.

الخليج
10 اكتوبر 2008

****************

جان ماري غوستاف يفوز بجائزة نوبل للآداب

اختير ككاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرات الشعرية ومكتشف ماوراء الحضارة

أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في ستوكهولم أمس فوز الفرنسي جان ماري جوستاف لوكليزيو 68 عاماً بجائزة نوبل للآداب هذا العام 2008 .

وقالت الأكاديمية إنها قررت منح الجائزة للكاتب ''صاحب المغامرة الشعرية وكاتب النشوة الحسية والباحث عن الإنسانية داخل وخارج الحضارة السائدة''. وسيتلقى لو كليزيو المعروف بروحه الشابة شيكا بقيمة 1,02 مليون يورو في مراسم احتفالية بالعاصمة السويدية ستوكهولم في العاشر من ديسمبر المقبل والذي يوافق ذكرى وفاة ألفريد نوبل، مؤسس الجائزة.

وفي أول رد فعل من غوستاف قال إنه يشعر بـ''الامتنان والفخر'' لفوزه بجائزة نوبل للآداب هذا العام. وقال لوكليزيو في مقابلة مع إذاعة ''إس.أر'' السويدية أمس بعد إعلان الأكاديمية الملكية السويدية نبأ فوزه بنوبل: هذا شرف كبير.. أشكر الأكاديمية السويدية''. وأضاف أن زوجته هي التي تلقت المكالمة الهاتفية التي حملت نبأ الفوز بنوبل حيث كان منشغلا في هذا الوقت بالكتابة، وأكد لوكليزيو عزمه حضور حفل تسليم جوائز نوبل.

من جانبه قال الرئيس الفرنسي نوكلا ساركوزي في بيان صادر عن قصر الإليزيه أمس: لوكليزيو مواطن عالمي فهو ابن لجميع القارات والحضارات ويجسد في عالم متعولم الإشعاع الفرنسي وثقافته وقيمه وقوة الفرانكفونية. وأضاف :أهنئه (لوكليزيو) باسم جميع الفرنسيين على هذه الجائزة الرفيعة التي يحصل عليها أديب ويكرم من خلالها فرنسا واللغة الفرنسية وجميع المجتمعات الناطقة بالفرنسية.

وكان من الأسماء التي ترددت في الأوساط الأدبية السويدية لنيل جائزة نوبل للآداب، والتي منحت العام الماضي إلى الأديبة الإنجليزية دوريس ليسينج، إضافة إلى اسم غوستاف كلا من الروائية الالمانية الرومانية الأصل هرتا مولر والشاعر الكوري الجنوبي كو اون والجزائرية العضوة في الأكاديمية الفرنسية آسيا جبار. إضافة إلى اسماء أخرى كان يحتمل أن تفوز بنوبل للآداب والتي غالبا ما تطرح هم: الشاعر السوري ادونيس (علي أحمد سعيد) والأسترالي لي موراي والبيروفي ماريو فارغاس للوسا والإسرائيلي عاموس عوز والياباني هاروكي موراكامي والإيطالي انتونيو تابوتشي.

وكان قد ثار جدل في فترة التحضير لاعلان جائزة نوبل للآداب بعد أن قال أمين دائم في اللجنة التي تختار الفائز بالجائزة الأسبوع الماضي إن الولايات المتحدة ''معزولة'' بدرجة كبيرة ولا تشارك في ''حوار'' الأدب العظيم. وفجر هوراسه انجدال عضو الأكاديمية السويدية عاصفة غضب من جانب الكتاب والنقاد الأميركيين بسبب تصريحاته التي أدلى بها لوكالة الأنباء. وكانت المرة الأخيرة التي فاز فيها أميركي بجائزة نوبل للآداب عام 1993 حين ذهبت للروائي توني موريسون.

ولد جان ماري غوستاف لوكليزيو في نيس بفرنسا لأب بريطاني وأم فرنسية في 13 أبريل عام ،1940 والتحق بوالده في نيجيريا وهو في الثامنة، وقرأ الكتب والحكايات بنهم، ونشرت روايته الأولى وعنوانها ''المحضر الرسمي'' عام ،1963 وأدى الخدمة العسكرية في بانكوك عام ،1967 وأثرت هذه التجربة على شخصيته بوضوح، وكتب مقالاً في صحيفة ''فيغارو'' حول دعارة الأطفال في تايلاند، وطرد بسببه من هناك، فرحل إلى المكسيك، وشكل اكتشافه لها صدمة كبيرة، إذ عمل على تراث الهنود الحمر وشاركهم حياتهم، وترجم نصوصاً قديمة لهم.

وأضاف غوستاف لوكليزيو إلى حرفة الكتابة شغفاً بالترحال والترجمة والصحافة، وحصلت بعض أعماله على جوائز رفيعة منها جائزة بول موران التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية عام ،1980 وجائزة غونكور. ومن أبرز إبداعاته: رحلة إلى رودريغس عام 1986 العزلة عام ،1995 قلب يحترق عام ،2001 ثورات عام ،2003 ومعظم شخصيات رواياته ترحل وتطوف وتكتشف حرة ونقية وقاسية.

وبرع غوستافو في الإنصات إلى أصوات لا يسمعها أحد، ومهارة في مزج التجربة الشخصية بالإبداع الفني، فجاءت أعماله كاشفة للتشوهات التي تصيب الأرواح، وجاذبة للخيط الإنساني الكامن في أعماق البشر.

وظل سؤال الكينونة هاجسه وحافز مغامراته، وقد مثل في إبداعاته الكاتب الباحث عن صوت الآخر، والرافض لأساطير العالم الغربي الزائفة المدمرة، والمبتعد عن شروطها وإملاءاتها.

زوجته جيما من أصل مغربي، وهي كاتبة مبدعة، وقد أصدر وإياها عملاً مشتركاً اسمه ''أناس الغمام''، رويا فيه رحلتهما في الصحراء الغربية الإفريقية، وقال فيه: كنت أذهب نحو المجهول بينما كانت جيما تعود إلى ماضيها.

الاتحاد
10 اكتوبر 2008