1/1
“مشاعل على الطريق”، كان أول برنامج إذاعي يتناول الأدب العربي بمختلف أشكاله الابداعية من شعر وقصة قصيرة ودراسات نقدية في موضوع القضية الفلسطينية.
ما زلت أذكر البدايات التي ترجع إلى عام 1961 ومن إذاعة فلسطين من القاهرة، إحدى إذاعات صوت العرب في ذلك الزمان، كنت حينها طالباً في جامعة القاهرة، ولكنني تفرغت للعمل الاذاعي الذي استغرق وقتي كله بما فيه وقت الجامعة وجزء من وقت النوم.
بدأت تتسرب عبر بعض القنوات قصائد لسميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش.
جذبتني قصائدهم جميعاً فقد كان فيها نفس شعري جديد، لم نعتده في تلك المرحلة التي كان فيها شعراء مثل نازك الملائكة وفدوى طوقان وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي والذي انتشرت بهم ومعهم البدايات الأولى لشعر التفعيلة.
القصيدة الأولى التي كنت أحفظها عن ظهر قلب كانت لأحمد عبدالمعطي حجازي التي كانت أشبه بالنشيد الوطني للمغرب العربي.
مدن المغرب
ترتج على قمة أوراس
زلزال في مدن المغرب
أيقظها بعد طويل نعاس
وتهب عواصف غربية
تنشب مخلبها في الثلج
وتقلّب أحشاء الموج
وانطلق زئير كالوهج
يجتاح القمة والتلاّ
بن بلاّ أسروا بن بلاّ
عندما قرأت القصيدة الأولى لمحمود درويش في برنامجي “مشاعل على الطريق” شعرت بأن هناك لهباً يتأجج في حروف تلك القصيدة. ألقيت القصيدة يومها وكأنني أنا من نظمتها، عشت خلالها في الأرض المحتلة لأواجه بالكلمات التي وضعها محمود على لساني ذلك المحتل الغاصب سواء كان عسكرياً أو مدنياً.
سجّل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجّل
أنا عربي
على رأسي عقال فوق كوفية
وأطيب ما أحب من الطعام الزيت والزعتر
الكلمات تبدو لمن يقرأها بسيطة.. رغم تلك البساطة لم تكن الكلمات تطفو على سطح المشاعر، بل كانت تغوض في أعماق المتلقي لتخبر بفرح أن هناك مقاومة تولد في الأرض المحتلة عام ،1948 وأن هؤلاء الفتية الذين ينشدون لها هم في داخل الأتون، يزهرون وهم في حالة الاحتراق.
استمر تقديمي لأعمال محمود درويش ورفاقه توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران وأميل حبيبي، إما بإلقائها أو بإلقاء الضوء عليها من خلال دراسة نقدية أو حوار مع أديب عربي من عام 1964 وحتى عام 1969.
في صيف ذلك العام كان اللقاء التاريخي بيني وبين محمود درويش في العاصمة البلغارية صوفيا ومن خلال مهرجان الشباب العالمي الذي حضره محمود ضمن الوفد القادم من “إسرائيل”، وحضرته ممثلاً لإذاعة صوت فلسطين.
اللقاء بأعضاء الوفد “الإسرائيلي” لم يكن أمراً مسموحاً به أو حتى مقبولاً، ولكنني عندما علمت بوجود محمود درويش مع كثير من رفاقه بين أعضاء الوفد لم استطع أن أمنع نفسي من البحث عن مكان إقامته والاتصال به والاتفاق على اللقاء.
وصف هذا اللقاء الآن بعد مرور هذه السنوات أمر صعب جداً ولذلك أرجع إلى الكلمة التي قدمت فيها محمود درويش في أول لقاء له مع جمهور الخليج في عام 1974 في مدينة أبوظبي، والتي جاء فيها وصف مختصر لذلك اللقاء، قلت في تلك الكلمة:
يذكر الأخ محمود عندما التقينا في العاصمة البلغارية صوفيا كيف تعانقنا طويلاً دون أن نستطيع أن نتكلم، وكانت الدموع وحدها هي التي تتحدث وتعبر عما يجيش في صدر كل منا.
كان كل منا يعرف الآخر، دون أن يتوصل حتى بصورة لوجهه، فهو كان يتابع برنامجي “مشاعل على الطريق” وأنا كنت من خلال البرنامج أيضاً أتابع قصائده، لذلك شعرنا منذ اللحظات الأولى بأننا أصدقاء قدامى.. هذا ما جعل محمود يفضي إلي بأمور شخصية خاصة يدرك هو قبل غيره مدى خطورتها، إذا لم تصن، على حياته في بلده المحتل فلسطين.
إنني أشعر بالاختناق في بلدي، أشعر بأنني أموت ببطء أريد أن أرحل.
* لماذا؟ لتضيف لاجئاً آخر إلى سجل اللاجئين الفلسطينيين؟
اللجوء أهون من الانسحاق في مجتمع يحكمك ويتحكم فيه عدوك الذي يحتل أرضك ويحاصر حتى أنفاسك.
أحسست بمدى الضيق الذي عانى ويعاني منه محمود درويش في حيفا.
حالة حصار
حدثني عن حيفا حيث يسكن ويعمل في جريدة “الاتحاد”، وكيف أن السلطات “الإسرائيلية” تمارس عليه كل أنواع العذابات النفسية والفكرية والجسدية، حدثني كيف تمنعه هذه السلطات من مغادرة حيفا، وحتى من مغادرة بيته فيها بعد حلول الليل.
قلت: قدرك أن تعيش ذلك الحصار وأن تتحداه بكلماتك التي تنتشر في الشباب الفلسطيني والعربي كانتشار النار في الهشيم.. ألست سعيداً بهذا القدر؟
أقسم أنني لمحت وهج الدموع في عينيه وهو يحدثني عن اللذة والألم وترابط الأمرين لديه.. فبقاؤه في ظل ذلك الاحتلال البغيض ألم لا يحتمل، ولكن في الوقت نفسه يجعله التحدي الذي يمارسه بكلمات قصائده يستمتع بلذة لا تعادلها لذة وهو يدرك جيداً ان اختياره للخلاص من الألم سيحرمه من اللذة، ولكن هو محتاج أن ينطلق كشاعر.. ولا يستطيع الانطلاق إلى عالمية الشعر في زنزانة مدينة حيفا الكبيرة.
حدثني عن قرية البروة في شمال فلسطين، وكيف هدمها “الإسرائيليون” وأقاموا فوقها قرية يهودية جديدة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقتلعوها من قلبه أو يمسحوها من فكره.
حاولت في ذلك اللقاء وفي لقاءات أخرى تمت بعده أن أثني محمود عن فكرة النزوح والخروج من حيفا.
ولا أنكر اليوم وبعد مرور أكثر من أربعين سنة على ذلك اللقاء أنني كنت قاسياً وأنني لم أفكر فيه كإنسان.. بل كبطل قومي مقاوم.. وأنني أردته أن يحترق ليضيء بدمه المشتعل وكلماته المقاتلة طريق التحرير.
ولم يبد أنه يخالف وجهة نظري في مسألة اللجوء هذه، ولكنه أشار إلى تلقيه دعوات مغرية من بعض الجهات العربية ليترك فلسطين، وأنه رفض هذه الدعوات كلها، واتفقنا أخيراً على أن بقاءه في فلسطين مقاوماً متحدياً أجدى من الضياع خارج الوطن.
فوجئت بعد مرور عام يزيد قليلاً أو ينقص، أن محمود درويش اختار الرحيل ووصل إلى القاهرة في ذات يوم من عام ،1970 ونشرت الصحف يومها صورة محمود بين وزير الثقافة آنذاك محمد فايق، ومدير صوت العرب محمد عروق في مؤتمر صحافي برر فيه مغادرته للوطن بأنه يهاجر من بلده ليكون أكثر قرباً منها بعدما أصبح مشلول الحركة والحرية بسبب سياسة الكبت والقهر “الاسرائيلية” ضده وضد شعبه.
في عام ،1974 وصل محمود درويش إلى أبوظبي، كنت أول من استقبله ورحب به، أقام في فندق زاخر، طلب مني أن أقدمه في أول أمسية شعرية يلتقي فيها بأبناء الإمارات، والمقيمين على أرضها. كانت أمسية محمود درويش في قاعة سينما الدورادو التي لا تبعد كثيراً عن فندقه الذي نزل فيه.
كان الطلب محرجاً، فأنا لم أخف عن محمود أنه باختياره الهجرة من وطنه بإرادته أصابني بشيء من خيبة الأمل.. وأنني ما زلت أرى أن شعره قبل اللجوء أفضل من شعره الذي نظمه بعد خروجه من دياره.
ولكن محمود أكد لي يومها أنه الآن أصبح أكثر قدرة على الارتفاع بمستوى الشعر وأن الشعر بالنسبة لديه قضية أساسية قد توازي قضية الكفاح من أجل تحرير البلاد وأنه يحاول أن يصل في عالم الشعر إلى العالمية.
ورغم تباين وجهات النظر إلا أن محمود درويش كان يدرك مدى حبي له، وحب جميع الذين أسفوا على خروجه من الوطن واختياره اللجوء بعيداً ليس عن حيفا فقط، بل عن أسرته، عن أبيه وأمه وإخوته.
في تقديمي لمحمود درويش أمام المئات الذين تزاحموا ولم تكفهم قاعة السينما الكبيرة، قلت ومازلت أحتفظ بالتسجيل الصوتي الكامل لتلك الأمية ومستعد أن أقدم هذا التسجيل النادر إلى صحيفة “الخليج” لتقوم بإهدائه لمن يطلبه:
لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام
ولذا لم يتفتت حبنا بين السلاسل
نحن يا أختاه من عشرين عام
نحن لا نكتب أشعاراً ولكنا نقاتل
آه يا جرحي المصابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق والأرض حبيبة
لا أدري لماذا اخترت هذه الأبيات من قصيدة يوميات جرح فلسطيني للشاعر محمود درويش التي نظمها بعد حزيران 1967 وأهداها للشاعرة فدوى طوقان التي جمعته بها نكبة جديدة واحتلال جديد، لأقدم بها الشاعر لكم.
أذكر أول مرة ألقيت فيها قصيدة لمحمود درويش كان ذلك في عام 1964 من إذاعة صوت فلسطين من القاهرة..
عندما وصلت إلى هذا المقطع من كلمة التقديم تحشرج صوتي، وبكيت وتغلبت على البكاء بالصراخ في إلقاء تلك القصيدة..
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
صوت شعب
كانت هذه الكلمات هي أول صورة أرسمها في مخيلتي لمحمود درويش وأقسم أنني يومها بكيت، كانت كل كلمة من كلمات هذه القصيدة عالماً حافلاً بالمعاني، كانت صوت شعب يتحدى ويرفض.. كانت صوتي المخنوق الذي انطلق.
وتساءلت، أو سألت عن السبب الذي جعلنا نشعر بروعة كل كلمة يقولها محمود درويش في تلك الفترة وأجبت: يمكن أن أقول ببساطة كان محمود بشعره هذا يقف موقفاً تاريخياً حاسماً ممثلاً لإدارة الرفض والتحدي لشعبنا.
ولكن كم من أصوات حملت الرفض والتحدي دون ان تصل إلى أعماق الوجدان العربي فتهزه كما هزته كلمات محمود درويش في ذلك الحين.
ثم تحدثت في تلك الكلمة عن لقائي بمحمود درويش في صوفيا عام 1969 وعن الحوار الذي دار بيننا حول موضوع الخروج من فلسطين وكيف اتفقنا معاً على البقاء والتمسك بالوطن والمقاومة حتى التحرير.
ولكن رغم خروجه فإنه سيظل رمزاً لإرادة شعبه وصمود أمته ولا يمكن ان نفكر للحظة أنه اختار الطريق الأسهل والموقع الأكثر أمناً.
واختتمت كلمتي بقولي: نرحب بصوت ضميرنا أينما كان موقعه وحيثما كانت ساحة جهاده فمرحباً بك يا أخانا.. يا صوت ضميرنا.. يانشيدنا الذي سنظل نردده حتى آخر رمق.. مرحباً بك يا محمود درويش.
وللتاريخ أسجل هنا ما قاله محمود درويش وبالحرف الواحد، ويمكن لمن يريد أن يصغي إلى صوته مسجلاً على كاسيت أو قرص مدمج وهو يقول هذه الكلمات:
“.. شكراً للأخ خليل.. الاخوة والأخوات ما كان بودي في هذه المناسبة وهي أول لقاء لي مع جمهور الخليج العربي أن أسمع نصف مرثيتي.
وإنني أجد صعوبة شديدة في اختيار النماذج الشعرية التي نسمعها معاً هذا المساء..
ثمة جدل اعتبر أنه ضرب من ضروب الترف الفني.. أي القصائد أفضل ما قبل أو ما بعد.. ومن المؤسف أيضاً أن يكون تغيير إقامة شاعر من مكان إلى مكان بهذا الحجم من الأهمية..
صحيح أن بعض الاهتمام يعود إلى تقدير ما يحمله الشاعر من قيمة تتعلق بنضال شعبه، ولكن مرور أربع سنوات على عملية تغيير الإقامة أعتقد أنه عمر كاف لنتخلص من هذه المقارنة.
ولا أريد في هذا المساء أن أدافع عن نفسي ولكن ما دام بعض الاخوة مصراً على تفضيل الشعر القديم على الجديد، أجد نفسي مضطراً إلى تلبية هذه الرغبة باختيار قصائد متدرجة في العمر الفني وليس بالجودة الفنية الحكم في آخر الأمر ربما لا يكون لي.. وربما لا يكون أيضاً للأخ خليل”.
كانت أمسية شاعرنا العظيم محمود درويش في ذلك المساء رائعة.. ألقى فيها قديمه وجديده.. وتمكن كعادته من زلزلة مشاعر الحضور الذين سهروا تلك الليلة حتى ساعة متأخرة من الليل مع صوته الذي حملهم إلى عالمه الشعري البديع.
جدارية الرفض
حدثني محمود درويش عن والده الذي رفض بعد استيلاء “الإسرائيليين” على أرضه وقيامهم بهدم بيته، رفض أن يغادر المنطقة وأصر على البقاء قريباً من قريته، فسكن قرية مجاورة ليطل منها كل يوم على أرضه وبيته المهدم.
قلت: ولكن من المفروض أنكم أصبحتم مواطنين “إسرائيليين” تتمتعون بجميع حقوق المواطنة؟
قال: نعم من المفروض.. ولكن ما حدث كان شيئاً آخر.. لقد رفض والدي التعويض المادي عن ممتلكاتنا في البروة ورغم الضائقة المادية التي عاشها وعشناها معه إلا أنه لم يقبل بالتعويض الذي عرضوه عليه.
الخليج- :السبت
13/12/2008